رواية "فانتازيا".. ورحلة الوجود
إبداع خياليّ خارج عن المألوف، يتناول الواقع الحياتيّ من رؤية مُغايرة وخارقة للطّبيعة، خيال تأمّليّ مُعرّض للرّفض أو القبول في عالم الرّواية. الكاتب المقدسيّ "سمير الجندي" في روايته الجديدة "فانتازيا" يُقدّم لنا كالفنّان السّرياليّ لوحة غاية بالتّعقيد، إلاّ أنَّ تعقيداتها من ضمن البراعة والفنّ المكتوب، نقف أمامها وقتا طويلا؛ لنتبيّن مع كلِّ دقيقة نقفها جانبا من جوانب هذا الإبداع .
الشّخصيّة الرّئيسة في هذه الرّواية هو الكاتب نفسه، فشخصيّته تتعدّد، تتضاعف، تتحوّل وتمتزج مع المادّة والعنصر. مصدر إلهامه يكمن في الخيال العاطفيّ الإنفعاليّ، فالشّخصيّات المُبتكرة من قِبل الكاتب هي إبتكارات وجدانيّة خالصة.
وبعد أن استاء من بيئته ومن البشريّة، واستاء كذلك من مجتمع يخلو من القيم الإنسانيّة، بدأ بطل روايتنا بالبحث عن حلم ضائع .. عن حريّة مفقودة .. عن حقيقة مُغيّبة في متاهات الزّمان والمكان حتى يكمل حياته المبتورة. صراعاته في الحياة كثيرة، تارّة مع قلبه وما يهوى، وتارة أخرى مع نفسه المتمرّدة، والّتي اختارها وتوحّد معها، لتكون رفيقة دربه وملازِمته وحارسه الأمين. ضالّته المعشوقة هذه تقفز به قفزات روحانيّة وجسديّة كبيرة، من خلال رسائل هاتفيّة على سبيل المجاز، إختلقها الكاتب لتكون ذلك المُحرّك الذي يُشغّل قلبه وفكره للبحث والتأمّل والإكتشاف، فكان من الصعب عليه أن يعيش في ضياع وتردد من الحياة، والسّير دون هدف واضح المعالم.
بدأ رحلته من مدينته "القدس" وبلدتها القديمة وحواريها بكلمات غزل وحُبّ، أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه، واستذكر الأسماء، الأحداث، قصص الطّفولة والأصدقاء. لم يتوان أيضا عن كسر معتقداته المثاليّة ليُعانق السّحاب، يتشبث في جذور الأمنيات ويضيء شمعته عند "الشّيخ حسن" ليخنع بذلك إلى خرافات القوم دون وعي، لم يجد مُبتغاته صاحبة الرّسائل، فقصد "بغداد" باحثا عنها، تلك العاصمة الثريّة بثقافاتها وتاريخها، ليجدها خرابا ودمارا، فالرّبيع هنا جاء ولم يجد مَن يستقبله، فقفَل عائدا إلى غير رجعة وقفَل معه بطلنا التّائه، ليحطّ على أرض تونس الخضراء أملاً منه أن يلتقي بفقيدته، وقف مفكّرا وهام مُحلّقا؛ ليرى الإستعمار يتجدّد دون توقّف، يقتحمون البلاد بأناقة ولباقة. أمّا شرفاء البلاد العربيّة فلم يكن لديهم خطّة موازية لصدّ الإستعمار وتوحيد أوطانهم. عاش بطلنا في دوّامة فِكريّة أوصلته إلى طريق مسدود؟
لم يستثّنِ العاصمة "القاهرة" من البحث، عَبَرَها ونام في شوارعها مُستظلّا بدبّابة، ليعيش حالة الغليان والفوضى، ويتأسّف على ما آلت إليه أمّ الدنيا، قرّر الكاتب الرّجوع إلى مسقط رأسه بعد أن ضاقت به مآسي الوطن العربي، عابرا الأردنّ آخر محطّة له. عمّان محطّة العابرين من حلم إلى حلم، مدينة المخيّمات، وطن المُعذّبين ورصيف الإنتظار؟
يضع الرّاوي نقاطه على الحروف ويستسلم لإرادة الواقع، بأنّ ضالّته المنشودة لن يجدها إلاّ حيث يرقد ويستريح جسده على تراب الوطن. الحقيقة والحريّة منبعهما قريته المتهالكة أو مدينته المغتصبة، وأنَّ الغُربة هي عذاب مستمر بلا نهاية .
أديبنا الرّاوي أعطى وميضا مؤلما من بين سطوره، حاله حال كل أبناء شعبه، هذا الشّعب المناضل مليء بشعور الأمل والثقة بإنتمائه إلى الأمّة العربيّة، يتمنّون عند حَزَنِهم، أنَّ الأمّة بالمثل تحزن معهم، وأنّها للأسف لا تفرح لفرحهم، ونموت كالأيتام مشرّدين في ديارنا وفي زِقاق مخيّماتنا وعلى رمال شواطئنا.
إستخدم الكاتب "الجندي" في روايته أسلوب السّرد الرّوائي، كما اتّسمت فحواها بغزارة الكلمات التي تحمل معاني عميقة، وأتحف عابري الصّفحات ببلاغة النّصوص الأدبيّة القويّة. أمّا إختلاقه لكيان أنثويّ غائب عن الصّورة، فهذا يوقد لدى القارئ نار الشوّق واللّهفة للوصول إليها، والتّعرف بها سويّا مع عاشق الرّسائل، في طريقة ذكيّة لإستمرار التّشويق وكعنصر أساسيّ للحبكة الرّوائيّة.
في هذه الرّواية الإجتماعيّة السّياسيّة المصقولة بقالب جديد، يهيّأ للقارئ أنّه جاب الوطن العربيّ، إلاّ أنّه في الحقيقة لم يغادر الرّاوي سريره داخل بيته في قريته التي لوّثتها أقدام الصّيادين الغزاة .
هل أنتِ الحقيقة؟ أم أنّكِ تشبهينها؟ أنتِ مثلها تماما بوجهين أو أكثر، لأنَّ الحقيقة لها وجوه كثيرة، لكنّها مُغيّبة دوما ... أسئلة ستبقى تدقّ جدران القلب والفكر لكلِّ فرد منّا يبحث عن الرّاحة الأبديّة والحياة الجميلة السّرمديّة.
وسوم: العدد649