إيحاءات الكلمة و سحرها لدى الشاعرة الكبيرة آمال عواد رضوان
يعتبر إنتقاء الكلمات (الألفاظ) و الإحساس العالي بآثارها الخفية وما تنطوي عليه من معان متعددة هو أحد الأسباب التي تميز العبقريات الأدبية ، فبعض الكلمات توحي بأكثر من مدلولها الظاهري، ويتجدد المقياس الفني في تقدير قيمة اللفظ بمدى قدرته الفائقة على خلق إيحائية خاصة به فهو مجال الإنفعالات النفسية والتأثر الداخلي للإنسان .. وقيمة اللفظ تتأثر بهذه الإيحائية و نوعيتها قوة و ضعفاً، فكلما كانت إيحائية الكلمة عالية كانت قيمة تلك الكلمة فنيا عالية والعكس بالعكس . الإيحاء في اللفظ يفصح عن شاعرية الأداء و الفهم الواعي لسلوك اللغة وما تلقيه الكلمة من معان خبيئة هي صدى تراكم الخبرات الفردية والجماعية التي صاغت نسيج التجربة النفسية و الإجتماعية للشعب المتداول لغة واحدة .
ففي قصيدة " يَابِسَةٌ.. سَمَاوَاتِي " للشاعرة الكبيرة آمال تتصاعد لديها قيمة اللفظ بشاعرية فذة ، حين تموسق أحاسيسها قائلة :
عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ مُضَمَّخٍ بِالدَّهْشَةِ
ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي .. صَدًى
لِأَرْسُمَ.. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى
***
قَلْبِي.. يَــــكْـــــــبُــــــــــــــــرُ بِكِ
وحينَ يَـ~جْـ~ـمَـ~ـحُ شَجْوا
تَــــتَـــيَـــقَّـــظُ .. ثُغُورُ رَبِيعِي الــ غَفَا
***
مَبْسُوطَةً .. تَمْتَدُّ رَاحَةُ فَجْرِكِ
مُخَضَّبَةً.. بِحَنَانِ أَنَامِلِكِ الظَّمْأَى
وحِينَ أَلْثُمُهَا.. يَتَّقِدُ عَبَثِي
***
عَلَى شَفَتَيْكِ .. أَعْزِفُ ابْتِسَامَتِي
وأغذو وَارِفَ الْمَدَى
أَلا يَـــــتَّـــــــــسِـــــــــــعُ.. لِأَوْتَارِكِ الْبَحْرِيَّة؟
وعندما نتفق على أن الكلمات داخل اللغة تمثل حسا يحمل دلالة الى معنى، فهذا يتطلب من الأديب أو الشاعر أن ينتقي الألفاظ التي يستخدمها في نتاجاته الأدبية حسب ما تمليه عليه ذائقته اللغوية وحسه الجمالي، لأننا نعتقد بأن تجويد اللفظ يمثل ذوقا جماليا واعيا تتصف به نفس الأديب متى بلغت هذا الوعي ستكون منبع معان. وهكذا نستمر نتذوق ترنيمات هذه الشاعرة الفذة بذات القصيدة
سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ.. انْطَفَأَتْ
مُنْذُ .. أَلْفَ عامٍ.. وَغَيْمَة
وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي .. تَتَحَجَّبُ
خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ
إن علاقة الأديب باللغة مصحوبة بنوع من التعال، ونفسي متبادل، أوعلى نحو أدق بنوع من التجاوز يبديه كل منهما للآخر، إذ يسعى أحدهما لسحب الوظيفة التي يروم الآخر تأديتها . فإذا كان" التوصيل " يعد غاية الوظيفة اللغوية و الإستعمال للألفاظ ، أي المحافظة على ثبات المعاني المتداولة و تكريس ما تضخم عبر التراث التقليدي للتوصيل الجماعي أو داخل المعاجم اليومية ، فإن اللغة الأدبية تخلخل هذا المفهوم وتتخطاه فلا يعود مجرد طريقة في السلوك المتداول او الإستجابة المتعارفة بل تجاوز للمعنى المعجمي اليومي إنحرافا أو إنزياحا ، فيكون الشعر مثلا إحتواء النقائض و إنغماسا حدسيا لإظهار الخفاء أو إكتشاف المتجانس بين المتخلفات ، فالشاعر يفكر بالكلمات للوثوب الى المستقبل . يتجلى إذا التعالي بين اللغة والأديب في أن الأخير يعتمد على كلماتها إعتمادا مطلقا و يرغب في الوقت نفسه الى تجاوزها و سحبها نحو فضاءات لم تألفها ، فهو كما يذكىر سعيد الغانمي
( يخون اللغة والوعي النمطي بأنظمتها ) ... اللغة تتجه الماضي الى والشعر يتجه الى المستقبل ، اللغة تتحاور مع ما ينسجم والسياق الإجتماعي ، والشعر يتنكر لهذا السياق ، فالكلمة في اللغة تذكير ، والكلمة في الشعر حضور و إحتمال . وهكذا تتوجه بنا آمال الى مستقبل واسع رحب من قطوف غنائم الكلمات المستنقاة في قصيدتها " نَاطُورُ الدُّجَى " حين تقول :
ظِلاَلُ ثُقُوبِكِ تَيَقَّظَتْ مِنْ مَكَامِنِهَا
تَتَجَنَّى عَلَيَّ
تَعَرَّجَتْ
فِي أَزِيزِ سَقِيفَةٍ مَتَأَهِّبَةٍ لِلْمَشَاكَسَةِ
لكِنَّهَا تَرَهَّلَتْ ذَائِبَةً
عَلَى مَرْمَى صَهِيلِكِ الْمَوْشُومِ بِالنَّدَى
وَمَا فَتِئَتْ تَدُكُّ
أَمْوَاهَ نَارٍ انْتَصَبَتْ أَطْيَافًا
عَلَى رِمَالِ الآهِ
وَمَا هَجَعَتْ!
ومن ناحية أخرى يقول د. لطفي عبد البديع ،حول الكلمة من حيث هي "علامة" لغوية مبنية على طبقات و أنماط كلية من التفكير تخلق لدلالاتها "مثالية" لا تغادرها إلا بإستعمال الأديب الشخصي ، فيحلها الى دلالة "نفسية" تعكس وجدانيته ، ذلك أن ألفاظ اللغة من حيث "الوضع" تشير الى معان كلية أو مفهومات تمثل المدركات الحسية و المجردة معا كمصاديق جزئية لها . فكأن اللفظة ماهية أو مثال تحمل في أحشائها أفرادها أو أنواعها التي تشير إليها فمثاليتها تتلخص في أنها نمط واحد له وجوه كثيرة . في حين يسعى الكاتب أو الشاعر الى إختراق تلك الدلالة الكلية وتحويلها الى دلالة نفسية تعبر عن حقائق وجدانية خاصة تمور بها ذاته ، فتطبع العمل الأدبي بطابع الفردية أو الذاتية التي تتميز بها التجربة الجمالية لكن الحديث عن دلالة الكلمة من حيث هي "لفظة مفردة" سيتصف بالمغالاة إن كان يسعى فقط نحو تأكيد جانب القوة التي تمتاز بها " الكلمة" لذاتها . فمهما قيل عن حجم تلك القوة أو مدى التأثير الذي تحدثه فأن "السياق " الذي تجئ به اللفظة هو في حقيقة الأمر ما يحدد الدلالة الأدبية ويميزها عن غيرها من الدلالات و المعاني التي تو حي بها ,فليست اللغة مجرد تأليف بين الحروف و الكلمات ، ولكنها نظم على المعاني ، يصيب موضعا من النفس ، كما أن الكلمات تُشحن بالمعنى و هي داخل بنائها الغني ، وليست هي كذلك خارج ذلك البناء الا من قبيل حملها المعنى المعجمي و المتواضع عليه . أن "معنى" النص الأدبي يعتمد على حركة الألفاظ و عملها و تأديتها لوظيفة ما داخل النظام البنائي لوحدات النص ، ويؤكد كل من رينيه ويليك و أوستن دارين بأن الكلمة لا تحمل معها فقط معناها المعجمي بل هالة من المترادفات و المتجانسات ، والكلمات لا تكتفي بأن يكون لها معنى فقط بل تأثير معاني كلمات تتصل فيها بالصوت أو المعنى أو بالإشتقاق أو حتى كلمات تعارضها أو تنفيها .و لنرى كيف وظفت شاعرتنا المبدعة آمال شحن الكلمات بالمعاني وأدخلتها في بناء قصيدتها:
بَاغَتَنِي بِإِفْكِ طُقُوسِ تَسَكُّعِهِ الْمُتَطَفِّلِ
خَلْفًا دُرْررررر ... اسْتَدِرْ حَيْثُكْ
أَنْتَ وَغَدُكَ الْفَضْفَاضُ فِي غلاَلَتِهِ
بَدِيدَانِ.. رَمِيمَانِ!
اُنْظُرْكَ .. لَبْلاَبًا مَنْسِيًّا
لَمَّا يَزَلْ يَكْتَظُّ بِالْقَيْظِ
فِي صَحَارَى مَاضٍ .. تَحَلْزَنَ بِالْحُزْنِ.
هَا ضَفَائِرُ نَخْلِكَ
الْتَهَبَ فَجْرُ تَمْرِهَا
فِي سَرَاوِيلِ دَهْرِ ضَارٍ
ونَشِيدُكَ الْخَاشِعُ
كَمْ شَعْشَعَ مُتَفَيْرِزًا
مُرَفْرِفًا
هَا قَدْ شَاطَ نَبْضُهُ
عَلَى جُسُورِ تَلَعْثُمٍ مُتْخَمٍ بِالتَّفَتُّتِ!
يَا أَيُّهَا الْبَحْرُ الْعَارِي
مِنْ مَوْجِكَ الْوَثَّابِ
أَلْقِ مَا بِرَحْمِ تَبَارِيحِكَ
مِنْ أَصْدَافِ مُحَالٍ
لَمْ تَكْتَمِلْ بِمَعْبُودَتِكِ!
أَيَا سَاهِيَ الْقَلْبِ
هَوًى.. هَوَسًا
كَمْ يَقْتَاتُكَ يَمُّ الإِسْهَابِ
وَتَتَدَلَّهُ وَاجِفَا!
مَرَايَا عَزَاءٍ .. تَوَعَّدَتْكَ مُقَهْقِهَةً
أَشْعَلَتْ أَدْغَالَ أَضْلُعِكَ بِالإِعْيَاءِ
وَاسْتَنْزَفَتْ أَغَارِيدَ قَلْبِكَ النَّحِيلٍ!
لِمَ حَبَّرَتْكَ زَمَنًا بَهْلَوَانِيًّا
شَفِيفَ وَحْدَةٍ
كَسِيفَ تَرَنُّحٍ
عَلَى حَافَّةِ مَعْقَلٍ مُعَلَّقٍ؟
إن الإستعمال الأدبي المبدع لدى شاعرتنا ظل قادرا على أن يفجر في الكلمة ذخيرتها المعنوية و المعرفية و حدودها النغمية و البنائية معا بما يكشف عن إمكانيات في اللغة غير متوقعة وحقائق مجهولة داخل حياتها ، وإذا كانت اللفظة الشعرية قادرة على التحرك بعفوية و بدلالات معنوية حرة ، فإن حركة اللفظة الشاعرة ضمن نسيج صورتها لا تنفصل عن السياق الشعري العام والنسيج الكلي للقصيدة .
وربما أستطيع هنا أن أختتم هذه المقالة المقتضبة ،جازما أن السياق الشعري الذي تتميز به الشاعرة الكبيرة آمالتستطيع الكلمات فيه أن تفرض علينا طريقتها في الوجود ،
حيث تنعش الكلمات التي تختارها بعضها بعضا و يؤثر بعضها على بعض من خلال لون من التفاعل اللفظي الداخلي الذي لا يجيده غيرها .
وسوم: العدد 652