قراءة في ديوان "ظبي المستحيل"

clip_image002_d0fe1.jpg

صدر ديوان "ظبي المستحيل" للشاعر بكر زواهرة مؤخّرا عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس. ويقع الديوان الذي صمّمت غلافه الفنّانة رشا السرميطي في 160 صفحة من الحجم المتوسط.

الوقتُ تهشّم .. الجهاتُ تكسّرت .. خريفٌ مُدجّجٌ بالفَناء .. ربيعٌ مُحرّمٌ .. شمسٌ عصبيّةٌ تضربُ الحياة بلُعابها الملتهب .. وبحرٌ كالحرباء يتلوّن، كلماتٌ عاقرة تفتقد إلى الرّوح والحياة، حُرقةُ شاعر أحاطَ به همٌّ وخطبُ حرائر. كتلةُ نصوص أدبيّة من المآسي والآلام يخطّها الشّاعر المقدسيّ "بكر زواهرة" في ديوانه الشِّعريّ الجديد "ظبي المستحيل"، مثله كمثل غيره من الأدباء والكتّاب الّذين تَقطُرُ أقلامهم حبرا برائحة الدّم الطاهر، ويخطّون لنا عواطفهم المُجمّدة. نسوا الفرحة والضحكة، وغرقت مشاعرهم في عالم مُظلم دون بصيص أمل أو لفحة فرج ؟ هذا الدّيوان الغنيّ بالقصائد القيّمة والثريّ بالمفردات العميقة والمعاني الصّارخة، يُحاكي الرّوح والجسد، ويُغلّف جدران القلوب بطعم الإنتماء الوطنيّ المُشرّف. في كلّ قصيدة هناك حكاية صعبة ومُرّة تُجسّد الواقع الأليم الذي يعيشه الإنسان في هذا الوطن الحزين. كلماتٌ مضيئة شعاعها يخترق الوجدان والإحساس، ويخلّد في القلب ضراوة الأوجاع التي يمرّ بها شعبنا؛ هو شعبٌ من ألف حزنٍ ليسَ يكتملُ فيه البكاء، ومن ألف شعبٍ ليسَ يكتملُ فيه العزاء.

الشاعر "الزواهرة" وهو الآن في عمر الورد، حملَ في جوفه قلب أسد ليزأر بكل مشاعره الجيّاشة وقوّته المكبوتة في زمن القتل والظلم والعبوديّة. كتبَ بشجاعة ورسم باللّون القاتم فواجع الدّهر وإستبداد الطّاغية، في الوقت الذي نحن في أشدِّ الحاجة إليه. تكلّم بلسان حالنا وكأنّنا نتوق لمن يروي ظمأنا ويشفي صدوراً أعياها الصّمت القاتل داخل أحشائنا !!

قد أحيد بقراءتي التّقليديّة هذا المرّة، وأتناول بمحض الفضول واللّهفة تلك النّفسيّات التي تقبع داخل شبابنا أصحاب القلم والفكر، وأصحاب الرّسائل الخالدة. نستطيع أن نجزم أنَّ هناك نفوسا مخلصة ووفيّة تخلّت عن الكثير مقابل القليل، سعادتها من سعادة الجميع، وجلّ وقتها وجهدها فداء لكلمة الحقّ. هذه النّفسيّات المتهالكة من الدّاخل والخارج، في ظلِّ ظروف الإحتلال القاسية، تمكّن منها أقوياء القوم ووضعوها على عرش المقاومة. فهذا شاعرنا في ديوانه الجديد، يدمج بين البُعد الإجتماعيّ والبُعد الوطنيّ والبُعد الإنسانيّ، لا ينفصم عن بعضها البعض، ونجدها منصهرة بشكلٍ مميّز وأسلوب بلاغيّ قويّ. أمّا التّواصل من داخل الأحداث ومعاينة حياة النّاس من نظرة ثقافيّة وأدبيّة، يعتبر أمرا حيويّا بالنّسبة للشّعراء والأدباء، كما تُضفي نبضا خفّاقا في صدى النّصوص الأدبيّة.

من الغريب أن يُصبح اللامعقول هو رغبتنا، والمساحات التي لا يدركها العقل البشريّ هي موطن جمالنا، أوجاع الشّاعر من أوجاع النّاس مدى الأنجاد، والبعد عنهم مشنقة بلا أعواد، يبقون يموجون في صدره وفكره. أمّا قصّة عشقه لوطنه فتبقى الرّائدة فوق الأطياف. نجد أنَّ الشّاعر في نصوصه الأدبيّة يذكر الموت كثيرا، ويعود سبب ذلك إلى صعوبة المعاناة من ضيق العيش، وعليه فقد صوّر لنا تلك الحياة الطيّبة والسّعيدة  ما بعد الموت، وكأنّه يُناجي السّماء للخلاص من تعب الجسد والرّوح، فيقول لنا "من رأى الحور لا يستذكر الألما".

يتغلب الشّاعر على نفسيّته فيحررّها ويُحرّر جسده بخياله المكتوب على الورق، فيخرج من ذاته الأولى لينتصر الوجود على الفَناء، ويغنّي في أعماقه "لولاكَ يا أملَ الحياة". لقد أمتعتنا وأشقيتنا أيّها الشّاعر، فقد قيّدتَ عواطفنا المبعثرة بسلاسلكَ الذّهبيّة، وكتاباتك المشوّقة. استخدمتَ لغة مشحونة بالمرارة وعناء مكابدة الزّبد، فناديتَ من كلِّ أرجاء الأرض المسلوبة، أن ردّوا لنا وجه الحياة وطعمها المسروق. نحن شعبٌ لن ننام في قعر البئر، فكلّما سقطنا نهضنا من جديد لنواصل النّضال، ففي قاموس الثّقافة لا يوجد متّهمون وأبرياء، بل يوجد عقل أو لا عقل، ضمير أو لا ضمير. أمّا الشّاعر "الزواهرة" فكان منارة أدبيّة مقدسيّة مضيئة من العطاء المتميّز والجميل.

وسوم: العدد 650