الأديب الكبير بدل رفو وأطفال الهند
أطفال الهند علموني
عاطفة الشاعر الزمنية ضرورة شعرية قيمة لاكتشاف الأشياء
عصمت شاهين الدوسكي
إن الملكات الشعرية في ريعان الشباب ليست كما هي في النضوج الفكري الذي يخلق شرارة روحية ، لتشع عبرها بالحياة ، رغم الحزن والآلام والمأساة والمساء الراكد ، رغم الكآبة والضعف والتدهور والموت ، شرارة تضيء عوالم الإنسانية ، ترتبط أجزاءها بالعاطفة الزمنية الراقية ، لتساعد في تكوين الصورة الشعرية التي تسهم في بناء القصيدة ، وفي نفس الوقت تغدو متعة حسية تشبع حنين الأعماق ، وترغب العقل البشري لرؤية العالم الخارجي ، فالصورة الشعرية من صميم العقل الإنساني ، الذي يهدف لإيجاد صلات مع كل ما هو حي حولنا وقريب من رؤيتنا لها ، ويمكن أن تكون الاستعارة تطابقاً للواقع ، الأديب بدل رفو بصوره الشعرية الرئيسية عن أطفال الهند دون أطفال العالم ، بطريقة تغني عناصر مهمة " الصبا والأمنيات – الفقر والعلم ، الحرية وروح الإنسانية " فالمعنى الذي يعطيه الصبا والأمنيات عن ما يعطيه الفقر والعلم والحرية الإنسانية " علاقة ضوئية في سياق قصيدة الشاعر بدل رفو " أطفال الهند علموني " وهذا العنوان مقتبس من إحدى أبيات الشاعر الكردي الكبير " عبد الله بت شيو " حين قال " أطفال موسكو علموني " ولا بد القول إن قصيدة الشاعر بدل رفو " أطفال الهند علموني " نسجت في غطار كلي موحد مع الإدراك الخلاق للشاعر ، الذي أضيف حجراً آخر لبناء القصيدة .
(( ترحل بك سنوات العمر
تفاجئك تجاعيد الفقر
تسافر بك قطارات الماضي المؤلم
ومواويل أزمنة لم ترسخ رعشة حب
صرير عجلات زمن مذبوح
تنفجر في نهارات وأمسيات معابد الهندوس
أمنيات ، ويمضي العمر ولا عسل أيضاً
في هند ستان يزغرد في ضحكات الأطفال السمر ))
نستنتج من تجاعيد الفقر وقطارات الماضي المؤلم والعمر الذي يمضي ، إدراك ووعي ناشط ، رغم إنها ليست من عالم أو رجل دين مختص ، بل واقع ملح من الشاعر للبحث واكتشاف متغيرات العالم ، كما يقول الطبيب الدانيماركي نيلز بور " إن الواقع الملح في كل إنسان هو البحث عن النظام والتناسق وراء الحجب والتغيرات في العالم " إن اكتشاف عالم الطفل في الهند أو في أي بقعة من العالم ، أكثر نبلاً وأهمية مع معرفة العوالم التي ترتبط بالطفولة كظاهرة أو نموذج حي مرتبط بالقوى الإنسانية والطبيعية ،التي تعتمد على بعضها ، وإن إدراك الروابط التي تخص الأطفال ، هو الذي يجعل الوعي الإنساني نبيلاً ، كما إن مهمة الشاعر فهم صورة الطفل في الحيز الزمني ، وبناء إحساسه الشعري بشكل منظم ومتناسق ، يمكن من خلالها نجد نظرته الشمولية للطفولة ، وحقيقتها الإنسانية ،عبر مبدأ الحب والخير والحرية والسلام ، لكل الأشياء ، كما أن الطفولة تعتبر مصدر عاطفة الشاعر الزمنية كضرورة قيمة يرتبط بواسطتها اكتشاف الرؤية والتناقضات والأشياء المختلفة في الحياة .
(( أطفال الهند علموني
كيف أعشق الماضي والفقر التعيس
علموني كيف أرقص
الشمس على عتبات أبوابهم
هواءهم ، ضحكاتهم ، بطولات زمن الفاسد
يتمرغ في جيوب مرتزقة الحياة
أطفال الهند علموني
أبكوني بعشقهم ، بأرواحهم النقية ))
هذا التداخل الفني ، الشعري ، مع الحياة بتداخل واقعي ومتخيل ، ينتج صور رائعة يميل إليها الشاعر ويتميز فيها ، ويخاطب الجانب اللا وعي فينا ، إنني أتعاطف مع الشاعر بدل رفو لحماسته الشديدة للأفكار والبحث والاكتشاف لعوالم الطفولة والتناقضات الإنسانية ،وفي نفس الوقت غاية الفن الشعري خلال الإمتاع الحسي والفكري " علموني أعشق الماضي ، الفقر التعيس ، أرقص ، هواءهم ، ضحكاتهم ،زمن فاسد ، جيوب مرتزقة الحياة ، أبكوني بعشقهم ، بارواحهم النقية " هذه صور جمالية ، أخلاقية ، اقتنصها الشاعر بشجاعة وفطنة نقد إيجابي ، فالنقد الواقعي من خلال الشعر يجلب البهجة ويضع النقاط على الحروف ، خاصة حينما نتطلع للصورة الشعرية ، كنظرية مرموقة ، وفكرة ضليعة بهالات جمالية وإبداعية تتكور في متعة شعرية تعتمد على أفكار نقدية بتحليل نفسي وتأويل فكري ، وبقدر ما هي استعراض لصورة أطفال الهند الرمزية والواقعية ، كان محقاً الشاعر بدل رفو أن يمزجها بخيال شعري ، نقدي ، إنساني ، وهو نمط مهم من النمو الحسي ، مع إضافة صور أساسية كالتشبيه والاستعارة والتشخيص ، وهو إبداع يساعد الشاعر في نظم قصيدة صورية راقية ، وإن زودت ببعض الأفكار التجريدية بقوة إيحائية ، من خلال الأسلوب الذي يستخدمه الشاعر ليكشف عن شيء أو أشياء لم ندركها من قبل ، وبعباراته الإيجازية التي لها أهمية كبيرة في إثارة العواطف والاستجابة للعاطفة الشعرية .
(( كدحهم للحظات الجري وراء العسل والحرية
ولكن لا عسل في هند ستان
هرمت وأنا أركض وراء العسل
وتظن الروح مغردة فجراً ، نهاراً
شعباً يقاوم تجار البشر وباعة الضمير
والشعر والإنسانية
ولكن تظل الكلمة شعراً ، إنساناً
أطفال الهند لم يولدوا بعد
والزمن في حضرة الأمراء غدا ذلاً
ربما سيولد غاندي جديد لحرية الأطفال
ولكن !! العسل يا غاندي ))
إن الرمزية أتت في مكانها الصحيح بتأثير الهواجس العاطفية والزمنية للمضمون الشعري ، " العسل ، الأطفال ، غاندي " كرمز للحرية والبراءة ، رغم إنها ليست الأشياء الفورية التي توحي بالبراءة ، رغم ارتباطها بالأطفال فالعسل رمز الشفاء والدواء والنقاء ، غاندي رمز الحرية والعدل والحق ، إن هذا الأثر العاطفي ،الإنساني ، أحسسته يوحي ببعد زماني ومكاني ، يبعث الحنين إلى الخوالي ، وبخيل إلي إن هذا الأثر أكبر من أطفال الهند أنفسهم ليسع أطفال العالم كله ، رغم إن الشاعر بدل رفو يصف أطفال الهند " رغم فقرهم الشديد ، فهم يعشقون الحياة ، بصورة جنونية ، ورغم مآسيهم فهم يتوقون لتحقيق أحلامهم ، ورغم كل شيء فهم يتغنون للحياة للإنسانية ، وهم لا يحقدون ، ولا يحسدون ، فهم عشاق الطفولة ، وقد تعلمت من أطفال الهند ما لم أتعلمه من بعض رحلاتي " وكل هذه الصور ومنها " الصبا والأمنيات ، الفقر والعلم ، والحرية والإنسانية " استخدمت كصفات ورموز تعطي الصورة الحقيقية بكل ألوانها الإنسانية بقوة الإيحاء والتأثير الشعري ، فالفكرة العامة التي تنقلها القصيدة هي براءة الأطفال وقوة علمهم الغير منظور في عالم مليء بالتناقضات والانتكاسات والهزائم ، ورغم هذا فهم نسوا الدنيا وما فيها وتحولوا كعصافير وسط حطام الحضارات الإنسانية ، ومهما يكن فبجدر الإشارة إليها بين النغمة العاطفية للصورة الشعرية وبين التركيز المكثف لها لتحقق عنصر الوضوح في المضمون وإيصال الأفكار بشكل مثير وسلس وجميل .
وسوم: العدد 664