مـسرحيـة "القضيـة": دراسـة فنية
بحوثٌ ودراسات
المقدمة:
المسرح بما فيه من إمكانات التأثير يمكن أن يستخدم لخدمة قضايا الأمة بما يعرضه من موضوعات جادة من تاريخـنا السالف وحاضرنا المعاصر. مسرحية "القضية" نموذج من الأدب الهادف يعرض أخطار التجزئة وآثارها في تدمير الدول وزوالها بأسلوب فني مؤثر، ولا سيما أننا نعيش كما ذكر مؤلفها عهدا عصيبا أشبه بعهد الطوائف الأندلسية، ويحيق المكر بنا كما حاق بإخوتنا في الأندلس السليبة بعدما وقع أبو عبد الله الصغير ملك غرناطة، معاهدة الاستسلام مع ملك الإسبان فرديناند، وهو يحسب أنه يسالمهم، أو هكذا يوهم نفسه، فكانت جرائم التفتيش خير شاهد على سوء تصرفه.
وستكشف هذه الدراسة عن الأساليب الفنية التي استخدمها المؤلف في مسرحيته لتوعية القراء، والتأثير في قلوبهم وعقولهم، وسأبدؤها بتعريف بالمؤلف، ثم انتقل إلى دراستها وتحليلها.
أولاً: حياة المؤلف
ولد الشيخ "سلطان بن محمد القاسمي" في سنة 1939م، وحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم الزراعية من كلية الزراعة بجامعة القاهرة سنة1971م، ثم على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة إكستره في بريطانيا سنة 1985م، كما حاز على شهادات دكتوراه فخرية متعددة تقديراً لجهوده في إطار بحوث التاريخ العربي المعاصر.
أصبح القاسمي حاكماً للشارقة وساهم مع إخوانه أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد في إرساء القواعد المتينة لدولة الإمارات العربية المتحدة، ونهضتها الشاملة.
ويعد الحاكم الخامس عشر في سلسلة أمراء القواسم الذين تولوا مقاليـد الأمور منذ عام 1630م، وله اهتمامات خاصة بالفكر والثقافة جعلت الشارقة العاصمة الثقافية في 1998م. وقد منح ميدالية اليونسكو الذهبية (ابن سينا) التي تعد أعلى تقدير تقدمه اليونسكو للشخصيات التي بذلت جهوداً مميزة في مجال نشر الثقافة والتربية والتعليم، ووسام الإيسيسكو تقديراً من المنظمة الإسلامية للتربية والتعليم والثقافة لجهوده الرائدة في مجال العمل الثقافي على الساحتين العربيـة والإسلامية، كما انتخب رئيساً أعلى لاتحاد الجامعات العالمـي (WUS) في 1998م، إضافة إلى رئاسته لعديد من الجمعيات والمنظمات المحلية، والإقليمية والدولية.
وللمؤلف كتب تاريخية باللغتين العربية والإنجليزية، وهي "أسطورة القرصنة العربية في الخليج"، و"الاحتلال البريطاني لعدن"، و"تقسيم الامبراطورية العمانية (1856–1862م)".
وله كتب محققة، منها "رسالة زعماء الصومال إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي 1837م"، و"يوميات ديفيد سيتون في الخليج (1800–1809م)"، و"جون مالكولم والقاعدة التجارية البريطانية في الخليج 1800م".
وله في الإبداع الفني ثلاث مسرحيات هي "عودة هولاكو، و"القضية"، و"الواقع"، وهي جميعها من المسرح الأدبي التاريخي، وله أيضا رواية الأميـر الثائـر، وقصة الشيخ الأبيض.[1]
ثانياً: نشأة المسرح في الإمارات:
تأخر ظهور الفن المسرحي في الخليج حتى عام 1925م وكانت البحرين أول دولة اهتمت به، فقد كتب إبراهيم العريض[2] مسرحية "وامعتصماه"، فعد بذلك رائد الفن المسرحي الشعري في الخليج.[3]
ثم نشط هذا اللون الأدبي في الكويت، ومنها انتقل إلى الإمارات العربية المتحدة في 1978م فأولته عنايتها الكبرى، وصار فيها تسعة مسارح اهتمت بمعالجة السلبيات التي يعاني منها مجتمع الإمارات، وبعرض تاريخ الأجداد للإفادة منه أو للاعتبار.
ومنذ 1987م بدأت فعاليات المسرح في مدينة الشارقة فيما سمي بـ "أيام الشارقـة المسرحية"، وهي أيام تعرض فيها أعمال مسرحية بارزة في المدة بين "السابع والعشرين من مارس- آذار-وحتى السادس من أبريل – نيسان –" من كل عام، وﻫذا الموعد يصادف اليوم العالمي للمسرح، وفيها يستقدم مسرحيون عرب، وكثير منهم من دول الخليج، وتقدم جوائز تشجيعيـة لإبراز مكانة هذا اللون الأدبي والفني في حياتنا الثقافية المعاصرة.
وحظيت الموضوعات التاريخية والمعاصرة التي تعالج قضايا الأمة باهتمام كبير بتوجيه من حاكم الشارقة،[4] بل إنه رفد المسرح بعطائـه الأدبي إذ عرضت مسرحياته في المركز الثقافي في الشارقة، وقد وقع اختياري على مسرحية القضية ورأيت أن ألقي الضوء على مضمونها وفنيتها في هذا البحث.
ثالثا: دراسة المسرحية 1- مضمونها تتكون المسرحية من ثلاثة فصول، وكل فصل يضم عدداً من المشاهد.
وتستهل بدخول رجل رث الثياب إلى ساحة علق على جوانبها أعلام دول متعددة لممالك الطوائف الاثنتي عشرة في الأندلس، وتشير كثرة الأعلام إلى ما حـل به من تجزئة وتفرقة. يتقدم الرجل إلى عجوز قد وضع تحت ذراعه كتاباً قديماً، وأمسك بيده عصا. الأول رمز له بـ"صاحب القضية "، وعرف الثاني بـ "الشاهد على التاريخ".
يسأل الأول الشاهد: " هل أنت القاضي؟" فيعلمه الآخر أنه الشاهد على التاريخ، ثم يقضي في بيان فائدة التاريخ ومواقف الناس منه، فيبدي صاحب القضية رغبته في الاستماع إلى تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس إذ قد سمع عن موشحاتهم وغنائهم، ولكن الشاهد على التاريخ يبين له أن في هذا التاريخ آلاماً ومعاناة.
ثم يعرض ملوك الطوائف الإثني عشر وقد احتدم بينهم نقاش وخلاف، ويدخل عليهم رجل مهيب، فيعنفهم على ما هم فيه، قائلاً لهم: "قوتكم في اتحاد، وفي نبذ الخلافات بينكم، وحذرهم من الرحيل عن البلاد لأن هذا يعني هزيمتهم أمام عدوهم، ثم أخبرهم أن المسلمين جميعا "سيساعدونهم إذا وجدوا فيهم العزم على الجهاد والـثبات على العقيدة.
ويعجب الملوك بفكرته، ويبدي المعتمد بن عباد ندمه على تحالفه مع ألفونشو[5] ملك قشتالة، ويعرف من الحوار أن المسلمين انتصروا في معركة الزلاقة".[6]
ويحكم المرابطون أمداً، ثم يقضي الموحدون على دولتهم الذين في عهدهم يضيع معظم الأندلس بسبب تصرفاتهم، ولا يبقى إلا مملكة غرناطة،[7] ويحكمها بنو الأحمر، وكان آخرهم أبا عبد الله الصغير الذي وقع معاهدة الاستسلام التي سماها مؤرخو الغرب "معاهدة السلام" زوراً وبهتانا.
وتجري خطوات توقيع المعاهدة سنة 798ﻫ/1491م، بعدما حضر "زافرة" رسول الإسبان على الرغم من امتعاض بعض المسؤولين، وكان هذا قد حمل وثائق المعاهدة وشروطها، وأطلع الملكُ الأعيانَ على رأيه حول قضية اتفاقية السلام التي تنص على تسليم البلاد كلها خلال ستين يوماً، فيعترض أبو الغسان ويقول هذا استسلام وليس بسلام، وكانت الاتفاقية تنص على الحفاظ على أموال المسلمين ودينهم وأراضيهم وممتلكاتهم. ويعرف من خلال الحوارأن هناك معاهدة في غاية السرية تَضْمَن حقوق الأسرة المالكة، ولم يسمح لأحد بالاطلاع عليها. ثم يدخل صاحب روما ويقف بين الملكين الأندلسي والإسباني وهما يوقعان المعاهدة، وكان هاتف - وكأنه وازع الضمير - يحذر أبا عبد الله الصغير من توقيع المعاهدة، ولكن الملك استجاب لنزغ الشيطان. وما إن قضي الأمر حتى طلب قس منه مفاتيح المدينة، قائلاً للحاضرين في أسلوب ساخر اخرجوا من هذا المكان، فمن لا مفاتيح له لا مكان له.[8]
وهكذا بدأ نقض الإسبان للعهد منذ اللحظات الأولى، وبدأت عمليـة مطاردة المسلمين والمعاناة والآلام والجرائم الوحشية. ويلملم ملك غرناطة حاجياته ليرحل، وتؤنبه أمه على ما اقترفت يداه، وتبين له أن القضية ليست قضية غرناطة فقط، وإنما هي قضية المسلمين جميعاً، وتلقنه درساً في السياسة وهو أن ولي الأمر لا يوقع معاهدة إلا إن ملك إرادته وضمن حقوق شعبه. ويبدأ الشعب الأندلسي المسلم بالمقاومة رجالاً ونساء، وكانت سيدة البشرات[9] قد خاضت مع رجال المقاومة معركة كبَّدوا فيها العدو خسائر كبيرة في الأرواح، ولما قبض عليها أخرجت سكينها وقطعت به لسانها لئلا تفوه بما يضر المجاهدين فجن جنون القائد وعزم على الانتقام.
وعُقدت محاكم التفتيش، وبدأ التعذيب حرقاً للأحياء وسحقاً للعظام، وتُسمَع أصواتُ المسلمين وهم يضجون من تمزيق القرآن وهدم المساجد أو تحويلها إلى كنائس،[10] ومن هتك الأعراض وسفك الدماء ونهب الأموال... ويُرى صاحبُ القضية يسأل عن قضيته، فيعجب الشاهد على الـتاريخ من سؤاله ويخبره أن قضيته في رأسه وأن عليه أن يعي ما عرفه من التاريخ، ثم يسأله: هل فهمت؟ فيجيبه: نعم فهمت، وينشدان مع الجمهور عائـدون، عائـدون …
حوادث المسرحــية:
حكاية المسرحية من أهم عناصرها، ووقائعها في مجموعها تكوّن حدثاً متكاملاً وبناء قائماً بذاته يشكل وحدة عضوية لا انفصال بين أجزائها، ولها بداية ووسط ونهاية. وتتركز الحوادث حول مسألة أو فكرة أو قضية يدورحولها صراع يتبلور في عاقبة الأمر في صورة فنية، وترتبط الحوادث فيما بينها برابطة السببية.[11]
وقد استلهم الكاتب حوادث مسرحيته من التراث العربي الإسلامي الأندلسي[12] فحكى عهد التجزئة، وتوحيد يوسف بن تاشفين جهود المسلمين وانتصاره على الإسبان في معركة الزلاقة، وقضاء الموحدين على دولتهم، وقد كان مروره على هذه الحوادث العديدة سريعاً وبإشارات خاطفة تُفْهم دون أن تُسْهب. ولما وصل إلى مرحلة تسليم غرناطة توقف وفصَّل في الحوادث، كما فصل في الحديث عن محاكم التفتيش التي فتك فيها الإسبان بالمسلمين فتكاً ذريعاً لا يزال التاريخ يذكره.
وهذه الحوادث التاريخية التزمها الأديب، فقد ذكر فيها الخطوط العريضة من مساندة ابن تاشفين للأندلسيين، وتفريق الموحدين بين أبناء الشعب، وضعف الملك عبد الله بن الصغير أمام الإسبان وقتل عمه وتأرجحه بين الخيانة والضعف، وفساد بطانته والمعاهدة السرية ونقض المعاهدة، ومحاكم التفتيش، وهجرة الملك، وقيام الثورة في مدينة البشرات. بل إن الكاتب صرح بأن أسماء الشخصيات والأماكن والأحداث في هذه المسرحية كلها حقيقية، أما تسمية ألفونسو بألفونشو فلعل الخلاف كان من الترجمات المختلفة. ويمكنني القول إن المخالفة الوحيدة للتاريخ تكمن في حديثه عن أم الملك، فهي في المسرحية إنسانة واعية تؤنب ابنها على قتل عمه، لكنها كانت في التاريخ تسانده ضده.[13]
وقد تمكن المؤلف من صهر الفكر التاريخي مع العناصر الفنية في عمل واحد، حين استعاد من الماضي موضوعاً مأساوياًّ يخص فاجعة حلت بالمسلمين في الأندلس، فكانت بذلك أكثر تأثيراً في النفوس من معالجة موضوعات عادية لأشخاص عاديين.[14] وبهذا أفاد من أصالة التراث وفنية المعاصرة حين اتـخذ من هذا الموضوع مطية يجسد به أخطار القوى المعادية التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية في الحاضر، وقد أشار إلى هذا في مقدمة مسرحيته حين قال:"من قراءاتي لتاريخ الأمة العربية وجدت أن ما جرى يشابه ما يجري الآن على الساحة العربية، وكأنما التاريخ يعيد نفسه، فكتبت هذه المسرحية من منظور تاريخي لواقع مؤلم، وإن كل عبارة في النص تدل دلالة واضحة على ما يحدث للأمة العربية".[15]
ومن ارتباط الماضي بالحاضر سعى الأديب أيضاً إلى تجديد المفاهيم والقيم، إذ سخرمن معاهدة السلام ليربط الحاضر بالماضي، وينبه إلى أن قيمنا باتت مهددة. وأتخيل المؤلف شديد الغم لما تعانيه الأمة من هموم، وكأنه وجد في الحديث عن التاريخ متنفساً له ومهرباً من الواقع الذي آلمه، وملاذاً يبثه شكواه ويعبر به عن آلامه ورغائبه، وبذلك يكون استلهام التاريخ نوعاً من الكفاح الفني في أمة مهددة بالأخطار في حاضرها كما كانت في ماضيها، ولهذا فسر التاريخ تبعاً لمنظوره ولعمق وعيه وإحساسه.
وقد استهل المؤلف مسرحيته بوصف عام للموقف الذي سيعرض وبرسم شخصية كل من الشاهد على التاريخ وصاحب القضية، ورمز بالأول إلى التاريخ الماضي وبالثاني إلى الإنسان العربي المعاصر الذي ينوء بأثقال الخطوب، وكأنه يوحي بأن ما جرى في الماضي يعود ثانية بكلكله الثقيل.
وقد ارتبطت هذه الحوادث برابط السببية، بحيث كان الحدث السابق يؤدي إلى لاحقه، وهذا يؤدي بدوره إلى ما بعده وهكذا في معقولية محتملة. فخيانة الملك أو ضعفه وبطانة السوء أدت إلى سقوط المدينة، وهذا كان سبباً لهجرة الملك وأهله وتعرض الشعب للبلاء العظيم. ومن هنا فقد بدا نسيج المسرحية محكماً مترابطاً في وحدة عضوية، أضـفى عليها المؤلف من خياله وفكره ما جعل الخيال كالحقيقة.
وقد كان نقاد المسرح قد شرطوا ألا يزيد عدد فصـول المسرحية عن خمسة، ليمكن تمثيلها في زمن محدد، وجعلها الأديب ثلاثة غـير متناسبة في حجمها، وهذا أمر بدهي، ولكل مقام مقال.
بدا الصراع في الحوادث في وجهين: داخلي على شكل نجوى داخلية فيما يعرف بتيار الوعي الباطني ويتمثل في تأنيب الضمير، ونلحظه في صوت الهاتف يحذر الملك من جريرة التوقيع على المعاهدة وذلك في قوله:
"الهاتف: "وقع.. لا توقع.. القوة فوق القانون.. النوايا مبيتة.. وقع.. لا توقع.. وقع..
يتم التوقيع بين الطرفين".
أما الصراع الخارجي، فقد بدا في مجالات متعددة، منها حديث الأم مع ابنها الملك محذرةً إياه من خطر العدو ومصير الشعب والبلاد والأسرة. وقد تكشف هذا الصراع بعد التوقيع مباشرة إذ فاجأنا فرديناند بطلب مفاتيح المدينة، وهذه المفاجأة تؤثر في نفس المتلقي فتثير لديه عاطفة الرحمة والشفقة، وتهيئه لتكشف خيوط الأزمة التي اتضحت بجرائم الإسبان النكراء فيما عرف بمحاكم التفتيش.
يرى أرسطـو أن النفس تعـالج من الخوف والانفعالات القوية بمشاهدة المآسي تطبيقا لقانون "وداوها بالتي كانت هي الداء"، ويسمي هذا تطهيرا. وهو عنده قضية فيسيولوجية تقوم على أنه عندما يمتزج الألم باللذة في انفعالات ذات قيمة أخلاقية في مجال الخوف والرحمة وما يتصل بهما، يحدث في النفوس سلوة مصحوبة بلذة.[16]
وإذا كان أرسطو قد قرر أن المأساة يجب أن تثير فينا مكامنَ الخوف والشفقة لحصول كوارث لأناس غير أشرار، وأن الأخيار قد ينتقلون من السعادة إلى الشقاء لخطأ ارتكبوه فتتحول المسرحية بذلك إلى مأساة، فإن أديبنا قد جعل الملك أبا عبد الله الصغير يرتكب خطأين: أولهما الاعتماد على حاشية لا يهمها إلا النفع المـادي، والثاني هو توقيع المعاهدة في وقت انهزم فيه نفسياًّ أمام أعدائه. وربما كان الملك يتأرجح بين الخير والشر، لكنه على أي حال وقف موقفاً غير حميد أدى به إلى هذه المأساة، التي أدت بدورها إلى الإحساس بالشفقة على الوطن والشعب البائس، لا عليه هو؛ لأن شقاء الشرير لايثير فينا الرحمة، فقد نال عقابه.[17] وربما فُسِّر معنى التطهيرُ بالنظرية التعليمية التي تقول إن المتفرج حينما يرى مشاهد معاناة البطل يتعلم عن طريق أحاسيس الخوف والشفقة المستثارة أن انفعالاتِ البطل الشريرة مهلكة، ومن ثم ينأى عنها في حياته.[18]
وقد اقتصد الأديب في الحبكة، حين جعل الأمور تسير رويداً حتى بلغت ذروتها في الحدة الانفعالية التي انتابت الملك قبيل توقيع المعاهدة، إذ عاش في صراع نفسي بين حب الذات والواجب الديني والوطني بوصفه ولي أمر المسلمين، وبدأت الحوادث بعدها تنحدر إلى النهاية إلى أن طُرِد من القصر بعبارة تهكمية وقامت محاكم التفتيش وأضرمت نيران المقاومة.
وبدا العنصر الخيالي مؤثراً في الأحداث، فقد استمده الأديب من عالم المرأة وسما بها عن أن تكون خليلة أو متاعاً، وجعلها إنسانة عاقلة تحب وطنها ودينها، وتعتز بأمجادها ممثلة في أم الملك وسيدة البشرات.
وجاءت الخاتمة حسب قانون الاحتمالات، فهي أمر طبعي لما عرضه المؤلف من مواقف وأحداث تسلسلت وتعاقبت لتؤدي إلى هذه النتيجة دون سواها،[19] وهي انتصار الشر على الخير، وكانت هذه النهاية هي العبرة التي أرادها الأديب ليثير الوعيَ لدى القراء علهم يفيدون منه في إدراك ما يجري في الساحة العربية والإسلامية المعاصرة.
وتجنب الأديب تمثيل مظاهر العنف على المسرح، مكتفياً بالإشارة إليها بأقوال دالة عليها، لينبه القراء إلى الجرائم الوحشية، وبذلك حقق شرطاً آخر من شروط المأساة إذ طالب بعضهم بألا تثير مشاعر النفور في النفوس.
وفي المسرحية إشارةٌ إلى بعد رابع تخطى خشبة المسرح وهو المتفرج، فقد أشركه المؤلف حينما قال: "ينشد الممثلون وهم يطلبون من الجمهور المشاركة في النشيد. الجميع: عائدون". وكأنه كان يتوقع أن تؤثر المسرحية في النفوس، فتتحرك وتسعى نحو الأفضل. ولهذا يقول الناقد جلال البشري: "ليس المهم في العمل الدرامي هو ترك المتفرج وقد طهرت روحه كما في الدراما الأرسطية، بل تركه وقد تغير كيانه، أو بالأحرى تركه وفي نفسه بذور التغيير التي ستنمو خارج المسرح عما قريب".[20] وبذلك تحولت المسرحية من مرحلة تطهير النفس بالمفهوم الأرسطي إلى إثارة نفس المتفرج ليتخذ موقفاً مشاركاً في القرار بعد أن تعرى الواقع أمامه.
قانون الوحدات الثلاث:
يشترط في المأساة أن تراعي قانون الوحدات الثلاث، وهي وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع.[21] فالحوادث يجب أن تجري في أربع وعشرين ساعة أو فيما لا يزيد عن ثلاثين منها وإلا عد تشويهاً للواقعية، وتتطلب الثانية عرضَ الحوادث في مكان واحـد، أما الثالثة فأن تشتمل على موضوع واحـد بحيث تنصب الحوادث الجزئية كلها في بوتقته.
فهل حـافظت مسرحية القضية على قوانين المأساة؟ وما مدى مراعاتها لها؟
لقد كان كتاب المسرح أخلوا بشروطه منذ القرن السابع عشر الميلادي، فأدخلوا الملهاة في المأساة فيما سمي "التراجيكوميدي" أو "المأساة اللاهية"، ومالوا إلى "الدراما".[22] وكاتب "القضية"لم يلتزم قانون الوحدات الثلاث، إذ جعل أماكنها تتباعد وحوادثها تستمر على مدى سنين متباعدة، واستعان لذلك بتغيير المناظر وبالإتيان بشخصيتي صاحب القضية والشاهد على التاريخ، والأخير كان يروي الحوادث بإيجاز شديد إلى أن وصل إلى عهد سقوط الأندلس فتوسع وفصل الجزئيات.
كما استعان بصوت هاتف أحياناً كقوله مثلاً على لسانه: "وتمر السنون على غرناطة ثقيلة تئن تحتها المدينة"، ثم يتحدث عن المقاومة. وهذا يعني أن معظم زمن المسرحية قد جرى عملياًّ في أشهر قليلة وفي مدينة واحدة، وقد ذكر عهد الطوائف والموحدين لتبيان أخطار التفرقة، فالتاريخ عنده عبرة للمعتبرين. وبذلك حقق الواقعية المنشودة، حين أخذ حقيقتها لا شكلها؛ لأن الواقعية هي عرض حـوادث يمكن حدوثها، وإن أنكر بعضُ الاتباعيين إمكانية عرض مشهد يضـم حوادثَ سنين في ساعتين فحسب، وعد ذلك تصرفاً غير معقول وبعداً عن قانون الوحدات الثلاث.[23]
أما وحدة الموضوع أو الحدث فكانت بارزةً في المسرحية، إذ لم يكن فيها أحداث مقحمة أو غير متصلـة بخيط الفعـل الرئيس للمسرحية، بل كانت الحوادث وجزئياتها تنصب في البوتقة الكبرى (الحدث)، وتعمل على تنميته وتطويره وتتابعه. فقد تحدثت المسرحية عن تاريخ العـرب المسلمين في الأندلس بدءاً من عهد الطوائف فالموحدين، وسيطرة العدو وتوقيع المعاهدة، وهذه وما رافقها من سخرية مبطنة وإيحاءات كانت إرهاصاً بالنتائج غير المحمودة التي آلت إليها المعاهدة.
وبهذا التتابع المنطقي المحكم وبالإيحاءات والتصوير الواقعي للحدث، وبهذه العاطفة الجامحة التي هيمنت على جو المسرحية كلها، تكون مسرحية "القضية" قد حققت الوحدة الموضوعية في مضمونها وأُحْكِم نسيجُها.
الشخصيات:
على الرغم من كثرة الشخصيات إذ بلغت حوالي الخمسين، فإن الشخصيات الفاعلة للا تتجاوز أصابع اليد، وما سواها لا يكاد يبدو حتى يختفي، ولعل أهم الشخصيات هي:
أ –أبو عبد الله الصغير:
وهو بطل المسرحية، كان ملكاً على غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس السليب، وكان متخاذلاً خائناً يهش للإسبان، وينفذ رغباتهم بمساعدة حاشية له غير صالحة. وكان يرى أن الاستسلام خير من ضياع الأموال، وقد حاول بعضُ المسؤولين صدَّه عن مراده في توقيع معاهدة السلام دون جدوى، وحصل على معاهدة سرية تضمن سلامته وسلامة أسرته، على الرغم من أن الأقطار الإسلامية أرسلت تعرض عليه مساعدتها، ورحل بعـد أن ضيع المسلمين وبلادهم.
إن بطل المـأساة عند أرسطو لا هو فاضل كل الفضيلة، ولا هو مجرم عريق في الرذيلة، ولكنه إنسان يتعـرض للخطأ والصـواب وللضلال والرشاد. وهنا يكمن الصراع الذي ينبع من العمل المسرحي والأحداث.[24] وقد بدا هذا الصـراع صاعداً متدرجاً، إذ بدأ مع مجيء "زافرة" إلى القصر لعقد الاتفاقية بين الطرفين، وانتهى بعقد المعاهدة بينهما. وخلال ذلك اصطرعت في ذهن الملك عاطفتان: عاطفة حب الوطن، وعاطفة حب الذات، ثم غلب حب الذات وانتهى الصراع الداخلي بهذا الخطأ الجسيم، كما أدى إلى صراع خارجي بينه وبين أمه حتى قالت له: "ابك مثل النساء ملكاً مضيعاً لم تحافظ عليه كالرجال". لكن هذه الدموع لم تدفعه إلى الحركة والعمل، وإن كان بعضهم يرى أنه تطهر من خلال المعاناة والإحساس بالندم.
وقد يخطر على الذهن أن سعيه لإنقاذ نفسه وأسرتـه لم يكن بدافـع من خسة في طبعه، ولكن لخطأ جسيم ارتكبه، فتحول به حاله من السعادة إلى الشقاء، وهذا ما يجعل الحدث مأساوياًّ، ويسمي أرسطو هذا الخطأ بـ "الهامارشيا"[25] وهو خطأ يخلف في النفس أثراً ويعكس تجربة لما نراه في واقع حياتنا المعاصرة، وهذا مما يثير لدينا الشفقة والخوف، وهذه هي السمة الأولى للحدث المأساوي.
ولكننا لانستطيع أن نبرئ ساحة البطل، فتفضيـل الذات على الوطن خيانة كبرى، ولاسيما إن صدرت من أولي الأمر، وأدت إلى جرائم كبرى، ولهذا استحق أن يصمه المؤلف بالضعف والخيانة.
ب – فرديناند:
هو ملك الإسبان الـذي احـتل غرناطة ووقع مع صاحبها أبي عبد الله الصغير معاهدة الاستسلام، وكان "زافرة" رسوله إليه قد أقنعه بالتوقيع على المعاهدة. وما إن استلم مفاتيح المدينة المحتلة حتى طرد الملك أبا عبد الله وقال: "من لا مفـاتيح له لا مكان له"، فكان ذلك أول نقضه لبنود المعاهدة المزعومة.
ولما ثار المسلمون لكرامتهم وأعلنوا الجهاد قاومهم بكل ما يملك من قوة في محاكم التفتيش، وانتهك الحرمات والأموال، وعذب المسلمين بإلقائهم في النار أحياء، وكان يسانده في ذلك قضاة وقساوسة أتقنوا فن التعذيب وإصدار الأحكام الجائرة.
لقد كانت شخصية فرديناند رمزاً لكل حاقد على المسلمين لا يرعى فيهم إلا ولا ذمة، كما كان أبوعبد الله الصغير رمزاً لولي الأمر أو الحاكم الأناني المتخاذل، ومن تصارع الشخصيتين الرمزيتين نهضت المسرحية وحققت الغاية المرجوة منها.
جـ- وهناك شخصيات ثانوية رئيسة تركبت أثراً مهماًّ في مسرح القضية، منها اثنتان تلازمتا في جميع أدوارهما ومثلتا دور الراوي وهما:
1- صاحب القضية: ولم يذكر المؤلف اسماً له؛ لأنه رمز به لكل صاحب قضية في الماضي والحاضر، وصوره رجلاً رثَّ الثياب، يحمل كيساً على ظهره. وهو يرمز بذلك إلى الإنسان العـربي المعاصـر الذي يرثى لحاله، وهو ينوء بحمل أعباء أمته.
2- أما الثاني فهو الشاهد على التاريخ، ولهذا اللقب أيضاً دلالـته، فهو يـنم عن اطلاعه على ماضينا السالف، ولهذا بدا رجلاً ذا لحية طويلة، وبيده عصا وتحت ذراعـه كتاب كبير. وكان مظهره يوحي باهتمامه بالدراسات التاريخية القديمة وسعة الاطلاع عليها.
وقد ظهر الرجلان على خشبة المسرح حين طالعنا صاحب القضية وهو يسأل عن قاض ليحكم له، فأخبره الشاهد على التاريخ بأن التاريخ خير حاكم ومعلم، فهو صاحب الدروس والعبر، فطلب صاحب القضية أن يتعرف على التاريخ الأندلسي، فروى له قصة سقوط الأندلس. ولا يتوقف دورهما عند هذا، بل كانا يظهران بين الفينة والأخرى لإطلاع المشاهد على الأوضاع التي آلت إلى الجريمة النكراء ولا سيما بعد نقض المعاهدة المتفق عليها.
وينتهي دورهما حين يدعو الشاهد صاحب القضية أن يعي قضايا التاريخ، وحينذاك يتمكن من العودة إلى الأرض السليبة.
3- أم الملك وتسمى عائشة، وهي من سلالة ملكية، وكانت ذات وعي لما يجري من أحداث، وقد استنكرت توقيع المعاهدة وأنبت ابنها الملك وسخرت من حاشيته المتآمرة معه. وهذه المفارقة الضدية بين الموقفين نتج عنها صراعٌ بينهما تجلى في مواقف متعددة، فقد ثارت في وجه ابنها غاضبةً؛ لأنه أضاع الأرض والملك والشعب وتراث الأجداد، وعتبت عليه عدَم اعتماده على العرب والمسلمين، وبينت له أن الملك لا يعقد معاهدة إلا إن كان قادراً على حفظ حقوقه وصون شعبه.
لقد اصطرعت في نفس الأم عاطفتان: عاطفة الأمومة، وعاطفة حب الوطن والحفاظ على معتقده وكرامته. ولذلك بدت غضبتها تخفي مسحة من الشفقة، ولذلك قالت لابنها في إشفاق عليه ممزوج بعزة المنصب: "أتبكي.. هدئ من روعك وتذكر أن الشهامة من خصال الملوك والأمراء العرب والمسلمين الذين لايليق لهم إطلاق العنان لمشاعرهم كما يفعل الغوغاء"، وعندما ارتفع صوته بالبكاء قالت له مؤنبة: "إذاً ابك.. مثل النساء.. مُلكاً مضيَّعاً.. لم تحافظ عليه.. مثل الرجال".[26] وكان لتقطيع الصوت أثره في الدلالة على هذا الانفعال والتوتر الشديدين.
4- سيدة البشرات: وكانت رمزاً للمرأة الواعية المجاهدة من عامة الناس، إذ شاركت في المقاومة الإسلامية ضد الإسبان، ولقبت باسم أكبر معركة بين المسلمـين وأعدائهم كان لها فيها دور فعال. وقد احتفظت لنفسها بسكين لتدافع به عن نفسها، ولما قبض عليها مختبئة وعذبت كثيراً قطعت لسانها بسكينها وقذفته في وجه القائد ثم راحت تدور في المسرح كالمجنونة فاغرة فاها، فجن جنونه.
هذه هي الشخصيات البارزة في مسرحية "القضية"، وهي جميعاً تتصرف تصرفات واقعية، فهناك الواعي كأبي الغسان، والمتآمر كسيد رامي، والخائن كالملك، والماكر العدو كفرديناند والقس والبابا، وهذه الواقعية من أهم شروط المسرحية.
وقد برزت مواقف الشخصيات بطريقة تمثيلية لا تقريرية، وهذا يوصلنا إلى الحوار:
5- الحوار: الحوار هو الأداة التي يجب أن ينقل بها كلٌّ شيء في المسرحية، وإن فيه لسحراً بما يثيره من انفعالات وما يحدثه من تشوف وتشوق. ويتطلب الحوار المسرحي صبغة فنية خاصة، ويكون بخاحُه بقدر قوة إثارته للحركة.
قامت شخصيات المسرحية بأدوارها من خلال الحوار، إذ أخبرتنا بما كان وبما سيكون من حوادث، كما عملت على تطويرها وتنميتها أحياناً، وكشفت عن تصرفات الشخصيات ونوازعها وعواطفها الجياشة من حقد وكراهية وحب للمثل العليا أورغبة في التضحية من أجلها.
فالحديث الذي جرى بين سيدة البشرات ورجال المقاومة عرفنا جهاد الشعب المسلم في الأندلس السليب، وكان الشعب قد هب رجالاً ونساء في وجه انتهاكات العدو، لنقرأ للمؤلف قوله الذي يبين عن هذا:
"- سيدة البشرات: أحمد.. محمد.. عبد الله.. مرحباً برجال المقاومة.
- أحد رجال المقاومة وهو يكشف اللثام عن وجهه: كيف عرفتني يا سيدة البشرات؟
- سيدة البشرات؟ سيدة البشرات؟ ألقبتموني بهذا الاسم؟
- محمد: نعم، لما قمت به في معركة البشرات.
- سيدة البشرات: لي الشـرف أن أحمل اسم البشرات، إنها أكبر معركة بيننا وبين العدو تكبد فيها خسائر كبيرة في الأرواح".[27]
وهناك حوار آخر أدى إلى تنمية الحدث وتطويره، فبنود المعاﻫدة التي عزم الملك على توقيعها كانت في ظاهرها تحمي المسلمين وتحافظ على كرامتهم، ولكن الحوار الذي جرى بين أبي الغسان وأحد الوجهاء كشف عن معاهدة سرية أخرى لا تهتم إلا بمصالح الملك وأسرته، يقول:
"الوجيه (1): أبو الغسان: ما هذه الأوراق؟
الوجيه (2): هذه معاهدة أخرى في غاية من السرية، ملحقة بهذه الاتفاقية، وتتضمـن الحقوق والواجبات والالتزامات والامتيازات التي أعطيت لأبي عبد الله ملك غرناطة وأفراد أسرته وحاشيته.
أبو الغسان: هل مسموح لنا الاطلاع عليها؟
الوجيه (2): لا، غير مسموح.
الوجيه (3): وماذا تتوقع أن يكون بها؟
الوجيه (2): الله أعلم بما فيها".[28]
فهذه المعاهدة توحي بضمان حقوق الملك وأسرته دون باقي الشعب، وقد كان ما خيف منه، إذ هجر الملك موطنه ووقع الشعب في المصيدة.
ومن الحوار الذي كشف عن نوازع الشخصيات وعبر عن خلجات نفوسها وأدق مشاعرها، قول المؤلف يصف لنا مشاعر عائشة أم أبي عبد الله الصغير، عندما رأت حريتها وكرامتها تداس بخطأ ارتكبه ابنها الملك إذ قالت له:
" - كان عليك أن تدرك أن الأخطار التي تهدد ملكاً مـن عدو لايرحم
- لا حول ولا قوة إلا بالله
- انظرني.. أنا عائشة الحرة.. أنا ملكة، زوجة ملك، وأم ملك.. أنا امرأة حرة، عزيزة قومي، وقومي أعزة أمتي، وأمتي خير وأعز أمة أخرجت للناس…انظرني.. ماذا تراني الآن؟.. غير امرأة ضائعة محطمة.. مستعدة لرحيل المنافي".[29]
لقد صور لنا الكاتب غضبة أم الملك مما جنته يد ابنها، إذ شرعت في تأنيبه على تقاعسه، وذكرته بالذل الذي سيحيق بها وبكل امرأة حرة، بل سيصيب الشعب كله. فكانت لذلك رمزاً لمآسي المسلمين وإذلالهم بعد عزتهم، أو رمزاً للوطن المهان بعد رفعة، ها هي ذي امرأة محطمة ضائعة تستعد للرحيل والهجرة، وتثور فيها عاطفة الكبرياء فتعبر عنها بتكرار" أنا "وياء المتكلم بعد فعل الأمر "انظرني، تراني"، وهي تقارن بين وضعها الجديد ووضعها الماضي في سليبة المجد، فكانت بذلك كالأندلس السليب الذي كان له مجـده، ثم غدا أرضاً، وشعباً ذليلا.
وقد يقال: إن وصف المشاعر الذاتية للشخصية يضعف أهمية الحوار لما فيه مـن غنائية تنأى به عن الحركية، ولكن ما نعتت به عائشة نفسها ليس من المشاعر الذاتية التي يخلد بها المرء إلى نفسه، ولكنه عرض لحالة نفسية تجيش في الأفئدة في مثل هذه الظروف السياسية العسرة فتتحرك لها النفوس.
ومن سمات الحوار الإيجاز والإحكام والقدرة على الإثارة وعلى تجسيد الموقف، وأن يكون سهلاً مفهوماً؛ لأن السامع لايستطيع أن يستعيد النص كما يستطيعه قارئ القصة.[30] وقد حقق الأديب هذا في حواره غالباً، وإن كان أطال في بعض المواقف تنبيها للوعي أو تقريراً لأمـر على لسان شخصية ما. ولنقرأ له هذه العبارات التي تحرك فينا مكامن الحزن والألم على ما حل بالمسلمين في الأندلس:
" - العسكري: وجدنا هذا الشخص يصوم رمضان.
القاضي وهو يتشاور مع القسيس: إعـدام.. إعـدام.
- الشيخ المسلم: تريدون بالبطش والقتل إفناء حرمة المسلمين؟ تريدون المسـلمين أذلـة صاغرين لتجعلوا من دارهم دار كفر لا يجرؤ مسلم أن يرفع فيها أذاناً أو يقيم صلاة.
- المسلم: دعني أرحل، ولن أعود إلى هذا البلد.
- القاضي: لا، إنك ستكون عبرة لغيرك، لتخرجوا جميعاً من هذه الأرض.
- المسلم: لن تستطيعوا اقتلاعنا من هذه الأرض وحتى لو اجتثت قاماتنا، ستنبت ثانية، لن نترك أراضينا".[31]
بهذه العبارات الموجزة الموحية والمؤثرة استطاع الحوار أن يكشف عن حقيقة الأعداء عندما يسيطرون، وهذا من أهم أهداف المسرحية.
5- التشكيل اللغوي:
اللغة صلة بين المؤلف ومشاهده، ولعل من أخطر ما يتعرض له المسرح أسلوب الخطاب المباشر الذي يجعل الأدب نصًّا يقرأ ولا يمثل، ولكن المؤلف جعل حواره وسيلة لتحريك الحدث وتنميته وتطوبره، ولعرض نفسيات الشخصيات تحريكاً النفوس. وقد جاء معظمه في أسلوب خبري خرج أحياناً مخرج السخرية على نحو قوله:
" - صاحب القضية: ثم ماذا حدث للمرابطين؟
- قضى عليهم الموحدون.
- صاحب القضية: الموحدون؟
الشاهد على التاريخ: نعم.. الموحدون ادعاء، المفرقون عملا".[32]
فالسخرية هنا بدت من المفارقة بين التسمية والفعل.
كما عبرت الجمل الإنشائية عن عواطف الشخصيات، فوالدة الملك تقول لابنها في تعجب ورفض:
" - من هم قادة المجلس؟ هؤلاء؟!!..."
وتشير إلى مالك وهي تتفحصه بعينها:
- والدة الملك: من؟ أبو القاسم بن مالك؟!
- ثم تشير إلى ابن ساري:
والدة الملك: - من؟ السيد رامي؟".[33]
يقول علي أحمد باكثير: "لابد لكل عمل مسرحي من حركة، ولكن الحركة ليست جسمية دائماً، فقد يكون السكون التام أنبض بالحركة وأشد جيشاناً واحتداماً من أي حركة ظاهرة".[34]
لقد كانت هذه الثورة الغاضبة تدفع بحركة المسرحية إلى الأمام، إنها إرهاص يوحي بخراب الدولة على أيديهم. ويبدو في النـص تكرارٌ أحياناً يؤكـد به المؤلف المعنى، ويوحي بإحساس عميق بالمصاب الجلل بما يحدثه من توترات لها أهميتها ومغزاها في الفكرة،[35] من ذلك قول أم الملك حينما رأت ابنها يلملم حاجياته بعد أن خانه الإسبان:
"كان عليك أن تدرك بأن الأخطار التي تهدد ملكاً من عدو لايرحم... لهي أكبر وأخطر مما يتعرض له... لو كان في خيمته الحربية... انظرني، أنا عائشة الحرة، أنا ملكة، وزوجة ملك، وأم ملك، أنا امرأة حرة، عزيزة قومي، وقومي أعزة أمتي، وأمتي أعز وخير أمة أخرجت للناس، انظرني".[36]
فالكاتب في سياق الحديث عن الأخطار والأحزان كرر الضمير أنا ويـاء المتكلم، وكلمة ملك وقومي وأمتي، فدل بذلك على إحساس الأم بالمصير المأساوي الذي سيتعرضون له بعد أن كانت ملكة معززة في قومها. ولقد كان لإيقاع العبارات الموسيقي أثره في إضفاء جو شاعري، مما يسهل نفاذ الفكرة إلى القلب بما يحمله من إيحاءات وجدانية تنم عن إحساس بالألم العميق من الانتهاكات الدينية، وإن الإحساس بإيقاع الكلام مرده إلى الحساسية المرهفة المولودة مع الأديب، وإلى أذن الشخص الموسيقية،[37] وقد توفر هذا الإيقاع في وصف الكاتب كما في قوله:
" – أول: لقد مزقوا القرآن.
ثان – لقد هدموا المساجد.
ثالث: لا، حولوها إلى كنائس.
رابع: نهبت أموالنا.
خامس: هتكت أعراضنا.
سادس: يتمت أطفالنا.
الجميع: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..
الشيخ المسلم: أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إن نبيكم يهان، وقرآنكم يداس.
المسلم الرابع: يا أمة محمد!
"الثالث: واإسلاماه.. واإسلاماه... واإسلاماه".[38]
لكأن الأديب كان يعيش في سبحة فكرية مع الأحداث المؤلمة، ويتأمل ويتذكر ما حدث في الأمس وما يجري اليوم، ويرى الزمان يدور دورته، فيفيض قلبـه بالأسى العميق ويروح يصف الجرائم بأسلوب مؤثر فيه إيقاعات مسرحية، وتآلفات صوتية وحركية، وقد ساندت فيه الموسيقى الفكرة والصورة وذلك في:
"نهبت أموالنا، هتكت أعراضنا، يتمت أطفالنا"
ففي نغمة هذه العبارات الثلاثة (فعلن [أو فاعلن] متْفاعلن) ما يشبه الشعر في جرسه الموسيقي العذب والمؤثر معاً،[39] وهذا ما يسمى بقانون التوازي، وهو أحد قوانين الإيقاع نلمسه في الصيغ المتشابهة[40] وقد شاركت في هذا الإيقاع أيضاً التاء المتكررة في التعبير، والتاء صوت جهوري يعبر عن لحظة انفجار حبيسة في سويداء القلب تنتظر مَنْ يطلقها من عقالها، وجاءت الهمزات المقطوعات الصادرات من الأعماق، ثم جاء في القافية النـون الموصولة والمسبوقة بألف التأسيس[41] لتعبر عن حزن عميق عميق مديد مديد من جراء هذه الانتهاكات الوحشية.
وفي قوله بعد ذلك: "الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر"، إيحاء بـمد الثورة المترقبة وقوتها والمعاناة فيها كقوة الكاف والهمزة ولهاث الهاءات، وكانت الوقفات الموسيقية المتكررة بعد عبارتي "الله أكبر..." وبعد "واإسلاماه..."، والتي عبر عنها بنقط ثلاث تشارك أيضاً في الدلالة المعنوية فكأنها تنم عن حالة التوزع بين الاتصال والانفصال في مناجاة الله والاستغاثة به، مع طلب الراحة بسبب التعب الشديد الذي نجم عن هول الموقف، فتكون الوقفة أو الفاصلة أداة تشكيلية لها دلالتها على الرغم من عدم لغويتها إذ للصمت جماله في العبارة كما أن للصوت جماله.[42]
أما قوله "واإسلاماه..واإسلاماه.. واإسلاماه.." فهو يوحي بالخطر الجسيم إذ تذكِّر بكلمة وامعتصماه، وبقصة واإسلاماه لعلي أحمد باكثير[43] التي صور بها الهجوم الشرس للمغول على الدولة الإسلامية، وكان لتكرارها صداه العميق في النفس.
وبذلك شاركت اللغة بإيقاعاتها وإيحاءاتها في تعميق الإحساس بالمأساة، وإن الإيقاع الفني يقوم على أساس وجداني نفسي، وهو لا يقتصر على النسق الصوتي الصادر عن الحروف والتراكيب، بل يشمل أيضاً الإيحاءات والصور، إذ تتجاوب هذه لتؤدي توقيعاً موسيقياًّ متآلفاً يساعد في إبراز المعنى،[44] وكأن المؤلف يمهد بذلك للقول الفصل: " أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، إن نبيكم يهان، وقرآنكم يداس، يا أمة محمد.. واإسلاماه.. واإسلاماه.. واإسلاماه..".
لقـد تمكـن الكاتب من تفجير الطاقة الوجدانية لدى القارئ والسامع بهذه الألفاظ المعبرة. وإن الألفاظ تظل جامـدة ساكنة حتى يأتي الأديب المقتدر فيفجر طاقاتها الدلالية فتنبض بالحركة والحياة، كما تقول الدكتورة نور الهدى لوشن.[45] وكان للنغمة الموسيقية لهذه العبارات المنسوقة أثرها، وما التنغيم إلا صدى لحالة الكاتب النفسية والفكرية. يقول الدكتور غازي طليمات: "وجوهر التنغيم أن يعطي المتكلم العبارة نغماتٍ معينة تنجم نفسياًّ عن عاطفة يحسها، وفكرياًّ عن معنى يعتلج في ذهنه، وعضوياًّ عن تغير في عدد الهزات التي تسري في وتري الحنجرة، فيزيد الاهتزاز وينقص وفق الغرض الذي يتوجه إليه الكلام".[46]
وفي المسرحية ألفاظ موحية أخرى لها دلالتها وتأثيرها، فكلمة السلام المرافقة للسخرية توحي بالاستسلام، وتشير إلى المغالطة التي حاول الملك وأعوانه أن يوهموا بها الشعب.
وفي قول أم الملك: "أرى ردهات الحمراء موحشة.. مهجورة.. وقد انطفأت أنوارها.. ياللألم.. انطفأت أنوار الحمراء.." رمز للدمار الذي سيحل بالبلاد من جراء الخيانة والتآمر وتوقيع المعاهدة، وكانت الفواصل بنقطها تؤدي معنى يفوق الكلام وتدع الخيال يتملَّى الموقف ويستشعر الألم الأليم.
ووصفه لصاحب القضـية بأنـه "رث الثياب يحمل كيساً على ظهره"، ينم عن ثقل العبء الذي تنوء به ظهور أصحاب القضايا السياسية والاجتماعية والحضارية الكبرى، والمعاناة التي يعانونها خلال مسيرتهم الجهادية. وقد غلب على النص التصوير الواقعي المباشر، إلا أنه لم يخل من صور فنية. فالقادة بعد تأنيب أم الملك لهم "رؤوسهم منكسة من الخزي والعار"، وفي ذلك كناية عن إحساسهم بالذنب، والمتهمون "يشتاطون غيظا" كناية عن تحرقهم من ألم التوبيخ تحرقا أوصلهم إلى الهلاك، والتمسك الشديد بالأرض كنى عنه بقوله: "لن تستطيعوا اقتلاعنا من هذه الأرض، وحتى لو اجتثت قاماتنا، سننبت ثانية".
كما شبه "زافرة" رسول فرديناند بالشيطان اللعين في قوله: "كل مصائبنا من هذا الشيطان اللعين".
وفي قوله: "لنعبر التاريخ" استعارة فقد جعل قراءة التاريخ جسراً يوصلنا إلى الماضي. وفي قوله: "تمر السنون على غرناطة ثقيلة تئن تحتها المدينة" تصوير بديع، إذ شخص فيه الزمن، وجعل المدينة تئن، والمراد به أهلها وهو مجاز مرسل علاقته محلية. ومثله في نداء المدينة نفسها في قوله: "سأجعلك ياغرناطة عبرة".
وأفاد المؤلف من القرآن الكريم في قوله: "ستكونون أول من يطرد ويهجر من الوطن فلا تخدعوا أنفسكم) فهي مقتبسة من قوله تعالى: }يُخَادِعُوْنَ اللهَ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا وَمَا يَخْدَعُوءنَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُوْنَ{ (البقرة: 9)، كما أفاد من التراث حين نقل إلينا منه عبارات مؤثرة. وهذا التناص مزج به بين ما هو موروث وما هو معاصر، ووظفه للدلالة على الرغبة في وحدة الصف الإسلامي في وجه العدو، من ذلك قوله متحدثاً عن المعتمد بن عباد وذاكراً كلمته الشهيرة: "تالله إني لأوثر أن أغدو تابعا للسلطان ابن تاشفين وراعياً لجِماله على أن أكون تابعاً لملك النصارى الطامع، إن رعي الجمال عندي خير من رعي الخنازير، نحن معك جميعا".[47]
وكانت اللغة الفصحى معرضاً لفكره، وهذا شرط من شروط الأدب العربي بما فيه المسرحي، إذ من حق المعنى الجميل - كما يقول درايدن -: "أن يُعبَّر عنه باللفظ الجميل"،[48] ليـزيده رونقاً ويزيد إقبال الناس عليه، وذلك لما للفصحى من جاذبية في صورها وموسيقاها.
والمؤلف ممن يعتزون بالفصحى، وقد أولاها عنايته الكبرى[49] وسطر بها مسرحياته، وإن لم تخل مسرحيته المدروسة مما شاع استعماله على غير ما يرتضيه اللغويون. من ذلك قوله: "يتحدثون عن بعضهم البعض"، والعرب لاتعرف بعض بـ"ال التعريف"، بل بالإضافة؛ وقوله: "... لإحضار السلاح وهو عبارة عن..."، ولا حاجة لذكر عبارة عن ويكتفى بـ "وهو..."؛ وقوله: "وإذا بها تخرج سكينا" والأولى حذف الباء وجعل الضمير بالرفع بعد إذا الفجائية: "وإذا هي". وهذا التعبير الدارج لا يؤثر في فصاحة العبارة، وعروبة الأسلوب، وإطلاق صفة الأدب المسرحي على إنتاجه، في وقت تتعرض فيه الفصحى للهجوم باسم العولمة حيناً والواقعية الفنية تارة أخرى، ويهمنا الآن الثانيـة لما لها من علاقة بفن المسرح.
فقد ذكر أحمد راشد ثاني "أن المسرح اليوم تواجهه إشكالية اللغة"، ثم راح يفضل العامية لأنها – في رأيه - "لغة التراث التي يتحدث بها الآباء والأمهات، وقد وصلت إلى ذرى شعرية مع الشعراء الشعبيين والعاميين، أما الفصحى فقد غدت ضعيفة ركيكة بل ميتة في بيئة يسيطر عليها جالية من المواطنين، تقع وسط جاليات أجنبية ولها دورها في البناء الحضاري، والشعب الإماراتي أضعف الشعوب على الإطلاق في تعلم العربية وتدريسها".[50] ويمكن أن يرد على هذا الكاتب من أوجه متعددة:
1 – اللغة الأم لكل شعب يجب أن يحافظ عليها أبناؤه، والجاليات مصيرها إلى أوطانها، وقد جاءت لتعمل لا لتفرض لغتها على أمة عريقة في التاريخ، ومن واجبها أن تتعلم لغة البلد الذي جاءت إليه لتكسب رزقها.
2- إن التقارب بين أبناء العالم العربي حقيقة تؤكدها أجهزة الإعلام، واللغة الفصحى مفهومة في جميع الأصقاع العربية، وليست ميتة كما يقول، ولئن حدث تقصير ما فإن المجامع اللغوية قادرة على التعويض بسبب مرونة العربية وغنى مفرداتها ونظام الاشتقاق فيها.
3 – وإذا كانت حضارة الإمارات المعاصرة قد بنيت بأيدي غير العرب، فإن هذا لا يعني أن يتخلى أبناؤها عن لغتهم لغة عقيدتهم وتراثهم وهويتهم.
4- ولغتنا العربية نقل إليها المترجمون مسرحيات كبرى بأبلغ التعبيرات وأدقها، وألِّفت بها مسرحياتٌ تشهد بطواعية اللغة لهذا الفن الأدبي.[51]
5- إن اللغة العامية الدارجة تتغير وتتبدل باستمرار، وهذا ما يجعل اللغة في تحول دائم، وفي هذا خسارة للآداب الإنسانية التي تكتب بها.
6- وإذا كان الأديب مؤلفاً مسرحياًّ يؤمن بأن للمسرح وظيفته في الحياة، فَلِمَ لا يجعله وسيلة لنشر الفصحى، لغة فكرنا وحضارتنا وتراثنا الديني، لتبقى شخصيتنا العربية والإسلامية كما يقول الدكتور نجيب الكيلاني؟[52] أبحجة الواقعية المغلوطة نتخلى عن لغتنا؟ لقد ادعى كل من الدكتور رشاد رشدي في كتابه "فن القصة القصيرة" والكاتب المسرحي يوسف إدريس أن الواقعية تستدعي ألا يتكلم الناس أو يفكروا بالفصحى؛ لأن الشخصيات والحوادث يجب أن تحقق الواقعية لتقنع القارئ بأن قصته تمثل الواقع، والذي يجعلها تتكلم الفصحى يهدم هذه الواقعية من أساسها.[53]
ولكن كثيراً من النقاد انبروا يفندون هذه الآراء ويردون عليها، ويبينون أن الواقعية لا تعني محاكاة الواقع كما يمكن أن يكون، بمعنى أن تتصرف الشخصيات أو تنطق بآراء وأفكار ومشاعر يمكن أن يصدر أمثالها في واقع حياتها اليومية، فمسرحية شكسبير مثلاً نقلت من لغة إلى أخرى، وظلت مع ذلك واقعية. وقد بين علي أحمد باكثير أن الواقعية هي الواقعية الفنية، وأن الفن ليس تسجيلاً حرفياًّ للحياة، وإنما هو تصوير لها وتعبير عنها ونقد لجوانبها![54]
أما الدكتور محمد الدالي فيوضح أن الواقعية هي واقعية الصراع، وواقعية النفس البشرية، والتسلسل المنطقي، والإيقاع النفسي، وليس للغة التي تتكلم بها الشخوص في حياتهم اليومية دليلا على الواقعية.[55]
ويبين الدكتور محمد غنيمي هلال أيضا "أن الواقعية في المسرح وغيره هي واقعية الحدث وواقعية تصوير الشخصيات ومواقفها ونفسياتها ومسيرة حوادثها. ولو كتب المسرح بالعامـية لما أدى رسالته الفنية والإنسانية والاجتماعية؛ ذلك أن الفصحى أقدر في تنويع الدلالات وتعميقها من العامية المحدودة في مفرداتها، والمتصلة بالواقع والمحسوسات، ويجب أن نرقى بإمكانيات الجمهور لا أن نراعي التسهيل عليهم، ونحن بحاجة إلى تزويد الفصحى بهذا اللون الأدبي كي يصبح أدبها موضوع دراسة".[56]
ويجب ألا يغيب عن البال أن كثيرين من أنصار العامية يدافعون عنها مقلدين في ذلك النقاد الأجانب فيما يرونه، ظانين أنهم يتبعون أحدث الآراء النقدية الأجنبية، دون أن يتنبهوا إلى غايات هؤلاء ومساعيهم لهدم لغتنا وتراثنا.
6 – أهداف المسرحية:
كان لهذه المسرحية أهداف شتى رمى إليها الأديب حينما كان يسطر كلماتها ليحيي بها ماضينا، ولعل من أهمها:
1- المسرح معلم لكثير من معاني الـحب والعدل والثورة على الطغاة، وهو لذلك وسيلة إعلامية جيدة التوصيـل، وتسهم في حل المشكلات الإنسانية.
2- ويعد إيمان المؤلف زاداً روحياًّ ملأ شغاف قلبه، وهو يستـند إلى فكر أصيل يتصل بجوهر حياتنا الماضية كما يتصل بحياتنا المعاصرة، وقد حول هذا الموقف الإيماني سلوكاً أدبياًّ قدم لنا من خلاله رؤيته للماضي لتعتبر منه الأمـة في أيامها المعاصرة، وقد بدا إدراكه هذا من خلال ما سطره في ثنايا مسرحيته.
ويمكنني أن أجمل المواطن التي تنم عن وعي المؤلف بما يأتي:
أ- سمى أول شخصية طالعتنا في المسرحية "صاحب القضية"، والثانية "الـشاهد على التاريخ". وقد وسم الأول بما ينم عن سوء حاله، فكأنه قد أنهك بحمل قضايا الأمة، ولكنه كان يحملها بلا وعي سياسي ناضج، فنبهه الشاهد على التاريخ ووضح له الحقيقة.
ب - تقسيم المؤلف لقارئي التاريخ في مقدمة مسرحيته إلى أربعة أصناف، وهذا التقسيم يشير إلى وعي المؤلف بأهمية دراسة التاريخ، وعرض عبره إن خيراً وإن شرا.
ج - سخريته من السلام المزعوم ونعيه على أصحابه، وذلك بطريق غير مباشرة
د - حديثه عن الأمة الإسلامية وضرورة اتحادها للوقوف أمام أعدائها.
ﻫ - تحدث المؤلف عن ضـرورة الصمود في وجه العدو حفاظاً على الدين والوطن، فكان ذلك صرخة مدوية في آذان أبناء العصر لتحافظ عليهما دونما تقصير.
3 – لا عهد للعدو إذ سرعان ما ينكث العهد وكأن شيئاً لم يكن، وقد وضح هذا من مطالبته بمفاتيح المدينة، ومن بطشه بالمسلمين البطشة الكبرى.
4 – لا مهادنة مع العدو إن لم تضمن الكرامة والحقوق.
5 – لا يجدي البكاء والندم بعد فوات الأوان، وعلى الملك أن يكون يقظا.
6 – للمرأة مكانتها ومهمتها في الحياة، وهي تفضل احتمال المصاب الجسيم على أن تخون دينها وأبناء جلدتها وعقيدتها.
7- وحينما كتب المؤلف مسرحيته بالفصحى بها أشار إلى ضرورة الحفاظ عليها لغة أدبية تناسب الفن المسرحي، كما تنسجم ومعطيات العصر.
الخاتمة
مسرحية "القضية" ثاني مسرحية ألفها سلطان بن محمد القاسمي بعد عودة هولاكو، وهي من المآسي الجادة التي كشفت بعمق عن أسباب تدهور الأمم مما لا نزال نرى آثاره إلى يومنا. واتخذ الأديب لعرض فِكَرِه وسائل فنية متعددة تمثلت في جودة الربط بين الماضي والحاضر، وقد أتقن المؤلف عرض حوادثها وتطويرها والصراع فيها، ورسم شخصياتها وحوارها حتى تحقق الهدف منها في توعية الأجيال وتحذير أبناء الأمة من التفرقة والاستسلام للعدو.
وكتب المؤلف مسرحياته باللغة الفصحى، وكأنه أراد لهذا الفن أن ينهض - وباللغة العربية - ليحقق دوره السامي مضموناً وفناًّ وأسلوباً، وليثبت أيضاً مقدرة اللغة العربية على احتواء الفنون كائنة ما كانت.
وتبذل الآن جهود ملحة لتوعية الجمهور بأهمية المسرح عامة والمحلي خاصـة لأنه يساهم في تخليص الأمة من كثير من مشاكلها لو أحسن توجيهه.
* أستاذة الأدب المساعدة في قسم اللغة العربية وآدابها، في كلية الآداب والعلوم - جامعة الشارقـة.
[1] السيرة الذاتية لسمو الشيخ د. سلطان بن محمد القاسمي، ص7-14، د.ن ، د.م ، د.ت ، والملتقى الأدبي السنوي الحادي عشر لرابطة أديبات الإمارات من الفترة 21-23 ربيع الأول / 1426هـ الموافق 30/4/-2/5/2005م بعنوان فكر الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي قراءات ورؤى ص 4 طبع أ،دية فتيات الشارقة ، الشارقة ، الإمارات العربية المتحدة
[2] إبراهيم العريض شاعر من البحرين له دواوين شعرية وملحمتا أرض الشهداء، وقبلتان، ومسرحية وامعتصماه: الرومي، نورية، الحركة الشعرية في الخليج بين التقليد والتجديد ( المطبعة العصرية ، مدينة الكويت ، الكويت1980)، ص329.
[3] الخزاعي، محمد علي، دراسات في الأدب المسرحي (المنامة- البحرين: نادي العروبة، 1992م)، ص25، والخاطر، مبارك، المسرح التاريخي في البحرين (البحرين: المطبعة الحكومية لوزارة الإعلام، 1985م)، ص9.
[4] مجلة الرافد، العدد 22، أبريل – نيسان 2000م، ص3، وكتاب الدليل العام، أيام الشارقة المسرحية (الشارقة: وزارة الثقافة والإعلام)، ص47-49.
[5] ورد الاسم هنا "ألفونشو" وورد "ألفونسو" في كتاب حتاملة، محمد عبده، الأندلس التاريخ والحضارة والمحنة (عمان، الأردن: مطابع الدستور التجارية، 2000م)، ص5.
[6] القاسمي، سلطان بن محمد، القضية (الشارقة، الإمارات العربية المتحدة: مؤسسة مداد للطباعة، 1420ﻫ-2000م)، ص20-21.
[7] كان أبو يوسف محمد بن يعقوب الموحدي من أتباع المهدي بن تومرت الذي كان يدعي أنه (الإمام المعصوم والمهدي المعلوم) وكان قد استباح دماء خصومه بحوادث مروعة، وقد حارب ألفونس مرارا ولكنه خسر أمامه في معركة العقاب وكان قد جمع له ستمئة مقاتل فلما علم ألفونس بذلك استنجد بأوربا فأنجدته، وكان ابن يعقوب قد استخف برجال الأندلس العارفين بقتال الفرنج وقتل كبار القادة بوشاية، فدب الخلاف وخسر المسلمون وذهبت قوتهم وبلادهم بعد هذه المعركة إذ سقطت كثير من المدن بأيدي الإسبان: حتاملة، الأندلس التاريخ والحضارة والمحنة (عمان، الأردن: مطابع الدستور التجارية، 2000م)، ص558.
[8] يذكر التاريخ أن الملك فرناند طلب من الملك ابي عبد الله الأحمر أن يسلمه غرناطة تطبيقا للمعاهدة فامتنع وحاربه سبعة أشهر إلى أن جاء الشتاء فتفاوض معه على تسليمها وكان ذلك في 2/1/1492م: حتاملة، الأندلس التاريخ والحضارة والمحنة، ص619.
[9] قامت ثورة في جنوب الأندلس في مدينة البشرات، فقتل الإسبان جميع من في قرية "غويخار – سيرا" حتى الرضع والنساء والشيوخ لأن رجالها ذهبوا لمساعدة رجال البشرات، وأحرقوا المدينة والمنازل على رؤوس أصحابها، ونسفت المساجد المليئة بالمسلمين، وأريقت أنهار من الدماء بوحشية كبيرة. وذكر مؤلف كتاب الأندلس التاريخ والحضارة والمحنة أن"الملك فرناند استنكف عن قتلهم بيده لئلا يلطخ يده بدماء هذه الوحوش البشرية في البشرات"، ينظر: ص686.
[10] ورد في التاريخ أن المسلمين أحرقت منازلهم وأعدم الكثيرون منهم بالحرق، ونسفت مساجد بمن فيها، وأريقت أنهار من الدماء، وأجبر المسلمون على أكل لحم الخنزير، وأخذ أطفالهم ليربوا على النصرانية، وأحرق مليون ونصف من الكتب الدينية، وحرم استخدام اللغة العربية، وأجبرت المسلمات على الزواج من النصارى. حتاملة، الأندلس التاريخ والحضارة والمحنة ص659-686.
[11] هلال، محمد غنيمي، النقد الأدبي الحديث (بيروت: دار العودة، 1987)، ص549، ورشدي، رشاد، نظرية الدراما من أرسطو إلى الآن (دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، مركز الشارقة للإبداع الفكري)، ص21.
[12] يذكر د. محمد يوسف نجم في كتابه المسرحية في الأدب العربي الحديث أن كثيرا من المسرحيين استمدوا نصوصهم من التاريخ العربي في الأندلس ، ويضرب مثلا لذلك مسرحية المعتمد بن عباد لإبراهيم رمزي التي ألفها 1892م، وفتح الأندلس لمصطفى كامل، ألفها 1893م وكانت غايته منها أيضاً توعية العرب في وقت تكالب فيه العدو عليهم، و"غانية الأندلس" ينظر: نجم، محمد يوسف، المسرحية في الأدب العربي الحديث (بيروت: لبنان دار صادر 1999م)، ص298 و310.
[13] حتاملة، الأندلس، ص614.
[14] درزيل، عدنان، فن كتابة المسرحية (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1996م)، ص83-84.
[15] القاسمي، القضية، ص7.
[16] أرسطاطاليس، فن الشعر، مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، ترجمة عبد الرحمن بدوي (بيروت: دار الثقافة، د.ت)، ص41 و49.
[17] أرسطاطاليس، فن الشعر، ص18-19 و34، وهلال، محمد غنيمي، الموقف الأدبي (بيروت: دار العودة، ط7، 1977م)، ص133-135.
[18] حمادة، إبراهيم، معجم المصطلحات الدرامية (القاهرة: دار الشعب)، ص103.
[19] العشماوي، محمد زكي، دراسات في النقد الأدبي المعاصر (القاهرة وبيروت: دار الشروق، 1994م).
[20] نقلاً عن: الدالي، محمد، الأدب المسرحي المعاصر (القاهرة: عالم الكتب، 1419/1999)، ص74.
[21] كان أرسطو قد تحدث عن وحدة الزمان كعادة اتخذها المحدثون في عصره، ولعله أقرهم عليها. ثم جاء "كستلفتر" وأضاف إليها وحدة المكان، ثم فرض الفرنسيون القوانين الأرسطية الثلاثة (وحدة الزمان والمكان والموضوع) وطبقوها، ثم ضربها "مانتسوني". ينظر في ذلك في: فن الشعر، ص17 هامش 4.
[22] كلمة "دراما" مشتقة من الفعل اليوناني "دراو" بمعنى "أعمل" والدراما مسرحية جادة كما كانت التراجيديا القديمة، ولكنها تختلف عنها في موضوعها، إذ يستمد من حياة العامة لا من النبلاء، وفي شخصياتها التي تؤخذ من المجتمع لتحكي طبقاته،، ينظر: مندور محمد، في المسرح العالمي (القاهرة: نهضة مصر)، ص10-11.
[23] وهبة، مجدي، ومحمد عناني، درايدن والشعر المسرحي، الكلاسيكية الجديدة في المسرح (اللجنة المصرية العامة للكتاب، ط3 ، 1994م).
[24] درزيل، فن كتابة المسرحية، ص20.
[25] أرسطاطاليس، فن الشعر، ص35؛ وسرحان، سمير، دراسات في الأدب المسرحي (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، د. ت)، ص35.
[26] القاسمي، القضية، ص43.
[27] القاسمي، القضية، ص341.
[28] المصدر نفسه، ص34.
[29] المصدر نفسه، ص42.
[30] العشماوي، دراسات في النقد الأدبي المعاصر، ص303؛ وبسفيلد، روجرم (الابن)، فن الكاتب المسرحي (المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما)، ترجمة دريني خشبة (القاهرة / نيويورك: مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1978).
[31] القاسمي، القضية، ص53-54.
[32] المرجع نفسه، ص22، ومثله في السخرية بكلمة السلام، ص22.
[33] المرجع نفسه، ص31.
[34] باكثير، علي أحمد، فن المسرحية من خلال تجاربي (القاهرة: دار المعرفة، ط2، 1964م)، ص ....؟؟؟....
[35] بسفيلد، فن الكاتب المسرحي، ص228.
[36] القاسمي، القضية، ص42.
[37] باكثير، فن الكاتب المسرحي، ص227.
[38] القاسمي، القضية، ص42.
[39] ينظر للإيقاعات المسرحية في: حمادة ، إبراهيم ، معجم المصطلحات الدرامية (القاهرة: دار الشعب، د. ت)، ص86، والحسناوي، محمد، الفاصلة في القرآن (حلب: دار الأصيل)، ص9، 195.
[40] الحسناوي، الفاصلة، ص235.
[41] لما كانت هذه العبارات أشبه بشعر التفعيلة، فقد شبهت سجعاتها بالقافية، وأطلقت تسمياتها عليها، وهذا ما فعله بعض المعاصرين في دراسة نغم النثر، فالأستاذ محمد الحسناوي عرف الفاصلة في القرآن الكريم بأنها "توافق آخر الآي في حرف الروي أو في الوزن مما يقتضيه المعنى وتستريح إليه النفوس". الحسناوي، الفاصلة في القرآن الكريم، ص29. وقد طبق ذلك في دراسته فقال: "للفاصلة عدد من الأبنية من حيث الروي أو الوزن... ثم ذكر العناوين: وبحسب حرف الروي، ص145، بحسب الوزن، ص148. وأما ألف التأسيس فهي ألف يفصل بينها وبين حرف الروي حرف صحيح يسمى الدخيل، وسميت بذلك لأنها أس للقافية أي تلتزم في جميع الأبيات. مناع، هاشم صالح، الشافي في العروض والقوافي (دبي: كلية الدراسات الإسلامية والعربية، 1408ﻫ/1988م)، ص5 و25.
[42] ينظر لجمال الفواصل بالنقط: الجزار، محمد فكري، الخطاب الشعري عند محمود درويش (القاهرة: دار إيتراك للنشر والتوزيع، 2001م)، ص68.
[43] باكثير، علي أحمد، واإسلاماه (القاهرة: دار مصر للطباعة، 1414ﻫ/1993م).
[44] حمدان، ابتسام أحمد، الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي (حلب: دار القلم العربي، 1418ﻫ/1997م)، ص124.
[45] لوشن، نور الهدى، علم الدلالة (بنغازي/ليبيا: منشورات جامعة قار يونس، 1995)، ص101.
[46] طليمات، غازي، في علم اللغة (دمشق: دار طلاس)، ص145.
[47] القضية / 21
[48] عناني، درايدن والشعر المسرحي، ص27، وهذا القول ذكره الناقد العربي بشر بن المعتمر (ت 210ﻫ) : "ومن أراغ (أراد) معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً، فإن من حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما": هلال، الاسم الكامل؟؟؟، جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب (وزارة الثقافة والإعلام في العراق: دار الحرية، 1980م)، ص51.
[49] تكونت في الشارقة جمعية حماية اللغة العربية في 1/11/1999، ثم أصدر الشيخ الدكتور سلطان القاسمي قراراً إدارياًّ يقضي بأن تحرر الوثائق والرسائل الحكومية والمعاملات الرسمية في الشارقة باللغة العربية، ويشير القرار إلى عدم استخدام المصطلحات الأجنبية إلا عند الضرورة. ينظر لذلك: جريدة الخليج، العدد 7470، تاريخ 1/11/1977، بعنوان الإعلان الرسمي عن تأسيس جمعية حماية اللغة العربية ص13، والعدد 7497، تاريخ 20/11/1999، بعنوان "سلطان يستقبل جمعية حماية اللغة.. وجميع المعاملات في الشارقة بالعربية"، ص1 و3 و5. (
[50] وزارة الثقافة والإعلام، المسرح في الإمارات، ص93-94.
[51] الدالي، الأدب المسرحي المعاصر، ص337.
[52] الكيلاني، نجيب، نحو مسرح إسلامي (بيروت: دار ابن حزم، 1990)، ص76.
[53] رشدي، فن القصة القصيرة، ص100-103، والدالي، الأدب المسرحي المعاصر، ص331.
[54] باكثير، فن المسرحية من خلال تجاربي، ص77.
[55] الدالي، الأدب المسرحي المعاصر، ص338.
[56] هلال، النقد الأدبي الحديث، ص614-627.
وسوم: العدد 657