محبرة الخليقة (57)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً
احتفالية الفلك:
حكاية البحّار الخائب
--------------------------
( أوّلُ مَنْ قلتُ لهُ : أيّ طريقٍ
أسلكها حتى أبلغَ بوّابةَ
مملكةِ النّور ؟
كانَ
العصفورْ . )
يذكّرني المقطع الأول من النص الذي افتتح به الشاعر قسم "احتفاليّة الفلك" :
( أوّلُ مَنْ قلتُ لهُ : أيّ طريقٍ
أسلكها حتى أبلغَ بوّابةَ
مملكةِ النّور ؟
كانَ
العصفورْ . – ص 1489) (مقطوعة "الفلك الأول") .
يذكّرني بعبارة قالها عالم الفيزياء الشهير "روبرت إينشتين" للأستاذ "محمد حسنين هيكل" ، وهما يلمحان عصفوراً يطير في اثناء تجوالهما في حديقة منزل الأول : (هذا العصفور يفهم الجغرافيا أكثر من كل علماء الجغرافيا) . ويقول "علي عزّت بيجوفتش" في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" إن العلماء كانوا يعتقدون بأن أسراب الطيور المهاجرة يقودها طائر منها كان قد هاجر إلى المكان الجديد سابقاً ليدلّها إليه ، واتضح الآن أن أي طائر يمكن أن يقود السرب الهائل حتى لو لم يزر المكان سابقا !
هكذا هو حال علماء "علم الفلك الأول" . كانوا جزءاً من هذه الكون الهائل ملتحمين به ، وينبضون لنبضه ، ويستجيبون لتغيّراته من "الداخل" بتلقائية بسيطة . فقبل أن يكون الله في الأديان – كما يقول الشاعر - وفي مدار النور والحلَك ، كانت رؤى السحر ، وأيام الحصاد ، وزورق البحار ، والصياد ، الجملة الأولى التي تُكتبُ في مخطوطة الفلك (المقطع الثاني ، ص – 1490 و1491) . وكانت تصوّرات الإنسان الأول بسيطة وحيويّة ؛ بمعنى أنه كان ينظر إلى نفسه كـ "أنا" ، وإلى الطبيعة كـ "أنت" . فالأرض لم تكن صخراً ووحشاً وماءً وأنهاراً ، منفصلة جامدة بلا روح ، بل صندوق يشبه بيته أو كوخه الصغير ، والبيت لا بدّ أن تكون له أركان أربعة تسنده (المقطع الثالث ، ص – 1492 و1493) . ولم يكن مستبعداً ، بل كان نتيجة طبيعية جداً لهذه الرؤية : رؤية الأنا والأنت ، أن يتصوّر شعب ما – وأعتقد أن شعب اليابان لديه مثل هذا التصوّر في أساطير خليقته - أن الجزر المكوّنة لبلاده كانت نتيجة حركة عفوية من أخٍ وأخت من أصل إلهي ، كانا على جسر السماء ، وأطلقا رمحاً أصاب البحر ، وعندما أرجعاه ، تناثرت قطرات الدم لأن البحر كائن حي له دم وروح وعروق ، تناثرت على سطح الماء ، وتجمّدت كل قطرة كحبة الزمرد الكبيرة ، واصبحت جزيرة (المقطع الرابع ، ص 1494 و1495) . مثلما كان المصريون القدماء يعتقدون بأن الكون يتكوّن من بقرة مقدّسة واقفة على زوايا الأرض ، والنيل يجري تحتها كأنها تحميه ، وبطنها سوداء ، مرصّعة ، بأنجم مشعشعة ، يراها الناظر قبّة للسماء (المقطع الخامس ، ص 1496 و1497) . وهكذا .. يكون كل شيء حول "أنا" الإنسان الأول هو "أنت" حيٌّ حيوي له عواطف ومشاعر ، ولا يمكن أن يقلّ عنه بشيء إن لم يفقه خصوصاً عندما يكون "أنت" الظاهرة هائل الأبعاد مدمّر الإنفعال مثل البحر والسماء والأرض في الطوفانات والرعود والزلازل على التوالي . هكذا كان "علم" الفلك الأول . بل علم الإنسان القديم كلّه ، تفكير تأملي يحاول وضع دعامة تحت فوضى التجربة تمكّنه من الكشف عن معالم بناء ما – معالم التنسيق ، والتماسك ، والمعنى ، التي هي فيه . هذا الفكر كان يرى الإنسان كجزء من المجتمع ، والمجتمع كشيء مثبت في الطبيعة ، معتمد على قوى كونية . فهم لم يروا الطبيعة والإنسان واقفَين يجابه الواحد الآخر . ولذا لم تكن ثمة حاجة لفهمهما بأساليب مختلفة للمعرفة . بل إن الظواهر الطبيعية كان ينظر إليها كأنها تجارب إنسانية ، وأن التجارب الإنسانية كان ينظر فيها كأنها حوادث كونية . وفي هذا تمييز بيننا وبين الشعوب القديمة في غاية الخطورة . فالفرق الأساسي بين موقف الإنسان الحديث وموقف الإنسان القديم من حيث العالم المحيط بهما هو هذا : عند الإنسان العلمي ، يُشار إلى عالم الظواهر عادة بـ "هو" ، بينما يُشار إليه عند الإنسان القديم – وكذلك البدائي – بـ "أنت" كما قلنا . هذه العلاقة تتراوح بين الإدراك الفعّال وبين "تسلّم الإنطباع" المنفعل ؛ بين الذهني وبين العاطفي ؛ وبين المعبّر عن نفسه وبين غير المعبّر عن نفسه . فقد يكون الـ "أنت" من قبيل المشكل ، ولكنه على شيء من الشفافية . فالـ "أنت" أمر حي تحس بوجوده ، يمكن لخواصه وإمكانياته أن تنطق عن نفسها بعض الشيء – لا نتيجة لبحث فعّال ، بل لأنّ "الأنت" ، كأمر موجود ، يكشف عن نفسه .
وفي نص سابق هو "الأرض مهجورة" (ص 550) من قسم "السيّد الفأس" (ص 469) ، حللنا نصّ الشاعر الذي حاول فيه تبرير انهمامه بعوالم الأسطورة القديمة ، وأهميتها في حياتنا اليابسة . وقد تركتُ المداخلة الأهم لحين بلوغنا موقفاً يبرّر أهميّتها لتكون أفكارنا عفوية وغير مقحمة في سياق تأويل النصوص ، ومتسّقة مع مسارنا التحليلي العام . ولهذا أقول – متفقاً مع رأي مؤلفي كتاب "ما قبل الفلسفة" المهم - إن الشيء ، الـ "هو" يمكن دائماً أن يُقرن علميّاً بأشياء أخرى ، وأن يبدو جزءاً من مجموعة أو سلسلة . وعلى هذا النحو يصرّ العلم على رؤية الـ "هو" . ولهذا يستطيع العلم أن يتفهم الأشياء والحوادث إذ تتحكم بها قوانين عامة تجعل في المقدور التنبؤ بسلوكها في ظروف معطاة . بيد أن "الأنت" فريدٌ فذّ . إن "للأنت" شخصية الفرد التي لا سابقة لها ولا موازي ، ولا يمكن التنبؤ بها ؛ إنها وجود لا يُعرف إلا بمقدار ما يكشف عن نفسه . و"الأنت" فضلاً عن ذلك ، ليس مجرد موضوع للتأمل والفهم ، بل إن الإنسان يجرّبه عاطفياً شاعراً بعلاقة حركيّة متبادلة . ولهه الأسباب تجد تبريراً للفكرة القائلة "ليس للإنسان البدائي إلا اسلوب واحد للتفكير ، وأسلوب واحد للتعبير ، وأسلوب واحد للكلام – الأسلوب الشخصي" وهذا ليس معناه (كما يحسب الكثيرون) أن الإنسان البدائي ، حين يحاول تفسير الظواهر الطبيعية ، يغدق على عالم الجماد صفات إنسانية . إن الإنسان البدائي لا يعرف عالماً جماداً أبداً . ولهذا السبب عينه ، لا "يشخّص" ظواهر الجماد ، ولا يملأ عالماً فارغاً باشباح الموتى ، كما تريدنا "الروحانية" أن نعتقد . فالعالم لا يبدو للإنسان البدائي جماداً أو فارغاً ، بل زاخراً بالحياة : والحياة فردية ، في الإنسان والحيوان والنبات ، وفي كلّ ظاهرة تجابه الإنسان – في قصف الرعد ، في الظلِّ المفاجىء ، في الفراغ المجهول الرهيب في الغابة ، في الحجر الذي يؤذيه فجأة عندما يعثر وهو منهمك بالقنص . ففي أي لحظة ، قد تواجهه ظاهرة طبيعية ، لا كـ "هو" بل كـ "أنت" . وفي مثل هذه المجابهة يكشف "الأنت" عن فرديّته ، وصفاته ، وإرادته . إن "الأنت" لا يـتأمل فيه هذا الإنسان بانفصال ذهني ، بل يجرّبه كحياة تواجه حياة ، شاغلاً كل قدرة وموهبة في الإنسان ، بعلاقة متبادلة . وهذه التجربة تجعل الأفكار ، وكذلك الأفعال والمشاعر ، أمراً ثانويا .
فمن الذي بقي مخلصاً لعلاقة "الأنا" بـ "الأنت" ، بعد أن اكتسحت علاقة "الأنا" بـ "الهو" كلّ مناحي حياتنا بسبب طغيان العقل المجرّد والسلوك العلمي في البحث والتعامل مع الظواهر ، من أبسطها إلى أشدها تعقيداً ، ومن الإنسان إلى الجماد والحيوان ؟
الشاعر هو الذي ظلً أميناً على هذه العلاقة الحيوية الضرورية ، ومخلصاً لها يتحكم فيها ، وتتحكم بإبداعه :
( مرّاتٍ ، أشعرُ أنّ الزرقةّ فوقي
سطحُ البحرِ ،
والشمسَ ، وذاكَ القمرَ الموّاجَ ، وكلَّ
نجومِ الليلِ زوارقَ تسبحُ
نحو المطلقْ .
وأنا
في أعماقِ الماءِ الأزرقْ ،
أحيا ، منتظراً موتيَ كيْ اصعدَ
نحوَ خليجٍ يحملنيْ منهُ
زورقْ ،
كجناحِ ملاكٍ
مجذافاه ،
لأزورَ
اللهْ ) (المقطع السادس ، ص 1498 و1499) .
و"أبيض" المعرفة هذا ؛ معرفة "الأنا" بـ "الأنت" ، هو الذي يجعله ينسرب بلطف إلى جواهر الأشياء ، ليستكشف معمياتها ، ويطمئنها ، ويتخالف معها ، ويتوقّد في "الأسود" (المقطع السابع والأخير ، ص 1500) . وهو الذي يجعله يبحر نحو أبعد نجمٍ عن هذه الأرض ، لأن وجود "مسافة محسوبة" بينه والظاهرة التي يبغي التعرّف عليها ضروري جداً . والعلاقة متبادلة ومعكوسة ، فوجوده على الأرض ضروري كمسافة محسوبة لولاها كانت كل الأنجم "نصّاً يقرأه أعمى" ، مثلما أن وجوده المتخيّل على سطح نجم بعيد ، يتأمّل منه الأرض أساسي كي تصبح الأرض كتاباً مفتوحاً ، قابلاً للقراءة . وهو حال الشاعر مع نصوصه ، وحال الناقد مع نصوص الشاعر . فالمصوّر الفوتوغرافي لا يستطيع التقاط صورة لشيء ما إذا اقترب منه حدّ الإلتحام بحيث تكون العدسة ملاصقة تمام الإلتصاق لذلك الشيء . ولهذا يحلم الشاعر في أن يسكن نجماً آخر . هذا الحلم رافق الإنسان منذ البدء ، فكلن يفكّر في من يسكن في الكواكب الخرى التي لم يكن يرى منها غير التماعاتها البعيدة . حتى هذه الإلتماعات الوجيزة العابرة كانت تشغلُ الإنسان المسكون بقلق الفناء الباحث أبداً عن خلاص في "الغرفة" المغلقة التي صارت الآن نجماً بعيداً . وقد نعتقد خطأً – كما اعتقد الشاعر في نصّه "أبحر" هذا (ص 1501 – 1518) – أن الإنسان القديم كان يتحرّق شوقاً للرحيل نحو الأنجم البعيدة الغائرة في قلب "العتمة" الكونية ، ولكنّ إمكاناته التقنيّة لم تكن تُسعفه . لقد طلع علينا العلامة العراقي الراحل "عالم سبيط النيلي" بنظرية محسوبة رياضياً وووثائقياً تؤكد على أن رحلة جلجامش لقتل الوحش "خمبابا" لم تكن إلى غابات الأرز في لبنان ، بل إلى كوكب "عطارد" . ومنذ البدء كان "الجديد" البعيد يثير الرهبة والولع ، ويجعلهما يتجاذبان في نفس الإنسان . هو "الغرفة المغلقة" التي قد يكون فيها الخلاص ، أو يكون فيها الموت . ولهذا تتلاحق اسئلة الشاعر في الصفحتين الأوليين من النص ؛ اسئلة تكشف قلقه من ناحية ، وتشوّقه من ناحية ثانية مكملة . ما الذي سيجده هناك وكل الصور المرسومة حتى الآن عن الكائنات خارج هذه الأرض ، تثير الرعب والقرف ؟ ثم هل سيستطيع التفاهم "هناك" بلغته ؟ وماذا يحمل معه من الأرض ؟ هل يحمل معه جسده ، خبزه ، تاريخه ، وحربه وفنونه ، أم يتركها ويرحل عارياً ليبدأ من جديد ؟ ويبدو أنّ هذه المهمة – مهمة مغادرة الأرض والرحيل إلى كوكب آخر - الحلم الذي راود مخيلته منذ بدايات وجوده ، تتطلّب معرفة تامة بطبيعة الحال "هناك" ، وهذه المعرفة لا تفلح في توفيرها أدواته الإبداعية التي لا يعرف غيرها ، بل هي قد تورّطه ، ولهذا فهو بحاجة إلى أداة جديدة عليه لكنّها مجرّبة :
( إنّيْ أحلمُ في سفَرٍ لكواكبَ
أخرى منذ وجودي .
شِعري
سافرَ .
غيبيْ
سافرَ .
سنبلتي ، مجذافي ،
كلٌّ ، سافرَ .
خوفي من موتي
سافرَ . لكن مَنْ
سافرَ حتى الآنَ ، وعاد ليخبرنيْ ماذا يوجدُ خارجَ
هذيْ الأرضِ هوَ العلمُ . سأتركُ للعلمِ
السفرَ الأصدقْ
نحو
المطلقْ . – ص 1504) .
إنّ الشاعر يتحوّل الآن جذريّاً عن "منهجه" في التفكير الذي يقوم – مثلاً - على التخييل ، والإستخدام المجازي للغة ، إلى منهج آخر معروف بأنه يقوم على "الواقعية الحديدية" ، والإستخدام العملي المباشر للغة ، ورفض أي تعبير مجازي لأنه يربكه ويشوّه المفاهيم التي تتطلّب أقصى دقّة لاختبارها كي تصبح "قانوناً" . وسبب تحوّله هذا يعود إلى "الشك" في ما يُقدّم له من حقائق عن هذا الكون ، وخصوصاً من الدين ، فإسئلته مدوّخة وملحّة ، ولا تقنعه فيها أجوبة الغيب . هذا الشك أزهق روحه ، وصار التخلّص منه يفرض عليه أن يقوم بهذا التحوّل نحو العلم برغم جمال أساطيره وتحليق جناح خياله . ولهذا يطلب من مخلّصه الجديد : العلم ، أن "يبحر" : (أبحرْ نحو المطلق) (ص 1506) . ثم يوسّع مصادر الأجوبة غير المقنعة التي شوّشت تفكيره لتشمل ليس الدين و"علماء" الغيب حسب بل الفلاسفة والفلكيّون البدائيون – انقلب على البدائيين الآن لضرورة "المحاججة" – والرواة .. والأرباب . هؤلاء جعلوا شكّه أكثر وأكبر . ومن الطبيعي أنّه كانت تعجبه أجوبة الشعراء الحكماء – ولا أدري كيف يكون الشاعر حكيماً وهو يستعمل اللغة مجازياً ، والحكمة تريدها تداولية وعمليّة محدّدة - .. ولكن :
( لكن ، بي قلقٌ لن ينقذنيْ
منه الشعرُ ولا الأديان . وبيْ عبدٌ منذُ البدءِ ،
له أجنحةٌ لا
تخفقْ .
أبحرْ
وحدكَ
تجعلْ
منّي
العبدَ
المتحرّر – ص 1507) .
وسوم: العدد 651