رواية فانتازيا والغرائبيّة

clip_image002_78300.jpg

صدرت رواية "فانتازيا" للأديب المقدسيّ سمير الجندي قبل أيّام عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي العراقيّ فاخر محمد، في 152 صفحة من الحجم المتوسّط.

يا لهذه الفانتازيا التي أخذتني في اتجاهات بعيدة وغريبة، غير مألوفة.

أوّلا: عنوان الرّواية ( فانتازيا ) هناك توافق تامّ بين العنوان ومضمون الكتاب، فمن المعروف أنّ الفانتازيا لفظ غربي أطلق على الأحداث التي تكونت من الخيالات والتأمّلات مع استحالة تحقيقها بالرّغم من منطقيتها.. فهل حقا ذلك ما أراد الكاتب أن يحققه؟ بداية الكتاب كانت مشوّقة وشدّتنا رومانسيّة وشاعريّة الكاتب التّي تجلّت في معظم الصّفحات حينما تغنّى باطلالة الفجر وأغاني الطيور، لكنّ الغناء يحمل في موسيقاه الحزن والألم والعبودية والشقاء، وتبرز الاشكالية أنّ الكاتب لا يريد أن يرى النّور لأنّ النّور باعتقاده يخدع فلا يرى ما وراءه...

اضافة إلى جمال الكلمات التي تستقطب روح القارئ أجاد الكاتب تصوير الأماكن، حينما صور يافا واحتضانها له( كبرلمان أعضاؤه رمال وموج وبرتقال شمس وحكايات وصياد.. وشبّه الحبيبة المتخيّلة "امرأة أنيقة رتّبت حقيبتها المزيّنة بزهر الخزامى؛ لتسافر بين شهقات الندى". استخدم الكاتب المونولوج ( السّرد الدّاخليّ .. كان يسأل ويجيب في آن واحد، وكأنّه يحاكي الآخر عن امرأة عشق نضوجها وثقافتها وانتماءها ..وكان يلجأ إلى يافا لأنّها تشبه حالته النّفسيّة حيث يشكو إليها همومه ومتاعبه..

استخدم الكاتب الكثير من الأسماء والأماكن التي زارها، وكانت البلدة القديمة في القدس وهي إحدى محطاته التي استحوذت على ذكر الكثير من حاراتها، حارة السّعديّة، حارة الشرف وزقاقها، زقاق البوس، وأسواقها كسوق العطارين وغيرها، وسورها، وقد أجاد برسم صورها الملوّنة من عبق الماضي، وأصالتها المتجذّرة في التّاريخ..وفي كثير من الأحيان كان يذكر المكان كعابر سبيل دون الوقوف به أو وصفه، ص٤١ طريق الآلام، حيّ الشّرف ودرج الطابون وتطرق  إلى بعض الشّخصيات، وذكر أعمالهم كالمطهر أبو دان والفرّان الحشيمة وأعمالهم، والشيخ معروف وقصّته مع الجنّيّة ( تخيّلت أنّها حدثت مع الكاتب، لأنّه كان بين الحلم والاستيقاظ) وتحدّث عن شخص في المدينة ( جد جد) في حارة السّعديّة وشبابها وبناتها ووصفهم بلغة سلسة مفهومة .

ذكر الكاتب كثيرا من الأماكن في الدّول العربية وشخصيّات تاريخيّة، مثل امرئ القيس فقد كان ليل الكاتب أطول من معلقته .. ص١٣ وشواطئ ساوباولو وقاهرة المعتز وبيروت .. سحرة موسى وجبروت فرعون، ومن هنا وجدت أن الكاتب تركنا في حالة من الفوضى وتشتّت في الأفكار، وأسئلة لا إجابات لها، وقد لفت انتباهي أنّ الكاتب لا يذكرهم لحدث ما في كتابه أو لشيء ذي أهمية... بالرّغم من أنّ استخدام الشّخوص والأماكن والشّواهد تثري المواضيع المختلفة، إلا أنّني وجدت نفسي في متاهات وردهات، كلّما أردت النّفاذ من إحداها وجدت نفسي عالقة في متاهة أخرى .. أعتزم الخروج منها فأراني أحاول من جديد في صفحات أخرى.. فأرى أنّ الكاتب في رحلته عبر العواصم من القدس إلى تونس والقاهرة وعمّان، التي قال أنّها تعطي دموعها للتّماسيح، وهي محطة العابرين والمرايا والغيوم، مخيّمات النّزوح والنّكبة ، وحزيران وسنوات بيروت والعراق وسوريا وليبيا، وأنّها مشروع المشاريع ووطن المعذّبين ..حملنا معه في رحلة فانتازيا "أحلام وخيال."

فبالرّغم من الحقائق المشاهدة إلا أنّ الكاتب شتّت أفكارنا، فما عدنا نرى حدثا أو مأزقا يشدّنا بالرّغم من عذوبة الكلمات والصّور الجميلة، التي تبنّاها الكاتب أثناء كتابته للرّواية.

من الأشخاص الذين رافقوا الكاتب ماجد الذي أحبّ يافا ولم يرها..وزوجته وأولاده الثلاثة وغيرهم، ربط الكاتب بين المحتلّ والبعوض والزّواحف.. وأشار إلى خنق الجنود لهواء القدس..وجّه الكاتب بعض الرّسائل منها: أن لا نثق بأصحاب العمائم .. وأن لا نصدّق المدافع الخاوية .. وأن لا ننتظر من الذّئاب رحمة.. وأن لا نسمح للزّواحف أن تسرق حظائرنا ص٦٣

أشار الكاتب الى فتاة أحلامه بأنّها القدس ص٦٩، وأسهب في نقل بعض المشاهد والأماكن المقدسيّة ،حبيبة الكاتب المتخيّلة والتي كانت تراسله، وكان ينتظر وصولها حبيبة متخيلة، قرّر في النّهاية أن لا يبحث عنها، وأنّ لقاءه بها لن يكون إلا في القدس.

وقد كرّر أنّ الفتاة التي يريدها ربّما تكون هي الأحلام أو ربّما هي أضغاث أحلام.

من خلال قراءتي للكتاب أحسست في كثير من الأحيان أنّ الكاتب يلوح لنا باتّجاهات كثيرة متداخلة، لها مخرج واحد (حلم لا يستطيع تحقيقه) وتلك الأفكار لا ندركها بسرعة، لذا تختلط الأشياء علينا، ولقد أشار الكاتب إلى فوضويّة أفكاره ص٥١و ص٥٢

نراه تارة يحدّثنا عن المدن، وتارة يحاكي الألوان، وتارة يتساءل ويجيب في آن واحد، وفي كثير من الأحيان لا اجابات شافية.

وهنا أعود لأسأل نفسي هل حقا قرأت رواية كما اعتدنا أن نقرأها..الأحداث السّاخنة والتأزّم والعقدة التي تبلغ الذّروة حتى تحلّ، أو تترك للقرّاء لايجاد حلّ لها... أبطالها حقيقيون يتحركون ويقولون ويحلمون؟ أم تدفعنا الحقائق المؤلمة في حياتنا إلى رسم طرق أخرى لكتابة الرواية؟

وسوم: العدد649