علي الوردي : (66) الدعوة للديمقراطية كبديل عن العنف

إن من المواقف الريادية للدكتور علي الوردي هي الدعوة المصرة على الديمقراطية كحل وحيد لاحتواء الصراع الطائفي من ناحية ، ولتحقيق الاستقرار في العراق والتخلص من الانقلابات العسكرية وموجات العنف من ناحية أخرى . لقد كان مصرّا تماما على أن الحل الحاسم لاحتواء الامتدادات العنفية للشخصية العراقية وللسلوك العدواني المتميّز بتفجراته المدمرة تاريخيا ، هو " التدريب " الهاديء الصبور والحكيم على الممارسة الديمقراطية .. 

كان الوردي يرى أن الوضع القائم في العراق يحتاج إلى تخطيط ومعالجة موضوعية ، وأن من أهم الوسائل في هذا المجال هو تعويد الشعب العرقي على الحياة الديمقراطية وجعله يمارسها ممارسة فعلية ، لأنها تتيح له حرية إبداء الرأي والتصويت دون أن نسمح لفئة منه بأن تفرض رأيها بالقوة على الفئات الأخرى . . وهو يضع نصب عينيه الاعتراضات " التقليدية " التي سوف تتصاعد وتقول أن شعبا تمزقه الصراعات الحزبية والعشائرية لن يستطيع خوض الحياة الديمقراطية التي تقوم أساسا على التسامح والمساواة والحوار الهاديء المتمدين ، وسيضرب أصحاب هذه الاعتراضات أمثلة من التاريخ القريب وذلك بأن يعيدوا إلى الأذهان الحوادث العنيفة والمأساوية التي حصلت بعد ثورة الرابع عشر من تموز . يقول الوردي :

( قد يعترض القاريء على هذا الرأي أو يصفه بالطوبائية ، إذ كيف يمكن للشعب العراقي أن يترك قيمه المحلية وعصبياته الموروثة ثم ينهمك في حياة ديمقراطية لا عنف فيها ولا اعتداء ؟ وهل ننسى ما وقع بعد " هزّة " الرابع عشر من تموز عندما قيل للناس ( أنتم أحرار فيما تقولون وتكتبون ) فانثال بعضهم على بعض يتناهشون ويتذابحون ؟ إن هذا اعتراض وجيه حقا ، ولكن الذي أريد أن ألفت النظر إليه هو أن الناس كانوا حينذاك في وضع نفسي واجتماعي غير طبيعي ، فهو لم يكن وضعا ديمقراطيا بل كان وضعا ( غوغائيا ) حيث تخيل الناس فيه أن الدنيا انتهت وأن ما يفعلونه اليوم لا حساب عليه غدا . يبدو أن الكثيرين من الذين تورطوا في مثل هذه الاندفاعات ( الغوغائية ) يشعرون الآن بالندم . لقد أدركوا أنهم كانوا واهمين عندما تخيلوا أن الدنيا انتهت ، فالذي يعتدي على الغير سوف يأتي يوم يعتدي الغير عليه ، إذ هي أيام متداولة – يوم لك ويوم عليك ) (458) .

ومن جديد ، وأعتقد أن هذه هي المرة الأخيرة التي يعلن فيها الوردي أن العراق على مفترق الطريق ، ينبّه الوردي إلى ضرورة انتهاز الفرصة التاريخية هذه والبدء بالممارسة الديمقراطية :

( فلو أفلتت هذه الفرصة من أيدينا لضاعت منا أمدا طويلا) (459) .

وأعتقد أن هذه كانت الفرصة الأخيرة للعراق في السير على طريق التحولات الديمقراطية ، وقد ضاعت في ذلك العام الذي أطلق فيه الوردي دعوته وهو عام 1966 ، وليست بنا حاجة لجلب أدلة على المسار الدامي الذي سار فيه العراق بسبب عدم استجابة المرجعيات القيادية الحاكمة فيه لتلك الدعوة المخلصة . فـ :

( الثورة المسلحة لا تحدث في أمة تلتزم طريق الديمقراطية الصحيحة . ذلك لأن الحكومة الديمقراطية تنبعث من صميم الشعب . فهي عبارة عن صورة ظاهرة لرغبة الشعب الباطنة . إنها من الشعب وبالشعب ومن أجل الشعب كما قال ابراهام لنكولن . إن من النادر أن تسمع بثورة مسلحة في بلد من بلاد الديمقراطية الحق . وليس معنى هذا أن أهالي تلك البلاد من طراز الخرفان الين لا يشعرون . إنهم لا يثورون لأن في ميسورهم أن يجدوا للثورة طريقا آخر هو طريق التصويت الهاديء الذي لا يتلاعب به الحكام الأدنياء . فهم يبدلون حكامهم حينا بعد آخر . فلا تحدث فتنة ولا تسيل دماء . والحكومة التي لا تدرّب رعاياها على طريق الثورة السليمة الهادئة ، سوف تُجابه من غير شك ثورة دموية عنيفة في يوم من الأيام" (460) .

لو استوعبت السلطة القائمة آنذاك أبعاد دعوة الوردي هذه – عام 1954 – وتحذيره الصارخ من الاحتمال القريب لانبثاق ثورة مسلحة تفجّر شرارة العنف وتفتح أنهارا من الدماء ، أما كان ممكنا أن نتجنب هذه الخسارات التاريخية التي أصبنا بها ؟ .

ومنذ وقت مبكر حاول الوردي التقرّب إلى عقلية المواطن العراقي في مجال إقناعه بجدوى التجربة الديمقراطية من خلال الثقافة الإسلامية التي تشبّع بها وذلك بالضرب على وتر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . يقول الوردي :

( فرض النبي واجب النهي عن المنكر لكي يحرّض أمته على مكافحة الظلم .. وفي نظري أن خير تطبيق لسنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في هذا العصر ، هو استعمال المسلم حقه في الانتخاب وفي التصويت إلى أبعد الحدود ... ولو كنت من أرباب العمائم لأفتيت باعتبار التصويت واجبا دينيا ولجعلت التقاعس عنه ذنبا لا يُغتفر ) (461) .

 ثم تتصاعد نبرته الثورية فيقول :

( إن اللامبالاة لتي يواجه المسلم بها الانتخابات جعلت الانتخاب ألعوبة بيد الطغاة والمترفين والظلمة . ولو اشترك جميع الناس في الانتخاب بدافع من ضميرهم الديني لرأينا الظالمين يحرقون الأرم من جراء ما يشاهدون من قوة واعية في الجماهير . لعلنا لا نغالي إذا قلنا أنه كلما نظر الناس في أمر الانتخاب نظرا جديا وساهموا فيه مساهمة فعلية قلّ تدخل الطغاة فيه وصعب عليهم العبث به كما يفعلون في الوقت الحاضر . إني أعرض هذا الرأي على رجال الدين ، وأتحداهم أن يقبلوه أو يحققوه وأحسب أنهم لا يفهمونه ولا يستسيغونه لأن عقولهم طبعت بمطابع الوعظ السلطاني فهم لا يريدون أن يحركوا الوعي الاجتماعي أو يشجعوه ضد أولياء أمرهم من السلاطين" (462) . 

وسوم: العدد 676