تأمّلات فيصليّة في اليوم السّابع
القدس: 11-2-2016 ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس كتاب"تأمّلات فيصليّة" للكاتب الاماراتيّ الشّاب فيصل سعيد السويدي. صدر الكتاب عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس بداية هذا العام 2016، ويقع في 92 صفحة من الحجم المتوسّط، وهو عبارة عن مجموعة نصوص.
بدأ النّقاش ابراهيم جوهر فقال:
أدب النبضة السريعة في دنيا السرعة
هذه التأملات التي ضمّها كتاب صديقنا "فيصل السويدي" نوع جديد من التعبير الأدبي بدأ يسود مؤخرا بحكم شبكة التواصل وسهولة النشر ودخول عدد من القراء الباحثين عن كلمات سريعة ومعان ذات قيمة في عالم لاهث سريع الإيقاع والتغيّر.
تحمل هذه النبضات السريعة ما يودّ كاتبها أن يوصله إلى قارئه لأنه يعتمل في نفسه ويقيم في ذهنه بعد ملاحظة وتأمل وتفكّر. وهذا اللون الأدبي الموجز المكثف يصل مستقبله المنتظر بسرعة وسهولة وقوة تأثير وإعجاب ويثير فيه الإدهاش والإقناع.
على كاتب هذا اللون الأدبي الحديث أن يتحلّى بالثقافة الشاملة ليقدّم خبراته ولغته ومعانيه في إطار سريع وهو يحمل معاني غزيرة. وعليه أن يتمتع بالإحساس القوي بما يدور حوله ليخاطب الناس بما يهمهم ويعنيهم ويقدّم لهم زادا يتزوّدون به في حياتهم المعرفية.
ولا يستغني كاتب هذا اللون أيضا عن نظرية تمدّه بموقف من القضايا الكبيرة والصغيرة لأن في هذا التبنّي وضوح غاية وسهولة وصول.
وفي هذه التأملات الفيصلية يجد القارئ فلسفة حياة وفلسفة للحياة: ينتقد الكاتب ويوجّه ويحث ويعبّر في إطار من ثقافته التي ظهرت في ثنايا ما كتب ونبض وهو ينطلق من أرضية ذات أبعاد دينية واضحة أمدّته بلغة قوية وأفكار أقوى.
لقد استعان الكاتب بالتشبيه ليضمن التأثير في قارئه والقصة والمثل.كما اعتمد على تكرار المعاني بلغة مغايرة وهو يسعى لرسم صورة شاملة لإنسان مؤمن بالحياة يبني فيها ويعمر.
وقال محمد عمر يوسف القراعين:
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
هكذا يقف صاحبنا فيصل مادّا يديه، أمام بحر تحيط به غيوم مدلهمّة، يواجهها بالحِكم والإيمان والصّبر، ليس صبر أيّوب، بل صبر يعقوب الذي يكرر الإشارة إليه، بادئا بلفتة كريمة بإهداء الكتاب للقدس الحبيبة، بتواضع الهدهدة أمام سليمان يوم العرض، عندما قدمت له جرادة هي كل ما تملكه؛ وهكذا لو تكون القدس عزيزة، على كلّ عربيّ من الخليج للمحيط لكنا بخير.
يضمّ الكتاب مائتي فيصلية واثنتين بدلا من أن أسميها آيات، حتى لا تلتبس بآيات سور القرآن الكريم، مع أنه يجري تناصّا مع القرآن الكريم والحديث النّبوي عدّة مرات، واعظا مرّات أخرى، كما يبدي إعجابه أو تعجّبه واستنكاره باستعمال كم 19 مرّة مثل كم هي متحدثة تلك العيون! (9)، وكم هي قاسية بعض الإجابات!(11)، فهو حسّاس يهيم بالحسن كما ينبغي، ويلفظ ما يشين. يحب أن يبدأ صباحه بابتسامة حتى من بوّاب العمارة، فهي أغلى من عشاء ملك(25)، والابتسامة عنده من القوى العظمى في الأرض"117"
للتّنويع حتّى لا يملّ القارئ من تأمّلاته، يزاوج الكاتب أحيانا في تعبيراته مع النّحت في بعضها، مثل أعوذ بك من طرقات التّيه ومتاهات الطرق(38)، إبداع القلم على قدر الألم(40)، يزيدني هما وأزيد به هياما(41)، فلا يروقنّ لك إلا كلّ راق(84)، لأنّنا أصحاب رسالة، لا نكتفي بالرّسائل للأصحاب(112)، السّيّارات فارهة والعقول فارغة(192). ومن حيث الطول تتراوح الفيصليات، بين الإيجاز بقصّة قصيرة من كلمتين: مات فاهتموا(147)، متدرّجا إلى بضع كلمات ثم بعض الأسطر، إلى أن يصل إلى قصيدة نثرية من الحِكم، تقول إنّ الليل لبوس الشّاعر الجميل، والأخبار أجراس إنذار، وللقلب ربّ يحميه والكاهن لا يعلم الغيب...إلخ (123)، ويُتبعها بأخرى في نهاية الكتاب: زمن غريب، كلّ شيء آيل للسّقوط حتى الكرامة، وكلّ شيء قابل للنّسيان إلا وجوه الراحلين، الأطفال لا يتعلمون خط الرقعة والرُقعة تزداد تحت خط الفقر(196).
وقد يستشف القارئ أنّه تغلب المرارة على صاحبنا، لولا رجوعه إلى القرآن الكريم، الذي يعتبره محطة انطلاق، لا نقطة توقف(180)، إذ يستخلص العبر في تأمّلاته وخاصّة في تناصّه من الآيات الكريمة، فهناك حبل الله الممدود وفرجه الواسع ولطفه الخفي، الذي أنقذ يوسف من ظلمات الجب ويونس من أمعاء الحوت(63)؛ ويعود إلى قصّة يوسف وإخوته الذين جاؤوا على قميصه بدم كذب، فخلص إلى أن الذئب أبرأ عندما نقارنه ببعض البشر(91)، والكلب الذي لازم صاحبه لسنوات، عليه أن يتصدّق بدرس خصوصي في الوفاء على بعض البشر أيضا(175)، كأنه يقول: الكلب أوفى من الإنسان يا عجبي. وهنا يصدر في حكمته من واقع اعتماد الطلاب في دول الخليج على الدّروس الخصوصية، (إذ قال درسا خصوصيا)، كما يعود للتّعبير عن الواقع هناك حول تجديد الإقامة للمغتربين، عندما يقول: تمنيت لو أن للقلوب إدارة للإقامة، تجدد القلوب المُحِبة إقامتها سنويا، وتُفرض على البعض الغرامات، وفي بعض الحالات لا بد من الإبعاد والتسفير(176).
يكره الكاتب المشاعر الباردة(137)، في هذا الزّمن الباهت الألوان(138)، ويؤمن بالحب الصادق حين يقول: تساقط الورق وظلّ الهدهد يناجيني(152)، ويقدم خلاصة تجاربه على لسان الشيخ البحريني الوقور: لكي يزيد حبك في قلب من تحبّ، اسأله عمّن يحبّ(122)، بمعنى وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري. الحياة عنده قرطاس وأحبار وأقلام، ومع ذلك فهو يحذر أنّ الثقافة فكر، ولا علاقة لها بالسّيجار الكوبي والنظر من فوق النظارة(69)، قبعة الرسام قد تقول أكثر من رسمه(86)، وليس كل ما يلمع ذهبا(78). وقد لاحظت أن الفيصليات في الكتاب غير مبوّبة حسب موضوعات معينة منفصلة، بل متداخلة تتخلل بعضها بعضا، فيها الإيمان والثقافة والوعظ والإعجاب والاستنكار، فهو يؤمن بالحظ، حيث الاستخارة التي ترتب حياتك وتبدد حيرتك(83)، وبعد ستّين فاصلة يعود إلى فقراء الحظ، المساكين، الذين أحلامهم كسيحة، يولون مدبرين من واقع مرير إلى حلم جميل في المنام لا يكتمل.
وآخر فكرة استوقفتني أنّ البقاء يكون أحيانا مستحبا، ولكن الرّحيل عنده واجب لدواعي الكرامة وغيرها(189). نعم، الرجل تْدِبْ مطرح ما تْحبْ، ولكنّ العاقل يعرف متى يرحل عن قوم ملوه، والأشجع هم شيوخ الأسكيمو، الذين يرحلون عن الحياة بمحض إرادتهم، قبل أن يصيروا عالة على ذويهم.
وكتب عبدالله دعيس:
يستهلّ الكاتب كتابه بإهدائه إلى مدينة القدس التي طالما عشقها وتمنّى أن تطأها أقدامه، وأختار أخيرا أن ينشر كتابه من قلبها إعلانا لحبّه وتبجيله لها. هذا الإهداء يفصح عن شخصيّة الكاتب المنتمي، الذي يشعر أنّه جزء من أمّته يتألم لألمها ويتطلّع لنهضتها، ويُظهر أيضا روحه الوطنيّة والقوميّة وانتماءه الإسلاميّ، والتزامه بالدّين الحنيف والذي بدا واضحا في معظم نصوصه وأثّر عليها وأثراها.
يتكون الكتاب من مجموعة كبيرة من الومضات القصيرة، والتي تتميّز جميعها بسهولة اللغة ووضوحها، وتتصف معظمها بالمباشرة بعيدا عن الرمز والصور؛ فما يقصده الكاتب يبثّه بوضوح دون مواربة، ويعبّر عن مشاعره وأفكاره بكلّ صراحة. نصوص الكتاب متنوّعة في أسلوبها ومضمونها؛ فالقارئ يبحر في هذه التأمّلات يتفيّأ ظلالها، وكأنه نحلة تنتقل من غصن إلى آخر ومن وردة إلى أخرى، تستنشق عبير أزهار لا تخلو من الأشواك. فهناك الخاطرة وهناك الموعظة والحكمة والقصة القصيرة جدّا، وهي متفاوتة جدّا في أسلوبها ومضمونها وجمالها. فنراه يستخدم أحيانا أسلوب التساؤل؛ ليثير حفيظة القارئ ويستفزّ مشاعره للتفكير بعمق فيما وراء هذه الكلمات القليلة، فيقول مثلا: كم هو مهلك ذلك البوح! كم هي معبّرة بعض الملامح! لكنّه يجنح أحيانا أخرى إلى الأسلوب الوعظي باستخدام أفعال الأمر والتي تضعف نصوصه، مثل قوله: جالس الفقراء... اذهب إلى مطاعم الفقراء.
يبدع الكاتب أحيانا في اختلاق بعض المعاني والأساليب وإثارة التساؤلات، لكنّه يبقى يحوم حول بعض الأفكار المطروقة، ويستخدم بعض المصطلحات التي تتكرر كثيرا: مثل قوله : كم هو بليغ ذلك الصمت! والكاتب ابن بيئته بامتياز، فهو يدور في نصوصه حول الصداقة والعلاقة مع الأصدقاء، ويبرز معاناته من الأصدقاء الزائفين المتملّقين، ويظهر وفاءه وحبه لأولئك المخلصين، ويستدلّ على ذلك بكثير من التشبيهات والأحداث التي تدور في عالم الشباب في وطنه، حيث التباهي بالسيّارات والماديّات والابتعاد عن روح الصراع والمعاناة والفقر والبطالة التي يعاني منها معظم الشباب في مختلف الأقطار العربية. ويظهر الكاتب عدم رضاه عن المجتمع الذي يعيش فيه والذي ابتعد عن الوفاء وبساطة العيش.
تكلّم الكاتب كثيرا عن الصداقة والأصدقاء، وصنّفهم إلى مخلص وإلى صاحب مصلحة مخادع، إلا أنّني لم أرَ أن الكاتب جاء بما هو جديد أو مختلف عن المألوف، حتّى قرأت هذا النّص صفحة 68 (تساقط الورق وظلّ الهدهد يناجيني.) فوجدّته يعبّر عن كل ما أراد أن يقوله في نصوص كثيرة ولكن بأسلوب أدبيّ جميل. وفي صفحة 43 يقول الكاتب. (كم من أبرهة، وما من فيلٍ يمتنع!) يعبر بهذه الكلمات القليلة البسيطة عن واقع معقّد؛ فالذين يناصبون هذه الأمة العداء ويريدون هدم أسس الكرامة والعزّة فيها كثر، لكنّ العلّة لا تكمن فيهم فحسب بل في كل من يقف في صفّهم، ويكثّر سوادهم، ولا يحاول منعهم عن غيّهم؛ فيكون المعول الذي يهدم به الأعداء أركان هذه الأمة. وإلى جانب الجانب المظلم هناك دائما جانب مشرق منير، يقول الكاتب: (عظماء أولئك الذين في أعتى آلامهم يسألون عن آلام غيرهم ويخفّفونها!)
يعرّف الكاتب عن نفسه في أحد نصوصه ويظهر التواضع الشّديد عندما يسمّي نفسه كويتب وشويعر بالتّصغير، لكنّ (الأنا) تبرز بوضوح في نصوصه رغم ذلك، فنراه يكرر كلمة "أنا" في أماكن يمكن حذفها بسهولة دون أن يختلّ المعنى، مثل قوله: للأسف معلومات بعض شبابنا عن الحضارات والتاريخ كمعلوماتي أنا عن الناتج المحلي الإجمالي في دولة ترينداد وتوباغو!) ويستخدم ضمير المتكلم كثيرا مظهرا الاعتزاز بنفسه دون أن يشعر، ويستخدم اسمه بشكل صريح (فيصل) في كثير من النصوص، وينسب كثيرا من الأشياء إلى ذاته فيسميها فيصليّ وفيصليّة، وتصل نرجسيّته ذروتها عندما يطلق على كتابه "تأملات فيصليّة"
أخيرا، فإنّ قراءة كتاب (تأملات فيصليّة) تجربة ممتعة خفيفة الظلّ، ينتهي القارئ منه بسرعة، لكنّه يرغب أن يقلب صفحاته مرّة أخرى ويبدأ من جديد.
وقال عماد الزغل:
هي بالفعل تاملات في الحياة بكا أطيافها، تنظر فيها فتظن أن كاتبها قد بلَغ من الكبر عتيّا ، وأنّه رجل قد حنكته التجربة، و صقلته الأيام، وتاهت به قوارب الحياة في أمواجها ، فتفاجأ في نهاية الكتاب بأن صاحبها ما زال في العشرينيات من عمره ، فيا للعجب!
وقد أحسن الكاتب إذ لم يصنّف تاملاته وفق نظرية الأجناس الأدبية ، فلم يضعها في باب الشعر، ولكنها تأملاتٌ نثرية جاء بعضها في قوالب من الحكمة لا تخلو من الظرف والفكاهة أحيانا، إذا فالكتاب هو فقراتٌ من النثر الحكميّ الذي يعكس وجهة نظر الشاعر حول الانسان والكون والحياة، ولو استطاع الكاتب تحويلَ هذا النثر إلى شعر لكان ديوانا رائِعا.
وقد اهدى الشاعر كتابه إلى القدس، وهذا يعكس انتماءً صادقا لِدينه وأمّته وعروبته، في الوقت الذي ينشغل الشباب في مثل سنّه بأمورٍ اخرى ولا سيّما في بلاد الخليج العربيّ، لكن الاهداء إلى القارئ شعرٌ جميل لم يُكتب على شكل الشعر وهذا من اخطاء الطباعة.
يغلِبُ على الكاتبِ اختزال المعاني العميقة والحكم الجليلة في عبارات موجزة، وهذه هي البلاغةُ بعينها، ويظهر من خلال الكتاب عشق الكاتبِ للبسطاء والفقراء والمساكين، ويصلحُ الكتاب أن يكون دستورا للصداقة الحقيقية التي لا يشوبها كدر المصالح الشخصية، ولا غدر الأصدقاء ، فشرّ الطعنات في رأيه هي الطعنة البروتوسية .
الكتابُ حديثُ عهدٍ بالمدرسة، لذلك فهو يتذكر أساتذته، ويتمنى لو أنّهم علموه الحياة كما هي وليس مجردَ نظريات مدرسية، وهذا يذكر بقول شوقي :
وكم منجبٍ في تلقّي الدروس ****تلقى الحياةَ فلم ينجبِ
وكم هو جميلٌ تعريف الكاتب للثقافة، فهي ليست مجرد شكل وإنما هي جوهرٌ وشخصية، والكاتب يبدو مولعا بأمريكا اللاتينية وأدبائِها، حيث ورد في الكتاب الكثير من الاشارات لذلك.
والكاتب متديّن دينا غير متشدد، فهو شاب مصلٍ قرآنيّ الثقافة، يتحسر على جار المسجد الذي لا يصلي، فالمسجد وعلى سجادة صلاةٍ في غرفة فاسق، ويتأمل صورة النجم حيث يهوي النجم ويرتفع الانسان والايمان، وهو مع تدينه منفتحٌ على الحياة محبٌ لها ، وهو نموذج لكثير من الشباب الخليجيّ المتدين والمقبل على الحياة في آنٍ معا.
تبدو لغة الشاعر سهلة قريبة الى الفهم ، وفيها بعض العامية مثل كلمة الحيونة، وهي لغة رشيقة واقعيةٌ سلسة ، وفيها بعض العبارات القاسية ، كقوله :
"إن بعض الوجوه لا يليق بها إلا البصاق "
والكاتب يستخدم الرمز كثيرا مثل: بروتوس ، وأبرهة ويوسف ويعقوب ولكع وسجاح ، ويتناص كثيرا مع قصة يوسف عليه السلام، ويبدو أثرها واضحا في الكتاب، ويكرر بعض أساليب اللغة مثل: كم الخبرية وما التعجبية وأفعُل التفضيل .
وهو جريء في تشبيهاته، فهي خارجةٌ عن المألوف، مبتدعةٌ محببة خارجةٌ عن الصور والتشبيهات النمطية إلى صور من واقع الحياة العملية في القرن الحادي والعشرين، وما أجمل قوله (أحبك كحبِ كبارِ السنِ للمصارعة الحرة، أو كقولِه ( كوحشةِ محلات الآيس كريم في الشتاء العنيف القارس، أو قوله "الصدى يحومُ في المكان كبومةٍ عزباء"
ليته كان ديوات شعر، ليت معانيه انتظمت فأصبحت شعرا، اذن لفاق الشعراء ولأضاف للشعر سفرا جديدا.
وقال نمر القدومي:
" تأمّلات فيصليّة " .. ومتاهات النصوص
كروب الحياة غمرتْ أرواحنا بخفايا السّنين القادمة .. نحسبها مُبهمة، غامضة وقاسية. الجسد أنهكته ثِقل عبارات غير اعتياديّة، حركات غير مألوفة، أفكار حياتيّة عشوائيّة متناثرة . مشاهد لم تألفها النّفس البشريّة .. مأساة تجرّ خلفها كارثة، وأصبحنا بعيدين كثيرا عن فحوى الآيات القرآنيّة. دأبَ الكاتب الشّاب الإماراتيّ "فيصل السويدي" في مُؤلّفه الجديد "تأمّلات فيصليّة" الصّادر عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس لعام 2016 والذي يقع في 93 صفحة من الحجم المتوسّط، دأبَ إلى كتابة ما يختلج في صدره. تبعثر قلمه بين السّطور المُخدّرة، فلمسنا حُزن أنامله المُرتجفة تارة، وتضارب روحانيّاته الماديّة والإلهيّة تارة أخرى، ويسقط على شفير التعب تلك التّأملات والنّصوص الأدبيّة المُختارة بعفويّة، كانت كالّذي يقطف زهرة من كلِّ حديقة، محاولا الكاتب أن يقدّم بعضا من تجاربه وخبراته الحياتيّة، وأن يرسم لنا صورة واضحة لعلاقاته مع البشريّة، وهناك في قلبه بدأ جرح يخاف ألاّ يشفى منه أبدا، فيحاول إماطة الأذى الذي علق في شريانه. يبدو أنَّ نظرته لما يدور حوله مُشوّشة تنقصها تجارب أكثر موضوعيّة وحكيمة. تنقّل بنا بنصوصه القصيرة المرقّمة في مجالات كثيرة جدا؛ تكلّم عن الصّداقة وما فيها من وفاء وخيانة، وتكلّم عن الثّقافة والكتاب، وأنْ لا أسلاك شائكة بين القلم والحلم، ويبقى في نظره أنَّ القراءة هي حاجات فسيولوجيّة يحتاجها كل إنسان. الشّعراء والأدباء هم أرهف النّاس قلوبا، وأنَّ الحياة دون قرطاس وأحبار وأقلام لا معنى لها. أمّا التناص القرآنيّ في هذا الكتاب، فكان له الحيّز الأكبر من قصص الأنبياء والسّور والآيات، فالتّسبيحات والخطايا، التّعوذ والسجّادة، التأخّر والبعد عن الله والإستخارة والصّلاة في رأي الكاتب هي جميعها السّبيل الوحيد للملاذ من شقاء وتعب الحياة، وأنَّ قيمة الإنسان فقط عند ربّ البشر وليس عند البشريّة.
كانت الّلغة المستخدمة واضحة جدا، وفيها بعض النّصوص ذات بلاغات ومعانٍ عميقة، بعض التّجارب في حياته صقلت جوانب شخصيّته، وحاول قدر الامكان توضيح المبادئ التي تبنّاها لمسير حياته. لكن من النّادر جدا أن تتكامل البنية الفكريّة والروحانيّة والسلوكيّة لإنسان نعتبره في مُقتبل العمر، إلاّ أنَّ محاولاته هذه قد تكون بالنسبة له محطّات توقّف، إعادة نظر وتقييم، وإنطلاقة مُتجدّدة تحفّها عِبَر ودروس تلقّنها.
الكاتب "السويدي" يُصرُّ على التّمسك بذلك الطفل الذي بداخله، ويُروّض نفسه بكلًّ السّبل لتبقى ميزتها التّواضع والسّعي إلى الجمال لا الكمال. نلحظُ ذلك من خلال قفزاته الرّوحانيّة بين هيبة السّماء وواقع الأرض، والعمل المُضنيّ لعقد التّوازن بينهما. نظراته التّأمليّة نحو الأفق قد تُعثّر قدمه بين الحين والآخر ببعض المطبّات الحياتيّة التي لم يذكرها في نصوصه كاستشارة أولي الأمر والأكثر خبرة.
الضّمير المستتر والغائب يا كاتبنا أبدا لن يكون تقديره "الدناءة" كما تفضّلت، فقد تمسّ بأقدس وأحبّ النّاس إلى قلبك وقلوبنا. ويبدو أنّكَ تؤمن بالحظِّ، وإنّها لمسألة دينيّة شائكة بين ما هو موهوم وما هو مكتوب، فتحزن على الفقراء والمساكين وتتّهم الحياة بخذلانهم. في النّصوص هناك تشاؤم واكتئاب، وذلك التّناقض عندما تُثنينا على الثّقة والطّموح بربِّ السّماوات. لقد إكتشفنا من رحلاتكَ المكوكيّة بين أقطار العالم؛ من العراق إلى موزمبيق، ومن سيبيريا إلى كمبوديا مارّا بجنيڤ والبحر الكاريبيّ، أنَّ فنزويلا هي أرض الأدب وكراكس هي مستشفى ولادة الأدباء وعشقكَ الخاص باللاتينيين، ناهيك عن أنَّ القمر ينحني على كتف الأديب ليطمئنه.
قلتَ يا كاتبنا: إلى عشيقتي وصديقتي وحبيبتي، إلى أمنية الطّفولة والمراهقة وما بعدها، إلى تلك الفاتنة، إلى التي كنتُ أحلم أن تطأ قدماي .. إلى "القدس". فلا نصّ واحد ولا كلمة يتيمة ولا حتّى حرفاً تائها كان في "تأمّلات فيصليّة" عن تلك المسكينة؟ فلو كُنتَ تعرف أنّكَ فعلاً أهديتها عملكَ، لضممتها بين ذراعيكَ، ولتضرّعتَ إلى الله أن يجعلكَ حارسا لبوابتها. ولو كُنتَ تعرف أنّها أوشكت الدقائق الأخيرة من عمركَ، أكتب لها نصّا واحدا"أُحِبك" وتجاهل أنّنا نعلم ذلك.
نحن لن ندافع ولن نُبرّئ ولن نُزكّي على الله أحدا، صراعات كبيرة تنتاب قلبكَ المكلوم، فأحيانا تُحبّ الأفكار المجنونة، وأحيانا أخرى تستسلم لقدرك المحتوم. إنّها سجدة فنهاية فإرتقاء حال الدنيا عندكَ، وما زال البحث جاريا فيما إذا كان للمرايا ذاكرة.
وكتب مهند الصباح:
اذا انطلقنا من القاعدة التي تقول " الكاتب ابن بيئته وقلمه انعكاس لتجربته " نستطيع فهم ما يرمي إليه الكاتب من خلال تأمّلاته، على الرّغم من أنّ كاتبنا في العقد الثالث من عمره، إلا أنّه قدّم لنا بعض العبارات التي ترقى لمنزلة الحكمة والوعظ، حكمة ربّما لا يأتيها من كان في العقد الخامس أو السّادس من عمره على أقلّ تقدير، وبعضها يشبه أدبا فيسبوكيّا إن صحّ التّعبير. يبدو أنّ الكاتب تلقى طعنة من أحد مقربيه سببت له جرحا غائرا بالثّقة بمن حوله عموما، يبدو ذلك بالفقرة 29 من صفحة 19 حين قال ستوقن يا صديقي إن طال بك الزّمان أنّ بعض الوجوه لا يليق بها إلا البصاق، والبعض الآخر يستحق القبلات الطّاهرة، ويبدو ذلك جليّا باستحضاره لبعض الآيات من سورة يوسف، تلك السّورة القرآنئيّة التي تتحدّث عن خيانة اخوة يوسف له وإلقائه في الجبّ، متوعّدا إيّاهم بكشف سرّهم، كما كشف الله سرّ يوسف ليعقوب. بالإضافة إلى العبارة رقم 73 حين قال " أقسى أنواع الطّعنات طعنة بروتوسيّة .
إن أردنا التّعرّف على "سيكولوجيّة" الكاتب من خلال نصوصه سنجده هائما بها على غير هدى، مشدود بحبال الماضي بكلّ ما فيه من خيانة له، الأمر الذي ينعكس حتما على نظرته التفاؤليّة في البشر حاضرا ومستقبلا، وما هروبه إلى الله إلا هروب من واقعه المعاش، ففي بعض الأزمات التي تُلمّ بنا لا نجد ملجأ منها إلا الله . وربّما قادني ذلك للاعتقاد بأنّ كتابته لنصوصه موجّهة للخاصّة وليست للعامّة.
أودّ ابداء اعجابي ببعض العبارات التي وردت في كتابه، مثالا وليس حصرا مثل قوله " الحزن ينشئ مستعمرات في القلب، وقوله " أعوذ بك ربّي من طرقات التّيه ومن متاهات الطّريق " .
وكتبن هدى خوجا:
تأملات فيصليّة سريعة توافق الوتيرة الحديثة، فكأنها تغريدات صباحيّة تارة ومسائيّة بين الفينة والأخرى، تناول الكاتب عدّة محاور منها كن مع الله،الأصدقاء، الحياة الاجتماعيّة ، البساطة والجمال والثّقافة ،والإنسانيّة.
استهل الكاتب الاماراتي إهداءه الجميل الى مدينة القدس، ولكن ياحبذا كتابة رسائل مابين السطور إلى حاضنة الكتاب.
يكتب الكاتب بدم القلب وبلون أحمر يعتصر مرارة الألم، غربة الأصحاب والخداع والتّنكر، والتمرّد والجروح والهم واللّيل والصّمت.
كان هنالك تناصّ واستشهاد بآيات قرآنيّة مثال ص33وسورتي يوسف والأنبياءوص40 سورة النّجم، ركّز على الثّقة بالله والفرج وصلاة الاستخارة، وجميعها بأمر الله فدوما مع الله.
وجّه رسائل فيصليّة يتخلّلها التشاؤم ثمّ الأمل، السّير في طريق الله، الابتكار والإبداع،الرّحيل، وقت الطّفولة والبراءة تتجلّى بجانب كبير في التأملات، والصّلاة والتّقرب إلى الذّات الإلهية.
وأخيراً الألم يؤدي إلى الإبداع اللامألوف الخارق الخارج عن النّمط العادي
وبعد ذلك جرى نقاش شارك فيه عدد من الحضور منهم: نزهة الرملاوي، ديانا أبو عيّاش، رائدة أبو الصوي، وجميل السلحوت.
وسوم: العدد 655