عجائبُ الزَّمانِ لابنِ الزَّعفرانِي!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 199

إن مؤلِّف كتاب "العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود"- إذ ينسب التزوير إلى الصهيونيَّة وأذنابها في نِسبة تاريخ (بني إسرائيل) إلى (الشام) و(العراق)، محتجًّا بأن الحفريَّات الأثريَّة لم تستطع أن تقدِّم لنا دليلًا أثريًّا على ذلك التاريخ هناك، مردِّدًا كلام (د. كمال الصليبي) في ذلك، دون إشارة إليه- هو إذ يفعل ذلك يُغمض عينيه عن عدم وجود آثار لذلك التاريخ في شِبه الجزيرة العربيَّة كذلك؛ وهو ما ألجأه وسَلَفُه إلى تقليب الأسماء والحروف.  والمناطق التي نُسب إليها ذلك التاريخ في الجزيرة هي مناطق صخريَّة جبليَّة، لا صحارى ولا رمال لتندثر الآثار والشواخص فيها بسهولة، لو وُجدت؛ بحيث لا تُعرف إلَّا بالحفر والتنقيب بالضرورة.  ولقد بقيتْ آثار أقوامٍ آخرين ماثلةً في الصحراء العربيَّة إلى اليوم، فيما لم يبق مثقال ذرَّة من تاريخ كمال الصليبي و(أحمد داوود) المختلَق، مع أنه تاريخ لما هو أعظم وأطول وأخطر!  والسبب واضح، وهو أنه محض تاريخ من الكلمات والأسماء والخيالات والأوهام، مع حوافز إديولوجيَّة أخرى على نفي ذلك التاريخ هناك وإثباته هنا.

أما وقد استند داوود إلى "القرآن الكريم" في أن (مِصْر) التي قصدها بنو إسرائيل مجرَّد قرية أو محطة لعشيرة المصريين في بلاد (غامد)(1)- ذلك أنه قد حوّل الإشارات التوراتيَّة إلى مِصْر أو العراق أو الشام إلى محطَّات تجاريَّة للقوافل في الجزيرة العربيَّة، عليها وكلاء تابعين لتلك البلدان، (وهو اختراع طريف)- أما وقد فعل ذلك، فليفسِّر لنا وصْف القرآن لمِصْر، تلك "القرية" أو "المحطة" الهامشيَّة، في الآيات الآتية:

"وَلَقَدْ أَرْ‌سَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْ‌عَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَقَالَ: إِنِّي رَ‌سُولُ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ".

"وَنَادَىٰ فِرْ‌عَوْنُ فِي قَوْمِهِ، قَالَ: يَا قَوْمِ، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ‌وَهَـٰذِهِ الْأَنْهَارُ‌تَجْرِ‌ي مِن تَحْتِي؟ أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟". (سورة الزخرف، 46، 51).

"فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَ‌قْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ. وَأَوْرَ‌ثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِ‌قَ الْأَرْ‌ضِ وَمَغَارِ‌بَهَا الَّتِي بَارَ‌كْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَ‌بِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ بِمَا صَبَرُ‌وا وَدَمَّرْ‌نَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْ‌عَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِ‌شُونَ". (سورة الأعراف، 136- 137).

"وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ ‌بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَبَشِّرِ‌الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ مُوسَىٰ: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْ‌عَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، رَ‌بَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ، رَ‌بَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَ‌وُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ".

"وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ الْبَحْرَ‌فَأَتْبَعَهُمْ فِرْ‌عَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا، حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَ‌كَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَ‌ائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كَثِيرً‌ا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ". (سورة يونس، 87- 88، 90- 92).

"نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْ‌عَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْ‌عَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْ‌ضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ". (سورة القَصص، 3- 4).

"وَقَالَ فِرْ‌عَوْنُ: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِ‌ي، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَل لِّي صَرْ‌حًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَاسْتَكْبَرَ ‌هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ‌الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ.  فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ؛ فَانظُرْ‌كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.  وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ‌، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُ‌ونَ.  وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ.  وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ‌لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَ‌حْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُ‌ونَ". (سورة القَصص، 38- 43).

"يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِ‌ينَ فِي الْأَرْ‌ضِ، فَمَن يَنصُرُ‌نَا مِن بَأْسِ اللَّـهِ إِنْ جَاءَنَا؟  قَالَ فِرْعَوْنُ: مَا أُرِ‌يكُمْ إِلَّا مَا أَرَ‌ىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّ‌شَادِ". (سورة غافر، 29).

"الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ بِغَيْرِ ‌سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، كَبُرَ‌ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا؛ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ‌جَبَّارٍ‌.  وَقَالَ فِرْ‌عَوْنُ: يَا هَامَانُ، ابْنِ لِي صَرْ‌حًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ.  أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا، وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَمَا كَيْدُ فِرْ‌عَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ". (سورة غافر، 35- 37).

"وَقَارُ‌ونَ وَفِرْ‌عَوْنَ وَهَامَانَ، وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُ‌وا فِي الْأَرْ‌ضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ". (سورة العنكبوت، 39).

"كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْ‌عَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ". (سورة صاد، 12).

"وَعَادٌ وَفِرْ‌عَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّ‌سُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ.  أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ". (سورة قاف، 13- 15).

"أَلَمْ تَرَ‌كَيْفَ فَعَلَ رَ‌بُّكَ بِعَادٍ. إِرَ‌مَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ‌بِالْوَادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ. فَأَكْثَرُ‌وا فِيهَا الْفَسَادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَ‌بُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَ‌بَّكَ لَبِالْمِرْ‌صَادِ". (سورة الفجر، 6- 14).

أ فتلك الآيات تشير إلى عشيرةٍ في (المَضْرُوْم) في بلاد غامد، لم يسمع بها بشرٌ قطّ سوى (أحمد داوود)؟!  حتى إن اسمها لا أثر له، وإنما ألصقه هو اعتسافًا باسم المَضْرُوْم.  أم تلك الآيات مبالغات قرآنيَّة، لا أساس لها من التاريخ؟!

أ هي محض قرية، أو محطَّة في الصحراء، عليها شيخٌ اسمه (فرعون)، هو "وكيل المحطّة"، كما يدعوه داوود؟!

تُرى ما كلّ ذاك الاهتمام الربّاني بإرسال (موسى) إلى تلك القرية أو المحطَّة بآياته؟!  ما تلك الخصوصيَّة، أو الأهميَّة الاستثنائيَّة، لتلك العشيرة البائسة، حسب وصف داوود؟!

ويا لها من قرية ذات مُلك عظيم، ينادي به فرعون "وكيل المحطَّة!" مفتخرًا في قومه، حتى لقد قال: "أنا ربكم الأعلى"، وطمح إلى بلوغ أسباب السماء بصرحٍ مبنيٍّ لعلَّه يطَّلع إلى ربّ موسى!  وهي قرية تَجر‌ي الأنهارُ‌ من تحتها، أفلا تُبصر‌ون؟!

ثمَّ أين اليَمّ الذي أُغرِقوا فيه؟ 

إنْ هو إلَّا سيل، إذن، أو هو (قبيلة يام)، أو (بحر سافي) في جهة (الربع الخالي)، كما كان الصليبي يزعم من قَبل؟(2) 

إن اليَمّ، والبحر، لدى هؤلاء، قد يعني سيل وادٍ، كما أن النهر، وإنْ كان كـ(الفُرات)، إنما يعني وادي (ثَرَاد) في محافظة (العقيق) بمنطقة (الباحة)!  لأن اللغة لم تعُد لغة، ولم يعُد لكلماتها معنى، لا عربيَّة ولا عبريَّة.   كما أن النهر، أو "اليَمّ"- الذي أُلقي فيه (موسى) في سفط من البَردي، بين الخيزران- إنما هو وادٍ آخَر، لم يسمِّه هذه المرَّة، فالبحث عنه ما زال مستمرًّا في تلك الجهات من غامد!  ويبدو أنه يعتقد أن البَردي والخيزران المذكورَين في القِصَّة التوراتيَّة كانا معروفَين في وِديان غامد، تمامًا كما كانا في وادي النيل في مِصْر! 

ثمَّ ما تلك العظَمة- كما يتساءل كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- فيما دَمَّره الله ممَّا كان يَصنعُ فرعونُ وقومه وما كانوا يَعْرِ‌شون؟!  إنها ليست سِوى عشيرة عربيَّة بدويَّة في جبلٍ أو في وادٍ، لم يعلم بها أحد ولم يسمع، ولا أثر لها في التاريخ على الإطلاق، حتى اسمها غير معروف، لا في الأوَّلين ولا في الآخِرين.

بيدَ أنها قرية قُرنت في القرآن وقُورنت بقوم نوح، وعاد، وثمود، وبقوم تُبَّع، وبغيرهم من عظماء الخَلْق الأوّل، حسب وصْف القرآن.  ليقول لـ(قريش) إنكِ لستِ بأعظم من تلك الأُمم ولا تدانين حضاراتها وما صنعتْ وعَرَشَتْ.  ومع ذلك يأتيك هذا المؤلِّف بأخرة أو ذاك ليقول: إنها لا تعدو عشيرة كانت في قرية بغامد أو قرية بعسير.  لم يتحدَّد الموقع، طبعًا؛ لأن (م ص ر) في أكثر من مكان، ولو بقلب الصاد ضادًا!

وهي قرية فرعونها "وكيل المحطَّة!" يوصف بأنه "ذو الأوتاد"، وقد طَغَى أهلها في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصبَّ عليهم ربُّك سوطَ عذاب، إنّ ربَّك لبالمِرصاد.  لعلّ "الأوتاد"، إذن، لا تعدو أوتاد الخيام في مضارب تلك العشيرة!

________________________________

(1) انظر: داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)، 137- 000.

(2) هذا يُذكِّرنا بالمسرحيَّة الكوميديَّة الكويتيَّة "على هامان يا فرعون"، حينما عجز (سَنَد/ عبدالحسين عبدالرضا)، وهو يقرأ كتابًا في التاريخ، عنوانه (عجائبُ الزَّمانِ لابنِ الزَّعفرانِي!)، عن إجابة سؤال (أسمهان توفيق): "(بحر الروم) أين يقع؟" فجعل (أبو مشعل/ سعد الفرج) يردِّد، لإنقاذه من الإجابة عن شيء لا يعرفه: "بحر عتيق، صار صخر.. صار صخر...!".

 

وها قد صار (بحر سُوف) بدوره، لدى هؤلاء المؤرِّخين: رملًا، أو قبيلةً، أو سيل وادٍ، وربما "صار صخرًا"!

.................................................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «عجائبُ الزَّمانِ لابنِ الزَّعفرانِي!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية،  الجمعة 26 فبراير 2016، ص12].

وسوم: العدد 657