رواية "السّماءُ قريبةٌ جدا" ...
فِكرٌ إجتماعيٌّ سياسيٌّ جريء
خرج عن المألوف بحروفه الجريئة، وأفكاره التّحرّريّة، وأقوال أبت إلاّ أن تُعارك الحقيقة. لقد سرق لحظات حياته من الوجود، وراح يُغازل بياض الأوراق بريشته الخاصّة، وكتبَ أنَّ الشّرف الإنسانيّ لا يُقاس بما يُغطّي أجسادنا من الأقمشة، ويدُكُّ جدار الزّمن بمعوله فيُسمع العالم الحُر صدى وهَول المصيبة. كتبَ الأديب "مشهور البطران" في لحظات قلق جميلة، كتبَ وظهرهُ للعراء يخافُ المكيدة، وقف عند الحواف، فلا مكان آمن لخطواته المسلوبة، وكل المناطق أمامه باتت ملغومة. في هذه اللحظات النّادرة خطَّ قلمهُ رواية "السّماءُ قريبةٌ جدًا" الصادرة عن دار فضاءات في الأردن للعام 2016 والتي تقع في 223 صفحة من الحجم المتوسط. تحمل هذه الرّواية قصصًا من عمق المجتمع الفلسطينيّ، تُحاكي نبض الشّارع اليوميّ، فهي لم تأتِ بمأساة جديدة، سوى أنها كانت تُخاطب الهواجس الدّاخليّة المُتردّدة والمُتخبّطة في فِكر وقلب الفلسطينيّ. حاول الكاتب إستدراج القارئ من بين السّطور والفقرات، إمّا عن طريق الحوار بين الشّخصيات أو عن طريق بعض الحِكم والمواعظ. تألّق هنا في التّشابيه البلاغيّة والمحسنات البديعيّة، فخاطب الجسد والرّوح معا، ولقد هام بالخيال المنطقيّ الذي نستطيع أن نحصد من بذوره رُطَبًا جَنيّا.
"زيدون الرّافعي" تلك الشّخصيّة المحوريّة في هذه الرّوايّة، إبن بلدة "الدّير" الخليليّة، قرّر السّير على خُطى الثّوار، فجاب البراري طريدًا ومطلوبا، يُعاقر جنود الإحتلال من ناحية، ويتربّص للعملاء من ناحية ثانية، وتم إعتقاله والحكم عليه بالسّجن لمدّة طويلة جدا. يُحدّثنا الأديب "البطران" عن التّغييرات النّفسيّة والعقليّة التي تحدث مع السّجين داخل المعتقل وإعادة الحسابات، ويكثر الحديث عن الأمل الذي لا بدَّ أن نؤمن فيه دوما، وقد تحقّق الحلم بخروجه مبكّرًا من خلال صفقات تبادل الأسرى. لم يتردّد الكاتب في إقحام دور المرأة في عمليّة التّحرّر والقيادة وانخراطها في الثّورة ضد المحتل؛ عاشت "نبيلة" في جلباب زوجها وانتعلتْ خُفَّيه لتُكمل المسير وتبني له منزل أحلامه بالقرب من "جبال العلالي" حيث السّماء تلامس الأرض. عملتْ على تربية أطفالها كما أرادت وارتأتْ لهم، فكان "عزّت" الإبن الأكبر الذي درس التّاريخ، وفهم أصل الحكاية، وفرّق بين المزيّف منها والحقيقة، وصار على درب أهل السِّلم والتّروي والعقلانيّة. تعرّف على "أمل" اليافويّة وأحبّها، وبعثت في روحه الأمل إلى إسترداد الجزء المسلوب والمنكوب من حياة الشعب الفلسطينيّ. كذلك دمج الكاتب الأديان في روايته، وجعل من الرّاهبة القدّيسة المُخلّصة ملاك رحمة، إذ داوتْ جراح "زيدون" وجبّرتْ له كسره وأطعمته وخبّأته في كنيسة بالقرب من مدينة رام الله. لقد أثار فينا قلمه عاطفة عامّة، وأثار في الرّاهبة عاطفة خاصّة، لتجسَّ قوة إيمانها وعيش المغامرة خارج جدران المعبد. إنَّ الأديب لم يخرج قيد أنملة عن الثّوابت الوطنيّة، إلاّ أنه في نفس الوقت كان يطرح أيدولوجيّة غائرة في الكثير من هذا الشّعب. طرح في الرّواية مسألة السّلام وليس الإستسلام، وتكلّم عن "إسرائيل" بأنّها فرضت نفسها بالقوّة، وكذلك فرّق الكاتب بين الصّهيونيّة، وهي رأس الأفعى، وبين اليهوديّة كديانة عاشت مع العرب منذ قديم الزّمان.
تعدّدت الحبكات في الرّواية، وعنصر التّشويق متواصل، في الوقت الذي يصعب على القارئ ترك صفحات الأحداث، ويستعجل الزّمن ليسير به عبر السّطور لمعرفة مصير الإبن "عزّت" الذي يراقبه جهاز الشاباك ليوقع به في شباك العمالة. في هذه اللحظات، خلق أديبنا فكرة الإنتقام حين رأى "عزّت" دبّورًا يزِنُّ من بعيد، وقد تعثّر فجأة بحبائل عنكبوت، تخبّط الدّبور بكبرياء عقيم، لكن العنكبوت هبطت من عليائها بهدوء وأجهزت عليه بلسعات قاتلة، ثم لفّته بخيوطها الجهنّمية. فكانت هذه نهاية "شاؤول" الذي حاول العبث مع الإبن، فسبح في بحر دمائه من رصاصة قاتلة، فأصبح بعدها طريدًا كما كان والده. يخجل الموت أحيانًا من الأبطال إلاّ أنه يعانقهم بلهفة وإشتياق، أُستشهد "زيدون" ثأرًا لأحد العملاء الذي تم تصفيته قبل سنين طويلة، ولم تهنأ "نبيلة" بمنزلها الجديد بعد أن هدمه الإحتلال في أبشع صور الحقد الذي تحمله الصّهيونيّة ضد شعبنا.
أثرانا الكاتب "مشهور البطران" بالكثير من المفاهيم الفلسفيّة والمنطقيّة التي تلمس مشاعرنا وأرواحنا وحقيقة تواجدنا، فكانت الرّواية مليئة بالأحداث ذات المغزى البنّاء، وأفكار وحلول إيجابيّة قد تكون غابت عن ذهن النّاس. "السّماءُ قريبةٌ جدا" رمز للعدالة حين يُدرك الشّرفاء أنَّ الأرض، يومًا ما، ستعانق السّماء عناقًا أبديا، حينها لا داعي للمطر لأن الأرض لن تعطش، وسترضع مباشرة من أثداء السّماء، والنّاس سيحلبون الغيوم بأيديهم.
وسوم: العدد 671