قراءة في ديوان دمعة تخدع ظلّها
صدر ديوان"دمعة تخدع ظلّها" للشّاعر احسان موسى أبو غوش الصّادر عام 2015 عن المؤسّسة الفلسطينيّة للنّشر والتّوزيع والطباعة في رام الله.
هل يمكن أن تكون الدّمعة خادعة؟ وإن خدعت الدّمعة الآخرين، فهل تخدع ظلّها الذي يلازمها وما هو إلا صورة عنها؟ هذا العنّوان المحيّر لديوان إحسان موسى أبو غوش يوحي للقارئ بأنّه سيقتحم نصوصا محيّرة وصورا متناقضة معقّدة، لكنّه ما أن يبدأ بقراءة قصائد الديوان حتى يجد نفسه على شاطئ بحر هادئ، ويجد الأشرعة معدّة لحمله بسهولة ويسر؛ ليضع يديه على المعاني الذي يريدها الشّاعر دون عناء ومشقّة.
يبدأ الشّاعر ديوانه بمجموعة من التأمّلات في الكون والرّوح والحبّ والزّمن، ويخوض بحرا خاضه قبله كثيرون، لكنّهم لم يجدوا قاعه ولم يكتشفوا أسراره. فالكون واسع لا نعرف حدوده، والرّوح لا يعلمها إلا بارئها، والحبّ تغنّى به الشعراء على مدى العصور والأزمان، فهل يستطيع شاعرنا أن يخوض هذا البحر الهائج المتلاطم؟
يتأمّل الشّاعر الكائنات وهي تمرّ مرورا سريعا في هذا الكون وتذهب وكأنها لم تكن، وتنتهي وتغيب قبل أن تستطيع أن تفهم ما يدور حولها؛ فيقف محتارا أمام مفهوم الفناء وعبثيّة هذه الحياة، ويخاطب الموت ويطلب منه التأنّي وهو يرى سرعة الحياة ويقول له: يا موت قف هنيهة.
لكنّه يبتعد عن النّظر إلى الأشياء بمادّيّة بحتة، فلكل شيء روح، وإلا لما كان هناك معنى للحياة وللقصائد. فالأمومة هي أروع ما وُجد على وجه هذه الأرض، أمّا الصداقة الحقيقيّة فلا وجود لها في نظره. وينظر الشّاعر إلى الحبّ نظرة عميقة روحانيّة، فالحبّ في نظره هو التّضحية والدّموع بعيدا عن الشّهوات. ثم يعود الشّاعر لمعضلة الفناء، ويرى الزّمن وهو يمرّ سريعا والكائنات وهي تجري نحو النهاية، لكن هل هناك معنى للحياة من غير مرور الزّمن؟ وهل الفناء هو مدخل لحياة جديدة؟ معضلة الحياة والفناء تشغل الشّاعر وتزيد من حيرته.
يرى الشّاعر في قصائده روح الأشياء وجوهرها، فهو يرقب النّاس وهم يلهثون وراء الحداثة والمدنيّة ويتمسكّون بقشورها، بينما يتخلّون عن أصالتهم، كالأسير الذي يلحق ظلّه الذي لن يقوده إلى مكان أبعد من جدران زنزانته. فالنّاس يفنون حياتهم في بحثهم عن متعة الجسد الذي يشبّهه الشّاعر بالذَكر بسطوته وجبروته، أمّا الرّوح التي يغفل النّاس عنها، فهي الأنثى الرّقيقة الجميلة، فالاعتناء بحاجات الجسد وإهمال الروح يجرّد الدنيا من بهائها. وفي خضمّ هذا الصّراع ينسى الإنسان الرّحمة، التي تتجسّد في معنى البسملة، ويلجأ إلى العنف حين لا يوجد مكان لاختلاف الآراء.
ويعنون الشّاعر للمجموعة الثّانية من قصائده بِ (وطنيات: زَبَد على مهد القصيدة) متناصّا مع قوله تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض." وما الزّبد هنا إلا العدوّ الذي ظنّ أنّه دمّر روح هذا الوطن، عندما بنى حضارة زائفة على أرضه لا تلبث أن تذهب جفاء؛ فوجوده على هذا الأرض تماما كالزّبد الذي يصاحب المياه الجارية، لا وزن له وإن علا وامتدّ.
وطنيّات شاعرنا جميلة تثير المشاعر بلطف، وتفضح ظلم المحتلّ وجبروته دون أن تصف فظائع الاحتلال وصفا مباشرا منفّرا. فهو يذكر القرى التي دمّرها الاحتلال ومحاها عن خريطة الوطن لكنّها تبقى حيّة في قلوب أبنائه، ويرثي قرية عمواس رثاء مؤثّرا، ويصف المعاناة على حواجز الاحتلال وسوداوية جنوده الذين يمنعون الحركة. ثمّ يرسم الشّاعر صورة مؤثرة لبراءة الطّفل المحروق في فلسطين، والطّفل الغريق على سواحل اللجوء، حتى يظهر بشاعة قاتلهم.
بحرقه طفلا أماتوا الطّفولة!
بقتله روحا أزالوا الوداعة!
فمن يتفنّن نَصّ البقاء؟
ومن يأمر النّار
كوني سلاما وبردا على
جسد لصغير رضيع؟
وفي قصائده الوطنيّة يعمد إلى إدارة حوار بين الضحيّة والجلاد، وبين السّجين والسجّان، يفضح فيه بأسلوب أدبيّ جميل بشاعة الاحتلال وتفاهة حججه الواهية، فنرى الطفل الشهيد وهو يخاطب قاتليه قائلا:
لماذا تودّون قتلي إذا؟!
لكوني أنا لست أنت؟
لسمرة عينيّ؟ لجسمي النّحيل؟ لاسمي المقدّس؟
لرسمي العروبيّ؟ لعطفي لأرضي؟ لقدسي؟
ونلحظ أنّ الشاعر يوظّف الأسطورة في بناء قصائده وصوره الشّعريّة، ولا يكتفي بالأساطير اليونانية بل يتعداها ويستلهم بعض الأساطير العربيّة والبابليّة والكنعانيّة، ويتناصّ مع القرآن الكريم، ويستخدم بعض أسماء الفلاسفة والشّعراء والمشاهير؛ ليدل على فكرة معيّنة. فنراه يذكر ميكافيلي ونتشه وجيفارا ودرويش، وهذا يدلّ على سعة اطّلاعه وثقافته. لكن في بعض النّصوص نلحظ التكلّف في إقحام الأسطورة بما لا يخدم النّص. تأمّل قوله في قصيدة (في الزّنزانة:
أوديب سالب روح والده
ألا يعدو إلى زنزانتي ليزورني
ويريحني من سيّد
يدعى زمن؟
فما علاقة أسطورة أوديب بعذابات السجن؟
بينما نجده موفّقا عندما استحضر اسطورة جلجامش الذي يبحث عن الخلد في قصيدة (حرقوك طفلا) فحيرة جلجامش حينما رأى صديقه أنكيدو ميّتا، تتضاءل أمام حقيقة حرق الرّضيع، وأيّ خلد سيجد جلجامش أعظم من خلد وهبه الأعداء للشّهيد عندما حرموه نعمة الحياة بوحشيّة وساديّة.
ويختم الشّاعر ديوانه بمجموعة من القصائد الغزليّة، والتي تتنوع بين القصيدة العموديّة والشّعر الحرّ، يحاول فيها أن يخرج عن النّسق العامّ للديوان في تأملاته الكونيّة وقصائده الوطنيّة. في هذه القصائد، لم ألمح العاطفة الجيّاشة التي امتازت به قصائده الوطنيّة ولم أرَ ذات المستوى من الموسيقى والصّور الفنّية.
ويتساءل الشّاعر في نهاية كتابه وبنصّ نثريّ، ماذا بعد؟ لنراه ما يزال حائرا فيما وراء الكون وفي معضلة الموت والحياة والفناء فيقول:
"ومن أكون في ظلّ هذا الزّمن وذاك الكون؟ هل أنا الطفل الرّضيع أو هذا الشّابّ اليانع أو ذاك الشّيخ الذي اشتعل رأسه شيبا؟ وماذا سأكون بعد أن يواريني التّراب؟"
وسوم: العدد 646