علي الوردي : (61) تبرير الوردي لسمة التكرار والثبات في أسلوبه

ومن السمات الأسلوبية الأخرى للوردي هي سمة " التكرار " . إنه يعيد الفكرة أكثر من مرة في مقالاته ومؤلفاته ومحاضراته ومقابلاته الصحفية . وحين نقول التكرار فنحن نقصد الإعادة المجردة للأفكار ذاتها التي يطرحها في مناسبة معينة ، ويعيدها بلا إضافة ولا حذف في مناسبات أخرى . ولشدّة تكراره لأفكاره ولبروز هذه الصفة بشكل واضح للعيان فقد أطلق عليه بعض الكتاب والنقاد لقب " الدكتور صاقول " على أساس أنه يعيد الأفكار ويمعن في صقلها بدرجة مفرطة . والوردي نفسه يعترف بذلك ، حيث يقول :

( أطلق أحد القرّاء عليّ لقب الدكتور صاقول ، فأنا في رأيه أعيد وأصقل في بعض الآراء بلا حدود . والواقع أني يجب أن أعطي الحق لهذا القاريء فيما وصفني به ، ولكني مع ذلك أرجو منه ومن غيره من القراء أن يعذروني في هذا التكرار الذي تتصف به كتاباتي ومحاضراتي ، فهناك سبب يدعوني إليه) (431) .

ويرتبط السبب الذي يطرحه الوردي لسمة التكرار بمواجهة رسوخ الأفكار المظلمة المضادة التي كان من يتبنونها " يكررونها " ويعيدون طرحها ليل نهار . ولا ننسى أن من الأسس النفسية السلوكية لعملية التعلم ولوظائف الذاكرة هو " التكرار " . يقول الوردي :

( يجب أن لا ننسى أن مجتمعنا مرّت به فترة انحطاط حضاري دامت نحو ستة قرون ، وهي الفترة التي سميت الفترة المظلمة . فقد سيطرت علينا في تلك الفترة قِيَم غير حسنة كما سيطرت علينا مفاهيم ومقولات فكرية أضرت بنا كثيرا. وقد أصبح من واجب كتابنا ومؤلفينا أن يتعاونوا في مواجهة تلك القيم والمفاهيم .. وفي رأيي أن معالجة تلك القيم والمفاهيم أهم جدا من معالجة بعض المواضيع الهامشية التي يهتم بها بعض مؤلفينا وكتابنا .. والملاحظ أن هؤلاء المؤلفين والكتاب ظلوا يعيدون ويصقلون تلك المواضيع على مدى عشرات السنين دون أن يقول لهم أحد : لماذا ؟ ) (432) .

وقد حاول الوردي تقديم تبرير لظاهرة التكرار في كتاباته لأحد الصحفيين قائلا :

( أنه يعيد ويصقل ليتأكد من أن من سمع الموضوع فهمه تماما ليتسنى له الانتقال إلى موضوع سواه ) .

ولكني أعتقد أن هذه الظاهرة تعبّر عن جانبين : الأول هو أن أفكار الوردي محدودة ، وهي لا تزيد عن الأفكار التي طرحها في محاضرته عن شخصية الفرد العراقي سنة 1951. فمن يعود ليدرس ويحلل تلك المحاضرة يجد أنها قد تضمنت الموضوعات الأساسية التي بقي الوردي مخلصا لها مدى الحياة ولم يقم بأكثر من توسيعها وإغنائها وإثرائها بالشرح والمناقشات والبراهين وهو أمر ليس يسيرا ويتطلب جهدا معرفيا هائلا . في تلك المحاضرة نجد موضوعات مثل : الشخصية البشرية وتكوينها ، اللاشعور ، قصور العقل البشري ، الإزدواجية ، التناشز الاجتماعي ، صراع البداوة والحضارة ، مشكلة تعقد قواعد اللغة العربية ، أطروحات ابن خلدون ، الخارقية ، الأنوية ، التنويم الأجتماعي ، الاحلام والتنويم المغناطيسي ، مشكلة المرأة والحجاب والسفور ، الشكوى في المقام والغناء العراقي ، والسبع والمخنث ، الشقاق والنفاق وسمة الجدل ، العصبية القبلية ،الشقاة ، الكبت والانحراف الجنسي ،الأطفال والتربية الزقاقية ، الأبراج العاجية ، الشعر والمديح ، بذور فكرة وعاظ السلاطين ، .. إلخ .

وهذه الموضوعات هي التي استمرت مع الوردي يعيدها ويصقلها في كتبه المختلفة . وبعض هذه الموضوعات طرحها الوردي في محاضرته كأفكار سريعة لكنه قام بتوسيعها لتشكل مؤلفات مستقلة . ففكرة الازدواجية وصراع البداوة والحضارة وغيرها توسعت لتشكل كتاب " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي " ، أما فكرة الأحلام والتنويم المغناطيسي والإيحاء فقد أشبعها بحثا في كتابه " الأحلام بين العلم والعقيدة " .. وهكذا ، لكن نوى الأفكار الجوهرية هي هي لم يمسها التغيير أو التحوير إلا القليل والقليل جدا . لنأخذ على سبيل المثال كتاب " في الطبيعة البشرية " الذي قدم له " سعد البزاز " وأصدره عام 1996 أي بعد وفاة الوردي بسنة ، وكتاب " حديث الثمانين " الذي حققه "سلام الشماع " وأصدره عام 1996وفيه أحاديث كتبها الوردي وهو في الثمانين من عمره ، فسنجد أن الأفكار التي طرحها الوردي كانت هي هي التي طرحها قبل أربعين عاما ، والمشكلة أن الكثير منها طُرح بنفس المصطلحات والجمل والعبارات وكأن صفحات كاملة نقلها الوردي من كتبه القديمة . على سبيل المثال :

# في كتابه : ( خوارق اللاشعور ) تناول الوردي موضوعات هامة مثل المنهج الأرسطي ( الصوري ) في الفصل الثاني ثم عاد وتناوله في كتابه التالي : وعاظ السلاطين في مواضع مختلفة . أما في كتابه ( مهزلة العقل البشري ) فقد تناول الموضوع نفسه من جديد خصوصا في الفصل الثاني : ( منطق المتعصبين ) ، والرابع ( عيب المدينة الفاضلة ) ، والثامن : ( مهزلة العقل البشري ) . ثم أعاد نشر فصل عنوانه : ( مهزلة العقل البشري ) كملحق لكتابه : ( الأحلام بين العلم والعقيدة ) كان في معظمه إعادة موسعة نسبيا لأطروحاته في الفصل الثامن من كتابه السابق والذي يحمل العنوان نفسه . وفي عام 1962 الذي شهد صدور كتابه : ( منطق ابن خلدون ) يخصص الوردي الفصل الأول من القسم الأول والذي يحمل عنوان : ( خصائص المنطق القديم ) وهو في معظمه تكرار لمضامين أطروحاته السابقة في هذا المجال مع تكرار بعض الأمثلة . ولعل الدليل الأكبر والقاطع على سمة التكرار في أسلوب الوردي أو ( الروح الصاقولية ) كما يسميها هو نفسه ، هو أن آخر كتاب صدر له هو مجموعة الأحاديث التي جمعها ورتبها الأستاذ ( سعد البزاز ) في صورة أجوبة لأسئلة ضمّها كتاب حمل عنوان : ( الطبيعة البشرية ) وصدر عام 1996 أي بعد وفاة الوردي بسنة ، فسنجد أن الموضوعات المرتبطة بالمنطق الصوري والتي طُرحت في الكتب السابقة وحتى مع أدق التفاصيل قد أعيد ذكرها في الأقسام : حول العقل ، حول الأنوية ، عودة إلى العقل ، وحول المنطق العقلاني . إن مثلا ضربه الوردي عن الاهتمام المرضي للجيل القديم بالثقافة الشعرية وهو ما ذكره السيد ( هادي الجواهري ) شقيق الشاعر محمد مهدي الجواهري عن قضاء الليالي في المطاردات الشعرية والتقفية وذلك في مقالة له نشرها عام 1968 ذكره الوردي وعلق عليه في المواضع الآتية :

1-أسطورة الأدب الرفيع

2-لمحات من تاريخ العراق الحديث – الجزء الأول

3-حديث الثمانين

4-علي الوردي يدافع عن نفسه

5-في الطبيعة البشرية ..

ويمكننا القول نفسه عن الكثير من الموضوعات والأمثلة الأخرى . والوردي نفسه أحس بسمة ثباته الأسلوبي وتكراره طرح الموضوعات وصقلها وذلك حين أشار إلى

( أن قيام ثورة 14 تموز قد هزّ عقول الناس وقلب مفاهيمهم ، وصارت الثورة تحتاج إلى كتاب وأدباء من نوع جديد يختلف عن ذلك النوع من الأدباء والكتاب الذين اعتاد عليهم الناس في عهد مضى ) (433)

وهو بذلك يشير إلى نفسه ، وإلى جموده الأسلوبي الذي أشار إليه العديد من الكتاب . ويمكننا القول بصورة قاطعة إلى أن هذا الثبات والتكرار لا يعود إلى فقر معرفي يعاني منه الوردي ، أو إلى ضعف في ملاحقة المتغيرات الاجتماعية والثقافية في العراق والوطن العربي والعالم . فالوردي هو صاحب المكتبة التي تضم أكثر من خمسين ألف كتاب ومخطوطة ، وكان حريصا على متابعة أغلب ما ينشر في الصحف العامة والمتخصصة في داخل العراق وخارجه . وقد روى لنا أساتذة ثقات أن الوردي كان يبذل جهودا كبيرة للحصول على مصادر ومراجع صدرت حديثا حتى من دول يحضر التعامل معها سياسيا من قبل الحكومة وذلك لأهمية تلك المؤلفات بالنسبة لبحوثه ودراساته . وكل من عاش قريبا من الوردي كان يعلم مقدار متابعة الوردي للظواهر التي تجري في المجتمع وحرصه على فهم دوافعها والعوامل الفاعلة فيها والنتائج التي تترتب عليها .

إن العوامل الأساسية التي تقف وراء ظاهرة التكرار لدى الوردي تكمن في جانبين : الأول هو أن الوردي ذاته كان ( ضحية ) القوقعة الفكرية والغشاوة اللاشعورية اللتين تحدث عنهما في مؤلفاته كثيرا واللتين تتدخلان في تحديد الظواهر والحوادث التي يلتقطها الإنسان ( العادي والباحث على حد سواء ) ودرجة الأهمية التي يمنحها لها والكيفية التي يعالجها بها والمساحة التي يعتقد أنها تفعل فعلها فيها زمانا ومكانا . وقد تضاعف تأثير هذا العامل بفعل طبيعة البنية الشخصية التي كان عليها الوردي . هذه البنية التي حلّلناها تفصيليا في كتابنا : ( محاولة في تحليل شخصية الدكتور علي الوردي ) بالإشتراك مع الباحث سلام الشمّاع . أما العامل الآخر فيتمثل في أن الوردي لم يكن يرى تغييرا جوهريا في البنية النفسية والاجتماعية للفرد العراقي تجعل أطروحاته الأساسية التي نشرها في عقد الخمسينيات متخلفة عن التطور الذي حصل في المجتمع العراقي . فحتى قبيل وفاته كان الوردي يؤكد على أن الازدواجية والتناشز الاجتماعي وصراع قيم الحضارة والبداوة ، مازالت هي الفرضيات الأساسية التي تحكم حياة المجتمع العراقي.

وسوم: العدد 672