قراءة انطباعية في رواية بيلان لموسى رحوم عباس
بيلان ...المكان الذي مات ...و لم تغادره الحياة !
اسم الكتاب : بيلان ( رواية) - تأليف د. موسى رحوم عباس- بيروت – دار بيسان- ط1 2011
الاهداء: الى أهلي الذين لم يتمكنوا من قراءة هذه الرواية لانهم أميون أحبكم.
بيلان هي العمل الروائي الأوّل لموسى رحوّم عباس , و هناك مقولة مفادها أنّ العمل الروائي الاول للكاتب غالبا ما يكون وثيق الصلة بحياته و تجاربه و مجتمعه القريب. يورد الكاتب في مقدّمة الرواية أنّ كسرة مُريبط هي الحقيقة الوحيدة في هذه الرواية, و لكن عبر هذه الحقيقة الوحيدة سوف تتبدّى لنا حقائق اجتماعية و بيئية و سياسية وثيقة الصلة بالمكان الذي مات و الى الابد, كسرة مُريبط التي غمرتها بحيرة سد الفرات و ماتت ( الأموات يُدفنون مرتين ), مرة يدفنون ما تبقّى من عظام موتاهم قبيل الرحيل, و مرة يدفنون ذاكرتهم و لكن دونما جدوى ..لقد عادت الذاكرة الجمعية للمغمورين في هيئة سرد روائي اسمه بيلان!
بيلان سيرة القهر و التقهقر الحضاري , سيرة النضال على قيد البقاء وسط تأمر الجغرافيا مع السياسة, عندما قرر العسكر الذين استلموا السلطة 1970 تغير الجغرافيا و الديمغرافيا بشكل قسري, و تهجير عشوائي لسكان كسرة مريبط و قرى أخرى , و تهجيرهم عشوائيا الى جغرافيا غير مرحِّبة بعيدة و من دون تنظيم , او الصاقهم بعشوائيات المدن, هنا تبدو مشروعيّة التمرد , حسين أو كما يدعوه أهل القرية حسينوه , أو الشرّ الذي لا بدّ منه , عاش متمرّدا على عرف مجتمعه و قهر السلطة ممثلة بالشرطة, بما كلّفه أن يعيش متخفّيا عن أعين العسس في الرقة بقية حياته, عاش مفصولا عن الآخرين ببيلان! و لكن ما هو بيلان؟
بيلان هو رمز الانقسام و العبور المأزوم بالرواية , بيلان هو " واد يفصل القرية الى حيين شمالي و قبلي, هو واد مزدحم بالفلاحين و الورَّادات المتجهات للنهر لجلب المياه للبيوت" ص 25 , هو واد يقسم كسرة مريبط الى طريقتين صوفيتين متصارعتين , بيلان "ذلك الفاصل بين عالمين متنافرين متلاقيين" -ص45 و لكن بيلان كسرة مُريبط يتجه غربا الى حلب ليصبح شارع بارون , و هو على حدّ تعبير المهندس صالح " يقسم المدينة الى عالمين , إن لكل مدينة يا ميرنا بيلانها ففي قريتنا بيلان جسر بين عالمين و كثيرا ما سالت نفسي من اين لأهلنا هذا البيلان ؟ " ثم يتابع بيلان مسيرة غربا أيضا ..الى تطابق الجغرافيا مع التاريخ العسكري للغزاة , " حتى عرفت ان بيلان ممر شهير في تاريخنا يفصل بين جبلين هما الجبل الاحمر في الجنوب و جبل النور في الشمال, و هو الممر الوحيد في جبال الامانوس على الساحل السوري مرت منه جحافل الاشوريين و الفرس و الرمان و العرب المسلمين بقيادة ميسرة بن مسروق العبسي و منه عبرت الحملة الصليبية الاولى و المماليك" -ص 100 . إنّ السيرة الروائية لا تدعو للتفاؤل تماما كسيرة الواقع , التمرد مرفوض حيث ينتهي المتمرد حسينوه كرافد صغير و لكنه من الدم.. حيث يموت بطريقة عبثية في قضية ثأر لا ناقة له فيها و لا جمل! عندما تقرأ بيلان أنت تعيش الحدث و تنبش الذاكرة.. شيء أشبه بالحلم ...عالم ذهب لم و لن يتكرر ..لقد داهمه طوفان الغمر ..و انتشلنا جثث الاجداد على عجل و نسينا الذكرة! عالم غني بالتفاصيل و الوجع ..عالم عبثي يموت فيه الانسان حسينوه من اجل لا شيء ! عمل يوثق فنّيا للمجتمع الفراتي ..يرصد تأثير السياسي على حياة الناس ..يرصد اجتياح الحداثة الزائفة للمجتمعات التقليدية ..مجتمعات منقسمة على نفسها.. تحاور ذاتها ..في كل قرية ممر بيلان ..في كل مدينة و في كل انسان منّا بيلانات..العمل مرشح بقوة ليكون فلم روائي طويل ... بيلان اضافة الى كونها حكاية ممتعة , احتوت على نصوص فيها من الاختزال و الشاعرية الكثير سأثبت مقتطفات منها استوقفتني. *كانت تنتفض كعصفور باغته الشتاء عيناها غائمتان و رائحة التراب البكر تمتزج بحناء ذوائبها كان يفشل في كل مرة يحاول فيها رسم الحدود بين الحنطة في وجهها و حقول القمح في تلك القرية التي نسيتها الخرائط ,,,طريد في مدن لا تذكر اسمائها ولا تعرفك تعيش في كهوف الحزن و اقبية الخيبة تهرب من وهج الشمس مجترّا آلامك ..تراها في كل الاشياء"- ص 154 *ها أنتَ طريدٌ دون أن ترتكب جرما , انها دورة محكمة من القهر, و انت كوكب يدور في هذا المدار منذ الازل , لا يستطيع سر هذا الناموس, لقد مُنحتَ فترة اضافية للحياة حتى ظننت ان الغيوم قد انقشعت, فانفرجت الارض عن وجه قبيح يسدّ عليك الطريق"- ص 151
*طريدٌ أنتَ يا حسنوه تحملُ خوفكَ عقالا على رأسكَ لا يبارحك , مطاردٌ في طفولتك باليتم و الفلقة, مطاردٌ في شبابكِ بالجوع, ترى خلف كل سور فوهة بندقية مصوبة الى صدرك , و تحت كلِّ لثام عينا حادة تراقبكْ , تتحوّل المدينة الى سكّين يخترقُ القلب كل صباح" - ص 151
*ما تزال مرفوعا على الفلقة و ترتفع العصا و تنخفض على قدميك الخشنتين, قد لا يكون الضرب مؤلما يا حسينوه ! لكنَّ عورتكَ ماتزال مكشوفة يراها الآخرون , رغم انك اعتدت لبس السراويل منذ أن استوطنت ارض هذه المدينة . ترى ما فائدة سراويل لا تستر عورة !" - ص 145
وسوم: العدد 669