تجربتي والتباس الوعي القصصي عند البعض
في إطار تجربتي القصصية التي لا تتوقف والتي تجاوز عددها في السنوات الأخيرة عشرات كثيرة من القصص والنصوص المختلفة شملت بعضهما القليل بثلاثة كتب رقمية (انترنيتية) هي "نبيل عودة يروي قصص الديوك" ومجموعة قصصية بعنوان "انتفاضة" وكتاب فلسفة مبسطة وقصص تعبيرية فلسفية عنوانه "ماركس يتبرأ من الماركسيين"، وما زالت بعض النصوص تحت العمليات التجميلية والتقويم ولم ينشر الكثير من إنتاجي بشكل واسع ... وقد تعرضت بسبب ما نشرت للكثير من الملاحظات النقدية، معظمها تثلج الصدر، ولكن بعضها لا استطع العبور عنه دون إبداء بعض الملاحظات والانطباعات الثقافية العامة.
اعتمدت في قصصي الجديدة، أسلوب فني وصياغي غير تقليدي في الصياغة القصصية، مثلا إسقاط ما يعرف ب "الوصف القصصي" وإيجاد نهايات "تفجيرية" مفاجئة للقارئ، كذلك اعتماد مفاهيم فلسفية متعددة في جوهر النص القصصي، كانت بالنسبة لي سابقا نبراسا سياسيا بالأساس، أثرت فكريا على كتاباتي الثقافية والسياسية العامة ، لكني رأيت فجأة اني قادر على تحويل أصعب المقولات الفلسفية إلى موضوع قصصي شيق وسهل الفهم، وان القيمة الثقافية الإبداعية في الفكر الفلسفي الذي أسرني منذ بداية وعيي،لا يقل أهمية عن الفهم السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، وهكذا وجدت نفسي غارقا في سلسلة كتابات قصصية بدأت منذ أواسط العام 2010، ويبدو أني لم استنفذ كل تجربتي، إذ تنوعت الأفكار والصياغات والأساليب، بدءا من قصص فلسفية إلى قصص أنحو فيها نحو أساليب جديدة، مثلا بجعل مبنى الخبر في جوهر السرد القصصي (كما لاحظ ذلك الناقد والمفكر د. أفنان القاسم)، والدمج بين الكتابة التسجيلية (مذكرات) - التأريخية والقصصية (حلقات "يوميات نصراوي") والكتابة الساخرة ضمن رؤيتي الفلسفية (ما أطلقت عليه اسم "الفلسفة المبسطة" و"قصص ونصوص ساخرة") وعدا موقع "الحوار المتمدن".. لم انشر بتوسع أكثرية أعمالي الجديدة.
ما ساءني ان مثقفين وراء صفات طويلة تسبق أسمائهم وثقيلة القيمة، سماعيا على الأقل، لم يفهموا المقروء الفلسفي أو حتى الأدبي البسيط ... وراحوا نحو تفسيرات هرطقية ومواعظ دينية لا علاقة لها بالنص القصصي، مما يعني ان بينهم وبين الثقافة والرؤية القصصية، كشكل من أشكال الوعي الثقافي والاجتماعي، المحيط الأطلسي بكل اتساعه.
حتى في القصص "البسيطة" وارى انها من أصعب أنواع السرد رغم ما تثيره من وهم البساطة، مثلا قصة :"حتى يهديهما الله" (يمكن إيجادها عبر البحث في غوغل) هناك فكرة فلسفية بسيطة عن "فشل التفكير المنطقي" لدى بعض الناس ( استمرار بطل القصة في شرب الخمر بحجة انه يشرب عن صديقيه)... وليس مجرد لسعة فكاهية. أو غمز ضد الدين، كما تفلسف بعض الجهلة !!
مثلا في قصة لي تحمل اسم "أرملة على الشاطئ" (يمكن إيجادها عبر البحث في غوغل) انتقدتني إحدى "المثقفات" لأن الأرملة، بطلة القصة، تخرج للبحث عن علاقة جديدة قبل مضي أربعين على وفاة زوجها وان الدين يقول "كيت وكيت". رغم ان القصة تعالج ما يسمى "المنفعية" ، أي فيها نقد للفكرة القائلة ان "الهدف يعطي للوسائل المتبعة مصداقيتها". وان "المصداقية الأخلاقية لتصرف ما، يتقرر بناء على النتائج". بالطبع أنا لا اطرح رأيي إنما أقدم حالة إنسانية عبر سرد قصصي ساخر، ولو كنت "المثقفة"، أمدها الله ببعض العقل، تفهم المقروء لما التجأت إلى نصوص دينية لتصويبي ، حتى "أُصوب" الأرملة في تصرفاتها. أي ان القصة حسب هذا الفهم الضيق ، هي دين وعبادة وشريعة ومواعظ وقيود متزمتة وانغلاق فكري وإنساني..
ليس من المتبع ان يفسر الكاتب أفكاره .. أي ان يقدم اللقمة كاملة الهضم للقارئ، أو لنقاد لا يفهمون فلسفة المقروء.. أنا لا أكتب للتسلية كما اتهمني ناقد حصيف. ويبدو ان الكثيرين من حملة ألقاب كبار المفكرين وكبار النقاد وكبار الكتاب، لا يختلفون في "فشل تفكيرهم المنطقي" عن القارئ البسيط . على الأقل القارئ العادي يجد ما يشده للنص ويضحكه (وهذا بحد ذاته ضمن شروط اللعبة القصصية وفن القص).. أما بعض "الكبار" فيدعون ان قلمهم "شرفني" حين كتبوا عن قصص لي وانهم عادة لا يكتبون إلا عن "كبار الأعمال" - فما الذي حرككم لتتناولي أعمالي؟- لم أقرأ ما كتبه البعض لأنه حول كتابته إلى خطبة دينية مكررة مملة مستعرضا عضلاته في حفظ النصوص الدينية وسرد الممنوعات حسب تفكيره المشتق من القرون الوسطى.. وجميعهم بالتلخيص الأخير يثبتون جهلهم الثقافي واللوجي ( العقلي المنطقي ) لمفهوم الأدب وفلسفة الثقافة والقدرة على التفكير بمنطق ثقافي، وليس بآلية مبرمجة بعقلية قتل "الميكي ماوس" لأنه يلهي الأطفال عن "دينهم!!"، كما أفتي شيخ وهابي من السعودية.
عندما لا أعرف شيئا عن الكاتب وآفاقه المترامية الأطراف ، وتجربته الحياتية والثقافية، لا أستطيع ان أضعه في خانة وأبدأ بإطلاق الأحكام (الرصاص) عليه!!
فقط في ثقافتنا العربية هذا الأمر جائز لأننا بصراحة نعاني من أمية مثقفين وانتشار طبقة متثاقفين "يعرضون محاسنهم" مثل بعض نجمات الفضائيات، لكن ما يعرضونه شديد البشاعة ... عقليا على الأقل!!.
ان مفهومنا للقصة يعاني من قصور فكري. القصة قادرة ان تحل مكان مقال سياسي أو فكري، مكان تحليل اجتماعي أو أخلاقي، مكان رؤية مستقبلية ، مكان كتابة نقدية في مجالات متعددة وليس في مجال الإبداع الروحي فقط.
المشكلة تتعلق كما أراها ليس فقط بتطوير قدراتنا القرائية، بل بتطوير وعينا ومعارفنا حول عالمنا وحضاراته وخروجنا من حالة الشلل الحضاري والإبداعي بمفهوميه: إنتاج الخيرات المادية وإنتاج الإبداع الثقافي - الروحي.
القصة كما أرى، تجاوزت مرحلة التسلية إلى مرحلة الوعي والفكر، هذا لا ينفي متعة القراءة، بل يضاعفها بمفهوم أن مخاطبة الوعي في القصة، تضاعف متعة القراءة بسبب الإضافة الكبيرة لمضامين النص ومخاطبة الوعي إلى جانب الحس الإنساني للقارئ.
الرسائل التي تصلني تحمل الكثير من الملاحظات الممتعة والجادة وبعضها أفادني إلى ابعد الحدود، وبالطبع هناك كبار المفكرين " الذين شرفوني بالكتابة عني" أثبتوا ان فكرهم وفهمهم يعاني من التباس وعقد تحتاج إلى عيادة طبيب نفساني وليس إلى عيادة كاتب مثلي لا يملك إلا تعميق ضياعهم الفكري وشططهم العقلي !!
******
وسوم: العدد 657