قراءة في نص "عد النبض" للشاعرة اللبنانية مادونا عسكر
تعاليم المقدس واستجابة المحبّ المنتشي
أولا: النصّ
قال: "سيري إلى هناكْ
حيث شعريَ وصل مبينْ
وقصائدي ضفائر صبيّة نامت على كتف اليقينْ
سيري في ظلام اللّيلْ
فاللّيل نهار تحرّر من الضّوضاءْ
وفرح أغواه الحزن حدّ البهاءْ.
سيري ولا تقفي
إليَّ أقبلي ولا تنامي
انغمسي في كروم تاهت عناقيدها
بين أنين اللّقاء ولذّة المسيرْ
اتبعيني إلى ضفاف الغروبْ
إلى ارتحال الكلماتْ
هيّئي غاباتنا البيضاءْ
أعدّي تناهيد عشق جديدْ
واثبتي فيّ بي
إلى أن يحين موعد الظّهورْ".
قال وأصغيتْ
تراءى وتدانيتْ
وإذا بالنّبض ينهملُ يلملم حزني
ويطفو على عينين فارقها السّباتْ
مذ عجزت عن تعداد النّبضِ
فمن يعدّ النّبض لا يقوى على رياح الحبِّ.
ثانيا: القراءة
تفتتح الشاعر مادونا عسكر هذا النص بجملة فعلية ماضية متصدرة بالفعل "قال"، وكأنها تنقل خبرا مقدسا عن مخبر ذي قدسية خاصة، وبذلك فإنها تنبئ عن حالة من الوجد تعلن عن ذاتها من أول كلمة في النص، وليس أول كلمة وحسب، إنما أول الفعل الذي سينفتح على أفعال كثيرة تنتشر في كل أجزاء النصّ.
ثمة طرفان هنا، مخاطِب ومخاطَب، مخاطِبٌ يلقي التعاليم ويسير بالمخاطَب نحو دروب من الوصل المحفوف باليقين، فالليل أضحى نهارا متحررا من فيزيائيتين في الوقت ذاته؛ متحررا من ضوضاء النهار، ومتحرراً كذلك من الظلمة المكدسة، إنه تغير في الطبيعة، ليصبح الوقت نهارا هادئا سلسا ليس فيه ما يعكر الاستماع والإصغاء والتلقي، لتنهال الأفعال متتابعة واحدا وراء آخر، ولأن الفعل ذات قيمة وجدانية خاصة فإن الشاعرة اعتمدت على صيغتين متعاضدتين لتحملا معنى واحدا "سيري ولا تقفي"، "أقبلي إلي ولا تنامي"، ولكنها عندما تتخلص من حد التجاوز لمرحلة ما يصبح الفعل واحدا متتابعا "انغمسي، اتبعيني، هيئي، أعدي، واثبتي". إن ما يلاحظ على هذه الأفعال أنها حركية تتناغم وفعل المسير المتتابع، ولكنه ليس مسيرا دون هدف، ولذلك انتهت التعاليم عند حد الثبات، مع أنه ثبات المترقب وليس ثباتا نهائيا "إلى أن يحين موعد الظهور".
ماذا سيحدث بعد ذلك الظهور؟ هنا يقف النص عن الإجابة، لينقل لنا حالة المخاطب في تلك اللحظة المرتقبة، فيعيدنا إلى أول النص "قال"، وكأن الشاعرة تكثف الكلام مرة أخرى، بإعادة الفعل الأول المرتكز عليه كل النص في جزئه الأول، ليأتي النص حاملا موقف المخاطب المأخوذ بتلك القداسة الرهيبة الهادئة، "أصغيت، تدانيت، ينهمل، يلملم، يطفو"، وهنا يعلن النص في جزئه الثاني عن مقابلة في الصياغة؛ فإذا كان الجزء الأول من النص اتكأ على الفعل "قال" فإن الجزء الثاني منه اتكأ على الفعل "أصغيت"، فلكل فعل ما يقابله، فكما كانت أفعال الجزء الأول "انغمسي، اتبعيني، هيئي، أعدي، واثبتي"، جاءت أفعال الجزء الثاني مكملة لها "أصغيت، تدانيت، ينهمل، يلملم، يطفو"، وربما هذا ما يكشف عن طبيعة ذلك التجانس بين المخاطب والمخاطَب، فقد انتهى الجزء الأول بالفعل "اثبتي" في حين انتهى الجزء الثاني بالفعل "يطفو"، فقد عبر المخاطب عن استجابته، لتلك التعاليم، فثبت فيه وبه ليكون الفعل الأخير "يطفو"، ولعل هذا الفعل يشير إلى انعدام أو تجرد في الحركة، فكأنها مقابلة ضمنية للفعل "اثبتي".
ومن ناحية أخرى تصل الشاعرة في النص إلى أعلى مراتب اليقين التي أشارت إليها في الجزء الأول، لينتهي النص بجملة، يطلق عليها البلاغيون القدماء مصطلح "التذييل"، وهو أن ينتهي النص بجملة تصلح أن تكون مثلا أو حكمة عامة "فمن يعدّ النّبض لا يقوى على رياح الحبِّ"، فجاء النص متكاملا في حركاته الإيقاعية الثلاث؛ تعاليم المخاطب، واستجابة المتلقي، وخاتمة النص العامة التي تصلح أن تكون مثلا سائرا.
وأما على صعيد الإيقاع والألفاظ، فإن النص مبني على الكلمات ذات الجرس الهادئ اللطيف، فكأننا في حضرة المقدس خاشعين نتلقى ونستمع ونمتثل، فجاءت الألفاظ حاملة لكل ذلك الهدوء النفسي المتبتل في حضرة ذلك المتجلي، فلا تكاد تجد كلمة شاذة عن هذا الهدف المحمل بالطاقة الكونية التي ترتفع بالنص والناصّ والمتلقي إلى مصافّ التجلي والإصغاء الهادئ المسكون بالروعة والمأخوذ بالجلال والرهبة بمعناهما الإيجابي الكامل، ليعبر عن ذلك كله كلمتان تلخصان النص وتحملان كل ذلك الهدوء والسكينة الكامنتين فيه "عدّ النبض"، فمن ذا الذي يمكنه عد النبض سوى من امتلك القدرة على الحب بكل هذا الخشوع، وإن أعلن أنه "لا يقوى على رياح الحبّ"؟ ولكنه في الحقيقة تصريح المنتشي به ومن يطلب منه المزيد، ليظل النبض حاملا لذلك الحب العنيف في هدوئه ولا ينقطع، ما دامت العلاقة يحكمها المقدس الذي لا يبلى ولا ينتهي، وما دام أن هناك محبّا منتشيا يصغي ليكون هو ذاك المقدس الذي امتثل فكان حبيبا لا يروم فكاكا عن حبيبه الذي يستحضره في غنائه وابتهالاته الدائمة.
وسوم: العدد 673