علي الوردي : (71) تُهم كادت توصله إلى الموت

(( إن توالي الطغاة علينا جعلنا لا نأبه للخير من الناس ونحترم الشرير . وبهذا فقدنا أعظم ما يعتز به الإنسان من حافز المكافأة الاجتماعية. أهملنا احترام المخلصين بيننا فقل بذلك ظهور المخلصين لنا. لا يكاد يجرؤ أحدنا على قول الحق فيناله شيء من الأذى، حتى ترى الناس قد أحاطوا به موبخين لائمين. فهم يقولون له: ماذا أصابك؟ أنت مجنون! وهو يشعر إذن بأن طريق السلامة خير له من تضحية تثير عليه لوم اللائمين. دأبنا أن نهاب المترفين والجلاوزة الضخام. وسوف لن نحصل في دنيانا على غير هؤلاء ما لم نغير هذه العادة الخبيثة ))

 ( علي الوردي )

 ( كتاب وعاظ السلاطين – 1954 )

 

# أسلوب فريد في امتصاص التُهم والشتائم :

------------------------------------------

أعتقد أن التُهم التي وُجهت إلى الراحل الوردي خلال حياته تفوق مجتمعة عدد التهم التي وصم بها أي مفكر عربي آخر. أما من حيث نوعها فإن بعضا منها قد وصل حدا كان من الممكن أن يوصل الوردي إلى القتل. وقد وُجهت للدكتور علي الوردي تُهم كثيرة جداً ، بعضها في غاية الخطورة منها : شيوعي ، شعوبي ، فارسي ، ماسوني ، زنديق ، ملحد ، طائفي ، خائن ، "عميل أمريكي" وغيرها .. ناهيك عن الكثير من الشتائم المباشرة: كذّاب ، منافق ، مزوّر ، مخاتل ، مهرّج ... إلخ . وحين نقف لمراجعة هذه التهم والشتائم فلأننا نريد التأكيد على سمة أسلوبية في منهج الوردي من جانب ، وعلى مقدار الإضطهاد وروح العداوة التي تعرّض لها من قبل قسم من المثقفين ورجال الدين والعامة من جانب آخر. فمن جانب المثقفين يمثّل السيد "عبد الرضا صادق " الذي نشر مقالات كثيرة في الصحافة ضد الوردي وأفكاره ثم أصدر كتابا خاصا في ذم ّالوردي وكيل التهم والشتائم إليه هو " سفسطائية للبيع " من ناحية ، كما تمثّل ردود الوردي عليه أفضل أنموذج لطريقته الدفاعية والهجومية المحكمة والماكرة من ناحية ثانية . يقول الوردي

( حين كتب الأخ عبد الرضا يستعرض آرائي وكتبي ، أخذ يصفني بالمنافق تارة ، واتهمني بالهوس والخيانة ، والكسل وبالخلق الشاذ الذي يموت غراما بالضجة . وانتهى من كل ذلك بأن كتبي كلها لا تضيف جديدا إلى تفكير مثقف ، إذ ليس فيها سوى التهريج والمخادعة ) (491) .

( يقول الأخ عبد الرضا – أنظر إلى دبلوماسية الوردي حول استخدام صفة "الأخ" لشخص يذمّه ويشتمه ، الكاتب) :

( بقى أن الدكتور علي الوردي لا يستطيع أن يضيف جديدا إلى تفكير مثقف ، ولكنه يستطيع أن يخاتل تفكير العامة بشعبية الأسلوب ، ويخاتله بشعبية الموضوع ، وهذا هو السر في إقبال الناس على قرائته ).

يعلق الوردي على ذلك قائلا :

( فالأخ ( يقصد عبد الرضا ، خصمه اللدود الذي يهاجمه كل لحظة ) هنا لا يكتفي بشتمي وحدي بل هو يشتم الذين يقرأون كتبي أيضا . فكتبي في نظره عبارة عن سلسلة من المخاتلات والمفارقات والآراء التافهة، أما القرّاء الذين يشترون كتبي فهم في رأيه عوام مخدوعون ).

يمتص الوردي هجمة الناقد المقابل بروح "رياضية " فهو الذي دعا إلى أن يكون سلوك المتجادلين في المجالس العلمية وفي الشؤون الفكرية مثل سلوك اللاعبين بعد انتهاء المباريات الرياضية.

لقد أثار الوردي عاصفة من المجادلات والمناقشات الحامية تملأ صفحات كتب كثيرة. لكنه أدخل أسلوبا جديدا متمدينا ومتحضّرا في الحوار، سواء أعلى مستوى السلوك الشخصي اليومي في تعامله مع ناقديه و شاتميه، أم في ردوده المكتوبة عليهم. فقد ذهب لمقابلة عبد الرضا صادق شخصيا بعد أن نشر مقالتين أشبع فيهما الوردي قدحا وذما وشتائم . صافحه وعاتبه على الشتائم لا على آرائه النقدية لأن الوردي يحمل روحا ديمقراطيا أصيلا وفكرا تنويريا يقوم على أساس مبدأ راسخ هو أن لكل إنسان الحق في أن يكوّن أفكاره الخاصة به وأن يجاهر بها، وأنها يمكن أن تحمل جانبا من الحقيقة مهما كانت سلبية :

( لست أريد في هذا الصدد أن أبريء نفسي من الصفات المستهجنة التي ألصقها بي الأخ عبد الرضا. فربما كنت كما قال ودون ما قال. ولكني أعتقد أن الجدل العلمي ينبغي أن يكون أسمى من هذا، وإلّا فليس هناك من فرق بيننا وبين البدائيين إذ هم يتجادلون ويد كل واحد منهم على خنجره ) (492)  .

 إذن فإن اعتراض الوردي ليس على الآراء ونوعها وطبيعتها، اعتراضه كان على الشتائم، وتحديدا على عدم الفصل بين الفكرة وصاحبها. لقد صافح عبد الرضا وعاتبه بودّ على الشتائم، فكيف كان رد فعل الأخير ؟

لقد أخرج كتابه الخاص ضد الوردي والذي يقول فيه أن شتائمه كانت بحق، وأخذ يزيد فيها (كذا) ويأتي بالبراهين لتدعيمها . وفوق ذلك فإن أحد المثقفين من أصحاب الشهادات العالية جاء ووجه اللوم للوردي كأنه هو الشاتم، وعندما سأله الوردي هل قرأ الشتائم أم لا، أجاب بالنفي !! لكن الصدمة كانت كبيرة للعامة من أهالي الكاظمية جاءت بعد ذلك حين شاهدوا الوردي يتجول مع "صديقه اللدود" عبد الرضا صادق. وحين يتذكر القاريء أن الجدال الساخن والطويل بين الوردي والدكتور عبد الرزّاق محيي الدين قد اتسع إلى حد أن الوردي قد أصدره في كتاب من (312  صفحة) هو "أسطورة الأدب الرفيع" ، فسيعتقد جريا على سلوك النقّاد "العنيف" و"العشائري" آنذاك ، أن الوردي ومحيي الدين لن يتلاقيا أبدا بعد هذا الخلاف. يقول الوردي :

( حدث أن اجتمعت بالدكتور محيي الدين في إحدى النوادي عقب نشر مقالاته المذكورة. وقد دهش الحاضرون حين رأونا نتصافح ونتضاحك من أعماق قلوبنا. فهم يظنون أننا أصبحنا خصوما ألداء وأن أحدنا صار يضمر الحقد للآخر ويحاول الكيد به ) (493) .

# التأسيس لأدب الحوار :

-----------------------

لقد أسهم الوردي في التأسيس لـ "أدب الحوار المتحضّر" الذي يقوم أولا على الفصل بين شخصية الكاتب وآرائه ، وثانيا على الاستماع الهاديء والقراءة اللّامنفعلة لأن الحضارة هي "فن الاستماع المهذّب" كما أحب أن اعرّفها.

وبعد مرحلة الإمتصاص الدفاعي تأتي مرحلة التحييد، تحييد الجمهور لكي يكون حَكَما ويغادر موقع المنحاز إلى طرف دون آخر ، ثم تأتي أخيرا مرحلة الهجوم المقابل الذي يأتي هادئا والتفافيا ومن خلال اللعب على أوتار الهجمة النقدية للناقد الخصم نفسه. والأدلة كثيرة جدا في مؤلفات الوردي وفي مواجهاته الصحفية، وسأختار مقطعا كاملا ردّ به على أحد مواقف عبد الرضا صادق ، ويقول فيه :

( يعجبني من الأخ عبد الرضا صادق أنه اعترف في مقدمة كتابه بأنه كان ذاتيا في نقده . لنستمع إليه يقول :

(( فيما يجيء بعد من الملاحظات ، يلمح القاريء سمات من الذاتية تظهر في أسلوب خطابي. ولكني ألتمس من القاريء أن يعطف عليها، لأنها هي التي دفعتني إلى أن أكون موضوعيا بقدر ما يستطيع ناقد أن يكون موضوعيا.... إن هناك ذاتية عمياء تخبط هنا وهناك من غير تبصّر، هذه هي الذاتية التي لا تستحق العطف. وأرجو أن يقتنع القاريء بأن ذاتيتي ليست من هذا النوع ).

ومن هنا يبدأ الوردي بتطبيق خطته "الستراتيجية " فيقول :

( يرى الأخ عبد الرضا أن ذاتيته في النقد تستحق العطف . والمظنون أن كثيرا من الذين يبغضونني ويبغضون كتبي عطفوا على هذه الذاتية التي اتصف بها الأخ ، وهم يعدونها من دوافع الموضوعية في نقده . ولكن للأمر وجها آخر- وعندما تأتي هذه الـ "لكن" في حديث الوردي فهي شارة البدء للإستعداد للهجوم المقابل الإلتفافي - فهناك أناس آخرون يقرأون كتبي ويرون فيها بعض المنفعة لهم - ولاحظ أن الوردي دائما "يصغّر" حقائقه ومبرّراته لكي لا يقاومها المقابل حين يكون "حجمها" كبيرا مُستفزّاً - ولذلك فهم يعدون نقد الأخ ذاتيا خالصا لا موضوعية فيه . ولست أريد بهذا أن أدافع عن كتبي أو افتخر بها . ولكني أرى أن كتبي ، كأي شيء آخر في هذه الدنيا – ودائما يرد الوردي تحت عباءة من الإفتراضات العمومية التي لا تستفز أحدا يتستر بها في تقرّبه الماكر فلا يشعر الخصم إلا والوردي قد تسلل إلى قلعته ، تقرّبه مستتر مشابه لتقرّب الجيش الذي رأت زرقاء اليمامة جنوده يستترون خلف الأشجار – لابد أن تحتوي على محاسن بالإضافة إلى مساوئها الكثيرة . ومادام هناك آلاف الناس يقرأونها ، كما اعترف الأخ ، فلابد أن يكون فيها من المحاسن ما يدفعهم إلى اقتنائها ودفع الثمن فيها - ثم تبدأ الوخزات الهجومية من الداخل - يعترف الأخ عبد الرضا صراحة بأنه مؤمن بصحة المنطق القديم . والظاهر أنه كغيره من أصحاب هذا المنطق لا يهتم بالناس أو بما يقولون به ويرغبون فيه . فلو اجتمع الناس كلهم على رأي مخالف لرأيه، لكانوا كلهم في نظره مخدوعين أو سخفاء، وهو العاقل الوحيد بينهم. ولعل من نافلة القول أن أؤكد أن هذا رأي لا يلائم الروح العلمية الحديثة . فقد نزل العلم اليوم من عليائه وأصبح يستمد المعرفة من الواقع الراهن الذي يعيش فيه الناس . وليس من الجائز للمفكر الحديث أن يثق برأيه وثوقا تاما من حيث يهمل آراء الآخرين - ثم تأتي وخزة أشد لكنها غير مباشرة ، الكاتب - إن أي إنسان قادر أن ينصب نفسه على الناس ناقدا أو واعظا . فهو لا يحتاج إلا إلى كلمات فخمة يملأ بها فمه، ولكنه لا يعرف مصداقيتها في نفسه وفي من حوله من الناس. وتراه يتحدث عن الحق والجمال والفضيلة وغيرها من الأفكار المطلقة دون أن يعلم أنها أصبحت عند الطغاة شبكات للصيد ) (494) .

ومن أسس ستراتيجية الوردي الجدالية هي أن هجمته تأتي مقسّطة ، على مراحل ، تتخلّلها "فُسح" فكرية نقاشية عامة تساهم في تخفيف التوتر لدى الخصم والقاريء على حدّ سواء ، وهي في الوقت نفسه ردّ غير مباشر ومغطى على الأطروحات المضادّة . ولو لاحظت الجملة الأخيرة من المقطع السابق : ".. أصبحت عند الطغاة شبكات للصيد " فإنها ستعيدك إلى رأينا الذي طرحناه في أن الوردي كان "يتعمد" تأجيج المشاعر ضد السلطات القائمة وشحن القرّاء بالأفكار الثورية وتأليبهم على " الطغاة " ، هذا التأليب الذي يأتي في سياق بعيد كل البعد عن هذا الموضوع ، إذ ما هي علاقة الطغاة بالمنطق الصوري الأرسطوطاليسي ؟

يقول الوردي:

( لقد أدرك الناس في هذا العصر أن الأفكار المطلقة التي كان يتغنّى بها المنطق القديم ليست سوى مفاهيم نسبية ، إذ يحسب كل إنسان أنها له وحده وأن غيره لا يملك منها شيئا . فإذا قلت للطاغية الظالم " لعنة الله على الظالمين " ابتسم لك واستحسن قولك ظنّا منه أنك تقصد بذلك خصومه، أما هو فقد شهد الخلق كلّهم بعدله وتقواه. وهو لابد واجد في من حوله من المتزلّفين من يؤيده على قوله ويهتف له ) (495) .

وسوم: العدد 681