قراءة في رواية "تأملات رجل الغرفة" للكاتب المصري أحمد طوسون
إنها رؤية جديدة لمفهوم اكتشاف "الذات" وعلاقتها بالمكان، تلك هي رواية "تأملات رجل الغرفة"، حيث لا يكف بطل الكاتب أحمد طوسون في البحث عن هويته الضائعة وسط ثنايا ذاكرته التي أصبحت ورقة بيضاء تحركها الريح داخل ذلك المستشفى، وهو فضاء ذي دلالات متعددة سيكتشفها المتلقي حتما من خلال قراءة هذا العمل الأدبي.
لا يعتبر فضاء المستشفى في رواية "تأملات رجل الغرفة" فضاء مرئيا فقط تتحرك وسطه جملة من الشخصيات، بل هو مجموعة من الرموز الحية المكتنزة بالدلالات التي لن يفهمها القارئ دفعة واحدة منذ الوهلة الأولى، بل ستظهر ملامحها في آخر الصفحات لنكتشف خلف تلك التخوم النائية أسرارا وحنينا وأشجانا وتطلعا للتمرد والحرية والديمقراطية، التي لا يزال يراها الناس في مخيلتهم فقط بعيدة عن الواقع المعاش.
تنطلق الرواية من وصف رائع لغرفة المريض الذي يدعى عايد بشكل دقيق، حيث يحاول عبثا تذكر ما حدث له لكن دون جدوى حتى أنه هشم زجاج تلك النوافذ المغلقة من حوله، كما جاء على لسان السارد: "مد يده ليفتح تلك النوافذ لكنها استعصت. ظل يحاول ويحاول حتى آخر قطرة يأس. حينها فقد قدرة السيطرة على جسده.. ربما لأن شيئا ما انسحب من داخله وحرر هذا الجسد من خوفه ومن وعيه ولم يبق منه إلا عين ترصد وتتذكر!!" (ص 22).
أصبحت تصيب عايد نوبات من الهياج بين الحين والآخر لعدم اهتمام الممرضين به، حتى هده الحزن والانتظار وسط مكان يخلو من المشاعر الإنسانية: "ظل يصرخ ويتألم:
أين الطبيب.. الطبيب.. الطبيب؟
لكن الجدران بقيت على صمتها الأزلي وإن بدا لها أنها نوبة جديدة من الهياج ستستمر للحظات وتنتهي ليعاود الصمت هدوءه المقيت." (ص 24).
توحي ملامح البطل عايد للقارئ أنه يعيش حالة اغتراب وسط ذلك المستشفى، إلى أن يجد نفسه يتقاسم غرفة أخرى مع يحيى ومحمود، وهما بدورهما يتقاسمان الشحوب والصمت في انتظار الشفاء عبثا: "اعتدل يحيى في جلسته. هبط بساقيه النحيلتين وزحف بخطوات بطيئة ناحية عايد، جلس عند حافة السرير.. كانت عيناه تتطلعان إلى ناحية النوافذ الزجاجية، قال بصوت بطيء:
- الق بكل ما مضى خلف ظهرك
............................................
أهم شيء هو أنك معنا هنا.
أما محمود فاعتدل في رقدته." (ص 33).
لقد استطاع طوسون ببراعة أن يجعل القارئ طرفا في عملية الإبداع التي لا تخلو من التأمل والتفكير، حتى لا يكون عنصرا سلبيا يخلو من المشاعر، وأكبر مثال على ذلك هو ما حدث مع محمود الذي أعادته الذاكرة إلى تلك الحادثة الأليمة لوفاة والده داخل إحدى المستشفيات: "لا يوجد ماء إلا في صنبور المياه بالجهة المقابلة. يسألهم عن كرسي متحرك ليحمله إلى هناك. ترد إحداهن:
- لا تتعب نفسك، احمله إلى هناك ليشرب.
يحمل الأب في حضنه ويسير.. يلهث لهاثا مسموعا بين الطرقات.. يسير ويسير حتى يصل إلى صنبور المياه.. ينزل الأب ليقف على قدميه لكنه يهوى على الأرض وقد جحظت عيناه تتأملان السماء القريبة." (ص 51).
تمثلت سمة الدين في شيخ المصلى الذي سأله عايد عن حالة الموجودين من النزلاء وما هو سر تواجدهم في مثل ذلك المكان، كما نقرأ ذلك في المقطع السردي الموالي: "ابتسم الشيخ. تطلع بعينيه إلى السماء.. مرر أصابعه بين لحيته البيضاء التي أعطته وقارا ورهبه وتسلل بعينيه من باب المصلى إلى المباني الرابضة هناك وقال:
- الحقيقة الوحيدة إننا لو لم نكن مرضى لما استمرينا في هذا المستشفى كل هذا العمر.
- والعلاج؟
- اعرف الداء تعرف الدواء. " (ص 62).
إن تعلق الشخصيات بأمل الشفاء والخروج من ذلك المكان بات مفقودا، مما جعل بعضهم يتمرد على حالته كحسين الذي كان يتمنى أن لا يصبح جدارا، وكذلك سهام التي أصيبت بنوبة غضب مفاجأة كما نقرأ ذلك على لسان السارد: "صاحت سهام التي كان يكسوها الشحوب والتعب في وجه الممرض وقالت:
- أنتم تأكلون طعامنا..
..............................................
تهربون أدويتنا خارج المستشفى
..............................................
تعيشوا منعمين ولا تعطونا إلا الفتات!" (ص-ص 75-76).
لقد استطاع أحمد طوسون أن يسرد لنا واقع المستشفى بلغة بسيطة وسلسة لا تخلو من مفردات الوحدة والمعاناة والحزن وخيبة الأمل عبر صفحات هذه الرواية، كما نقرأ ذلك في مشهد مؤثر لحالة المرضى وهم واقفون في صفوف متراصة أمام نوافذ الصيدلية، وعيون البطل عايد ترصدهم بأسى واضح: "الألم الذي اعتادته أجسادهم وأرواحهم يتناولونه مع أقراص المخدر كل يوم مرات ومرات ولم يشف أحد. عينا عايد كانتا مثبتتين على الممرضة التي تناولهم الدواء من خلف السياج الشائك. لم تنظر إلى وجوههم. لم تقع نظراتها على عيونهم المستسلمة." (ص 81).
استعان طوسون بتكنيك السخرية التي تعكس بين ثناياها كوميديا سوداء، تعبر عن أوجاع المواطن العربي المتألم كحال تلك الشخصيات المريضة في رواية "تأملات رجل الغرفة"، وهي بدورها رسالة يريد لها الكاتب أن تصل إلى المتلقي: "لا يعرف لم يرى شبها إلى حد التطابق بين ساكني المستشفى وحال العرب.. الاستجداءات والاستنجادات بأمريكا تسود صفحات جرائدهم.. لا يرون في العالم إلا تمثال الحرية الرابض كأفعى هناك عبر المحيط البعيد.. ينتظرون منه جرعة الدواء أو حقنة الرحمة.. يشتكون أمريكا الغازية لأمريكا الحامية مثلما نشتكي الطبيب للطبيب." (ص 107).
أصبح كل شيء مباحا داخل ذلك الفضاء المغلق -المستشفى- كما هو شأن حادثة اغتصاب إحدى المريضات وتدعى سنية من قبل رجل الأمن الذي استدرجها إلى منطقة الغابات، كما جاء ذلك في المشهد السردي الموالي: "دموع كثيفة احتبست بالعيون.. الأسى حاصرهم مع رجال الأمن الذين التف حولهم من كل جانب.. أزاحوا الجاني بعيدا ونزلوا بهراواتهم على جسد الضحية.. الممرضون راحوا يمصمصون شفاههم أسفا.. قالوا إن حالتها خطيرة.. الاضطرابات النفسية تجعلها تتخيل حدوث أشياء لا أساس لها. النزلاء صدقوهم رغم أن سنية لم تقل شيئا.. لم يكن باستطاعتها إلا الصراخ.." (ص 116).
جاءت خاتمة هذه الرواية مؤسفة للغاية، أين يجد شبح الموت مكانا له هو الآخر وسط المرضى، وهذا ما يعكس عمق الرؤية لدى المبدع المصري أحمد طوسون الذي سجل لنا تلك التفاصيل بجمالية لا تخلو من الحس الإنساني العميق، وكأننا أمام مشاهد سينمائية لا يزال يفتقدها المشاهد العربي في زحمة الأفلام التجارية الاستهلاكية في أيامنا.
المصدر
(1) أحمد طوسون: تأملات رجل الغرفة، الهيئة العامة لقصور الثقافة،2011.
*كاتب وناقد جزائري
وسوم: العدد 680