علي الوردي : (55) جعل إهداء المؤلّفات رسائل
# "كلمة الوداع" المريرة :
--------------------------
تواصلاً مع الحديث عن الغوغاء في الحلقة السابقة ، نقول أن الوردي في أحاديثه مع الباحث الأستاذ ( سلام الشماع ) والتي أجراها الأخير معه في أواخر الثمانينات ، عاد إلى تقييم تلك المرحلة المُضطربة التي أعقبت ثورة الرابع عشر من تموز قائلا :
(( في اليوم الذي أعلنت فيه ثورة 14 تموز 1958 حدثت أحداث غوغائية فظيعة كانت بداية أحداث أفظع منها جرت في مختلف أنحاء العراق.
وشاء القدر أن يكون على رأس الثورة أشخاص لا يملكون القدر الكافي من الحكمة وبُعْد النظر، فغضوا النظر عن تلك الأحداث، أو هم شجّعوها فأساءوا بذلك إلى الثورة وإلى أنفسهم . وفي الوقت الذي كان على رأس الثورة أشخاص من هذا الطراز كان في قيادة الحزب الشيوعي أشخاص لا يقلّون عنهم من حيث قصر النظر وقلة الحنكة وبذا سارت الموجة الغوغائية في العراق سيرتها المعروفة. في حزيران 1959 حدثت في بلدة الكاظمية حادثة غوغائية أتيح لي أن ادرسها عن كثب، وخرجت منها بنتائج تلفت النظر من حيث طبيعتها العامة، ومن حيث تأييد الحزب الشيوعي لها. خلاصة الحادثة أن زمرة من الغوغاء كانوا يطاردون رجلاً اتهموه بالرجعية فلجأ الرجل إلى صاحب دكان ليحميه منهم، وكان صاحب الدكان واسمه عبد الأمير الطويل من الأقوياء الذين يعتزون بقوتهم وعنفوانهم، فتحدى المهاجمين وحصلت مشادة عنيفة بينه وبينهم وكانوا هم يحملون الحبال فألقوها عليه، ولعلهم كانوا يريدون أن يجعلوا منه درساً لغيره، وصاروا يسحبونه بها ولم يستطع هو أن يتخلص من حبالهم بالرغم من قوّته وعنفوانه وظلوا هم يسحبونه في الشارع، وهم يهتفون: "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة!". حدّثني من شاهد الحادثة عياناً فقال إنه رأى عبد الأمير وهو يرفع رأسه من على الأرض في أثناء سحبه ويستغيث بالناس قائلاً : "لخاطر الله! لخاطر موسى بن جعفر"، فلم يأبه أحد منهم بالله أو بموسى بن جعفر، ومات عبد الأمير في أثناء سحبه دون أن يرحمه أحد!.
استمر الغوغاء يسحبون جثة عبد الأمير حتى وصلوا به إلى جسر الأئمة، فعبروه، ولكنهم فوجئوا بمقاومة لهم من فوق السطوح التي تشرف على الجسر من جهة الاعظمية حيث أطلق منها عليهم الرصاص، وسقط منهم بعض الجرحى وبذا تحول الغوغاء فجأة من شجعان يتحمسون إلى جبناء يفرّون وألقى بعضهم بأنفسهم إلى النهر طلباً للسلامة، وليس هذا بالأمر الغريب منهم إذ هو ديدن الغوغاء في كل زمان ومكان !. إني أنتظر صباح اليوم التالي لكي أقرأ ما تكتبه جريدة (اتحاد الشعب) التي كانت تنطق بلسان الحزب الشيوعي حينذاك ، وقد تعجبت حين وجدتها تصف الحادثة بأنها مظاهرة شعبية وتشجب عمل الذين قاموا بإطلاق الرصاص عليها. وإني ما زلتُ أحتفظ بنسخة الجريدة وقد لفت نظري فيها أنها حين ذكرت "المظاهرة الشعبية" نسيت أن تذكر أنها كانت تسحب وراءها جثة رجل ميت، فهي ركّزت نظرها على الاعتداء الذي وقع على المظاهرة بينما هي غضّت النظر عن الاعتداء الذي وقع منها. وبعد أيام من تلك الحادثة أتيح لي أن أتحدث مع أحد قادة الحزب الشيوعي، فوجدته يؤيد ما حدث فيها وكان يعتبر الشاب الذي جرى له "السحل" مستحقاً له، وأن الجماهير التي قامت بسحله إنما فعلت ذلك بدافع الوطنية. وهنا يجب أن أعترف أن الماركسيين في العراق لم يكونوا كلهم من طراز هذا الذي تحدثت معه فقد كان فيهم الكثيرون من المستائين المتذمرين، ولكن هؤلاء المستائين لم يستطيعوا أن يجهروا برأيهم علناً، وتركوا الموجة الغوغائية تأخذ مجراها حتى انتهت أخيراً بمذبحة الموصل وكركوك) (380) .
وأمام هذه المشاهد الكارثية الفاجعة يعلن الوردي " كلمة الوداع " كختام لآخر كتاب أصدره مع بداية العهد الجمهوري الذي انتظره طويلا ، ولكن بعد لعبة في غاية الذكاء والخطورة ، فقد أشار إلى أن بعض قادة الاحزاب السياسية بدأوا ينتقدونه لأنه يتحدّث كثيرا عن الغوغاء وذلك لأنهم يعتقدون أن الغوغاء جزء من الشعب أو هم الشعب ذاته . وهذا – كما يقول الوردي – خطأ من شأنه أن يؤدي أحيانا إلى عواقب اجتماعية ضارة . ولكن كلمة الوداع هذه تأتي بعد حركة ماكرة مضافة تتمثل في أنه يرد على الشيوعيين الذين رفضوا تسمية " الغوغاء " باعتبارها لفظة مهينة لقطاع شعبي يعتقدون أنه مادة للثورة ، يرد عليهم بمعالجة ماركسية متفردة لموضوعة " الغوغاء " ، حيث يقول :
( أطلق ماركس على الغوغاء اسم " لوبن بروليتاريا " وقصد به تلك العناصر المتفسخة المتهرئة التي تعيش على هامش الطبقة العاملة ، وهو يصفهم بقوله : (هذه الحشرات الجامدة ، حُثالة أدنى جماعات المجتمع القديم ، فقد تجرّهم ثورة البروليتاريا إلى الحركة ، ولكن ظروف معيشتهم وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعدادا لبيع أنفسهم إلى الرجعية) (381) .
لقد كان معنى الخاتمة التي وضعها الوردي لهذا الكتاب : " الأحلام بين العلم والعقيدة " هو وداع الخطاب الاجتماعي الفعلي ، واللجوء إلى الصمت المطبق الذي التزم به حتى سنة 1966 حين أصدر كتابه الخطير : " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي " . كان الصمت غير مرتبط – كما رأينا – بعدم قدرته على تغيير أسلوبه ليتماشى مع التغيرات الثورية الكبرى مادام " الأستاذ " لينين قد غيّر أسلوبه على حدّ قوله ، ولكنه مرتبط بالإحباط الهائل الذي صدمه حين شاهد بأم عينه أن ليس الغوغاء هم الذين تسيّدوا الموجة ، لكن – وهذا هو الذي لا يُصدّق – أن المثقفين المتنورين يسيرون وراء الغوغاء ويهتفون بشعاراتها . ترى كيف يرتاح الوردي حين يرى خيرة مبدعي العراق ومفكريه وهم يهزجون :
إعدم .. إعدم .. نترجاك
إعدم .. إعدم .. كلنه وياك
ولا تگول ما عندي وكت ..
كيف يدعو المبدع إلى الاعدام وشنق الناس ؟ ..
لقد اختار الوردي " كلمة الوداع " التي عبّر عنها بالصمت المطبق ، لأنه أدرك أن كل ما بذره بجهاده الفكري وبكفاحه التنويري قد أصبح في مهب الريح !! . لقد شاهد الخيبة السلوكية في تصرفات الغوغاء التي أجهضت الثورة عام 1958 فنفض يديه منها ، لكن الخيبة كانت أكبر عندما جاء انقلاب 8 شباط 1963 ليرد بعنف مقابل شديد الشراسة على عنف 1958 . ما الذي ننتظره من مفكر سخّر عمره وفكره وجهده للتحذير مما سيصل إليه العراق غير الصمت ؟ صمت الوردي سبع سنوات ، إلى أن اطمئن إلى أن هناك فسحة ديموقراطية فأصدر كتابه الخطير كما قلت : " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي " .
والذي قدّم له بإهداء يقول فيه :
" أقدّم كتابي هذا إلى الذين يشغفون بالأفكار " العالية " فيحاولون تطبيقها في مجتمعهم بغض النظر عن طبيعة المجتمع وظروفه . لقد آن لهم أن ينزلوا عن أبراجهم العاجية ، وأن يأخذوا بعين الاعتبار مقتضيات الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه " .
وفي هذا الإهداء عودة إلى منطلقاته المنهجية المبدئية الأولى وإصرار على دعوته السابقة إلى " عملّية " الفكر و " وظيفيته " ، بنزول المفكرين من أبراجهم العاجية إلى أرض الواقع وهو ما تناولناه سابقاً في هذا البحث .
# أسلوب جديد في "الإهداء" :
-------------------------------
ولو راجعنا مؤلفات الوردي التي وضع عليها " إهداءات " وهي حسب تسلسلها الزمني : خوارق اللاشعور , وعاظ السلاطين ، أسطورة الأدب الرفيع ، مهزلة العقل البشري ، وأخيرا دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ، فسنجد أنها لا تحمل سمات الإهداء التقليدي حيث لا يوجد اسم لشخص محدد في أي منها ، وهو ما اعتاد عليه المؤلفون قبله . إن " إهداءات " الوردي توجّه دائما إلى قطاعات من المجتمع ، بدءا من مؤلفه الأول : " خوارق اللاشعور - 1952" الذي كتب عليه إهداء غير مسبوق قدّم له بعبارة غريبة لم تستخدم من قبل هي : " تحذير " ، وقال فيه :
( إنّ هذا كتاب ربما ينفع الراشدين من الناس – أولئك الذين خبروا الحياة وأصابهم من نكباتها وصدماتها ما أصابهم . أما المستجدون والمدلّلون والأغرار الذين لم يمارسوا بعد مشكلة الواقع ولم يذوقوا من مرارة الحياة شيئا ، فالأولى بهم أن لا يقرأوا هذا الكتاب ... إنه قد يضرّهم ضررا بليغا) (382) .
ولو تأملنا هذا التحذير وحاولنا ربطه بالموضوع الذي يعالجه الكتاب وهو موضوع القوى الخارقة – أو الخارقية كما يسميها الوردي – الذي عالج فيه التنويم المغناطيسي والتخاطر وقوى اللاشعور والأحلام النبوئية والانطباعات المسبقة والعبقرية وقاعدة " من جدّ وجد " ... إلخ ، فقد يعتقد قاريء الكتاب بأن لا صلة لهذا التحذير بالمضمون العلمي له وأن مؤلّفه إنما أراد من وراء هذا التحذير تصعيد رغبة القرّاء للإقبال على شراء الكتاب على طريقة أن كل ممنوع مرغوب ، أو على طريقة استكشاف الغرفة المحرّمة التي تحفل بها الحكايات الخرافية – ألف ليلة وليلة خصوصا - . قد يكون هذا من بين أهداف الوردي فقد اتُهم أكثر من مرّة – وهذا ما ذكره في كتابه : " أسطورة الأدب الرفيع " - بأنه يثير الضجيج والمعارك حول كتبه كجزء من " صرعة " أمريكية تعلّمها في الولايات المتحدة الأمريكية أيام دراسته هناك يستثمر فيها الصراعات التي تدور حول ما يكتبه من أجل ترويج مؤلفاته :
( هناك من يدّعي أن الدكتور الوردي يستهدف أن يثير ضجة تقترن بكتبه التي يصدرها ، وهي طريقة أمريكية انتقلت إليه من تطبّع لا طبع له . والمعروف عن أمثال هذه الطريقة الأمريكية ، أن الانتقاد المر والمدح الرخيص يستوي عندها ، إذ أن الأصل فيها حبك الضجة ولا شيء بعد ذلك . والمفروض في الضجة أنها تخلق مؤيدين ومعارضين وبالتالي مشترين . وهذا ما يذوب له الدكتور الوردي صاحب أسطورة الأدب الرفيع) (383) .
ولكن الوردي يرى أن إثارة الضجة – وهذا رأي منطقي – لا تخل بالتزامات الكاتب الأخلاقية ، فهو يرى أن للضجة وظيفة اجتماعية كبرى ، لأنها هي التي تحرّك الأذهان وتُوقظ النائمين . ولولا الضجّات الكبرى التي زخر بها التاريخ لما استطاع البشر أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من حضارة جبارة . يعلّق الوردي على ذلك بالقول :
( إني أتمنى من صميم قلبي أن أكون من زمرة خالقي الضجّات . ولكني مع الأسف غير قادر على ذلك . فلست أملك من دنياي غير هذا القلم ، وهو غير كاف لخلق الضجة المنشودة في هذا البلد الأمين – عدنا إلى موضوعة البلد الأمين ، الكاتب - " (384) .
لكن هذا التحذير سيكتسب أهميّته ودلالاته بعد أن نكمل قراءة الكتاب . فالوردي هو أول كاتب عربي يعالج موضوعا علميا صرفا ومعقدا كالباراسيكولوجيا ويوظّفه فلسفيا واجتماعيا ليكون مدخلا لمناقشة وتفكيك المنطق الصوري الأرسطوطاليسي وعلاقة الوعي باللاوعي في تحديد فرص نجاح الفرد كعامل اجتماعي مضاف يفنّد من خلاله أطروحة " من جد وجد ومن زرع حصد " ، وقد ناقش في سياق بحثه فعل قوى اللاشعور الخلاقة التي تتعدى تلك الأطروحة ، وهذا ما يتضح في القسم الأخير من الكتاب : " ذيل : كلمة لابد منها " والذي انتقل فيه من العلم إلى الاجتماع فإلى السياسة :
( لقد درجت الطبقات الحاكمة في مختلف مراحل التاريخ على أن تبرّر حكمها الغاشم للرعية بشتى أنواع الحجج . فقد كانوا في القرون الوسطى مثلا يبرّرون حكمهم بأنه مُستمد من الحق الإلهي ، وأنهم جند الله أو ظل الله في أرضه . وبعدما بدأت الثورة الصناعية في الغرب لجأ رجال الحكم في تبرير حكمهم إلى حجة أخرى هي حجة : " من جد وجد " . فهم كانوا ينظرون إلى الشعب بعين الاحتقار على اعتبار أنه مؤلف من السوقة والأغبياء والكسالى الذين عجزوا عن النجاح .. إن مبدأ من جد وجد قد يصلح لتربية الصبيان والصغار ، ولكنه يُمسي مبدأ خطرا حين يعتنقه الكبار فهو إذا انتشر بين الكبار صار حجة بيد الأقوياء في أن يأكلوا الضعفاء وأن يسيموهم خسفا واستغلالا . فإذا أخذ الضعفاء يطالبونهم بحقوقهم قالوا لهم متبجحين : ( من جد وجد ) . وقد انتشر هذا المبدأ الخبيث في الحضارة الاسلامية" (385) .
ومن هنا يبدأ الوردي هجمته العاصفة على " جلاوزة " العراق .. وهذه هي المحاولة الريادية الأولى في الثقافة العربية التي يربط فيها باحث علما " فيزيائيا " جديدا وإشكاليا وبين ما هو نفسي واجتماعي وفلسفي ، والأهم سياسي .
وإذا كان الإهداء السابق شائكا لأنه يُربك المتلقي الذي قد لا يدرك مغزاه الخفي حتى النهاية أحيانا ، فإن " الإهداء " المتشفّي الذي وضعه لكتابه التالي : " وعاظ السلاطين – 1954" جاء " إعلانيا " وهجوميا على قطاع واسع من المجتمع ؛ قطاع شديد التحصّن اجتماعيا ومن الصعب جدا آنذاك اختراق دائرة مهابته وارتباطاته بالمقدس في المجتمع دينيا واجتماعيا ، خصوصا في المجتمع العراقي بتابواته ونواهيه المعروفة التي ترسّخت تاريخيا ، الوردي هو صاحب الريادة ، عراقيا وعربيا في الفعل الهجومي ، لا التحرّشي كما حصل في محاولات سابقة عربيا وعراقيا ، على المؤسسة الدينية ورجالاتها الذين " أهدى " إليهم كتابه هذا :
( أقدّم هذا الكتاب إلى وعّاظنا .. فقد ظل المجتمع الإسلامي يستمع إلى مواعظهم وخطبهم الرنانة مئات السنين ، فلم ينتفع بها شيئا . فقد آن الأوان لكي ينقلب لهم ظهر المجن فنعظهم – كما كانوا يعظوننا من قبل . إنهم دأبوا على وعظ المظلومين .. وتركوا الظالمين . لقد اتخذهم الطغاة آلات بأيديهم يصعقون بها الناس وينذرونهم بعذاب الآخرة ، فأنسوهم بذلك ما حلّ بهم في هذه الدنيا من عذاب مقيم . إنهم وعّاظ السلاطين ، وهذه هديّتي لهم " .
ومن عادة الكثير من المؤلفين أن يجعلوا الإهداء " إهداءً " إذا جاز التعبير ، أي أنه لا علاقة له بوظيفة تفسيرية تكشف مضمون الكتاب وهدفه المركزي . لكن الوردي يضع هذا الشرط أساسا لصياغة إهدائه .
ومن السمات الثابتة لإهداءات الوردي هو أنها " مقطعية " وليست من جملة أو جملتين . إنها تأتي في فقرة كاملة وطويلة تفسيرية الطابع . وإذا كان قد جعل عنوان إهداء كتابه خوارق اللاشعور : تحذير ، وإهداء كتابه وعاظ السلاطين : الإهداء ، فإنه يجمع المفردتين – مع تغيير طفيف – في كتابه الثالث وهو : " مهزلة العقل البشري " فيجعله : " إهداء وحذر " معبرا عن قصدية عالية :
( أهدي هذا الكتاب إلى القراء الذين يفهمون ما يقرأون . أما أولئك الذين يقرأون في الكتاب ما هو مسطور في أدمغتهم فالعياذ بالله منهم . إني أخشى أن يفعلوا بالكتاب ما فعلوا بأخيه " وعاظ السلاطين " ، من قبل ، إذ اقتطفوا منه فقرات معينة وفسّروها حسب أهوائهم ثم ساروا بها في الأسواق صارخين . لقد آن لهم أن يعلموا أن زمان الصراخ قد ولّى ، وحلّ محله زمان التروّي والبحث الدقيق " .
هذا ليس إهداء تقليديا ، إنه نمط جديد من الإهداء ؛ فهو أشبه بإعلان عن الكتاب . ثم أن هناك الصفة التحذيرية المُنذرة التي يوجّهها إلى الجهة المقصودة وهي ليست فردا محدّدا أبدا كما هو جار في الإهداءات السابقة التي جرى عليها الكتّاب العراقيون .
وفي كل الإهداءات تتضح السمة الساخرة ، مباشرة أو غير مباشرة ، تلميحا أو تصريحا ، حتى في إهداء كتاب أدبي لا صلة له باختصاصه كعالم اجتماع وهو كتاب : " أسطورة الأدب الرفيع – 1957" والذي قال فيه :
( أهدي كتابي هذا إلى أولئك الأدباء الذين يخاطبون بأدبهم أهل العصور الذهبية الماضية ، عسى أن يحفزهم الكتاب على أن يهتموا قليلا بأهل هذا العصر الذي يعيشون فيه ، ويخاطبوهم بما يفهمون . فلقد ذهب عهد الذهب ، واستعاض عنه الناس بالحديد ) .
وبمناسبة هذا الكتاب : " أسطورة الأدب الرفيع " فإنه يثير دورا رياديا آخر للوردي في الثقافة العراقية والعربيّة على ما أظن ، وهو أنه أول مختص بعلم الاجتماع يخرج عن دائرة اختصاصه العلمي ويتناول موضوعات أدبية كانت حكرا على النقّاد الأدبيين سابقا ، حتى أن الدكتور عبد الرزاق محيي الدين قد اتهم الوردي بالتطفل والفضول على اختصاص لا صلة له به حين رآه ينقد الشعر العربي . ولم يكتف بذلك بل دعاه إلى اختبار في نظم الشعر أو تلاوته عن طريق الإذاعة العراقية . وأضاف محيي الدين أنه متأكد من أن الوردي سيتراجع لأنه لا يعرف من الشعر إلا هذا اللغو المكرور كلما أراد أن يقول شيئا للناس عنه . ولكن الوردي بمكره الهائل وبحكم المصادفة المسمومة يعلّق على كلام الدكتور وفي فقرة عنوانها : "صدفة غريبة" :
" بعد ثلاثة أيام من نشر مقالة الدكتور محي الدين في جريدة البلاد ، كنت مارّا بسوق الوراقين ، فعثرت في بعض حوانيته على المجلد الرابع من مجلة " الأستاذ " التي تصدر عن دار المعلمين العالية ببغداد . ولشدّ ما كانت دهشتي حين وجدت في هذا المجلد مقالة للدكتور - يقصد الدكتور محيي الدين - عنوانها "الوازع الاجتماعي " . وهو موضوع من صميم اختصاص المسكين كاتب هذه السطور" (386) .
وتتضح الروح الديمقراطية والساخرة للوردي في تعليقه على هذه المصادفة الغريبة التي أوقعت الدكتور محيي الدين في "البئر" التي حفرها بنفسه :
( ليطمئن الدكتور أني سوف لا أتحداه أو أدعوه إلى امتحان في علم الاجتماع مثلما تحداني ودعاني إلى امتحان في نظم الشعر أو في تلاوته ... إن لكل إنسان الحق في أن يخوض في قضايا اجتماعية ) (387) .
وسوم: العدد 664