محبرة الخليقة (56)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .
وهناك حقيقة كبرى ينكرها الوعي في كثير من الأحيان تبرّر تذبذب الشاعر هذا ولكن من وجهة نظر أخرى . فمهما ظنّ البعض أنه لا موضع للياس في قلب المؤمن ، فإنه لا بدّ للمؤمن من أن يجتاز أعنف تجارب اليأس ، وأقسى حالات القلق ، وكأن الله نفسه يريدنا على أن نلمس قاع الهاوية ، حتى يصعدنا هو من قاع تلك الهاوية . ولما كان هناك "لا تجانس" مطلق بين الله والإنسان ، فإن الإيمان لا بدّ من أن يكون بمثابةِ علاقة حيّة بين الفرد وبين ذلك "الآخر" المطلق الذي لا يمكن أن يكون مجرد "موضوع" . وهكذا قد يكون في وسعنا أن نقول أن العلاقة بين الله والإنسان هي في صميمها علاقة ديالكتيكية لا تخلو من صراع وتناقض ومجاهدة ومواجهة مستمرة . ولعل هذا هو ما حدا ببعض الفلاسفة إلى إدخال عنصر "القلق" في صميم "الشعور الديني" بوصفه تلك العلاقة التي تقوم في داخلي بين المتناهي واللامتناهي ، بين الزمان والأبدية ، بين الخطيئة والفداء ، بين الشر والخلاص ) (102).
ويعود الشاعر إلى موجات عاصفة من تذبذبه بين الأفكار . من هرقليطس إلى أرسطو .. وشيفا .. ونيوتن .. وبوذا .. وديكارت . وكلٌّ منهم أخذ شطراً من هذا الإنسان واشتغل عليه .. لقد مزّقوا وحدته بلا رحمة . ومهما عملوا فلن يوفّروا الطمأنينة لروح هذا الإنسان ما دام يموت .. وهو يموت ويعرف أنه سوف يموت . وكل هذا اللف والدوران الإبداعي الرائع .. كلّ ما تحقق من إنجازات خارقة هو بفضل المثكل ، لغز الألغاز وسرّ الكون الذي لا يفقه ولا يُحل . هذا ديكارت الذي بشّرت به الأرض كما يقول الشاعر مات فكتبت احدى الصحف في نعيه : "مات في السويد أحمق كان يقول إن في في استطاعته أن يعمر في الحياة ما شاء" . وهذا نيوتن الذي ظنّ بأنه قد اكتشف سرّ تجاذب الأشياء ، هو إنسان معصوب عطّلته عُقدُه عن معرفة السرّ الحقيقي للتجاذب . فهل يُعقل أنّه انتظر سقوط التفاحة عقوداً ولم يلتفت إلى أمّه وأبيه .. إلى شهوته .. إلى المرأة . من المؤكد أنّه كان يهرب من الفطرة إلى النظرية ، لتغطية صراعاته وخيباته :
( هل عرفَ نيوتنْ ؟
حينَ اكتشفَ القوّةَ في جذبِ الشمسِ
كواكبها من جذب الأرضِ التفّاحةَ ،
أنّ
الأشياءْ
بدأتْ تتجاذبُ منْ زمنٍ قطفتْ
فيهٍ التفّاحةَ
حوّاءْ ؟
أنّ الحركاتِ
المحكومِ بها
العالمْ
ليستْ إلّا حركاتِ الشهوةِ في ما
ذاقَ من التفّاحةِ
آدمْ ؟ - ص 1483 و1484) .
فانظر كم تخلّفَ علم العالِم عن علم الشاعر ؟
وانظر أيضاً كم تخلف علم "علماء" الدينِ عن علم الشاعر في كشف السبيل الأقرب للوصول إلى الله والظفر بالأبدية ونحن على الأرض . إنه الرقص الذي يحرّمونه ، وحركةِ هذا الجسد الرائع الذي يجرّمونه ويؤثّمونه ، ويحاولون مستميتين سجنه بكل الوسائل وتقييده ومنعه عن الحركة . يخاطب الشاعر شيفا الراقص ذي الأربع أيدٍ متداعياً مع حركات جسده :
( ويمناكَ
الأخرى تعلو
راقصةً ،
رمزاً لسلامِ الكونِ . ويسراكَ
الأخرى ترقصُ وهي تشيرُ إلى القدمينِ كرمزٍ لخلاصِ
الروحِ من اللعنةِ . ترقصُ
ترقصُ
ترقصُ
لكنْ فوقَ الجهلِ المتمثّلِ في
جسد إبليسيٍّ . ترقص ُ ،
ترقصُ ، ترقصُ فوق الجسد الإبليسيِّ .
ككونٍ أبديٍّ يجريْ
يتغيّرْ ،
ترقصُ كيْ
تتحرّر . – ص 1480 و1481) .
إنّ جسد الإنسانِ هنا يمارس حريّته باتجاه الفعل المتحرّك ، وهو شكل متفجّر من الحريّة المكبوتة . فإذا ما قارنّا بين حالتنا الرصينة المتثاقلة ، وحالة الراقصة السلسة ، الخفيفة كالفراشة المتوهجة في نار من الموسيقى والحركة تمدّها بطاقة لا ينضب لها معين ، الغارقة بكليّتها في صميم الغبطة ، حيث كل انواع الضجر والخجل والتفاهات ومقوّمات الوجود الرتيب يطهرها ويلتهمها هذا اللهيب المقدّس ، العارضة علينا في وميض خاطف ما تتمتّع به إنسانة فانية من عنصر إلهي ، لو فعلنا ذلك لتبدّت لنا حاجاتنا وما يتولّد عنها من أعمال غاية في الفظاظة والإبتذال . وإذا أفرغنا نفسنا مما نحيطها به عادة من ضلالات ، وأخطاء ، واذا جردنا الوجود من الإضافات الزائفة ، التي نلصقها عليه زوراً وبهتاناً ، لظهرت لنا الحياة البشرية كما هي : الماضي ركام من الرماد ، المستقبل كومة من الجليد ، ولتعرّت النفس بشكلها المحدود الفارغ : قطعة فجّة من الديمومة تميع وتتباطأ إلى اقصى درجة ، وحينها يفتك بنا سمٌّ زعاف اسمه الضجر . لكن أمضى سلاح ضد السأم هو السكر بخمرة الأفعال ، وخاصة تلك التي تضع جسدنا في حالة حركة ، وهي أبعد ما تكون عن دوامة التعاسة التي يأسن فيها الإنسان الجامد المفكّر . حينما يثمل البدن من كثرة تغيّراته ، يكفّ عن الوجود ، يدوس الواقع تحت قدميه ويهفو إلى خاصيات الروح ، التي تملك شاغلاً دائماً ووحيداً : الغياب . ما كان ولم يعد كائناً الآن . ما سيكون ولم يصبح كائناً بعد . وليس أبداً أبداً ما هو كائن بالفعل . حينما يتوق البدن للخروج من ذاته كي يصبح غيرها هو ، متعالياً فوق شروطه ، متجاوزاً المحدودية والنسبية إلى الشمولية والمطلق ، متسامياً نحو مجد خارق للطبيعة . وبما أنه واقع ، بما أنه كائن ، بما أنه مادة ، فإن أجزاءه تتناثر شظايا بفعل الحركة ، خلا بعض التماعات نادرة ، وومضات خاطفة كتلك التي نبلغها بواسطة الرقص ، الذي يتمخض بكل خلجة منه عن حدث ما (103) :
( أرقصْ ،
وليرقصْ هذا الكونُ
كماءٍ
يترقرقْ .
دعْ طاقةَ روحكَ في رقصكَ كالطاقةِ
في رقصِ الكونِ المتدفّق .
فارقصْ
وارقصْ
مثل الكونِ
ومثل الكونِ
تدفّق . – ص 1482) .
الرقص هو الخلود اللامعقول . ولاحظ كيف تصبح الراقصة بخطوة واحدة إلاهة ونحن كذلك . تغرق في صميم الحاضر الأبدي ونحن معها . تتحرّك وتمنحنا الإحساس بالسكون . تبدع الطرافة وتدخل عالم الفرادة والمستحيل ، ماحية بأقدامها الرشيقة عن الأرض كل تعب وعناء ، مرتفعة فوق الأشياء والعالم نحو كوكب غريب ، وبعيد . مدوزنة زمان الأرض البطىء على إيقاع خطواتها السريع . مستخرجة بأطراف أصابعها مادةً للذة من دقائقه الضائعة ، الشائخة ، المتقادمة ، التي تعيد لها شبابها ، ونضارتها ، تخدعها وتبلغ المستحيل على مرأى منها . إذ ذاك تكشف لنا عن رؤية فريدة : الخلود وسط التحوّل . فليس أحبّ إلى النفس من الحدث الجديد . لذلك ننتظر حابسين أنفاسنا بشوق وعطف البرهة الثمينة المرهفة التي ستغيّر فيها الراقصة من حركتها السابقة إلى التالية .
الرقص إذن يدمّر الوقت بما أنه بكل إيماءة منه رعشة بكر لن تتكرر مرة أخرى ، ويهبنا جوهرة غالية : اللحظة . التي هي مصدر وحي وإلهام مع أنها موشكة على الأفول ، تبدع الجمال الذي يجعلها بدوره مرئية أمام ناظرنا ، ويخيل إلينا أثناءها أن هناك شيئا سيتحطم في نفوسنا ، في الصالة ، في جو الإنتظار الذي يخيّم علينا . ومع ذلك فإن هذه الهنيهة العذبة ، الفذّة ، هي لحظة تشدنا إلى نفوسنا ، إلى الآخرين ، إلى الكون . فكل ما يمر من حالة البطء والجمود إلى حالة الخفّة والحركة يقودنا إلى لحظة الأبدية بالذات وما تحتوي عليه من جنون وفرح ودهشة خارقة ، وما تحمله إلينا من إحساس بالخلود ، ومهرب من كلّ أبواب الحياة ، وملجأ خارج العالم نحتمي فيه من ضراوة الواقع . هناك تصبح المعرفة اليقينية ممكنة ، ويزايل روح الشك العقل ، الذي تشع أمامه أنوار فكريّة ، لم يكن يحلم بها من قبل ، بإمكانية استجلائها بمجهوده الفردي . وهناك تزول من وجهنا كل الصعوبات التي كانت تعترضنا من قبل ولا يعود ثمة مشكلة واحدة تشغل بالنا . بل تكشف كنزاً كان مخبأً في أعماقنا ، حيث تتفجر قوى خارقة لم نكن نعلم أنها كامنة فينا . عيد من الضوء والفرح يتراءى لنا فيه كل مشهد أبهى ، أكثر خفة وحيوية وقوة ، يكون كل احتمال ممكنا بطريقة مختلفة ، وكل حدث يمكن أن يبدأ من جديد إلى ما لا نهاية . حتى لنتوهم أننا ندخل إلى عالم آخر حيث نتحد ونتجانس مع الجميع ، ففي حضرة الجمال كل الناس شركاء , إنه يتيح لنا أن نعيش جوهر الحب ، لا تلك العاطفة المعينة المتعلقة بشخص محدّد . لا ذاك الهوى الجزئي المختلف عند فرد منه عند فرد آخر ، بل تلك المحبة الشاملة الطاهرة ، التي تملك طابعاً مشتركاً بين كافة الفرقاء وتهدم الحيطان القائمة بينهم ، وتؤاخي بين البشر (104).
لشيفا أربعة ايدٍ .. فهل كان جسمه يحتاج هذه الأيدي الأربع ليلحق بروحه ؟
نعم ، والشعر واسطة كبرى تجعل جسدنا يلحق بروحنا . وهو القادر على أن يجعل هذه العتمة بحراً بعد الفلك الذهبي الأزرق ، ونحن الملاح الراحل نحو المطلق .
ومن جديد جاءت لوحات الشاعر مصوغة بالتساؤلات لتتسق مع الإطار الكلّي لهذا القسم . ومن المهم الإشارة إلى أن هذه التساؤلات تشتعل في أعماق الإنسان المعاصر أيضاً كلّما حقّق له العلم تطوّراً أوسع وأجاب عن تساؤلات قديمة مستغلقة ما دام الإنسان يموت . العلم يعيد الإنسان الحديث إلى الموقف السيكولوجي للإنسان القديم ويجعله يبحث عن آلهة جديدة ومنقذين جدد . العلم نفسه بدأ يخيف الإنسان ويصيبه بالذعر . وفي مناح أخرى يشهد الإنسان الحديث – وبفضل العلم - عودة للبداوة أيضاً . فنحن نعيش مرحلة "البداوة الحديثة" كما يقول أحد المختصّين ، حيث صار الإنسان بدويّاً متنقّلاً ، عالمه محمول على ظهره في حقيبة سفره وكمبيوتره الشخصي ، يطويه متى شاء ويتنقل به من مكان إلى آخر .
إنّي أعتقد أنّ في ظلمة هذا الليل كوّن الإنسان القديم أوّل "فلسفاته" ، لأن الظلمة والمخاوف والأصوات والحركات المفاجئة التي تنبعث في الظلمة تنبعث من "اللاشيء" .. والأشياء "تُبتلع" وتختفي . في الظلمة ثارت في الإنسان الحاجة الملحّة لمعرفة "أين" تذهب الأشياء . ثارت في روحه كل أبعاد محنة "التلاشي" و"الزوال" . وما الفلسفة في جوهرها إلا محاولة مدوّخة وتفصيلية للإجابة عن أين تختفي الأشياء .. عن تلاشيها وعن زوالنا وزوال الموجودات . لقد تحالف الليل مع الموت ، وصارت الظلمة ولونها الأسود رمزاً للمثكل . ولهذا جعل جوزف حرب العتمة هدفاً أوحد لجميع تساؤلاته حتى صارت وكأنها المطلق الذي يضمّ في أحشائه اللامتناهية الأبعاد والخرافية الغور كل الإجابات المعلّقة التي تظنّ بها عليه فتزيد من تفافم جراح وعيه وعدم استقرار نفسه .
وفي العتمة تلعب حاسّة البصر دوراً هائلاً في تعقيد الموقف الذي يواجهه الإنسان في الظلمة . فهي سلاحه الأوحد في تحديد الأشياء ومصادر المخاوف ، ولكن الظلمة تتحدّى العين ، وتختبر إمكاناتها .. بل تربكها وتكشف عجزها أحياناً . ولكن هناكَ وجهة عمل في وظيفة العين شديدة الخطورة ولا نلتفت إليها في الكثير من الأحوال ، وهي أن العين "ترى" ما تراه ، وتضيف وتحذف وتنقّح وتنتقد . وأي "نصّ" بصري يمثُلُ مستقرّاً في الخارج يصبح نصّاً "آخر" حين تراه العين . ولعل الأوهام والظلال وسوء الإدراك البصري التي تتفاقم في حالات القلق قد ضخّم كثيراً من حجم الظواهر التي كان "يراها" الإنسان القديم .. إن العين تؤلّف :
( من لا يعرفُ عينيهِ
عميقاً ،
لا يعرفُ لوناً ،
أو ظلّاً ،
أو ضوءاً .
فالعينُ ترى الأشياءَ ، ولكنْ ، وهي ترى
الأشياءَ ، ترى العينَ . لأنّ العينَ تشاركُ في تلوينِ
الأشياءِ ، وخلقِ الظلِّ لها ،
وإضاءتها ,
وهي
تضيفُ ،
تنقّحُ ،
تحذفُ .
حين يكونُ
الشيءُ من الاشياءِ مجرّدَ نصٍّ ، يصبحُ نصّاً آخرَ حين
تراهُ العينُ – ص 1450 و1451) .
ولهذا لن يكون غريباً دعاء الشاعر :
( يا
سيّد هذي الأشياءِ ،
وصانعها بيديهْ ،
لا تُفقدْ أحداً
عينيهْ . – ص 1453) .
وأتذكر أنني اشتغلت مدة طويلة طبيباً نفسياً مع معاقي الحرب ، وبينهم عدد لا بأس به من العميان الذين فقدوا بصرهم بالشظايا والحرائق في المعارك . كان هاجسهم المؤرق الذي لا يهدأ هو إحساسهم بأن هناك دائما إمكانية أن يكون شخص مستتر خلف الباب يراقب افعالهم الحميمة في الحمام أو في غرفة النوم . هنا يمرض العقل بالأفكار البارانوية الإضطهادية الطابع لأنه فقد "بصره" الذي يتأكد من صحة النصوص التي تصله أولاً ، ويقدّم له المعلومات الدقيقة لكي "يؤلّف" نصوصه الجديدة السليمة ثانياً .
وسوم: العدد 650