أخي حيدر الشاعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
حوالي عام (1394هـــ - 1974م) انتقلت من المدينة المنورة حيث كنت أدرس اللغة الإنجليزية في المرحلتين المتوسطة والثانوية إلى الرياض للعمل فيها. وكنت قبل ذلك التقيت الأخ الكريم الدكتور حيدر الغدير لقاءات عدة فلما رآني دعاني إلى بيته واستضافني عنده، فقضينا فترة جميلة عامرة بالأخوة والود والاهتمامات المشتركة.
توطدت فيما بيننا عرى الأخوة منذ ذلك الحين لأسباب أهمها: الولاء التام للإسلام، والاعتزاز به، وحب الشعر والأدب، وأننا تركنا بيننا هوامش للحرية الشخصية، يحترم كل منا خصوصية أخيه، ولا يتدخل فيما لا يعنيه.
كنت إذ ذاك في الثلاثين من عمري، وهو يكبرني بخمس سنوات، وبما أني كنت جديداً في مدينة الرياض، وهو قد سكنها قبلي، فقد عرَّفني على بعض الأدباء والشعراء، وكان على رأسهم في ذلك الحين: أستاذنا الشيخ عبد العزيز الرفاعي، نضَّر الله روحه ونوَّر ضريحه، الذي كانت له ندوة أسبوعية تنعقد مساء كل خميس، ويؤمها الأدباء والشعراء، والمغتربون من ساكني المملكة أو من ضيوفها، ومنهم شخصيات لها وزنها من أمثال: سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي، والشاعر الكبير عمر أبي ريشة، والدكتور العلامة حسن ظاظا، والأستاذ الدكتور محمد محمد حسين، والفقيه الكبير مصطفى الزرقا، والسياسي المحنك الدكتور محمد معروف الدواليبي، والشاعر المهجري زكي قنصل، والشاعر الصديق أحمد سالم باعطب، وإمام العربية الأكبر محمود محمد شاكر، والأستاذ الدكتور النعمان القاضي، والأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، والأستاذ الدكتور يوسف عز الدين، والشاعر حسن عبد الله القرشي، ومعالي الأستاذ عبد العزيز السالم، والأستاذ راضي صدوق، والفريق المثقف يحيى المعلمي، والأستاذ عبد الله الحقيل، والشاعر هادي خفاجي، والأستاذ عبد الرحمن المعمر، والأستاذ محمد الحمدان، والأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين, والسياسي اليمني أحمد الشامي، واللغوي الموسوعي عبد الله العلايلي، والأستاذ الدكتور بدوي طبانة، والأمير عبد الرحمن حميد الدين, والأستاذ عبد الله بامقدم، والأستاذ عثمان الصالح، والأستاذ عبد الله بن إدريس، والطبيب السفير المغربي الدكتور المهدي بن عبود، والدكتور عبد السلام الهراس، والأستاذ الدكتور شوقي ضيف، والأستاذ الدكتور فؤاد سزكين، ومعالي الدكتور محمد عبده يماني، وعلامة الجزيرة حمد الجاسر.
يضاف إلى ذلك كثير من أهل الفضل والعلم والأدب غابت أسماؤهم عن الذاكرة، لهم مني التحية والاعتذار، ولولا هذه الندوة الكريمة، ما كان لنا أن نلتقي بهذه الكوكبة المتميزة من أهل الفضل والعلم والأدب.
كانت هذه الندوة مدرسة حقيقية، بسبب شخصية صاحبها المثقفة الكريمة، وتنوع ضيوفها، وطبيعة الموضوعات التي يتناولها الحضور، ففيها تعلمت، وتعلم أخي حيدر فن الصمت، وفن الاستماع، وفن المشاركة، وفيها اتسعت معلوماتنا ومعارفنا، وفيها صارت أحكامنا الأدبية وغير الأدبية أكثر دقة وأقرب إلى الصواب.
وفي هذه الواحة الكريمة ترعرعت شاعرية الأخ حيدر، لأن من تقاليد الندوة أن تختم بالشعر، فينشد الشعراء الحاضرون ما يختارون من مقولهم أو منقولهم.
كان شاعرنا يتهيب – مثله مثل كاتب هذه السطور – من إلقاء شعره أمام النقاد الكبار والشعراء المشهورين، لأن ذائقته الأدبية أعلى من قدرته الشعرية، فما يعجبه لا يأتيه، وما يأتيه لا يرضيه؛ لذا لا غرابة أن تأخر في نشر شعره حتى اقترب من عتبات الخمسين، وحسناً فعل.
والذي يعرف شخصية شاعرنا عن كثب يتوقع أنه سيفلح فيما عزم عليه: أن يصبح شاعراً قديراً، فهو قوي الإرادة، ذو عزيمة صلبة، مدمن للقراءة، محب للأدب عامة، والشعر خاصة، وقد درس الأدب العربي في قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، عن حب يصل إلى درجة العشق على أيدي كوكبة من أساتذة الأدب الكبار، أبرزهم الدكتور شوقي ضيف، وكان طالباً جاداً متفرغاً متفوقاً يحظى من أساتذته بالثناء والتشجيع، ثم إنه محب للخلوة، يهرع إليها بين الحين والآخر طلباً للمراجعة والقراءة والتجدد، يضاف إلى ذلك أنه مولع بمراجعة ما ينظمه، وأنه يفرح بالنقد الذي يوجه إليه، ويشكر صاحبه.
على عتبات الخمسين إذاً قرر شاعرنا أن يلبس رداء الشاعر، ويخلع ما عداه، فبدأ يقرأ شعرائه المفضلين، وعلى رأسهم: أحمد شوقي، وعمر أبو ريشة، وبدوي الجبل، وأبو الطيب المتنبي، يقرؤها قراءة التأمل الذواق، يعيد فيها ويبدئ. ولقد سمعت منه أكثر من مرة أنه قرأ كل واحد من هذه الدواوين حوالي عشر مرات! ولولا حبه لهؤلاء الشعراء، ولولا الصبر الذي يتحلى به لما قدر على ذلك.
في إحدى إجازاته الصيفية قرر أن يتفرغ لبدوي الجبل، فظل شهرين يقرأ في ديوانه، يتأمله، وينشده، ويطرب لمعانيه، وفعل مثل ذلك مع عمر أبي ريشة الذي كان موضوع رسالته للدكتوراه وعنوانه "عمر أبو ريشة: دراسة فنية"، وهو ما أعانه، فأخرج للناس كتاباً عنه هو أفضل، وأعمق، وأهم ما كتب عنه فيما أعلم، وقد طبعه بعد تعديل وحذف وإضافة، باسم "عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً".
خلق الصبر هذا يظهر أيضاً في نظمه للشعر، فإذا قرر أن يكتب قصيدة في موضوع أو مناسبة ما، أو إذا انقدحت فكرة قصيدة في نفسه، كان يعزل نفسه – ما استطاع – عن كل شيء، ويبدأ في استلهام ما رد شعره، وكثيراً ما تأخذ قصائده الجياد أسبوعاً أو أسبوعين، وبعضها شهراً أو شهرين، فإذا اكتملت ارتاح كأن حملاً على عاتقه وانزاح، وأخرجها للناس.
هذه الصفحات ليس دراسة لديوان شاعرنا، فديوانه ضخم جداً زاد على ألف صفحة، عددت أبيات كل صفحة منها، فوجدتها عشرة أبيات في المعدل، فهذه أكثر من عشرة آلاف بيت، أصابتني بالدهشة! فأنا منذ زمن بعيد عددت عداً تقريبياً أبيات دواوين كل من أبي ريشة، وبدوي الجبل، والمتنبي، فوجدت ديوان أبي ريشة قد زاد على ثلاثة آلاف بيت، والبدوي قد زاد على أربعة آلاف بيت، وأسطورة الشعر العربي المتنبي زاد على خمسة آلاف بيت.
قلت: هذه الصفحات ليست دراسة للديوان، إنما هي ثمرة تصفح هادئ، وإلا فالديوان تستوعبه أكثر من رسالة جامعية أكاديمية يعكف فيها الدارس الشهور الطوال عليه، شأن الأطروحات العلمية الرصينة.
وقبل الحديث عن الديوان أود أن أقول: إن شاعرنا مكثر مقتدر طويل النفس، وأنا أرى لا يرخي الشاعر المقتدر العنان لشعره حتى لا يترهل، أو يستطرد، فتضعف قصائده ويمل القارئ. ولهذا كنت أقول لوالدي عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله: يا أبت لا تنشر كل شعرك، بل تخير منه، لأن الشاعر يُحْكَم عليه من خلال جيده، وإن كان قليلاً، فيقول لي: أنا لا أحب أن أزوِّر نفسي للناس، ولا أحب التصنع:
أنا لا أعرف التصنع في شعـــــــــ ــــــري فشعري سجيتي حين تُطلق
وهذا ما قلته لشاعرنا، فأجابني بلسان حاله: أنا صاحب رسالة أريد إيصالها عن طريق شعري، ولا أبالي برأي النقاد وأساتذة الأدب مبالاتي بالأثر الحميد الذي تتركه قصائدي في نفوس الناس!
***
إسلامية الشاعر:
أول ما يطالع المرء في هذا الديوان الذي ضمَّ أربع مجموعات شعرية سبق نشرها – وأضاف إليها المزيد – إسلامية الشاعر، وهذه المجموعات التبي طبعت تباعاً هي:
1- من يطفئ الشمس؟ وقد أهداها "إلى الأمة المسلمة التي لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت الأعداء" "1427هــــ - 2006م".
2- غداً نأتيك يا أقصى، وقد أهداها "إلى أبطال الإسلام الغالبين القادمين، الذين يعدهم قدر الله الغالب لينقذوا الأقصى من الصهاينة الغاصبين، ويعيدوه إلى ذويه المسلمين، إنهم اليوم أمل بدت طلائعه، لكنهم في الغد القريب بإذن الله واقع يخطف الأبصار، وحقيقة تزحم الشمس في رابعة النهار" 1427هــــ - 2007م".
3- عادت لنا الخنساء، وقد أهداها "إلى الأم الفلسطينية التي أعادت لنا سيرة الخنساء وهي تدفع خيرة الأبناء، إلى قوافل الشهداء، وأغلى مناهم ومناها أن تعود فلسطين إلى أهلها المسلمين عزيزة إلى يوم الدين، ترفرف عليها راية التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله" "1430هــــ - 2009م".
4- قسماً لن أحيد! وقد أهداها "إلى بلال الأول الذي أذن في المسجد الحرام بعد تطهيره من الوثنيين، وإلى بلال الثاني الذي أذن في المسجد الأقصى بعد تطهيره من الصليبيين، وإلى بلال الثالث الذي سيؤذن في أي مسجد آخر اغتصبه المعتدون واسترده المسلمون" "1434هــــ - 2013م".
والنظر في أسماء هذه المجموعات، وفي إهداءاتها، وفي أغفلتها يعطي القارئ فكرة واضحة عن روح الشاعر الإسلامية.
أما القصائد التي تدل على ذلك فهي كثيرة جداً، منها على سبيل المثال: حبل الله، جلَّ المتاب، وأدمنت الدعاء، يا خالقي ما أكرمك! لن أعدم الكفن، الكعبة الزهراء، أودعتك الله وأسلمت للرحمن، في ليلة القدر، أبا الزهراء.
ولنأخذ بعض النماذج الدالة على إسلامية الشاعر نلقي عليها الضوء:
قصيدة "أبا الزهراء" مهداة إلى مقام الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهي معلقة في مئة بيت، كتبت حين تطاول بعض جهلة الكتاب من الدانمارك والنرويج على المقام الشريف.
أهم محاورها استعراض مصائر بعض من تجرؤوا على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بدءاً من أبي جهل إلى يومنا، وفيها تحذير للمسلمين من العجز والتواني، وفيها التأكيد على أن الشجاعة ومواجهة الأخطار هي سبيل النصر، يقول الشاعر:
ثم يخاطب النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام:
النموذج الثاني الذي نختاره للدلالة على إسلامية الشاعر قصيدة "أذان" التي كتبت عام (1413هــــ، 1993م) حين شرّد اليهود بعض الفلسطينيين الأشداء الأباة، فأقاموا في لبنان في مرج الزهور في ظروف صعبة جداً، احتملوها بصبر الأبطال، ورفعوا فيها الأذان ليكون الأمل والهوية والشارة والمستقبل:
مكة المكرمة والمدينة المنورة:
ومن المتوقع من شاعر كشاعرنا أن يكون لمكة المكرمة والمدينة المنورة في شعره مقامٌ يضاهي مقامهما في روحه وقلبه، وقد كتب فيهما أكثر من قصيدة، إحداها "حللت على نعماك" وقد أهداها إلى أكرم المدائن وأجلها، أم القرى حرسها الله، وهي تقع في أربعة وثمانين بيتاً فواحة بعبير الحب الصادق الصافي العميق الذي أشربه قلبه، وفيها يقول مخاطباً مكة:
وفي البيتين الأخيرين إشارة إلى الحديث القدسي الذي يقول: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".
أما المدينة المنورة فلعل قصيدته فيها أطول قصيدة كتبها، إذ جاءت في سبعة وستين ومئة بيت، أطلق لشعره فيها العنان، وفصل فيها ما سمحت له عاطفته أن يفصل، وما سمحت له به قدرته الشعرية، وهي قوية غزيرة معطاء، تجري معه في حرية لا تكل ولا تتعب، وكأنه الجواهري أو شوقي.
وقد سمى قصيدته "طبت داراً" وقد أهداها إلى يثرب الطاهرة التي طابت بالرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت الطيبة، واستنارت به فكانت المنورة.
وأختار من هذه المعلقة أبياتاً متفرقات لا أعلق عليها، أتركها لذائقة القارئ الكريم يتملاها:
ويتحدث عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حوالي ثلاثين بيتاً، ثم عن غزواته، وفيها يقول بيتين مضيئين يمجدان حروب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لأن الحلم مع من لا يستحقه يجعل الحياة غابة يأكل فيها القوي الضعيف، ولأن الحروب العادلة طريق إلى السلام:
ثم يتحدث عن القرآن العظيم، والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وفيهم يقول:
ثم يخصص مقطعاً من ستة عشر بيتاً يقتبس فيه أشطراً من رائعة المتنبي:
التي مدح فيها سيف الدولة بعد مغادرته مصر ومفارقته كافوراً، ومنها البيتان المفردان، وكثير من أبياتها مفردات:
وفي هذا المقطع الذي تشرق فيه روح المتنبي يقول:
ويختم الشاعر معلقته بأبيات صافيات حزينات
وهذا يذكرني بأبيات لوالدي عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله:
ومن أجمل وأطرف ما وفقه فيه أخي حيدر؛ أنه أعاد صياغة أنشودة الأستاذ فخري البارودي رحمه الله "بلاد العرب أوطاني" بحيث أضفى عليها الروح الإسلامية من ناحية، وأغنى مضمونها الفكري من ناحية أخرى، فارتقت بهذه الصياغة شكلاً ومضموناً، ويطيب لي أن أضعها كاملة أمام القارئ الكريم، ليكون بوسعه أن يقارب بين الأنشودة في صياغتها البارودية وفي صياغتها الحيدرية، وليرى كيف جاءت عروساً ترفل في حلل أبهى من الإيمان والبيان.
نقزل الأنشودة كما صاغها الأستاذ فخري البارودي:
وتقول كما صاغها أخي حيدر:
***
قضايا الأمة:
لا أعرف من أصدقائي أحد أكثر اهتماماً بقضايا الأمة المسلمة من شاعرنا. فهو يومياً يقرأ الصحف، ويستمع إلى الأخبار، وما رأى كتاباً يتحدث عن المسلمين إلا اطلع عليه، واشتراه إذا رآه نافعاً، وربما اشترى أكثر من نسخة ليهديها إلى المهتمين بهذا الشأن من إخوانه. وكان أحياناً يعطيني الكتاب الضخم ويقول لي: في الكتاب تفصيلات كثيرة لا تهمك، ولكن أقرأ الصفحات التي وضعت عليها إشارات. وكان يمازحني قائلاً: أنا أستاذك في السياسة، وأنت أستاذي في الشريعة، وصدق في الأولى، وجاملني في الثانية.
وقد ضم ديوانه قصائد كثيرة عن هموم الأمة المسلمة، والمصائب التي ألمت بها، والقوارع التي أصابتها بسبب تقصيرها في الأخذ بأسباب العزة والتمكين، وبسبب اجتماع الأكلة على قصعتها، وله كلام في غاية السداد عن نظرية المؤامرة ألقاه محاضرة في ندوة الدكتور راشد المبارك، محوره: أن المؤامرة موجودة، كانت وستبقى، وأن نفيها بإطلاق خطأ، وأن تعميمها بإطلاق خطأ أيضاً، وأنها تنجح مرة، وتخفق مرة، وتنقلب على أصحابها مرة، وأن الذين يتخيلون أن الأعداء لا همَّ لهم إلا العمل لإيذائنا واهمون.
إن الأعداء مشغولون بعمارة بلادهم، وخدمة شعوبهم، وارتياد آفاق جديدة في الكون وإيذائنا أيضاً. ومن القصائد التي تتعلق بهذا الموضوع: أودعتك الله، أيا صوفيا، إلى أبرهة، الصبح موعدكم، غداً نأتيك يا أقصى، بل أنت يا أقصى لنا، يا حماة الأقصى، وصية الدرة، برقية شعرية إلى المجاهدين الأفغان، على البلقان، إيرما، لن نخذلك.
ومن هموم الأمة التي قال فيها شعراً قصيدته "لن نخذلك" يخاطب فيها شعب البوسنة والهرسك:
لن نخذلكْ
سنظل نحن الأوفياء لحقك المشروع لك
نبني ونبذل أو نقاتل لا نبالي من هلكْ
النصر لك، والمجد لك، والغوث لكْ
من إخوة هبّوا سراعاً كي يصونوا معقلكْ
فالمسلمون أخوة زهراء ما دار الفلكْ
***
يا أيها الشعب الذي احتمل الخطوب وما استكانْ
حيتك مكة والمدينة والمنابر والأذانْ
والمسجد الأقصى وفرسان لهم في المجد شانْ
والفاتحون المسلمون وهم حكايات حسانْ
قالوا وقد صدقوا، فزانوا قولهم، والفعل زانْ
المجد للأبطال، والخذلان توأمه الجبانْ
ومن القصائد التي عاش فيها الشاعر هموم أمته المسلمة قصيدته "إيرما" الفتاة البوسنية المسلمة، في سراييفو التي أطلق عليها النار قناص صربي فأصابها الشلل، وعجز الطب عن معالجتها، فظلت لا حية ولا ميتة، تشهد على بطش الأعداء، وعجز الأصدقاء. يفتتح الشاعر القصيدة بقوله:
وكعادة الشاعر فإنه لا بد له أن يشعل مصابيح الأمل مهما اشتدت النائبات، يقول:
ومن أعظم المآسي التي ابتلي بها المسلمون مأساة أفغانستان، وكيف بدأت جهاداً تزف الملائكة شهداءه، وأنهت صراعاً دامياً بين إخوان الميدان، أظهرت القلوب فيه سخائمها، وأرق الأخ دم أخيه، بحجج واهية تدل على ضيق العقل، وكساح التفكير، لقد كانوا من حيث يعلمون أو لا يعلمون أدوات تضرب القوى المعادية بها بعضهم ببعض!!
يقول الشاعر في قصيدة عنوانها "برقية شعرية إلى المجاهدين الأفغان":
ثم في ستة وأربعين بيتاً يقول للمجاهدين الأفغان: إنهم فخر الأمة، ومعقد رجائها، ويحذرهم من الشقاق، والتكالب على الألقاب، ويحثهم على الإخلاص والتجرد لله، وعدم التشبث بالحطام.
***
ثقة بالنصر:
ومن معالم شخصية الأخ حيدر التفاؤل يرحمه الله، والثقة بالنصر، وشعره مرآة لهذا التفكير الإيجابي الذي يحارب اليأس واليقين بأن الأمة المسلمة سوف تقهر عجزها، وتنتصر على عدوها، وتستعيد ريادتها للبشرية، وتتجلى هذه المعاني في قصائد كثيرة مثل: من يطفئ الشمس؟، بعض الرؤى، يا شام، حلم موسى، أشواق أندلسية، إلى الثالث الميمون، ستظل مل الدهر، وسلِ الزمان، مظفرين سنبقى، إننا لآتون.
وننظر الآن إلى بعض النماذج التي تضمنتها هذه القصائد من المعاني السامية المذكورة آنفاً، ففي قصيدة "يا شام" وهي (65) بيتاً يقول في خاتمتها:
وهذه الأبيات القليلة تشير إلى أهم الأفكار التي يعتنقها الشاعر، ويدافع عنها في مجالسه، ومحاضراته، ومداخلاته: الولاء التام للإسلام، ومناهضة أعدائه، والعزة الإسلامية، والدعوة إلى الجرأة والشجاعة، وتحمل المسؤولية، والوسطية، وجمع الكلمة، وكراهية الخلاف.
وفي قصيدة "من يطفئ الشمس" يقول:
فالشمس هي الإسلام، وهي دين الله الخالد، فمن يستطيع أن يطفئه؟! والعرب أمة لا تموت، والخطوب تزيدها إصراراً ومناعة، وتوقد فيها شعلة الفداء والإقدام وإن غلت التضحيات، وتكالبت عليها الأرزاء، وازدحمت عليها الأخطار والنذر، وحصد الموت منها الألوف المؤلفة.
ومن القصائد التي تشرق فيها هذه المعاني قصيدة بعنوان: "حلم موسى"، يعني موسى بن نصير، الذي يقول الشاعر عنه في مقدمة القصيدة: "يروى أن موسى بن نصير كان عظيم الهمة، ماضي العزيمة وكان يملك عليه أقطار نفسه حلم رائع هو أن يفتح القسطنطينية عن طريق الأندلس، ويبسط رواق الإسلام على تلك المساحة كلها". وقد كتب الشاعر قصيدته في واحد وثلاثين بيتاً خالية من الاستطرادات والترهلات وقال معارضاً بائية أبي تمام الرائعة التي مطلعها:
ورائعة سعيد عقل:
يقول شاعرنا:
ثم يقول: بعد أن ظل كل الليل يرقب نافذته، فأطل عليه طيف موسى، فجرى بينهما حوار قصير مفاده: أن موسى بن نصير قال للشاعر: إنه لم يستطع تحقيق حلمه، فوضعه أمانة في أعناق الأجيال القادمة:
وأقول واثقاً: إن شاعرنا لم يكب جواده في هذا السباق الصعب مع عملاقين من عمالقة الشعر.
***
الموت والشاعر:
الموت هو إحدى الحقائق الكبرى التي تقابل الحياة. قهر الله تعالى به خلقه، فما لأحد منه منجاة. وطبيعي لشاعر مثل شاعرنا، خصص من عمره المبارك ربع قرن يتأمل وينظم الشعر، أن يكتب عن هذه الحقيقة الكبرى من خلال تصوره الإسلامي أولاً، ووفق ما تمليه طبيعة التفاؤل التي تسيطره على شخصيته وفكره ثانية. ومن القصائد التي تحدثت عن الموت: صداقة، وأسلمت للرحمن، إذ متّ، وساد، حارس وضيوف، وحده حرزي، حديث الطيف، بقيت مُنية.
في قصيدة "حارس وضيوف"، وفي عنوانها توفيق عجيب، نجد أن الموت يحرسنا من كل موت غيره، ومن أن نموت قبل الأجل المحدد لنا، والموت حوض لا بد لبني آدم من وروده، وكأنهم ضيوف، يقول:
وفي قصيدة "صداقة" يقول:
ويستمع الشاعر حديث الموت له فيزول خوفه منه:
ثم تنتهي القصيدة بهذه النهاية السعيدة:
والمعنى نفسه يتكرر بأسلوب مختلف في قصيدة "وأسلمت للرحمن" التي مطلعها:
وختامها بعد التأمل في الحياة والناس:
وفي البيت الأخير توفيق عجيب نرى الشاعر فيه يسلم أمره كله لله عز وجل ويعود سعيداً قد مات خوفه من الموت.
وتترقرق هذه المعاني التي تقشعر لها الأبدان في العادة ترقرق الماء العذب في الجدول الجذلان بسبب ما أضفاه عليها الشاعر، من أحاسيسه الهانئة الهادئة في قصيدته "حديث الطيف" إذ يقول:
والصداقة مع الموت تغدو حالة نفسية ملأى بالأمل والرضا وحسن الختام:
***
الرثاء
لا تكاد تجد شاعراً لم يكتب في الرثاء، ذلك أن الموت حتم لازم على الخلق، والفقد موجع. وقصائد الرثاء محك لصدق الشاعر، ولمقياس حبه للفقيد الذي يرثيه، وهي إحدى المؤشرات المهمة الدالة على شخصية الشاعر أيضاً، فمن الشعراء من يرثي الأبطال الوطنيين، ومنهم من يرثي الأدباء والعلماء، ومنهم من يرثي الأدباء والعلماء، ومنهم من يرثي الفنانين والرسامين، ومنهم من يقصر مراثيه على الأقرباء والأصدقاء.
وشاعرنا كتب عن طائفة صالحة من هؤلاء، منهم: الملك الشهيد فيصل ابن عبد العزيز، وعلي الطنطاوي الداعية الأديب العالم، وعبد العزيز بن باز الداعية العالم المحدث الذي طبقت شهرته الآفاق، وعمر أبو ريشة الشاعر السوري العملاق، وعمر بهاء الدين الأميري شاعر الأبوة والبنوة، وأحمد ياسين رمز الجهاد الفلسطيني، وأبو الحسن الندوي عالم الهند النقي التقي الزاهد، وعبد العزيز الرفاعي أديب الكلمة وأديب النفس والخلق، ومحمود محمد شاكر إمام العربية في عصره وسليم عبد القادر شاعر النشيد الإسلامية والطفولة الندية.
وكتب أيضاً قصائد دارت موضوعاتها حول رجالات رحلوا قبل سنين أو قرون، مثل: الشاعر الأسطورة المتنبي، وإمام البيان في تاريخ العربية مصطفى صادق الرافعي، وعمر بن العاص، وصلاح الدين الأيوبي، والمعتصم، رحمهم الله جميعاً، وهي قصائد تلتقي مع شعر الرثاء بدرجات متفاوتة، مردها إلى نوع التفوق ودرجته لدى من قيلت فيهم.
هذا الطيف الواسع من الأعلام الذين قضوا ومضوا ينبئنا الكثير عن شخصية شاعرنا واتجاهه الفكري، إلى جانب رثائه لأقربائه وأحبابه: كأمه، وأخيه، وأصدقائه، وأصحابه.
قصيدة "شهيد القدس" التي قالها أخي حيدر في رثاء الملك فيصل بن عبد العزيز، درة حقيقية، التقت فيها جودة الشعر مع صدق العاطفة، ومع مكانة المرثي، الذي قدم الكثير لدينه وأمته وقضية فلسطين خاصة، فشرفه الله بالشهادة التي كانت خير ختام لحياته رحمه الله. تقع القصيدة في ثلاثة وثمانين بيتاً، تبدأ بقول الشاعر:
وقد مهد لها بمقدمة طويلة تقع في أكثر من ثلاث صفحات، صور فيها العصر الذي واجهه الملك الشهيد تصويراً دقيقاً.
ومن أبيات القصيدة المتألقة قول الشاعر:
ومنها قوله على لسان الملك الشهيد متحدثاً عن القدس:
أما قصيدة "مأتم الشعر" في رثاء عمر أبي ريشة فلعلها أقدم قصائد الرثاء في الديوان. وأبو ريشة واحد من شعراء قلائل أغرم شاعرنا بشعره، وكان موضوعاً لرسالته المتألقة التي نال بها درجة الدكتوراه، فأغنى المكتبة العربية بكتاب عن شاعر علم أظن أنه أفضل ما كتب عنه، لا يستغني عنه دارس لأبي ريشة.
وروح القصيدة هي الروح التي يتوقع أن تكون في مثيلاتها، ففيها الحديث عن نبوغ الشاعر، وتألقه في شعره، واعتداده بنفسه، وعن افتخاره بالعربية اللغة الخالدة. والملاحظ: أن شاعرنا تأثر بأسلوب أبي ريشة وهو يرثيه، وهذه مزية تحسب له، إذ مَنْ مِنَ الشعراء يستطيع أن يصل إلى ذلك العملاق؟! وتقع القصيدة في ستة وخمسين بيتاً، يفوح من المقطع الثاني منها شذا أبي ريشة، وفيه يقول:
ويتألق الشاعر كثيراً في رثائه لوالدته وذلك في قصيدة "قد كنت أرجو"، وهي قصيدة تقع في خمسة وخمسين بيتاً، تبدأ على النحو الآتي:
نجد في القصيدة الصدق بأعلى درجاته، ولا غرابة فالأم أعز على الإنسان من كل مخلوق آخر، ونجد طرافة في التصوير توحي بالعفوية، إذ نرى الشاعر ما زال يرى نفسه طفلاً يشعر بالحاجة إلى دفء أمه وحنوها عليه، ونرى فرحة الأم بالحج يوم أن جاءته للمرة الأولى، وكان برفقتها في كل مراحل الحجة دليلاً وخادماً ومؤنساً. وفي القصيدة مع جمال الصياغة روح راضية، ودعاء حار، وثقة عميق، بالفوز يوم القيامة، والظفر بالاجتماع الذي عز في هذه الحياة الدنيا.
أما رثاؤه عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، وكانت بينهما صلة خاصة، ففيها نفس آخر غير النفس الذي يسري في رثاء أبي ريشة، وهذا من علامات صدق الشاعر وتمكنه، فالرثاء ليس ثوباً جاهزاً ذا مقاسات معينة تناسب أغلب الأجسام، ذلك أن الرثاء يتحدث عن النفوس والمشاعر، وهي عوالم لا يعلم آفاقها وأعماقها، وأبعادها وامتدادها إلا الذي حقلها، ومقاساتها في غاية الدقة والتعقيد والتشابك.
عنوان القصيدة أول خصوصياتها "نم في البقيع" المرقد الأخير الذي ثوى فيه الأميري رحمه الله، وقد استجاب الله دعاءه في قوله من قصيدة:
ويظهر صدق عاطفة شاعرنا وحبه للمرثي من البيت الأول، ويلخص في أربعة أبيات عشر صفات نفسية عالية كان يتحلى بها الأميري رحمه الله، هي: الشاعرية، والفضل، والإباء، وحسن المنطق، والسماحة، والكرم، والبشاشة، والمروءة، والوفاء، وحراسة الأصالة، فيقول:
ويخصص مقطعاً يصف فيه جهاد الأميري في القضايا الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، يقول فيه:
ويودع الراحل، ويختم القصيدة بقوله:
ويشير الشاعر إلى أن نسب الأميري رحمه الله يسمو إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهو حسيني، ويشير أيضاً إلى انتصار الأفغان قبل الخزي الذي حل بهم وبالمسلمين من جراء الرزايا التي أتوها بعد ذلك، فتاريخ القصيدة هو "26/10/1412هـــــ - 28/4/1992م".
أجد من العسير علي أن أقتصر على هذه النماذج فقط من الرثاء الذي هو من أغنى موضوعات الشعر، لهذا فسوف أشير إشارة سريعة إلى قصائد أخرى أولاها رثاء العلامة والداعية الزاهد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وعنوانها: "ترجّلت في التسعين"، وهي قصيدة محلقة على مستوى الراحل الكبير، وفق الشاعر فيها إلى الإيجاز البليغ الذي رسم خيوط شخصية الشيخ رحمه الله فهو من أشهر الشخصيات الإسلامية على مستوى العصر:
وهو ينصح بالحكمة الكبير والصغير، وينصر المنكوب والمعسر:
والشيخ رحمه الله يتصف بالكرم العجيب:
وثانيها رثاء حكيم العصر الشيخ ابي الحسن الندوي رحمه الله في قصيدة "لوَّحت للناس" والقصيدة من المطولات إذ تقع في أربعة وسبعين بيتاً، تنضح بالعاطفة الصادقة، إذ كانت تربط الشاعر بالفقيد الراحل صلة روحية خاصة، وقد زاره في مقر خلوته في الهند في قريته "رائي بريلي"، وفي مقره الدائم في "لكنو" عدة مرات، وكنت معه في بعض هذه الزيارات، تقع القصيدة في أحد عشر مقطعاً متفاوتة الطول، أولها في الحكمة ثم عرضٌ لإخلاص الشيخ ونقاء سريرته كنقاء علانيته كأنه بقية السلف الصالح:
ثم إشارة لندوة العلماء التي كان رئيسها، وهي من أشهر الصروح العلمية في شبه القارة الهندية التي وضعت روحُ الشيخ واعتداله بصمتها عليها وعلى خريجيها:
ومن أبياتها:
وواضح نفس بدوي الجبل في هذه القصيدة التي تذكرنا برائعته في رثاء كامل مروة صاحب جريدة الحياة، ومطلعها:
وثالثة قصائد الرثاء التي سأختار بعض أبياتها عنوانها: "شاهد القرن" في رثاء العالم الأديب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله الذي كان نجم الدعاة في التلفاز السعودي، وبرنامجه الرمضاني "على مائدة الإفطار" ارتبط بشهر الصوم في السعودية، واستمر أعواماً مديدة فشكل جزءاً من ذاكرة أكثر من جيل.
وأكتفي بأربعة أبيات من مقدمة القصيدة هي مطلع جميل متميز للرثاء لا أذكر أن قرأت مثله، يقول:
آخر قصيدة رثاء سأشير إليها هي: "ولن أنسى الوداع"، في رثاء صديقنا المشترك، الشاعر الألمعي سليم عبد القادر الذي فتح طريقاً جديداً في النشيد الإسلامي، وأناشيد الأطفال، وأشهر ما كتب قصيدة "الطفل والبحر".
كان الأخ سليم رحمه الله آية في الصفاء، والوفاء، والذكاء، والألمعية، وتوفي بعد معاناة شاقة مع داء عضال قابله بصبر جميل، ورضا بقضاء الله أجمل، في مدينة الرياض، وطار به صدقه مع الله ليدفن في مكة المكرمة مهوى فؤاده، وتيسر نقله إليها وهو عسير، وأصبح غير الممكن ممكناً.
تقع القصيدة في ثمانية وأربعين بيتاً، مقسمة إلى خمسة مقاطع أختار من أبياتها:
وهذه الأبيات لوحة جميلة تصور لنا لقاء الأخوين الشاعرين، وعلو همة الشاعر المريض الذي يغلب آلامه، فيحدث زائره عن هموم الأمة، مبشراً ومحذراً، وتنتهي بالإشارة إلى اللقاء الذي يجمع اللاحق مع السابق. ***
الإخوانيات
عرفت شاعرنا منذ حوالي 45 سنة، رأيته فيها في جل أحواله، فرأيته صاحب شخصية متكاملة "وليست بالطبع كاملة" وظهر هذا في شعره، وهذا يدل على أنه شاعر أصيل مقتدر، مرآة لمشاعره. ماذا أعني بهذا الكلام؟! الإنسان العادي يحزن ويفرح، يبكي ويضحك، يداعب ويلاعب، يرضى ويغضب، وما إلى ذلك، والشاعر ذو الشخصية المتكاملة يكتب في الشوق، والحنين، والرثاء والحزن، والفرح والسرور، وفي الوصف، وفي السياسة، وهموم الأمة، والأبوة والبنوة، وممازحة الإخوان، وفي الحب والغزل، وما إلى ذلك، وفي كل هذه الألوان كتب الأخ حيدر الغدير، وأحجم عن نشر غزله لحياء شديد في طبعه، وأمثل لما قلت.
نظم الشاعر في الإخوانيات قصائد كثيرة يداعب فيها إخوانه ويمازحهم، في موضوعات مختلفة متباينة: مثل الشكر على هدية من العسل الحضرمي، أو ممازحة صديق بسبب كرشه السمين، أو مفاخرة جرت بين زوجين، في قصائد منها: يا حمص، بوسي، أفضلت المزيد؟! زين الكروش، قل للعيون، حيزبون، أنا شامية وأنت عراقي من دفتر العشق فمن ذا الملوم؟! وقد تصلح الأكواب، رجاء، وشاية، زواج وحضارة،
وقد اخترت نموذجين للإخوانيات، الأول: "أنا شامية وأنت عراقي"، التي يهديها إلى الصديق العراقي الذي تزوج دمشقية وأراد أن يعرِّقها فدمشقته، من أبياتها:
ينتهي الزوج العراقي من فخاره فتجيبه الزوجة الشامية:
وحين همَّ المسكين بالكلام بادرته:
والنموذج الثاني قصيدة: "وقد تصلح الأكواب"، وهي مهداة إلى صديقه الذي ظن أن العسل قادر على إعادة الشباب، أختار منها أبياتاً، وهي غنية عن أي تعليق:
***
أبوة وبنوة:
من أوجه الشبه بين شعر أخي حيدر الغدير وشعر والدي عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله الحفاوة بالأبناء والأحفاد. وقد قال الأخ حيدر أكثر من مرة: إن من الذين تركوا بصماتهم على شعره الأستاذ عمر الأميري رحمه الله، ولا غرابة! فقد تعاصراً، وتلاقيا، وتوادا، وضمتهما مدرسة واحداً فكراً وفناً.. وقد أصدر والدي رحمه الله مجموعتين شعريتين الأولى: "أب" في أولاده، والثانية "رياحين الجنة" في أحفاده، وقصيدته "أب" التي يصف فيها رحيل أولاده الصغار الستة من مصيف قرنايل في لبنان إلى حلب أشهر قصيدة في في موضوعها في الأدب العربي الحديث، وللأستاذ الكبير عباس محمود العقاد كلام نفيس في هذه القصيدة قاله للأستاذ الأميري بعد أن سمعه ينشدها، وهو: "لو كان للشعر الإنساني ديوان لجاءت هذه القصيدة في مقدمته".
رزق الشاعر بثلاثة أبناء وبنت، تزوجوا وأنجبوا جميعاً بفضل الله، فكان له منهم أحفاد وأسباط ملؤوا قبله بالحنان الفياض الذي جاء بعضه شعراً سامي المعاني، رشيق الألفاظ، من ذلك القصائد الآتية: أمامة، شادن، محمد، معاذ، رنا، عروسان، فارس، سعد، عمر، عيدان، يعلو الفتى، سلمت يداك، زهرتان، أبني كونوا، رشوة، طلال، شدا، فيصل، رند، شهد، مناف، جود، صقراً أراك. أما سمو المعاني، فنراه في حضهم على الإيمان الصادق، والفضائل العالية، والخلق القويم. وأما حلاوة الجرس فسببها العاطفة المتدفقة في قلب الشاعر التي رشت قطرات الندى على قصائده في أبنائه وأحفاده.
هذا الجانب في شعر أبي معاذ غني يستحق دراسة متأنية مقارنة، لذا سأكتفي بالإشارة إلى أربع قصائد قالها في أولاده الأربعة وهم على التوالي:
أمامة، ومعاذ، وأحمد ومحمد التوأمان، وأترك قصائد الأحفاد والأسباط يتأملها القارئ الكريم، وأشير في ختام الحديث عن الأبوة والبنوة إلى قصيدة "أبني كونوا" قال مخاطباً أمامة:
وقال مخاطباً معاذاً في قصيدة تحمل اسمه، قدم لها بالكلمات الآتية: "نظرت إلى معاذٍ متأملاً، وتذكرت أحلامي فيه حين رأيته أول مرة طفلاً وليداً، أنه صدَّق بفضل الله هذه الأحلام":
وقال مخاطباً محمداً، وهنا نلمس رنة حزينة، وأملاً يتوهج في قلب الأب الشيخ الذي ودعه الشباب بأن يكون له من شباب ابنه عون على ضعف شيخوخته، فشاعرنا كان على عتبات الستين حين نظم هذه القصيدة.
والبشير إشارة إلى البشير الذي جاء بقميص يوسف إلى أبيه عليهما السلام فارتدا بصيراً، في قوله تعالى في سورة يوسف: (فلما أن جاء البشير...) إنها إشارة في غاية الجمال والتوفيق! ولو كنت مكان محمد لاتخذت تاريخ هذه القصيدة عيداً! (25/8/1417هــــــ - 4/1/1997م). "وهذه بالطبع مداعبة لا أكثر".
وقال مخاطباً أحمد توأم محمد، في قصيدة أهداها إليه ووصفه بأنه الابن والأخ والصديق الهمام المقدام، المرتجي لعظائم الأمور، سماها "فرحة خضراء" منها:
ونأتي الآن إلى واسطة عقد قصائد الأبوة والبنوة: "أبني كونوا" السامقة مبنىً ومعنىً" والتي لا يملك من يقرؤها إلا أن يذكر رائعة عمر الأميري "أب" التي مطلعها:
تقع قصيدة "أبني كونوا" في سبعة وسبعين بيتاً، قسمها الشاعر إلى ستة مقاطع ختمها ببيتين، افتتح المقطع الأول بقوله:
وهو ستة أبيات تتحدث عن تنشئته لهم، وتربيتهم على الدين والخلق القويم. ثم يأتي المقطع الثاني، وهو سبعة عشر بيتاً، يذكر فيه معنى لم أر شاعراً أشار إليه قبله في هذا السياق، وهو أنه اصطفى لهم أصدقاءه ليكونوا أصدقائهم وصحبهم حين شبون عن الطوق، فيقول:
ولو اكتفى شاعرنا بهذين البيتين لارتقت القصيدة، ولكنه زادهما (15) بيتاً كانت استطراداً خارجاً عن الموضوع أصاب القصيدة بالترهل، وماذا يضير القصيدة لو جاءت في (62) بيتاً بدلاً من (77)؟!
هذه إحدى أهم النقاط التي أخالف فيها الشاعر الكريم: الاستطراد الذي أعانته عليه قدرته الكبيرة على النظم، ومطاوعة الشعر له، وكون أكثر الشعراء يعز عليهم أن يحذفوا من شعرهم شيئاً بعد خروجه من رحم التجربة الشعرية.
وفي هذه القصيدة مقطع بديع جداً، يتكون من (22) بيتاً، يخاطب الشاعر فيها أولاده فيقول لهم:
والأبيات مشهد حي متكامل، يصور الشاعر فيه حبه لأولاده الصغار، وجرأتهم عليه وشتائمهم، وغضبهم ورضاهم، فيه عفوية وصدق، وسخرية محببة، ولعله من أجمل الصور المركبة الممتدة في ديوانه.
***
أندلسيات:
شاعرنا محب لتاريخ المسلمين ودارس جيد له، وخاصة تاريخ المسلمين في الأندلس. فكم من مرة زارها يحمل كتابين لا يفارقانه هما: "رحلة الأندلس" لحسين مؤنس، و" الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال" لمحمد عبد الله عنان، قرأهما عدة مرات، وكان دليله وهو يزور الأماكن التي تحدثا عنها، متأملاً متذكراً، فرحاً حزيناً، يستنطق الآثار ما ظل شامخاً وما درس، ويناجي المآذن، ويسمع همس الأشجار والأطيار، ويلتمس العبرة، ويرنو إلى المستقبل.
ومن القصائد التي تحدث فيها عن الأندلس: حلم موسى، حسرة العربي، بعض الرؤى، لكن معلقته المتألقة "أشواق أندلسية" هي غرة تلك القصائد وتاجها تقع في حوالي (150) بيتاً، تحتل مكاناً لائقاً بين عرائس القصائد التي قيلت في الأندلس، لذا سأكتفي بالحديث عنها لأنها تغني عما سواها، ولا يغني عنها سواها.
تقول مقدمة القصيدة: "كان عدد من الشبان المغاربة يتجولون في جنة العريف في حمراء غرناطة، بملابسهم الجميلة المميزة، ولما حان وقت الصلاة أذن أحدهم ثم أدوا الصلاة جماعة، والزوار يرمقونهم بدهشة، والأندلس تنظر إليهم بلهفة وحب وحنان وقد استيقظت فيها أشواقها لأيام المسلمين.
قسم الشاعر معلقته إلى تسعة مقاطع، منها يصور "حنين الأندلس" إلى ماضيها".
أما المقطع الثاني ففيه تفتخر الأندلس وتذكر أمجادها:
أما المقطع الثالث الذي يضم (19) بيتاً فقد خصصه لعبد الرحمن الغافقي رحمه الله:
ولم يكتف الشاعر بالحديث عن الغافقي في هذا المقطع الطويل، فحبه لبني أمية امتد في القصيدة إلى المقطع الرابع ليصف الخلفاء الأمويين في (23) بيتاً هي قصيدة مشرقة اللألاء تهز قارئها بلغتها الساحرة وتصويرها البديع:
أما المقطع الخامس فخصصه لوصف حدائق جنة العريف الملحقة بقصر الحمراء، فكان وصافاً بارعاً، أراد أن يصف فغنى، وذكرنا بوصف البحتري، وسلاسة الأخطل الصغير في قصيدته:
يقول شاعرنا:
وتحدث في المقطع السادس عن خيانة الملك الإسباني فرديناند وزوجته الملكة إزابيلا للعهود ونقضهما شروط الصلح مع المسلمين والعدوان عليهم بغاية القسوة والشراسة، عدواناً مستمراً مخططاً له، قتلاً وتعذيباً وحرقاً، في أساليب عرفت فيما بعد باسم "محاكم التفتيش"، وهي محاكم يندى لها جبين الإنسانية، وتعد من أسوأ فظائع التاريخ، التي يدينها كثير من الغربيين المنصفين من إسبان وغير إسبان:
وتسير القصيدة نحو الختام بعد حوالي (130) بيتاً، فيكون ختامها نشيداً على لسان الأندلس، وتكراراً للحلم الزاهي بعودة الأذان إلى المآذن التي اشتاقت إليه.
لا شك عندي أن القصيدة معلقة محلقة، ولكن لو استشارني أخي الشاعر لاقترحت عليه حذف كل بيت لا يضيف معنى جديداً، وكل بيت مستواه الفني وسط أو حتى فوق الوسط، فهذا يرفع من مستوى القصيدة. وهل يضير القصيدة أن تكون مئة بيت بدلاً من مئة وخمسين؟
وأمر آخر؛ هذه القصيدة فيها بصمات واضحة لعدد من كبار الشعراء أولهم عمر أبو ريشة موضوع رسالة الدكتوراه لشاعرنا، فإحدى أشهر قصائد أبي ريشة قصيدة: "معبد كاجوراو" ومطلعها:
و"أشواق أندلسية" على نفس الوزن والقافية وإن كان ما بينهما في الروح أبعد مما بين المشرقين!
وقوله:
مأخوذ من قول شوقي في قصيدة "ذكرى كارنافون"، صاحب البعثة التي كشفت عن قبر "توت عنخ آمون" عام 1922م:
وقوله:
يذكر بقصيدة سليم عبد القادر "مجاهد":
وقوله:
مأخوذ من قول عمر بهاء الدين الأميري في ختام قصيدته: "شبح الخريف":
وقوله:
مأخوذ من قول أبي ريشة في قصيدة "حكاية سمار" في مهرجان أمير الشعراء "الأخطل الصغير" عام 1961م:
إن الحديث عن الأندلسيات لا بد أن يذكرنا بالموشحات الأندلسية.
والموشح كما عرفه ابن سناء الملك: كلام منظوم على وجه مخصوص، فهو يخرج عن مبدأ القافية الدائمة، ويعتمد على جملة من القوافي المتناوبة والمتناظرة وفق نسق معين.
وشاعرنا مغرم بالموشحات، وخاصة موشح لسان الدين بن الخطيب:
وقد عبر لي عن إعجابه به مراراً، فلا عجب أن يُجري فرس شعره في ميدان الموشحات، ومن أمثلة هذه القصائد: أيها العائد، يا شذا طيبة، يا لسعدي؛ أما موشحة "أيها العائد" فهي وصية من الشاعر لمن أتم حجه وأراد أن يأخذ معه هدايا من الحجاز لذويه، وفيها يقول له:
إنه الفوز المرجى قد همى
فاتخذها للمراقي سلَّما
تصبح الأهدى وتغدو الأكرما
وموشح "يا سعدي" يبدأ بهجمة من حزن، ثم يشرق بنور التفاؤل الي يظل يضيء شعر أبي معاذ، فالبشارات الحسان تدعوه إلى عليا الجنان، والمنى التي أحاطته دوان أذهلته ففؤاده ولسانه يلهجان بالثناء، يقول:
وهو لي شهد المنى أو حنظل
فإذا الأحزان تغتال المنى
فاحتسب واصبر فيوم السعد جاء ***
وبعد؛ فإن هذه المقدمة ليست دراسة على غرار الدراسات الأكاديمية التي تستقصي وتقارن وتحيل وتدقق وتقوم، بل هي أشبه بالإضاءات التي تشير وتستثير، وتومئ وتنبه، وتدعو إلى اكتشاف قدرات أخي حيدر الشعرية.
لقد كنت بين مخافتين؛ مخافة الانحياز لأخي وصديقي الشاعر بحيث أرفعه فوق مكانته بدافع الصحبة الطويلة المميزة بيننا، وبين مخافة الانحياز ضده بحيث أنتقص منها حتى لا أتهم بمحاباته، وأرجو أن أكون قد نجوت من الانحيازين فكنت أميناً وموضوعياً وطالب حق، كما أرجو أن أكون قد فتحت بهذه المقدمة الباب لدراسات أدق وأعمق وأغنى، تتناول ما كتبته عن الشاعر وما لم أكتبه.
هذا؛ وإن من الموضوعات التي أراها جديرة بالدراسة في شعر أخي حيدر: الموسيقى العروضية والداخلية، الصورة الشعرية، الحوار الخارجي والداخلي، النجوى والابتهال، الثقة بعفو الله، مرابع النشأة، بصمات من أحبهم من الشعراء عليه، الاعتزاز بالأمة، إعلاء قيم الرجولة والبطولة والجدية، التحذير من العجز والهوان والسلبية، توظيف التاريخ أحداثاً ورموزاً، القصة الشعرية، النفس اللوامة، النفس المطمئنة، الانعتاق والتحرر الوجداني، الشعر السياسي، السخرية السياسية. الإعجاب ببني أمية، اللغة فصاحة وجمالاً، الثقة بمستقبل الأمة، العناية بمطالع القصائد وخواتيمها.
لقد كنت أقول عن أخي حيدر: إنه شاعر قدير، ولكنني الآن أقول عنه بعد أن عكفت على شعره طويلاً لأكتب هذه المقدمة: إنه شاعر كبير.
أحمد الله سبحانه وتعالى الذي أعانني فأعددت هذه المقدمة، وأعتذر عما فيها من الزلل والقصور.
د. أحمد البراء الأميري
الرياض
ربيع الثاني 1436هــــــ/ يناير 2015م
وسوم: العدد649