الثوّار السوريون يكذّبون رؤية نوال السعداوي في الحاكم بأمر الله

في نصّها المسرحي[1] الصادر عام 2005م لم تستدعِ نوال السعداوي من التاريخ سوى اسم الحاكم بأمر الله وحماره مولود، مترفعّة عمّا نقله المؤرّخين عنه، ومعفيّةً نفسها من الغوص في التاريخ، هادفةً إلى محاكمة الواقع الراهن، فحاكت طاغية مسلمًا حاضرًا في الذاكرة الجمعيّة للعرب المسلمين، وعنونت مسرحيتها باسمه، الحاكم بأمر الله، لتجعل المتلقي متسائلًا عن جرائمه التي يفترض بها إدراجها في نصّها، أهي السياسية بحقّ رجال دولته، أم استباحته لأهل القاهرة التي حرقها وهو يستمتع بنيرانها؟ مستذكرًا راهنيّة إجرام سلطات نظام الحكم الفاسدة  القابعة في تفاصيل حياته المعيشة والتي تخرج وطنه من التاريخ ومن شرطه الإنسانيّ.

تفاجئنا السعداوي منذ المشهد الأوّل، بأنّ الحاكم بأمر الله الذي تقصده مختلف عن صورته المرسومة في المخيّلة الشعبية التي تعيش فينا وحولنا، فالحاكم الذي تعنيه ليس إلّا جسدًا ضخمًا وهيئة مخيفةً وصوتًا مخنّثًا دالًّا على جوهره الهشّ والمفكّك ورئيسًا للسلطة الحاكمة، الآمر الناهي بين الإمعات المخصيّين الملتفين حوله المشكّلين بطانة الفساد والقهر والجهل الممتد تأثيرها إلى كلّ زوايا المجتمع، والضامنة لسلطته بالاستمرار بعد أن خصا أفرادها فأذعنوا لأوامره واستمرأوا الذلّ والقهر والجوع.

بعد عشر سنوات ونيّف من صدور المسرحية المذكورة، وبعد ثورات الربيع العربي، يحقّ للمرء أن يقرأها خلافًا لما ابتغته السعداوي حين صدورها، إذ قاربت حينئذٍ بين الحاكم بأمر الله ورؤوس سلطات أنظمة الحكم العربية، فاقدة الأمل من قدرة الشعب على انتزاع الحقوق والحريات من مغتصبيها. فعلى عكس توقّعاتها فقد تغيّرت أحوال العباد والبلاد من دون رجعة بعد عام 2011م والشباب العربيّ أدركوا خطورة أوضاع أوطانهم فخرجوا إلى الساحات والميادين لينتزعوا الحرية والكرامة لشعبهم، مما يتطلب من قارىء نصّ الحاكم بأمر الله المسرحيّ إعادة بنائه على ضوء جموح هؤلاء البواسل من جهة، ومن جهةٍ أخرى قراءة التغوّل الذي أصاب الساسة ومن ورائهم النظام الدوليّ المتوحّش بتعاملهم مع هذه الثورات، لاسيما الثورة السوريّة؛ فليس خافيَّا على أحد تماهي الرئيس السوري فعليًّا مع شخصية الحاكم بأمر المجنون، فمنذ انطلاقة شعب سوريا العظيم في آذار عام 2011م لم يرتضِ أن تكون سلطته إلا بأمر من الله بتفويض من شيوخ دين عهر وذلّ على مقاس سلطته وسلطة أبيه من قبله، أما شبيحته فلم يقبلوه إلاّ إلهًا، وهتفوا منذ الأيام الأولى للثورة: "حاجتك ياالله حاجتك......بدنا بشار محلك"، مقابل هتافات شباب الثورة المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة.

لم ترد السعداوي عام 2005م أن تستحضر أزمنة سلاطين القهر إلاّ لتعالج حاضرًا مع أنظمة حكم أبشع من تلك الأزمنة، أنظمةٌ أوصلت أفراد شعبها إلى حالة من الخصاء النفسي والفكريّ جعلهم يستمرأون القهر والجهل والفساد وبالتالي العجز عن فعل الحرية والحبّ، فكيف هو حال سوريا اليوم بعد خمس سنوات من توالد الحرية بين شبابها وإصرارهم على نيلها من سلطة الموت وخصيانها الذين لايعرفون إلاّ القتل والإجرام والسرقة والهدم والتهجير والاعتقال وزرع الفتن واستقدام حكام عصابات الفساد والقهر العالميّة لمحاولة ترسيخ سلطة استحالت جثّةً متفسّخة تزكم الأنوف؛ مكتفين بمعاشرة الحمار تطابقًا مع طريقة الحاكم أو الرئيس أوالملك في نصّ السعداوي. حقًّا إنّه لايسع قارىء النصّ، الآن، إلاّ أن يستبدل اسم الحاكم ويواءمه مع حال رأس سلطة النظام السوري الذي اغتال البشر وصدّع الوطن وهجّر أصحاب البلد، وحرق أضعاف ماحرقه الحاكم، ولايزال يعاشر الحمار، يرنو معه إلى النيران معتوهين يستلذّان مشاهد حرائق الأكباد والبلاد والعباد التي تشعلها سلطة لاينتمي أصحابها إلى بني البشر.

ارتكزت السعداوي في بناء نصّها ورسالته على مفهوم الإخصاء الفكري أو النفسي لشبيحة وبلطجية السلطة المؤلِّهين لشخص الحاكم بأمر الله الذي يقدّس حماره مولود ويعاشره، واختارت لفعل الإعاقة شخصية الملكة جنات شريكة الرجل الغريب ربيع في تجسيد حقيقة تقوم على بناء علاقة حبّ أنتجت انتصارًا في النهاية، ولكن إذا كانت الكاتبة نجحت في رسم معالم شخصية الملكة جنات، وهي من أهل البلاد، فلماذا أصرّت على استقدام رجل غريب وقدّمته القادر الوحيد على الاستجابة لرغبات بطلتها المكبوتة؟ لماذا تعامت عن طاقات الشعب الكامنة حينها؟  أاومأت إلى تاريخنا المُجدِب في الانتصار للحب والحرية، أم أنّها أحالت القارىء إلى التأمّل بالواقع المأساوي المخصيّ بطغيان أنظمة حكم أقلوية وارثة للمرحلة الإستعمارية ومصنَّعة على مقاس مصالح الامبرياليين؟ مهما كانت أجوبتها في سياق نصّها، فإن الكاتبة ظلمت شعبًا عظيمًا بتضحياته، وكانت جحودة في تقييم إمكانيات شعب أثبت تمكّنه من الثورة والتغيير، خاصّة الشعب الذي لايزال صامدًا أمام كلّ هذا التغوّل المتوحّش الطائفي والمافياوي والإرهاب الدوليّ منذ خمسة أعوام، وجانبت الحقّ عندما قرّرت قدرة أنظمة الفساد المخصيّة على إخصاء شعب بأكمله. إن القراءة الراهنة لنصّ السعداوي تستوجب تفكيكه وإعادة بنائه من جديد، بما يجعل من أبطاله المعيقين لجرائم الحاكم أبناء وطن لا ولن يعرفوا الإستكانة والخنوع أمام آلات الموت التسلّطية، وأّنهم الوعد في بناء وطن حرّ ومتجّدد.   

لقد قدّمت الكاتبة الجندي عبيد منتصرًا للحريّة إلى جانب الرجل الغريب، ولكنها لم تمنحه الحياة من أجل أن تتوالد الحرية من رحم موطنه وموقفه البطوليّ، بل تمكّن الحاكم من قتله، وأبقت على الرجل الغريب المتمكّن من فعل الحرية، القادر على قيادة البشر بغية بناء وطن الحبّ، وليس وطن التاريخ والجغرافيا واللغة.

بعد خمس سنوات من عمر الثورة، لايسع قارىء مسرحيتها إلاّ أن يستنتج: كم كانت ظلمت السعداوي شبابًا يقدمون دمائهم الآن قرابين على درب الحرية والكرامة، كم ابتعدت عن الصواب وعن جادة الحقّ، كم كان تفكيرها قاصرًا في فهم جماهير الشعب، وكم كانت كالإيديولوجيا التي تحكم تفكيرها واهمة ومعزولة عن قضايا وطن أثبت أبناؤه قدرتهم على تجاوز الذات، غير ملتفتين لخرافاتها!

إنّ مقولات نصّ السعداوي تكفر بالوطن الذي لاينتج إلاّ خصيانًا يولدون إمعات، تكفر بحال أنظمة حكم سلطوية تمكنت من إخضاع شعبها بتواطؤ من الاستعماريين وتعاونهم معها، تكفر بحال الموت الذي يتمظهر بالسكون والصمت والخنوع، تكفر بإمكانية شعب يتعايش مع أنظمته مرتضيَّا بأحوال الفساد والإفساد المفروضة عليه، تكفر بالذكورية الزائفة والمجتمع الأبوي البطريركي الذي لا ينتج إلاّنماذج خاضعة للأبوّة والسلفيّة والماضوية؛ ولكنها تؤمن بالحب وإرضاء رغبات الجسد، وهذا حقّها، ولكن ليس من حقّها أن تصادر بوصلة المتلقي لمعرفة علاقات وملامح الصراع الأساسية، التي أضاعتها في زحام تشاؤمها وترددها وهزيمتها، فبعد ان قدّمت شخصية الحاكم كوجود اجتماعي مع امتدادته، قدمت شخصية الرجل الغريب المعيقة صدفةً، من دون وطن، وليس له أب أو أم[2]، وحيدًا وسط وطن الخصيان، قدمته بقامته المنتصبة بوجه الحاكم وبصوته الذي وصل إلى الملكة وقوته العضلية التي مكنته من التخلّص من الموت، ثمّ مكّنت هذا الغريب من طرد الحاكم ورئيس جنده خارج المدينة مترفّعًا عن قتله، ليفوز بحبّ الملكة جنات التي أنجبت طفلًا غنّى له كل أهل البلاد فرحين بقدومه إلى حياتهم.

في ذكرى ثورة 25 يناير المصرية، وزمن ثورة شعب سوريا العظيم أليس من حقّ قارىء النصّ أن يسقط منه كل الإهانات الموجهة من كاتبة اعتبرت نفسها حاكمة على طريقة الفكر الذي يحكمها، أليس من حقّ شباب يصنعون تاريخ أمتهم من جديد أن يلفظوا مستحاثات فكر سياسيّ مضلّل ظلّ يحكمنا طيلة قرنين ونيّف فكر متخلّف عن حركتهم وفعاليتهم، أليس من حقّهم أن يرموا أحزابه الممانعة والثورويّة وراء ظهورهم ويمضوا في درب ثورتهم حتّى تتحقّق إرادة التاريخ؟

 على الرغم من  شحّ المعرفة عن الحاكم الغريب الجديد المحبّ والحرّ، غريب نوال السعداوي في نصّها كما قدّمته، سارعت بدفع مواطني المدينة المفترضة إلى التهليل له فقدّمته المنقذ وأغلقت نهاية مسرحيتها كونه المهدي المنتظر من دون أن تلفت الإنتباه لإمكانية تحوّله إلى ديكتاتور فاسد جديد؛ وهنا من حقّ القارىء أن يساءلها من جديد، أليس من بصيرة تدلّنا عليها الكاتبة لندرك مكامن الأخطار الخارجية الغربية الإمبريالية منذ أكثر من قرنين، ولنستشعرمخاطر النحننية وولاءات المنجمعات الأولية الممثلة بالطوائف والقبائل والعشائر والإثنيات والأحزاب السياسويّة التي نشأت في كنفها، ونتلمس تركيبة البنى الداخلية المتمثّلة بسلوك الموت لدى التنظيمات التكفيرية بكلّ تياراتها التي استمدت طاقاتها من أجهزة الأمن الرهيبة لدى أنظمة الممانعة والإشتراكية والتقدمية، وودلّنا على درب الخلاص من أحوال الفساد واللصوصية والإجرام في سلطات نظام الحكم العربية؟

أخيرّا وليس آخرًا، تعدّ مطابقة المتلقي لذاته الفاعلة مع سمات شخصية الملك الحاكم المستبدّ سياسيًّا والمخصيّ نفسيًّا، ومع الملكة جنات المحرومة من الحبّ والعاجزة عن التصريح بما يخالف تعليمات أمّها لها قبل زواجها المبكّر، وشخصية ربيع الحرّ والمستجيب لرغبات امرأته، والمعيق لفعل الحاكم؛ أساسًا في تمثّلِ سمات الشخصيات الأكثر قربًا لتوجهاته؛ وإن كانت إرادة الكاتبة ترمي إلى التماهي مع ربيع صاحب الذات الحرّة والقادر على حبّ امرأةٍ، موازاة مع مطابقة الإناث لدورهن في خلق حالة حبّ - كما جرى مع الملكة جنات- وتكاملهنّ مع رجولة تبحث عن أنوثتهنّ، ورفض شخصية الحاكم القاهرة والمستبدّة والمخنّثة؛ فليس بالضرورة تمكّنها من تحقيق مراميها، وذلك لوضوح انتماء السعداوي لتيار فكر سياسي أثبتت فعاليات ثورات الربيع العربي عجزه وقصوره عن مواكبة الأحداث وقراءة الواقع الاجتماعيّ، فانكشف ضحالة وضآلة معظم مفكريه وجهابذته وأحزابه، لاسيما بعد ثورة شعب سوريا العظيم، التي أفرزت شبابًا من الإناث والذكور حاولوا تكسير بنية التخلّف والقهر المجتمعيّة في سنتها الأولى بهدف تشييد وطن ودولة ومجتمع مختلف، فامتدت قوى الثورة المضادة من الطائفية البغيضة والإثنية غير المسؤولة والتكفيرية الزائفة، إلى تدخّل إسرائيل مفصليًّا مع دول إقليمية طامعة منها إيران، وامبرطوريات الشرور الإمبريالية التي ارتعبت أمام صحوة الشباب العربي، لاسيما الإسلامي منه مستغلّين وجود حاكم أبله ينفّذ لهم مآربهم مقابل أن يستمرّ مع بطانته الفاسدة في سلطة تحميه من المحاكمة أمام ثورة منتصرة في نفوس شبابها منذ الأيام الأولى لانطلاقتها.

لاشكّ أن هذه الثورات هي استحقاق تاريخيّ، ودروس التاريخ تعلمنا أن الفعل التاريخي لايكذب، ولابدّ أن يفعل فعله...

[1] - نوال السعداوي، الحاكم بأمر الله(مكتبة مدبولي: القاهرة، ط2، 2006م)

[2] - نوال السعداوي: م.س، ص13

وسوم: العدد 653