"الدفتر الكبير" فن الكراهية
صدرت مؤخرا بالعربية ترجمة رواية"الدفتر الكبير" تأليف الكاتبة الفرنسية (من أصل مجري) أجاوتا كريستوف. أتوقف عندها لأنها تثير قضية غاية في الأهمية، وأعني العلاقة بين نفسية الكاتب - إن جاز التعبير- والأدب، أورؤية الكاتب للعالم التي تتضمن ميوله النفسية. في رواية " الدفتر الكبير" سنجد أننا أمام كاتبة متمكنة من الفن الروائي بكل أدواته، وبالقدرة على عدوى القاريء بأنفاس الأحداث وحضور الشخصيات. تقدم لنا أجاوتا كريستوف صبيين صغيرين توأم تتركهما أمهما لدي الجدة في قرية مجرية نائية على الحدود مع سويسرا بعد أن شح الطعام في العاصمة بودابست وأمست المدينة تعاني من ويلات القصف اليومي في الحرب العالمية الثانية. الصبيان هما الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية ومن خلالهما نرى العالم والشخصيات الأخرى كالجدة التي لا تنادي الولدين إلا بقولها : " يا أولاد الكلبة"، ولاتبدي أي تعاطف معهما. الولدان يدربان نفسيهما على تحمل الألم وصولا إلي جلد كل واحد منهما للآخر. ويلتقي الصبيان بضابط مريض مهووس بحب تعذيب الذات يطلب منهما أن يجلداه فيقومان بذلك من دون أية غضاضة. ويقوم الولدان على صغرهما بتدبير تفجير فرن في كنيسة يشوه وجه خادمة لم تكن تروق لهما. ثم تموت فتاة قبيحة جارة لهما، فتطلب أم الفتاة من الولدين قتلها وإضرام النار في منزلها فيقومان بالفعل بذبحها بالموسى استجابة لرغبتها ويشعلان النار في بيتها:" ذبحناها بضربة موسى ثم أضرمنا النار وعدنا للمنزل"، وعندما توشك جدة الولدين على الموت تطلب منهما أن يضعا لها السم لتموت بسرعة فيفعلان ذلك، وعندما تعود أمهما إليهما والحرب على وشك الانتهاء وتقف تتحدث معهم في الحديقة تهبط إحدى القذائف فتقتل الأم، فيدفنها الولدان في الحفرة التي أحدثتها القذيفة، وعندما تسألهما ابنة العم:"هل حدث شيء ما؟" يقولان لها:"أجل. قذيفة أحدثت حفرة في الحديقة"! كأن موت الأم التي جاءت من آخر الدنيا للقائهما لا تعني لهما شيئا أي شيء، سوى" حفرة في الحديقة". الأنكى من كل ذلك أن الولدين يقودان والدهما للموت بعد ذلك ويستخدمانه بخطة مدبرة ليتمكنا من الفرار عبر الحدود! وقد حاول البعض في قراءة الرواية تفسير ذلك كله بقسوة الحرب التي تشوه البشر. لكن هل حقا أن الحرب- والولدان في الريف بعيدان عنها- هي التي أدت لكل ذلك الشر؟ أم أنها " نفسية الكاتب" التي تستقبل العالم وتعيد إرساله بصفته شرا خالصا؟. ولو أننا استبدلنا بأزمة الحرب ( التي دفعت الأم لترك ولديها) أزمة أخرى، كأن تكون الأم قد عجزت عن إعالة ولديها، لما تبدل شيء في الرواية. فالقسوة والكراهية هنا ليست ناجمة عن ظروف الحرب ولا تربطها بها علاقة سببية قوية. للأسف هناك أدباء من هذا النوع، يعتم العمل بين أياديهم بسبب الطبيعة النفسية للكاتب. وإذا لم تكن نفسية الكاتب مشبعة بحب العالم والعطف على البشر فإن كل اقتدار أدبي يسقط في الوحل، ذلك أن الكتابة هي علاقة مع الناس، وإذا كان الكاتب يرى في الناس الشر وحده ويكتب لهم، فإن ذلك يشبه رسالة من رجل إلي امرأة يبغضها إلي حد الموت، وما من أديب عظيم إلا وكان محبا عظيما للبشر. هذا هو سر الكتابة.
وسوم: العدد 651