النثر العربي في عصر الدول المتتابعة 9

الباب الثاني

النثر الفني بين المضمون والشكل

     تحدثت في الفصول السابقة عن الفنون النثرية أو الإطار الذي قدم فيه النثر العربي في عصر الدول المتتابعة من رسالة وخطابة وقصة، وسيرة ومسرحية ورحلة، ونصوص تراجم ، و درست نماذج لكل منها ، وتبين خلال ذلك أن أدباء العصر اتخذوا من النثر الفني مطية للتعبير عن مشاعرهم ووجداناتهم كما فعل الشعراء، وكانت مضامين هذه النصوص تعبر عن خلجات نفوسهم المؤمنة ، أو عن إعجاب بالنفس أوبالآخرين ، كما كان فيها رثاء وهجاء وشوق وحنين وعتاب ووصف ...

     وقدمت هذه المضامين بأسلوب حوى عناصر فنية لغوية وتصويرية وموسيقية أجاد بعض أصحابها فكانت عباراتهم مشرقة وضاءة ،وأخفق بعض فقلدوا وتكلفوا ...

وهذا الباب سيكشف عن المضامين أو جلها([1]) ، وعن أساليب النثر الفني في ذلك العصر .      

الفصــل الأول

المضامين النثرية في عصر الدول المتتابعة

الفصـل الأول

المضــامين النثــرية

   وسأدرس نماذج منها : النثر الديني والوصف والرثاء والهجاء والعتاب .

أولاً النثر الديني :

تعددت مجالات النثر الديني، ولعل المساجد كانت من أكبر الدواعي إلى نشاطه وتعدد ألوانه بسبب ما يلقيه الوعاظ والخطباء والعلماء وما يسطرونه مما يدعون به البشرية إلى الصراط المستقيم ، وينهونها عن اتباع غوايات الشياطين، وهناك مدائح نبوية نثرية، وأحاديث للمتصوفة جاؤوا فيها بالنفيس على حين كان في بعضها تلبيس من إبليس .

فمن النثر الديني :

1- المواعظ :

وجاءت هذه في حـِـكَم توجه إلى القراء، من ذلك قول الشهاب الخفاجي تحت عنوان (الفصول القصار) :

-         إقدار الله العبدَ على حمده وشكر إحسانه من جملة إنعامه على عبده وامتنانه.

-         احذر أيدي الدعاء إذا قرعت أبواب السماء.

-         فلان مع بخله شقيق إبليس اللعين، و(إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) .

-         فلان احتُضِر وأمسى له مع الملائكة شأن مستمر.

-         ما أنصف الشيبَ من ستر وقاره، فسود وجهه وأطفأ أنواره([2]) .

  فالكاتب هنا يقدم نصائحه بأسلوب بديع، أشبه الشعر أو الأمثال يذكِّر به بالمولى تعالى ويحذر من سوء الأخلاق، ويشير إلى الموت وما بعده، وجاء هذا كله في عبارات تصويرية على نحو (أيدي الدعاء إذا قرعت أبواب السماء)، (سوّد وجهه وأطفأ أنواره)، وفي تراكيب سلسلة عذبة (فلان مع بخله شقيق إبليس اللعين وإن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) إضافة إلى ما فيها من سجع واقتباس ومقابلة...  

2- ومن المواعظ ما جاء في سياق الأسئلة الفقهية إذ  يستغلها العالم المسؤول ليقدم نصائحه وإرشاداته ، من ذلك قول الفقيه حامد العبادي لمن سأله عن رأيه في تعديد النساء وذكر سوء أخلاقهن : " إنهن نزهة الأنفس والأرواح، ورياض الأجساد والأشباح، سنة الله التي قد خلت، وفي القلوب قد حلت، فهو من أقوى الأسباب في ارتفاع الأحساب واتصال الأنساب… وهي تجارة رابحة، قال عليه السلام: الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، وهن أمانات الرجال، مستودعات عندهم إلى ما شاء الله من الآجال، يجب حفظهن خوفاً عليهن من الضياع، ومراعاة لما لهن وعليهن من الانتفاع… فرُدّ ثورة عجبهن بخلق كريم واسع، وغَطّ عيب شيبك بسبب طَوْلك وإحسانك، لا بمعرة قصر يدك وطول لسانك… فيخضعن لديك، ويضعن خدودهن تحت قدميك، ولا تكون غاية سعيهن إلا إليك، لأن من كرمت خلاله وجب وصاله، وهو أمر معروف، قال تعالى: )وعاشروهن بالمعروف( ومن ركب مركب الخلاف، ومال إلى الانحراف، فليستعدّ إلى الإدبار، وليتبوأ معقده من النار"([3]).

هذا هو الأدب، تعبير فني هادف، يتخذ من الكلمة وسيلة للتربية بجميع أشكالها عقائدية كانت أم اجتماعية…. بأسلوب فيه من الجمال ما يمتع، ومن الموسيقى ما يطرب، ومن العبارات المحكمة ما يجذب، ومن التصوير ما يبدع، فالنساء زهرة الحياة الدنيا، وثمرتها، ونزهة الأنفس ورياض الأجساد والأشباح، وهذه الصور التشبيهية جاءت للدلالة على مكانتهن، وجاء الاقتباس من الحديث الشريف ما يؤيد هذه المنزلة للمرأة الصالحة، والرجل كبير السن يعيبه شيبه ويغطي هذا العيب عطاؤه ولسانه (صور) وحينذاك يخضعن له، وما أجمل الكناية عن ذلك بقوله (ويضعن خدودهن تحت قدميك) صورة للتذلل الذي ترضيه المرأة للرجل الذي يكرمها، وخلاف ذلك ميل وانحراف وإدبار، وأخيراً تبوُّؤ مقعدٍ في النار…. تصوير ما بعده تصوير لحال ذلك المعرض الذي يميل عن الحق في معاشرة المرأة .

3 - الأدعية :

وهي من أكثر الآداب النثرية قربا إلى النفس ومتعة للروح إذ فيها من مقومات الأدب الشيء الكثير، فهي تأتي بأسلوب شحن بعواطف شجية وملئ بتصوير بديع، وفيه تراكيب محكمة، وجرس موسيقي صدر عن نفس منفعلة ... .

 لنقرأ لعبد الله السويدي قوله، وكان قد وصل إلى مكة المكرمة، ووقف أمام المقام الشريف يناجي ربه:

" إلهي أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، مُقِيل العثرات، وكاشف البليات، سبقَتْ رحمتُك عذابك، فحاشى لك أن تطرد من لازم بابك، إلهي حلمي جرأني على معاصيك، وأوقعني في ذلك حسن الظن فيك، وقد بلغني عن رسولك المصطفى فيما يرويه عنك أنت قلت "أنا عند ظن عبدي بي" إلهي هذا البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار، إلهي… فأسألك العفو عما لا يضرك ولا ينفعك، إلهي أدنى عبد إذا استجير به أجار، فأنا عبدك الآبق أستجير بك من النار، وأنت الأكرم، وأنت الأرحم"([4]).

فالسويدي هنا يقف راغباً وراهباً يرجو المغفرة، وأن يكشف الله عنه البلوى، لأنه استجار به وتمسك بحبله، وهو الذي لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، وهو الأرحم الأكرم لعبده الفقير التائب المعترف بجرائره. وقد حوت عباراته عاطفة إيمانية قوية وجاء رجاؤه لمولاه بأسلوب سلس عذب جميل، فيه طلاوة وحلاوة، وفيه رونق وتحبير وعواطف صادقة وشجية .

4- ومن النثر الديني أيضا المدائح النبوية، وكأن الكتاب أرادوا أن ينافسوا الشعراء في ذلك فراحوا يخطون ثناء للمصطفى r، وكان من هؤلاء خالد النقشبندي([5]) الذي أخذ يخاطب الرسول r بقوله:

"صاحب المقام المحمود، وينبوع الكرم والجود، سيد الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، قائد الغر المحجلين، النبي الهاشمي الأبطحي اليثربي العربي القرشي، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليمات، عدد معلومات الله في كل بكرة وعشي، إن العبد الفقير المسكين… لازال يترقى في العثرات يوماً بعد يوم، ويحمل أوزار الرعايا والبرايا قوماً بعد قوم، فلا يوفق لترك الكل حتى يطوي البيد إلى هاتيك الحضرة العلية بالرأس دون الأقدام، ولا يؤيد لترك الظلم وبسط بساط العدل ليستريح بسببه الأنام، ويرضى عنه ربنا المهيمن العلام،… فواحسرتا على ما فرطت في جنب الله، ولاحول ولا قوة إلا بالله، فإلى من أشكو حالي سوى ذلك الجناب، ولدى من أبث ما أنا فيه من الاضطراب، وأنت خليفة الله على عباده، وهادي الأنام إلى سبيل سداده،… فها أنا منكوس الرأس بين يدي ربي يوم القيامة، ومتيقن للندم حين لا تنفع الندامة، وصلى الله عليكم وعلى أخوانكم النبيين، وعلى آلكم وصحبكم أجمعين بَداء كل كلام وختام"([6]).

فالكاتب هنا يثني على الرسول r، ثم يذكر ذنوبه وجرائره، وأنه قد رغب المجيء إلى المصطفى r ليرضى عنه مولاه وهو يتعلق به ذلك لأنه نصح البشرية وسدد خطاها بأحاديثه القيمة وهو خجل من الوقفة أمام رب العالمين في يوم المحشر ولذلك فهو يرجو منه العون والشفاعة…

وقد أدى الكاتب هذه المعاني الجليلة بأسلوب قوي إلى حد كبير إذ فيه تصنع وفيه جمال، ولعل الجمال يكمن في العبارات المتأثرة بالقرآن الكريم نحو هادي الأنام … لا تنفع الندامة …

وعلى أي حال فإني أرى المدائح النبوية النثرية أقل في مستواها من المدائح الشعرية التي أطالت الحديث ونوعت الموضوعات وإن كان هذا النص لا يخلو من جمال في التعبير وجمال في التصوير.

5- النثر الصوفي :

وفي هذا النثر نرى عبارات أشبه بالرموز ، وقد تفسر أحياناً تفسيراً لا يقبله العقل ولا الشرع ولا اللغة المعجمية، فابن عربي يقول مثلاً:

لو أن إبليس رأى من آدمٍ

 

نور محياها عليه ما أبى

ثم يشرح هذين البيتين بأسلوب فيه كثير من الرموز والغموض إذ يقول: " قيل لإبليس اسجد لآدم فغاب عن لام الخفض التي هي إشارة إلى لام الإضافة، واحتجب العلم عنه بذكر آدم، فلو رأى اللام من قوله لآدم لرأى نور محيا هذه الذات المطلوبة لقلوب الرجال ، فما كانت تتصور منه الإباءة عما دعاه إليه، فاحتجب إبليس واستكبر بنظره إلى عنصره الأعلى عن عنصر آدم الترابي، فلما رأى الشرف له امتنع عن النزول للأخس، وما عرف ما أبطن الله له فيه من سبحات الأسماء الإلهية"([7]).

فابن عربي يدعي أن إبليس ( لو رأى اللام من قوله لآدم لرأى نور محيا هذه الذات المطلوبة ) فهل يعني هذا اسجد : لنور آدم الذي هو الذات الإلهية التي سيراها لو سجد له ؟ إذا كان رأيه كذلك فهو الإلحاد النابع من فكرة وحدة الوجود التي يؤمن بها ابن عربي([8]) .

 ثم يقول ( وما عرف ما أبطن الله له فيه من سبحات الأسماء الإلهية) ثم يرمز للذات الإلهية بالمرأة  وهذا لايقبله شرع  ولا عاقل .

وينقل د.علي شلق في حديثه عن الفكر الصوفي عند ابن عربي قوله في الفتوحات المكية : "اعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام الذي هو أول جسم إنساني تكوّن وجعله أصلاً لوجود الأجسام الإنسانية وفَضُل من خميرة طينته فضلةٌ خلق منها النخلة، فهي أخت لآدم عليه السلام وهي لنا عمة، وفَضُل من الطينة بعد خلق النخلة قدر السمسمة في الخفاء فمد الله في تلك الفضلة أرضاً واسعة الفضاء، إذ جعل العرش وما سواه، الكرسي والسماوات والأرضون وما تحت الثرى والجنات كلها والنار في هذه الأرض كان الجميع فيها كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفيها فضلة من طينة آدم من العجائب والغرائب ما لا يقدر قدره، وفي هذه الأرض ظهرت عظمة الله .

ثم يقول معلقاً على هذا إنه يتجاوز مألوف العبارة إلى صياغة عبارة لا تدرج عليها اللغة، بل هي من حروف الكون بالحلم والوهم والرمز الغريب" .

ثم يتابع حديثه ليصل إلى الفن الصوفي فيقول عنه "وهو وسيلة بعبارة الكلمة شعراً أو نثراً غير أن كلمة الفن الصوفي تخرج من قاموس اللغة التي ترسمها الأبجدية إلى لغة ترسمها اللغة الكونية بمرئِيتّها وغائبها، وهي أيضاً تتجاوز المألوف والمفاجئ في رمز هو أرقى ما عرفته مدارس الفن الرمزي والسوريالي على الإطلاق"([9])..

ومن شطحات المتصوفة ورموزهم في كتاباتهم قول خالد النقشبندي "إن الروح إذا كانت كلية قد تظهر في سبعين ألف صورة، ولهذا فسر جواب الرسول r حينما قام ينادي من كل باب من أبواب الجنة بعض أهل الجنة، فقال أبو بكر رضي الله عنه وهل يدخل أحد من تلك الأبواب كلها قال نعم"([10]).

فهو يدعي أن الأولياء يتصورون في صور شتى، ويستدل على ذلك بحديث الرسول r، ويرد عليه بأنه عالم الدنيا غير عالم الأرواح والبرزخ في يوم القيامة، إن ثبت الحديث وصح.

وسعيد الخالدي([11]) لما اتصل بأحمد البقاعي تكلم بما ليس في الشرع وترك التكاليف الشرعية وقد نقل العالم عبد الرزاق البيطار عنه قوله : "هي } أي التكاليف الشرعية {واجبة على المحجوبين لا على المحبوبين"  ثم قال البيطار عنه :" وكان كثيراً ما يتكلم بالكلام الذي لا يرتضيه من كان في قلبه ذرة من الإسلام، وصار لا يقول بواجب ولا مسنون، ويقول (إن التمسك بذلك محض جنون، … ومن دخل في الطريق، وترقى في المقامات صارت ذاته عين الذات، وصفاته عين الصفات، وهل يجب على الله صلاة أو صيام بحال؟ وهل يقال في حقه حرام أو حلال ) "([12]).

 فهو يدعي أنه لما ترقى بالعبادة صارت ذاته – والعياذ بالله من هذا القول _ هي الذات الإلهية والله لا يصلي ولا يصوم وليس له حلال أو حرام ولهذا ترك العبادات .

ومن هنا تعرض المتصوفة المتطرفون إلى كثير من النقد بتحميلهم اللغة ما لا تحتمله من رموز ومعان فضلاً عن عقيدتهم الفاسدة.

ثانياً فن الوصف النثري:

وهو من الفنون البارزة في نثرنا العربي، وكان معظمه يرد خلال الرسائل، وفي الرحلات والمقامات، وقد وصف أدباؤنا الطبيعة الصامتة والمتحركة كالكوارث الطبيعية والخيل، من ذلك قول الكاتب محمود بن سلمان للخيل الشقراء والصفراء والخضراء والبلقاء، والدهماء والكميت، يقول في حصان أخضر:

" ومن أخضر حكاه من الروض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه الليل والنهار حلتَيْ وقارٍ وسناً، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدّان لما استجمعا حَسُنا ، ومنحه الباري حلة وشيه، ونَحَلَتْه الرياح ونسماتها قوة ركضِه وخفةَ مشيِهِ، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولَمّا لم يُسابقه شيء من الخيل أغراه حبُّ الظفر بمسابقة خيَّاله، كأنه تفاريق شيب في سواد عذار" أو طلائع فجر خالط بياضه الدُّجى فما سجى، ومازج ظلامه النهار فما انهار ولا أنار، ويكذب المانوية لتولد اليُمن بين إضاءة النهار وظلمة الليل ([13]) .

فالكاتب هنا نراه يجود أسلوبه معتمداً على التصوير، وعلى السجع والطباق فالحصان يشبه الرياض في خطوط جسده (تشبيه)، وبه بياض مع سواد (طباق)، والرياح تعطيه قوة ركضه (استعارة مكنية تشخيصية).

وهذا التنميق جاء في لغة متوسطة ترتفع حيناً وتنحرف أخرى للتكلف البيّن على نحو قوله: "ولما لم يسابقه شيء من الخيل أغراه حب الظفر بمسابقة خيَّاله، كأنه تفاويق شيب في سواد عذار" فالصورة واضحة التصنع، وكأن صاحبها أراد أن يقدم قطعاً مزركشة تلذ العين والبصر قبل أن تلامس الشعور.

ومن أوصاف الطبيعة الصامتة وصف السويدي لمدينة الرُّها، إذ قال فيها: "هي بلدة طيبة التربة، معتدلة الهواء، عذبة الماء، ذات بساتين وأشجار، كثيرة الفواكه والثمار، أهلها ذوو أخلاق رضية، ومكارم سمية بها الدين ظاهر، والعلم زاهر، والصلاح ذائع، والخير شائع، عمرها الله بالخيرات، وحفظها بأنواع المسرات([14]).

فالكاتب هنا نراه يصف المدينة وصفاً خارجياً، فكأنه مصور يلتقط صور لجمال طبيعتها وسلوكيات أهلها، وقد اعتمد في عرض فكرته على الازدواج كما في (العلم زاهر، والصلاح ذائع، والخير شائع)، وعلى التوازن كما في (ذات بساتين وأشجار، كثيرة الفواكه والثمار) فضلاً عن موسيقى السجع ليحقق جرساً موسيقياً عذباً، وتلاؤماً موسيقياً طرباً.

ومن الأوصاف الهامة حديث الشيخ محمد الترمانيني([15]) في مقامة له عن زلزال أصاب مدينة حلب في 1237 ومما جاء فيه:

وبينما نحن في ثالث ساعة من تلك الليلة نتحدث ولحاظ أعين سرورنا بألبابنا تغزو وتعبث، إذ وردت علينا مقدمات جيوش هازم اللذات، وصار كل منا يقول والله إن للموت سكرات. وما ذاك إلا دوي كدوي الصواعق. تتدكدك من هوله الشوامخ والشواهق. وما مضت ثانية من الثواني. إلا ولم يعرف الواحد منا الثاني. ونفضتنا الأرض عن ظهرها حتى قربنا من السماء. وكدنا نغترف بأكفنا من السحاب الماء. ثم هبطنا للحضيض الأسفل. وعدنا لما وصلنا إليه أول. نحو خمس مرات متواليات. حتى ظننا أن الأرض قد اختلطت بالسموات. وأن نفخة الفزع قد آن أوانها. وأن الساعة قد حانت أحيانها. فصرنا أولاً نبتهل ونتضرع. ونستغيث ونار الخوف بأفئدتنا تتدلع. ثم تلجلج اللسان . ولم يبق لنا من الحواس سوى بصر شاخص إلى السماء. واستولت علينا ظلمات الغضب. ولم يثبت لأحد في ذلك الوقت عصب. فبينما نحن في ذا الحال. إذ نزلت علينا شهب من السماء تتلامع. ورآها غالب من كان في ذات العواصم يتبايع. ثم اشتد الظلام في تلك الليلة حتى غاب سناها. وصار الواحد منا إن أخرج يده لم يكد يراها. فأيقنا إذ ذاك هول يوم القيامة. ثم لما تذكرنا ما أعدّ لها من العلامة. علمنا أن هذه هي المقدمات. وأنها لعبر وعظات. فبعد خمس من الدقايق. زال الظلام من المغارب والمشارق. ونظرنا إلى أنفسنا كأنّا خرجنا من القبور. وعلينا التراب مغطٍّ للثياب وللشعور. ثم التفتنا إلى الربوع والقصور. فرأيناها قاعاً صفصفاً كهيئة الجبال يوم النشور. فاشتغلنا بالحسبلة والحوقلة. خشية من الاسترجاع واستعذنا بالله من هول تلك الزلزلة. وافتقدنا الأهل والأقارب. والأباعد والأجانب. فإذا قد فقد منهم نحو عشرة آلاف. كلهم كفنوا بثيابهم أو فراش أو لحاف. وخرجنا من البلدة إلى الصحراء واشتدت بنا جميعنا البلواء([16]).

فالكاتب يصف لنا الموت وقد جاء بجيوشه دالاً بهذه الصورة على كثرة القتلى، وكان صوت الزلزال كصوت الصواعق (تشبيه)، وقد أحسوا بالدوار فصاروا يشعرون أنهم اقتربوا من السحاب ثم من الحضيض ( كناية عن هول المصاب ) ، وكأن الأرض قد اختلطت بالسماء وحان موعد الساعة فصاروا يستغيثون وهم وجلون ثم لمع ضوء ساطع تبعه ظلام كثيف ( تصوير واقعي ) ، ثم انزاح هذا فرأوا أنفسهم كأنهم نبشوا من المقابر وفقدوا عشرة آلاف، ثم خرجوا من شدة الخوف إلى الصحراء.

والكاتب كأمثاله في ذلك العصر اعتمد في تحبير وصفه على التصوير وعلى التزويق والتجميل بالسجع والاقتباس من القرآن الكريم، وعلى مدّ المعاني بتكرارها وترادفها وتغيير أوصافها بصور جديدة، وكأن النثر غدا لوحة تحوي وسائل للتنميق، يتأملها الناظر وهو متألم لهذا المصاب.

ومن الأوصاف البديعة وصف عبد الكريم بن سنان([17]) لحرب قام بها القائد سنان باشا([18]) في بلاد النمسا وكان قد عُيِّن لمحاربتها، ومما جاء فيه "ملأ بقتلاهم الهضب واليفاع، وأخذ منهم القلاع والبقاع، وجبر قلوب الإسلام بكسر الصلبان والأصنام، ومن غريب فتوحاته تسخير الحصن الموسوم بيانق، وهو على ما يقال لسماك السماء معانق، أحكمت يد الدهر بنيانه، وقد أزرى بالهرم في الحصانة… وقد أحاطت به الأنهار إحاطة الهالات بالأقمار، وكم ورد فيها لحياض المنية مَن ورد ولبس من حيكها المنسوج بيد الشمال زرداً على زرد:

فيا لله من عجب دلاصٌ

 

يُرَدُّ به الحِمام غدت حِماما

وتيسر فتحه في نحو سبعين يوماً، وجفون الغزاة لم تكتحل بغير نقع الهيجاء، ولم تذق يوماً نوماً، وقد تثبتوا في الحرب تثبت الجبال، علماً بأنها بين الرجال سجال، فهناك باحت أغماد السيوف بأسرارها، فطارت غربان البنادق من أوكارها، وكم قتيل غدا بألسنة الأسنة مُكْلَما، وأصبحت درعُه تبكي عليه بألف عين دماً، والأعداء كأنما أجسادهم جرائرُ يحملها من الدماء السيل، وكأن رؤوسهم أُكُر تلعب بها صوالج الأيدي والأرجل من الخيل، شكر الله مساعيه الراضية، وأحله في قصور الجنان العالية"([19]).

أسلوب هذا الوصف يقوم على السجع كعادة شعراء العصر، وعلى الجناس والتوازن بين العبارات وذلك لتحقيق النغمة الموسيقية واللحن المنغم ولكنه لم يخل من جمال كما لم يخل من تكلف بدا في الإتيان بمرادفات من أجل الصنعة والتوشية.

وكانت تمتزج في أسلوبه هذه الخصائص الأسلوبية بخصائص عقلية ،فالعدو لم يعد يذوق النوم، وكثر القتلى والجرحى، وبكى الناس على من نكب من أهليهم حتى صارت الرؤوس كالكرات تلعب بها الخيول.

وهكذا كان الوصف النثري وصفاً لصور جزئية قد تكتمل غالباً في مشهد كلي على نحو وصف الحرب والزلزال ، ولكنه وصف خارجي يرسم لوحة للناظرين دون أن يحس صاحبها بمشاركته لهذه الموصوفات، أو مشاركتها معه.

ثالثاً- الرثاء النثري:

وكان معظمه في رسائل رسمية تعزي بفقد ملك وتهنئ من حل مكانه ، وتؤبن الأول وتطري الثاني .من ذلك ما سطره الصفدي حينما عزى الملك الفاضل في والده المؤيد([20]) وهنأه لأنه صار ملك البلاد بعده، وقد كتب إليه يقول:

"جعله الله خير خلف، وهنأ البيت الأيوبي بما ورثه من المجد المؤثل والشرف، وسقى صوب الرحمة أصله الذي فرّع دولته الطاهرة وسلف…

ورد على يد فلان يتضمن ما قدره الله من وفاة المقام الشريف العمادي، والد مولانا قدس الله روحه الكريمة، وسقى تربة ضمته صوب كل ديمة، فوقف المملوك على الخبر الذي روّع العباد، وغدا كل قلب كأنما يُجَرّ به على شوك القتاد، ونظر إلى النجوم كأنها فرائد سافرات في حداد فأرسل المملوك دمعه الصبّ على الحبيب الذاهب، وأخذ من قسمة الأحزان بين الأنام نصيبه الواجب وكيف لا … وقد كورت الشمس، ولا نقول انقض الشهاب وغيض البحر… ووهى عماد الملك، ولا نقول انقصمت الأطناب، وفجع بمن أثقلت أياديه الأعناق قبل أن حُمِل على الرقاب

ردت صنائعُه عليه حياته

 

فكأنما من نشرها منشور

وللوقت طالَع المملوك العلوم الشريفة بذلك، وورد الجواب الشريف يتضمن شمول مولانا بالصدقات الشريفة وإقامته مقام والده قدس الله روحه، فهنأ الله مولانا بهذه البشرى… وما أحق هذه البشرى أن تهتز لها أعطاف المنابر، وأن تنطق بحمدها ألسنة الأقلام من أفواه المحابر … والله يجمّل الأيام بدولته الزاهرة، ويجعل الأقدار على مُراده ومرامه متظافرة، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى"([21])

لقد بدا على أسلة قلم المؤلف شغفه بالبديع من سجع وطباق وجناس وتضمين للشعر، وتصوير بصور تقليدية لتضفي على النص رشاقة وحيوية فالقلب يجر على شوك القتاد، والمحابر تهتز أعطافها وألسنة الأقلام تحمد، وقد أحالت المحسنات اللفظية نثره إلى موسيقى وألحان حتى غدا النص الأدبي زخرفاً وحُليّاً وحتى غدونا نحس بأن التصنيع قد حمّل النص وشياً وزينة وأن صاحبه قد غدا يقطع فراغه ويتلاعب بأسجاعه وجناسه.

وهذه مرثية لشهاب الدين محمود يعزي فيها الأديب جمال الدين بن نباتة في ابنه ، وهي بعد الألقاب:

"…. وأحسن عزاءه بأعز فقيد وأحب حبيب ووليد، وعوّض بجميل الصبر جوانحه التي سُئلت عن الأسى فقالت ثابت ويزيد، صَدَرَتْ هذه المفاوضةُ تهدي إليه سلاماً يعز عليه أن يُتْبَع بالتعزية، وثناء يشق عليه أن يطارح حمائم سجعه المطربة بحمائم الشجو المبكية المُنكية، وتوضّح لعلمه ورود مكاتبته المؤلمة فوقفنا عليها إلا أن الدمعة ما وقفت، وخواطر الإشفاق عليه وعلى من عنده طفت حُرقُها وما انطفت، وعلمنا ما شرحه ولم يشرح الصدر على العادة من وفاة الولد [فلان] سقى الله عهده ولحده، ونضر وجهه وتغمد بالرضوان خاله([22]) وخدّه، وما بقي إلا التمسك بأسباب الصبر والتفويض إلى من له الأمر، والدنيا طريق، والآخرة دار، ودهليزها القبر، وللمرء من تثبته وازع، والاجتماع بالأحبة الراحلين واقع، إن لم يصيروا إلينا صرنا إليهم وإن لم يَقْدموا في الدار الفانية علينا قدمنا في الدار الباقية عليهم، نسأل الله تعالى أن يجمعنا في مستقر رحمته، ويُحْضِرنا مع الأطفال أو مع المتطفلين ولائم جنته، والله تعالى يُدارك بالصبر الجميل قلْبَه، ولا يجمع عليه فقد الثواب وفقد الأحبة"([23]).

نرى الكاتب هنا يتصنع الأسلوب، ويفرط في استعمال البديع ، فهو يضيف كلمة (المُنكية) إلى الجملة ليوازن بين العبارتين في (وثناء يشق عليه أن يطارح حمائم سجعه المطربة بحمائم الشجو المبكية المنكية) وإن فيها لَتَعَمُّلٌ ظاهر، وكذلك نراه يتكلف الطباق والجناس ولاسيما في (ويحضرنا مع الأطفال أو مع المتطفلين ولائم جنته) فالسياق في العزاء، وذكر الأطفال والمتطفلين لا يليق بالمقام ، وقد أكثر الأديب من الجناس حتى صار ميزة للنص بل زينة، صبغة التكلف فيها واضحة، فضلاً عن تضمين بعض شعر جميل بثينة دون الإشارة عليه وذلك في:

إذا قلت مابي يابثينة قاتلي

 

من الحب قالت ثابت ويزيد ([24])

وكان الأولى ألا يستخدم في سياق التعزية بيتاً شهر في مجال الغزل .

 وهذا النص يشير إلى أن الكاتب أراد أن يوشي عباراته فرصَّ كلمات فيها بديع ، وقد حال التكلف دون التأثر  حتى صار النص عبثا لا جمال في عباراته ولا رواء .

ومن خلال اطلاعي على أسلوب العصر وجدت أن هذا التكلف الممقوت يكثر في العهد المملوكي، وكأنه امتداد لما كان عليه الحريري والحصكفي والقاضي الفاضل وأضرابهم

أما في العصر العثماني فكان الكتاب العرب قد قللوا من هذا التصنع في نثرهم الفني إلا إن كانوا يريدون تحبير نص بأسلوب أنيق، ولا يُرى فيه مثل هذا الضعف والتعمل إلا نادراً.

رابعا - الهجاء النثري:

ورد هذا الفن خلال مقامات وتراجم العصر غالباً، وكثرت فيه السخرية المرة اللاذعة ونفي الفضائل عن المهجو، بل إن بعضهم أفحش حينما اتهم من يهجوه بالمجون وإن كانت هذه الظاهرة قليلة بل نادرة.

وهناك ظاهرة أخرى هي استخدام العلم في مجال الهجاء، إضافة إلى هجاء المدن والمراد بها أهلها وطبيعتها الجغرافية غير الملائمة.

فمن الهجاء الذي نفيت فيه الفضائل، وكثرت فيه السخرية قول محمد بن خصيب الصادي([25]) في الطبيب شرف الدين محمود بن يونس، وكان هذا قد تعرض للفتيا وخطأ قاضي القضاة، فرد عليه إسكندر الرومي برسالة علق عليها الصادي وندد بالطبيب وقال له هاجياً ساخراً، نافياً عنه العلم، متهماً إياه بتملق الحكام ليصل إلى مراده:

"فإنه قد امتطى غارب الجهل والعناد، وانتضى حسام الزور والشرّة بين العباد، وأخذ أموال الناس، وتوصل بها إلى الحكام، وحصل ضرره وفساده في الأرض للخاص والعام، مشى على غير استقامة … تصدر للفتيا مع أنه أجهل من توما الحكيم، وأنصف حماره ابن حجيج فركبه في الليل البهيم، قد فتح فاه بجهله… ولم يميز في السجعين بين الفاعل والمفعول… فيا ليت شعري بهذه الرتبة السافلة والدرجة النازلة يروم أن يرقى المراتب العالية، بل هذا دليل على أنه أجهل البرية

لا يستوي مُعرِب فينا وذو لحَن

 

هل تستوي البغلةُ العرجاء والفرس

وطالما عرج على درج المنبر، وجعل أمرده أمامه، ولولا التقية لجعله إمامه، وما تلفت على أعواد المنبر يميناً وشمالاً إلا ليقتنص ظبياً أو يصيد غزالاً، أبا لحب والخِبّ ترجو الرفعة على الأنام، أم بالرشوة والتزوير تنال الرتب في هذه الأيام… شتان بين مَنْ تحلى بالفضائل، وبين من هو عنها عاطل، وما كفاك أخذك التدريس بالتدليس، وخوضك في الفتن التي فقت بها إبليس… كأنه خطر في زعمك الفاسد، وفكرك القبيح الكاسد أن الله قبض العلماء ولم يبق منهم أحد، واتخذ الناس رؤساء جهلاء في كل بلد فتضل الناس كما ضللت وتعديت، وتنفق بضاعتك الكاسدة بقولك أفتيت… دع الفخر فلست من فرسان ذلك الميدان… ومالك في التدريس سوى أبي مرة إبليس"([26]).

فالكاتب رمى ابن يونس بجهل الشرع مع ادعائه العلم وبأنه ليس قادراً على التدريس وبأنه أكل أموال الناس ونافق مع الحكام، لينال المناصب، وبجهله باللغة العربية ونحوها، وقد أوقعه هذا الجهل بخطأ في الفتيا، وكأنه توهم أن الله قبض العلماء فلم يعد هناك من يعرف غيره.

وقد استعان الأديب في هجائه هذا بالمنطق العقلي، فالذي لا يعرف الفاعل من المفعول به لا يستطيع الإفتاء، وبالمنطق الاجتماعي والديني، فمن يصعد المنبر ليتصيد غزالاً أو ظبياً لا يكون أهلاً لهذا المقام الجليل، وبالمنطق الثقافي لأن التدريس يؤخذ بالمقدرة لا بالتزوير، وهذه الحجج المنطقية جعلتنا نشعر بلذة عقلية، لولا أن الكاتب خاض فيما لايليق حين اتهمه بالمجون.

والاتهام بالمجون كثر في هجاء هذا العصر بل فاق هذا الأديب([27])، وكان الأولى به وبغيره أن يعرض عنه، لأن " أشد الهجاء أعفه، وما استطاعت العذراء أن تنشده في خدرها كما قال خلف الأحمر، وما قربت معانيه وسهل لفظه وعلوقه في الذهن، فأما القذف والإفحاش فسباب محض لا يضر المهجو، بل يعرض صاحبه للمذمة، ويدل على سوء طوية"([28]) ويكفي في الهجاء الإشارة والتلميح([29])، وقد استعان الأديب في هجوه أيضاً بالسجع وبالتوازن الموسيقي وكان سجعه وتوازنه ذوَي وقع حسن على الأذن لا على النفس وكانت تراكيبه محكمة .

 من ذلك قوله في الاستفهام الاستنكاري: "أبالحب والخب ترجو الرفعة على الأنام، أم بالرشوة والتزوير تُنال الرتب في هذه الأيام؟) وفي هذا الجناس اللطيف : (ومالك في التدريس سوى أبي مرة إبليس) .

كما استعان بالاقتباس والتضمين، فجاء بحديث الرسول r (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الصدور، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)([30])، وضمن بيتاً شعرياً ليسخر به من مهجوه .

كما جاء بالأمثال دون أن يشير إليها نحو (أجهل من توما الحكيم) والحكيم هو الطبيب، وكان ابن يونس أيضاً من الأطباء، وفي هذا سخرية منه.

كما أن في النص تصويراً فنياً لواقع هذا المهجو الذي خاض في الفتن (تجسيم) وكان فكره كاسدا  (تجسيم) ، وفي (فلسْتَ من فرسان ذلك الميدان) كناية عن انحطاط قدره ، وقد أدى هذا التصوير إلى إضفاء الجمال على النص.

ولعمري إن الكتابة الفنية فيها خلابة وبيان عذب لو أن صاحبها استخدمها في مجال خير لا شر، وكان قادرا كالجاحظ على التلوين العقلي والتلوين الصوتي.

ومن مظاهر الرثاء النثري في هذا العصر استخدام المصطلحات العلمية فيه ففي ترجمة محمد الدفتردار([31]) نرى الكاتب يأتي بعبارات الطب على نحو (رئيس صفراوي الذكاء، سوداوي الرأي، دموعي المزاج، ولولا ما في لفظ البلغم من الكراهة لقلت بلغمي الأناة… هوائي المشرب، ناري الطبع، مائي الطمع… غلب عنصر الماء في أيام حكومته، واشتعلت النار في زمن ولايته، ووقع السيل العظيم المشهور بهذه البقاع حتى علا الماء على حجر التاريخ الذي تحت قلعة دمشق مقدار ذراع)([32]).

فالكاتب استخدم ألفاظ الطب والأمزجة، وكأن المزاج المائي ذكَّره بالنار وبالسيل الذي عم المنطقة، وليس في هذا الهجاء جمال، وإن كان فيه طرافة الغرابة، كما أنه ليس في هذا التصنيع أحاسيس الأدب ولا تصويره الذي يؤثر في الأفئدة أو العقول لأنه أراد به التوشية لا التأثير

ومن هجاء المدن ما تعرض فيه السويدي لمدينة نصيبين فهي (قرية وخمة، وهواؤها رديء وخم، وماؤها أردأ، وجوه أهلها صفر من كثرة الحمى التي فيها، وهي مشرفة على الخراب، لا جمعة فيها ولا جماعة، وأهلها مجردون عارون من الفضائل والكمالات، بل ومن جميع الطبائع الإنسانية… وأقمنا فيها ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج… فالحمد لله على أن نجانا منها، وفيها أقول:

عرّج ركابك لا تنزل نُصَيْبينا

 

واربَح جمالك بل دنياك والدينا

أرض تصيد بها الحمى على عجل

 

طير الفلاة وإن سامى السماكينا

أرض بها الدينُ والإسلام مفتقَد

 

والخير عنها بعيدٌ نازح حينا

أرض بها الشر لم يبرحْ ببقعتها

 

مستوطناً دهره حتماً وتمكينا ([33])

فالكاتب هنا أرسل قلمه غير متصنع في عباراته، وقد دمج الشعر والنثر ليندد بطبيعة هذه المدينة الجغرافية، وطبيعة أهلها البعيدة عن الخير والدين بل حتى عن الصلوات المفروضة.

خامسا -  فن العتاب:

وهو كغيره من الفنون النثرية جاء في ثنايا الرسائل الإخوانية، من ذلك ما قاله أحمد المنيني([34]) إذ استهل رسالته العتابية ببيت الشعر:

" سهمٌ أصاب، وراميه بذي سلم

 

مَنْ بالعراق، لقد أبعدتِ مرماك 

ثم قال : إليك نفثة مصدور قد خزنها اللسان، وبثة مضرور انطوى على شوك القتاد منها الجَنان، قد كنت في إبدائها شفاهاً أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، ثم رأيت حملها على لسان القلم بي أحرى، حذراً من مشافهة ذلك الجناب بما لا يدري، آعتذار هو أم عتاب، وذلك أن الداعي تشرف منذ قريب بالمجلس العالي، لا زالت به مشرفة الأيام والليالي… فلما استقرت به زمر الناس، وحصل كل منهم على إيناس بعدإيناس، شِمْتُ منه، أعزه الله بارقة إعراض، ولمحت من جنابه عين إغماض، ووجدت أبواب الإقبال محكمة الأقفال، وكواعب الالتفات ممنعة بحجب الجلال، ولطالما وردتُ من ألطافه كل عذب نمير، وتنزهت من بشراه ونداه بين روضة وغدير… فأحدقت بي إذ ذاك الهواجس وتنازعتني الوساوس، وانبثت مطايا أفهامي في كل فج عميق، وطاشت سهام أفكاري في كل مرمى سحيق، إلى أن ظهر السبب بما يقضي منه العجب، فتمنيت أني كهدهد سليمان لأبرز جلية ما عندي على منصة البيان، أو أبوء بالنكال والخسران، ولا أتقلب من الكتمان على جمر الغضا،… ومما زاد ذلك ضراما… أنني يوم تشرفت برؤياكم وتوسمت جميل محياكم قصدت الاجتماع بجناب سيدي المولى الأكرم من لا أذكّره من الحقوق إلا بعهد زمزم لأشكو إليه بثي وحزني، وأبين له جلية أمري وشأني فلما آنس مني ذلك سرى كما يسري الطيف الحالك، وخرج من المنزل السامي سراً كأنه كلف شيئاً نكراً، فليت شعري أخالف كريم شيمه؟ أم أخلف عهود كرمه؟:

قد كنتَ عُدَّتيَ التي أسطو بها

 

ويدي إذا اشتد الزمانُ وساعدي

فرميْتُ منك بغير ما أمَّلتُه

 

والمرءُ يشرق بالزلال البارد

تالله إنكم لأهل بيت مرفوع العمد بخفض الجناح للمؤمنين، وبذل النصح والمعروف لأهل التقى والدين، ألطافكم وافرة، وصلاتكم غامرة… هل يحسن منكم بعض الظن بعبيد رق لا يروم فداء، ولا من أم ؟  كيف تشهر صوارم الأعراض على من لا يطيق مع ذوي وده كفاحاً؟ أو يرمي بالقطيعة أسير حب لا يريد سراحاً، ومن أين يشتبه عليكم من سبكت أيدي امتحانكم نضاره ؟ وسبرت بصائر نقدكم أسراره . كيف وأنتم ملجؤه الأسمى وكهفه المنيع الأحمى… إذا نشب من الزمان مخلبه؟ وحاشاكم من ضعف الثقة بأهل المحبة ، أو أن يروج عليكم زخرفة كلام، أو يستوي عندكم التبر والرغام، أو يرضيكم تبسُّم كاشح لم يُدْرَ ما وراء برقه أو يقنعكم تمويهٌ ظاهرُه عما أجنه من خلقه… فالأحرى بأمثالكم إحضاره، ثم اختباره واستفساره، كيلا تصغو إلى بهتان، أو يدنو من سماء مجدكم شيطان، ومثلكم لا يخفى عليه الحسن من الشَّيْن، ولا يلتبس عليه الصدق بالمين، وها أنا أبرز القضية بجليتها، وأعبر عنها بحقيقتها، والله المطلع على السرائر، العليم بما أكنته الضمائر، فإن تبين بهذا المقال حقيقة الحال…. وإلا فالتربص إلى أن يأتي الله بالبيان، ويتجلى الأمر للعيان… وقلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء"([35])

هذا النص العتابي سطرته يد ابتغت من رسالتها إعادة المودة التي كانت بين المرسِل والمرسَل إليه، ولهذا راح صاحبها يبدي حبه، ويلقي عذره ليعود الوئام وتزول الضغينة، ومن سمات العتاب ألا يطول، وأن يعرضه صاحبه بأسلوب لطيف لاخشن ليرق قلب الصديق([36])، ولهذا يستهل المنيني قوله ببيت من الشعر  الرقيق وهذا مما يستدعي إعادة العلاقة بين الطرفين، ثم أتبع ذلك بالحديث عن رغبته في إيضاح الأمر بعد تردد، فذكر أن المرسَل إليه لما تسلم منصباً هاماً أعرض عن الناس واحتجب ولم يستقبل صاحبه، وكان ممن يفيض خيره عليه، ولهذا داخله الشيطان ثم عمد إلى القلم يسطر فيه ما أكنه ضميره، وخلال ذلك بين له صلته الحميمة، فهو عبد رق له ، محب ودود، فإن لم تعد العلاقة بين الطرفين فإن الله الذي يقلب القلوب سيأتي بالبيان ،وبذلك ذكره بعلم الله وإنصافه للعباد عله يرتدع عما هو فيه من جفاء وهجران.

ولقد عرض الكاتب فِكَره بأسلوب جمع بين النثر والنظم على عادة أبناء العصر، وكان الشعر قد وظف لخدمة الفكرة .

واعتمد على الترادف كثيراً فكل عبارتين تؤديان معنى واحداً أو قريباً ليحقق في آن واحد  معادلة موضوعية وموسيقية يوازن بها جمله .

وكان السجع المعول عليه في هذا التوازن والتعادل، وهو سجع حسن الوقع على الأذن كما في: "كيف وأنتم ملجؤه الأسمى، وكهفه المنيع الأحمى، وإليكم مهيعه ومهربه، إذا أنشب من الزمان مخلبه" وعلى الرغم من أن كلمة الأحمى بمعنى المنيع في سياق هذه العبارة، وكذلك مهيعه ومهربه، وكانت الأولى أثقل على الأذن من الثانية، إلا أن العبارة بصورة مجملة كانت تؤدي نغمة متوائمة.

وكانت الألف في القافية تعطي مداً للفكرة، والهاء تشير إلى تعب صاحبه والجناس أدى إلى عذوبة في الكلام نحو "إلى أن يأتي الله بالبيان ويتجلى للعيان".

وفي النص أيضاً اقتباس من سورة يوسف، وكلاهما جريح متألم "لأشكو إليه بثي وحزني"([37])  وكذلك من الحديث الشريف "قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرف كيف يشاء"([38]) .

وهناك أمثال عربية نحو "أقدم رجلاً وأؤخر أخرى" وهو كناية عن التردد.

فضلاً عن الطباق في مثل "أو يستوي عندكم التبر والرغام،  والطباق الخفي بين يرضيكم تبسم كاشح لم يدر ما وراء برقه " ، فما وراءه العداوة لا المحبة .

وما أجمل الاستفهام في قوله "فليت شعري أخالف كريمَ شيمه؟ أم أخلف عهود كرمه؟" كذلك الاعتراض الذي يبين منزلة المرسَل إليه "شِمْتُ منه – أعزه الله – بارقة إعراض".

وفي النص تصوير فني بديع، فحزنه "نفثة مصدور قد خزنها اللسان"، وألمه "بثة مضرور انطوى على شوك القتاد منها الجنان" وعدم السماح بملاقاته صوره بالأبواب المقفلة، والغادة المحجبة، وهو يتمنى أن يكون كهدهد سليمان في إيضاح الموقف، وأيادي المرسَل إليه "عذب نمير، وروضة غدير، ونسائم لطفه يترنح بها كل غصن وريق"، والوساوس تتنازعه فكأنهما في صراع، وفكره يجول في كل فج عميق، وسهم أفكاره في كل مرمى عميق وهما كناية عن القلق، وقد استخدم الكناية عن النسبة في "لمحت من جنابه عين إغماض" فهو يسند الإعراض إلى مكان مجاور له لا إليه مباشرة، وفي ذلك تأدب في معاملة من يعاتبه… ويطول المقام لو أوضحت جميع الصور ولكنها في مجملها تشير إلى مقدرة صاحبها البلاغية، فهو يكسو الكلام حلاوة وطلاوة بألفاظه الرشيقة المنسابة كالماء السلسبيل، وبموازناته وإيقاعاته، وأناقة عباراته وأحكامها

***                    ***                       ***

و أخيرا أقول…. لم يدع الكتاب مجالاً للشعر إلا خاضوه وترنموا فيه بعباراتهم ذات الجرس العذب في كثير مما سطروه، وإذا كنت عرضت نماذج للوصف والرثاء والهجاء والعتاب وأعرضت عن المديح والشوق والحنين فلأن هذين الأخيرين كثر ذكرهما في الرسائل  والمقامات وقد أردت الإيجاز، ومن أراد المزيد فعليه أن يعود إلى الرسائل والمقامات ليرى فيهما كل تفريط وثناء، ومواجد وأشواق .

الفصل الثاني

الشكل الفني أو التشكيل اللغوي في النثر

الفصل الثاني

الشكل الفني أو التشكيل اللغوي في النثر

عني أبناء عصر الدول المتتابعة، ولاسيما من كان منهم في العصر المملوكي بالحركة الأدبية، وكان لديوان الإنشاء عند هؤلاء منزلة لا تضاهى، إذ لا يسند العمل فيه، إلا إلى بليغ محكك، قد أوتي من أسرار البيان والفصاحة ما يلذ به الألباب والقلوب .

وقد برع كثيرون في اللغة والأدب، وتأخر آخرون، واتصل بعضهم بالأمم الأخرى في أواخر العهد وتأثروا بما عندهم من فنون.

وبصورة عامة كان أسلوب النثر يميل إلى الصنعة حيناً والتصنيع أخرى ولئن كان في الأولى جمال وتأنق، فإن في الثانية تكلف كان آفة على أدبنا العربي انعكس إعراضاً عنه ونفوراً.

والحق يقال أن هذه الصنعة والتصنيع بل والتعقيد أيضا كان سمة لأدب كثيرين منذ القرن الخامس الهجري واشتد في السادس ولاسيما عند أصحاب المقامات كالحريري والحصكفي والقاضي الفاضل، فلما جاء القرن السابع، وهو بداية هذا العصر ظهرت دعوات تستنكر هذا الجموح في التعبير فخفت حدته، ولاسيما فيما كان يسطره الكاتب لنفسه لا لحاكمه، لأن ذوق هؤلاء كان يميل إلى تكلف الصور وتكلف البديع، حتى صار من يحاول أن يرضيهم ليتقرب منهم يأتي بالمصنوع من النثر، فيقال فيه "وله في غاية الجودة"([39]) وليست هذه الجودة إلا كلاماً يزين به لا رواء فيه ولا ماء وهكذا غدا الأدباء ينتقون من العبارات ما يلائم أذواق مسؤوليهم، وكثيرا من أبناء عصرهم ولا ننسى أن هؤلاء الكثيرين كان معظمهم من الأعاجم الذين لا يدركون جمال التعبير إلا من خلال الزخارف والبهارج، وصار الأدب عند هؤلاء جرسا رنانا ولو كان على حساب المعنى.

ولكن هذا لا يعني أن نثر العصر قد جمد كله، فهناك نماذج من التعبير الفني في غاية الجودة  يعبر فيها صاحبها عن مشاعره، بلغة أدبية رائعة، وتصوير فني رائق وموسيقى عذبة، والذين يتهمون العصر، كل العصر، بالجمود والعقم قد جنحوا عن الصواب، لتعجل دراساتهم، وقلة اطلاعهم على معطياته . ولاسيما أن النظرة إلى النثر الفني قد بدأت تختلف فيه بعد أن أطلق ابن الأثير دعوته التجديدية له في ثورة نقدية على الأساليب المتصنعة والمعقدة بمثل قوله :

 "الكلام الفصيح هو الظاهر البيّن والظاهر البيّن أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتب اللغة، وإنما كانت بهذه الصفة لأنها مألوفة الاستعمال، دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أن أرباب النظم غربلوا اللغة فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه، ونفَوا القبيح منها فلم يستعملوه…. والمرجع في تحسين الألفاظ وقبحها إلى حاسة السمع، فما يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، وما يكرهه وينفر عنه هو القبيح…. وقد كانت العرب الأُوَل في الزمن القديم تتحاشى اللفظ الغريب في نظمها ونثرها، وتميل إلى السهل وتستعذبه"([40]) .

فابن الأثير هنا يدعو إلى الأسلوب الظاهر الذي يسبك في عبارات واضحة لا ينفر منها السمع، وتستعذبه الأذن.

وكذلك قال العسكري: "وقد غلب الجهل على قوم فصاروا يستجيدون الكلام إذا لم يقفوا على معناه إلا بكد، ويستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه كزة غليظة، ويستحقرون الكلام إذا رأوه سلساً عذباً، وسهلاً حلواً، ولم يعلموا أن السهل أمنع جانباً وأعز مطلباً، وهو أحسن موقعاً وأعذب مُسْتَمَعاً. ولهذا قيل أجود الكلام السهل الممتنع… والغريب لم يكثر في كلام إلا أفسده، وفيه دلالة على الاستكراه والتكلف"([41]) وهذه الدعوة طبقها ابن الأثير ومن نحا نحوه فيما سطروه، ولكن أذواق المسؤولين نأت عن السهل الذي لا زخرفة فيه، وكانوا كما أشرت يحسبون أن الجمال في التصنع والزخرف والتسجيع، ولهذا راح هذا الناقد يكتب لهم بما يرغبون، ويسطر مؤلفاته بما اقتنع به وتبعه على ذلك آخرون ، وقد ظن قوم أن ابن الأثير كان يعادي السجع على أي حال ، ولذا نراه يرد على من اتهمه مبينا أن السجع عذب الجرس  وبه جاء كثير من آيات الله سبحانه،  ولكن تكلفه هو القبيح . وقد جعل د.عمر موسى باشا أتباع هذا الرأي في مدرسة  "ازدواجية الأسلوب".

وبدأت دعوته هذه تؤتي أكلها ونتج عن ذلك إبداعات سطرت بأسلوب مرسل بعيد عن التَّعَمُّل، إلا في عناوين الكتب إذ حافظت على السجع كما في "صبح الأعشى في صناعة الإنشا "  للقلقشندي و "الصبح المنبي على حيثية المتنبي" ليوسف البديعي ، وكلاهما ممن بدا عنده هذه الازدواجية  .

وهناك الأسلوب الرمزي الذي ظهر عند المتصوفة من أبناء العصر، إذ كان بعضهم يخشى النقد أو السلطة فيوري كلامه، وكانوا بذلك رواد الرمزيين.

إضافة إلى هذه  الأساليب نرى أسلوب السير الشعبية الذي كان فصيحا وامتزج بلهجات، ومازجته أخطاء.

وبناء على هذا فإني سأدرس أساليب هذا العصر :

أولاً: النثر الفني بين التأنق والتكلف، وهدفه تجويد الكلام وتحبيره.

ثانياً: النثر المرسل الأدبي والعلمي، وهدفه غالباً إيصال المعارف بلغة بليغة لا تكلف فيها، مع الاهتمام بجودة السبك وإحكام العبارة .

ثالثاً: الأسلوب الرمزي الذي ترعرع على أسلات أقلام المتصوفة المتطرفين.

رابعاً: النثر الشعبي الذي لوحظ في السير الشعبية، وعليه مآخذ كثيرة.

أولاً - النثر الفني بين التأنق والتصنع:

وفيه يعمد الكاتب إلى تجويد العبارة وجعلها منسجمة متناغمة في جرسها الموسيقي، وألفاظها المتينة التي لا خلخلة فيها ولا نشوز، وتصويرها البديع، فإنه تكلف ذلك حتى بدا في العبارة تعقيد أو ضعف قيل إن صاحبه يقلد ولا يعبر ويؤثر الصنعة على المعنى:

1-     وكان كثير من كتاب المقامات والرسائل يتأنقـون فيما يسطرون، ويعجبون بالنغم المطرب، وبالصورة الجديدة، وكان معظمهم ممن ثقف ثقافة عربية واستوعبوا أساليبها البليغة.

هذا الشيخ بهاء الدين البيطار([42]) يقول في مفاخرة بين الشمس والقمر يقرظ بها عمه حين يجعله خير حَكَم بينهما ، يقول :

"فلما سمع القمر ما هاله، قال لا دارت لي هالة إن لم أبرز لك في ميدان السبق، وأبدي شرفي عليك لسائر الخلق أما سمعت أيتها الشمس قول بارئ الجن والإنس وللرجال عليهن درجة، فأنت بي في الفضل مندرجة، على أنك وسمت بالعين([43])، وقد شاهدت بالعينين، )وللذكر مثل حظ الأنثيين(، وأعدل شاهد بسبقي لمن اعتبر ) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر( وأما ما تعاليت به علي قائلةً أن نوركَ مني وإليَّ ، فالفرع قد يشرف أباه أَحَبَّ ذلك أو أباه.

إنما الورد من الشوك وما

 

يخرج النرجس إلا من بصل

فلا غرو أني القمر المنير، ذو الشان الخطير، بسنائي تطيب القلوب، وعلى ضيائي يجتمع المحب والمحبوب، فالأفراح لا يتم سرورها إلا بحضرتي والراح لا يكمل حبورها إلا لدى طلعتي، وكم من ذي جفن ساهر، وذهن حائر ،وطرف حائل، ودمع سائل، وقلب ذائب، وكرب دائب يبث لي شكواه ويَنُثّ لي بلواه ، وكم من كلف يحن إلي لما يرى من شبهي بالحبيب، ودنف يئن لدي كأني لدائه طبيب، فأنا الشقيق لأهل الحسن والجمال، والشفيق على من صبا عشقا ومال، إن أنكر المحبوب وَجْد الحبيب أجابه سل أخاك فإنه علي رقيب، وما أعذب ما قاله ابن سهل الهمام في هذا المقام:

سل في الظلام أخاك البدر عن سهري

 

تدري النجوم كما تدري الورى خبري

وتشتهي الأنفس شهود طلعتي، فغرتي طالع السعد والبشر وسمائي موطن آدم أبي البشر فلتكف الشمس عن مضاهاتي، ولتمسك عن مساجلتي ومباهاتي ولتحاول غير هذه الشطة قبل وقوعها معي في أعظم ورطة، ولتعترف بفضلي اعتراف من تنبه غب ماسَها وإن عادت العقرب عدنا لها"([44]).

فالكاتب هنا نراه يعرض المفاخرة بأسلوب عذب منغم، اعتمد فيه على الازدواج والتوازن ليحقق بهما جرساً موسيقياً لطيفاً كما اعتمد على السجع ولكنه سجع لطيف الوقع على النفس، لا خلخلة فيه ولا غريب إلا كلمة واحدة بين جمل عِذاب واضحة المعنى.

كما تكاثرت الصور لتقوي المعنى وأبرزها تشخيص الشمس والقمر، فهما يتسابقان في حلبة ميدان المفاخرة، ليبدي كل منهما فضله.

كما يصور الأديب واقع الكثيرين تصويراً حياً في "وكم من ذي جفن ساهر، وذهن حائر، وطرف حائل، ودمع سائل، وقلب ذائب، وكرب دائب، يبث لي شكواه وينث لي بلواه" وهذا التصوير العاطفي الذي مازجته موسيقى الازدواج والتوازن جاء ليرسم لوحة فنية أنيقة تصور من يناجي القمر وهو ساهد.

وقد اعتمد الكاتب في مبارزة هذين القَمَرين على اللغة، فاللغة أطلقت على القمر اسماً مذكراً، وجعلت الشمس من المؤنث المجازي، ولهذا قال للذكر مثل حظ الأنثيين، والناس يقولون عين الشمس، ويقولون القمر كالوجه له عينان.

كما اعتمد على قضايا اجتماعية، فالأفراح تكون في الليل، والمحب يبث همومه في رقدة الناس فيناجي البدر، والناس يتمنون رؤياه.

وعلى ثقافة أدبية واسعة بدت من خلال استشهاده بأشعار كثيرة مما أكسب موضوعه اتساعاً، وساعده على أداء المعنى القليل بأساليب وعبارات شتى حققت الجمال التعبيري والتصويري بإيقاعاتها وأخيلتها، وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر في آداب العصر للإفادة من جمالياته، ورد التهمة التي أطلقها د.شوقي ضيف وكثيرون مثله عليها حين قال "ويدور الزمن بعد ذلك في العصور الوسطى دورة، بل ما شاء من دورات، فلا يظهر مذهب جديد في صناعة النثر العربي وصياغته، بل يجمد الأدباء عند صورة المذهب الأخير [التصنيع والتعقيد]، ويمكثون في إطارها حائرين حتى العصر الحديث"([45]).

فهذه الأساليب وكثير مثلها لا تشير إلى جمود ولا تعقيد، بل إلى جمال وابتكار في طرق التعبير وفي أساليبه وبشكل متأنق بديع، والمغالاة في الاتهام مشكلة نكب بها هذا العصر.

وهذا نص أدبي قدمه لنا الكاتب الشاعر سعيد بن محمد الخروصي([46]) في موعظة له حسنة جاءت في مقدمة ديوانه، وكان منها : "فاللهَ اللهَ مشايخي وإخواني في الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله والمسارعة لمرضاة الله والتجنب عن معاصي الله، والتوكل على الله، والتفويض لله والاعتصام بالله، والغضب في ذات الله، والحب لأولياء الله، والبغض لأعداء الله، وترك المداهنة والمصانعة للظالم، وعليكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تكونوا كالذين ذكرهم الله في كتابه فقال )كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( …. واشكروه إذ جعلكم من أمة محمد     r وبين لكم في كتابه الحق من الضلال والحرام من الحلال، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة نعمة منه لديكم، وحجة له عليكم، وعرفكم وحدانيته، وفضلكم على كثير ممن خلق تفضيلا… وعليكم بامتثال أمر هذا الملك الجليل الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، )تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده( من بحار وجبال وفياف وقفار وأشجار وأنهار…. وهل يطاق عذاب هذا الملك الذي يرتعد من هيبته السموات والأرض والجبال والبحار فلا إله إلا الله ما أحمقك من إنسان، انظر لو عذبت بالعطش في الوقت الصائف ولم تُسْقَ أبداً ما كان حالك … أما آن للقلوب القاسية أن تخشع؟ أما آن للعيون الجامدة أن تدمع، فقد طال ما كرر الله الوعد في القرآن بالثواب لمن أطاعه كما يرضاه وقد طال ما كرر الوعيد بالعقاب لمن خالفه وعصاه فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.

فما هذه الدنيا بدار قرار ومقام، ولا دار اجتماع وانتظام، و إنما صفوها بالكدر مقرون، ... أما سمعتم بالملوك الأوائل والرؤساء من القبائل، أين الملوك الأربعة؟ بل أين الملوك السابقة؟ أين ارم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، …أين من أحاطت به الأبطال؟ أين من أذعنت له غلب الرجال؟ ….أين من فجر الأنهار وغرس الأشجار وخدمته ملوك الأقطار، وعانق الخرائد الأبكار فوق الأسرة والنمارق، وملك المغارب والمشارق؟ ….ونسي القضاء المقدور حين أناخ به ركب المنون، ووافاه أمر مَنْ إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فصار في التراب دفيناً، وبما قدمت يداه رهيناً، أما يكفيكم أدب واعتبار؟ وموعظة وازدجار؟….

…. أتظنون أنكم بعدهم مخلدون؟ هيهات هيهات لما توعدون،... فقدموا بين أيديكم زاداً جميلاً من قبل أن لا تجدوا إلى ذلك سبيلاً، وكان أمر الله مفعولاً"([47])  

فالكاتب اعتمد في موعظته على الجمال المعنوي والجمال التعبيري، وقد قوى الجمال التعبيري الفكرة حين شحنها بعاطفة إيمانية صادقة قوامها الدعوة إلى مرضاة الله والتناصر في الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ذكر بقدرته تعالى وهيبته، وبفناء البشرية وضرب لذلك أمثلة من الأمم الأخرى.

وأما الجمال التعبيري والتصويري فكان التكرار أحد مقوماته فقد كرر كلمة الله أحد عشر مرة في عبارات متوائمة "أوصيكم ونفسي بتقوى الله والمسارعة لمرضاة الله والتجنب عن معاصي الله والتوكل على الله، والتفويض لله والاعتصام بالله والغضب في ذات الله والحب لأولياء الله…" وهذا التكرار لهذه الكلمة الجليلة لها وقعها النفسي في القلب إذ تدعو إلى الامتثال، وهذه هي غاية الأدب.

وكان السجع يحقق نغمة مؤثرة، وكانت العبارات تنساب به انسياباً "أين من أحاطت به الأبطال؟ أين من أذعنت له غلب الرجال، أين مَنْ فجر الأنهار وغرس الأشجار، وخدمته ملوك الأقطار".

كما اعتمد على اقتباس آيات القران الكريم بألفاظها ومعانيها كقوله )تسبح له السموات السبع ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده( ،وقوله )أتظنون أنكم بعدهم مخلدون، هيهات هيهات لما توعدون( .

ولعل المقدرة الشاعرية للأديب وثقافته التراثية ولاسيما الدينية مكنتاه من تأدية أفكاره بعبارات متقنة لا تكلف فيها ولا تصنع، بل كانت الفكرة تنساب على أسلة قلمه سلسلة عذبة في جرس منغم ، وقد جمع هذا الأسلوب اللفظ المختار في صياغة فنية جميلة، وكأني بالشاعر قد رغب أن يستميل الأسماع إلى موعظته الحسنة فدفعه ذلك إلى تحبير العبارة وتحسين السبك ليخلب بها القلوب فتتأثر، وهذه أولى مهمات الأديب .

 وهذا ما يدعونا إلى القول بضرورة دراسة أدب المواعظ، فهو أدب فيه طلاوة وعذوبة لا جفاف ولا تعمُّل .

 على أن من أسباب جمال النص الأدبي أحيانا ازدحام الصور وتكاثفها في عبارات رشيقة، هذا عبد الله السويدي يكتب إلى تلميذه الذي دعاه "الولد القلبي حسين بك" معبراً له عن أشواقه فيأتي بصور متعددة يتلو بعضها بعضاً ليعبر من خلالها عن وجده وحبه، وهو يقول له:

"من محب سالمه سهاده، وحاربه رقاده، وخانه جلده، ووفى به كمده ترامت به البلدان والأقطار، وتقاذفت به الفلوات فأقصته عن الديار، تأججت زفراته، واضطرمت لوعاته، وهاضت أشواقه حين أساء عليه فراقه…. وايم الله لا يرد علي سروري، ولا يعيد إلى حبوري، ولا يرد جيش همومي، ولا يزيح تراكم غمومي إلا التملي بمحيا الأمجد الذي علا حسبه، وسما نسبه، وشرفت أخلاقه، وزكت أصوله وأعراقه، وعذبت موارده ومصادره،….أتذكر تلك الليالي فتهيج زفراتي، وتضطرم لوعاتي، وكلما خيلت ربعكم المعمور بالمسرات بادرتني العبرات والحسرات

...أسال الله وعليه المعول أن يجمعنا قبل انخرام الأجل، أيها الولد"([48]).

فالكاتب هنا اعتمد على كثرة الصور إذ لا تكاد تخلو عبارة من صورة، وهذا التكاثف أدى إلى التعبير عن شدة وجده، وتحرقه لرؤيته، وإذا أضفنا إلى القيم التصويرية القيم الموسيقية ممثلة في السجع والازدواج والتوازن والتي تكاثرت تكاثر الصور أدركنا سبب جمال هذه القطعة الفنية التي كانت ريشتها قلم الأديب، وأصباغها أخيلة الكاتب الذي تفنن في صنعها حتى جاءت مدبجة متأنقة.

ويقول د. الرباعي حول هذه الصنعة : " إذا عدنا إلى فحص ما سمي بوسائل البديع بمنظار جديد وجدنا أنها جميعا ترتد إلى عنصرين هامين هما الصورة والإيقاع الداخلي ، وهذان هما العنصران الأساسان في كل شعر} وأقول : في كل نثر فني أيضا { ، وفي أي زمان ، وعلى هذا فإن كل شاعر قديما كان أم حديثا هو عضو في مدرسة البديع ، ومن هنا كان ربط ابن المعتز بين الشعراء الجاهليين والمولدين في البديع ، ولكن ابن المعتز تحدث عن تكلف البديع ولم يدرك أن لهذه الزيادة علة غير علة التكلف والتصنيع . ليس هناك كما أعتقد شعر مصنوع وشعر غير مصنوع وإنما هناك شعر فقط، وإذا وجد الشعر وعاش فإن وراءه صنعة لامحالة ، وطبعا أو موهبة لامحالة ، فالصنعة والموهبة ركنان أساسان من أركان الإبداع الشعري ، والذي يؤدي إلى الاختلاف في الأساليب لايكون في زيادة الصنعة وعدم زيادتها فقط ، وإنما يكون قبل ذلك في نوعية الطبيعة الشاعرة التي تبدع تلك الأساليب ، أو ما عبر عنه أحد الباحثين بالإطار ، فلكل شاعر إطار خاص ولكنه غير مفصول فيه عن مجتمعه وعصره، فإطاره جزء من إطار العصر الذي يعيش فيه ، ويتدخل في صنع الإطار عوامل متنوعة غير متجانسة منها المزاج الشخصي والإلهام الفطري والتحصيل الثقافي،  والوضع الاجتماعي والظرف الحضاري والنظام السياسي، والمعتقد الديني وكل ما يهم الشاعر في الحاضر وما له قيمة في نفسه من الماضي ، والقوتان العقليتان اللتان تمتلكان هذا الإطار عادة هما الخيال والوعي الفني([49]) .

وإذا أخذنا قول الرباعي بعين الاعتبار وجدنا أن كثيرا من شعراء عصر الدول المتتابعة قد اهتموا بالعنصرين الأساسان في الجمال الأدبي : الصورة والموسيقى ، ووجدنا أن ماسمي بالصنعة كان عندهم موهبة تدل على مقدرة في الإبداع ، ولكنها موهبة نبعت من الإطار الذي يعيشه الشاعر وهو تحصيله الثقافي، ووضعه الاجتماعي والحضاري ، إضافة إلى إلهامه الفطري ومن هنا كان تأثير ذوق العصر عليه ، وكان إبداعه الفني يعد ضمن مفهوم الجمال في عصره .

2- إلا أن بعض أساليب العصر ولا سيما في العهد المملوكي كانت تتأرجح بين التصنع والصنعة([50]) يجود أصحابها العبارة تارة فتأتي مصقولة رصينة، وتنحرف أخرى حين يتكلفونها فتبدو باردة فجة ،من ذلك ما كتبه الظاهر بيبرس إلى شريف مكة "أبي نمي الأول محمد بن أبي سعد الحسن الحسني ت701هـ" لما بلغه ما لا يليق من المظالم:

"من بيبرس سلطان مصر إلى الشريف الحسيب أبي نمي محمد بن أبي سعد، أما بعد

فإن الحسنة في نفسها حسنة، وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ وأشين، وقد بلغنا عنك أيها السيد أنك بدلت حرم الله بعد الأمن بالخيفة، وفعلت ما يحمر به الوجه، وتسود به الصحيفة، ومن العجب كيف تفعلون القبيح وجدكم الحسن، وتقاتلون حيث لا تكون فتنة، ولا تقاتلون حيث تكون الفتن.

هذا وأنت من أهل الكرم، وسكان الحرم، فكيف آويت المجرم واستحللت دم المحرم )ومن يهن الله فما له من مكرم( [الحج 18/371] فإما أن تقف عند حدك وإلا أغمدنا فيك سيف جدك والسلام.([51])

  فالكاتب هنا اتكأ على الترادف والسجع، والمقابلة بين أمرين يوازن بينهما في المعنى كما يوازن بينهما في التركيب والموسيقى، إضافة إلى إشارات تاريخية بقوله "وجدكم الحسن" يشير بذلك إلى حقن الحسن بن علي رحمهما الله لدماء المسلمين وتسليمه الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان رغبة منه في السلم لا في الحرب، وقد اهتم بالإثارة العاطفية وبالجدل المنطقي ومناقشة القضية لكن هذا الأسلوب وجد فيه تكلف أساء إلى العبارة نحو "الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي في بيت النبوة أسوأ وأشين"، فكلمة "أشين" التي  جاء بها لتلائم السجعة في "أحسن" كانت نابية عن مكانها .

ومما يدخل في هذا المجال أيضا أسلوب الكاتب ابن حبيب الحلبي، فهو تارة يجود عباراته وأخرى يتعمد التصنع ، وذلك في مثل قوله:

" أرقت ذات ليلة في مهادي فسمعت طارقا ينادي في النادي … فقمت من مضجعي وقل بلّ ردني مدمعي متحيراً في أمري متأسفاً على ما فات من عمري، وقلت أيها الطارق في ظلمة الليل الغاسق هل لك في المنادمة؟ فقال كم نديم سفك المنى دمه، ثم سلّم وجلس، وما تنفس وما نبس، فقلت يا من شنّف السمعَ بدُرّه اذكر لي شيئاً في طول الليل وقصره فقال:

وليل كواكبه لا تسير

 

ولا هو منها يطيق البراحا

كيوم القيامة في طوله

 

على مَنْ يراقب فيه الصباحا

مقيم ليس يبرح، وعاجز لا يظعن ولا ينزح، بَرَدُ نجومه لا يذوب، وغائب ضوئه ليس يؤوب،…عليله ما يرجى صلاحه، وصباحه لا يلوح مصباحه… ثم قال:

أيا أخا الأدب إلى كم ذا الحرص والدأب، الأيام نجمها غرّار، ومدّعي الوفاء منها غدّار، كثيرة الملال، سريعة الزوال، تفرّق الحبائب، وتسترجع المواهب، ذمامها ذميم، ومسالمها سليم، تحل العقود ولا تحفظ العهود…. لقد سقط من تمسك بعُراها، وتعب من قصد الراحة من ذُراها، قال التهامي:

ومكلف الأيام ضد طباعها

 

متطلب في الماء جذوة نار

ثم قال مضت الجَهْمَة والشفق، والفحمة والغسق، والقِطْعُ والسُّدْفة والبهرة والزلفة، وآن لنسمات السحر أن تتبختر، ولعيون الفجر أن تتفجر، وقام للوداع فقلت زودني بأنعم المتاع، فقال دع إزار الأوزار، واتق من لا تدركه الأبصار، وسبّحه بالعشي والإبكار، وهو الذي يتوفاكم في الليل ويعلم ما جرحتم بالنهار"([52]).

إن سمات الأسلوب في عصر الدول المتتابعة هي هي، تسجيع وتصوير واقتباس وتضمين، ولكن تركيب الجملة وإحكامها، وتواؤم موسيقاها يرجح بعضاً على بعض، وهنا يبدو المؤلف وقد تأرجح بين القوة والضعف فهو يتكلف في وصفه للطارق: " ثم سلم وجلس ، وما تنفس وما نبس" إذ لولا التصنّع لما جانس بين ما تنفس وما نبس . كما وصف الليل بأنه " مقيم لا يبرح وعاجـز لا يظعن ولا ينزح" فكلمة لا ينزح جاءت حشواً بعد إتمام المعنى في "لا يظعن"، ولكنه حشو جيء به لمناسبة النغمة.

أما في "أيا أخا الأدب إلى كم ذا الحرص والدأب، الأيام نجمها غرار، ومدعي الوفاء فيها غدار… لقد سقط من تمسك بعُراها، وتعب من قصد الراحة من ذراها….) فالأسلوب قوي الصياغة، محكم العبارة لا يُرى فيه تكلف لصورة أو بديع، بل تأتى العبارة في إيقاع، يحوي تعادلاً صوتياً تتلاحق فيه العبارات المتوازنة لترضي الأذن كما يرضي النص الشعور.

3- وهناك أساليب أخر هدف صاحبها تقديم جمل موشاة بزخارف تعبيرية أو تصويرية، وهدف أصحابها تبيان مقدرتهم على الإتيان بالبديع من غير أن يمتلكوا أسباب الفصاحة، وقد أطلق عليها د.شوقي ضيف اسم التصنع، وهو كثير في عصر الدول المتتابعة لكن كثرته لم تمنع من وجود أساليب قوية كنا رأينا نماذج منها، ومن هذه الأساليب المقيتة قول عبد البر الفيومي([53]) في شكواه من الزمن:

"قد كان الفضل في المراقي من نصل عيون الدهر هو الراقي، والترقي في الأدب به التوقي من النصب والوصب، وكل هذا ذهب وانحصر الدواء في الفضة والذهب، فالمفلحون في خبايا النقود قعود، والمفلسون في زوايا الخمول رقود، فدع فضل العلم والحسب، واسع أن يكون لك من المال خير نشب فقد كان الأدب وديعة واسترد، وصار الدرهم مرهماً ولبرء الساعة استعد"([54])

فهنا نرى التكلف بادياً للعيان ولقد كان الرسول r ينهى عن هذا الأسلوب المتكلف إذ قال لجرير "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف"([55]) ولكن أمثال هؤلاء الأدباء حسبوا أن الجمال في الرنة الموسيقية فراحوا يحققونها في معادلات صوتية مفصلة بحيث أن الفكرة فيها لا تؤدى في عبارة واحدة ولكن في اثنتين أو أكثر، وطرافة الصوت أو هكذا حسبوه قادتهم إلى تكرار المعنى كالنصب والوصب، والى الجناس "وكل هذا ذهب، وانحصر الدواء في الفضة والذهب" و "المفلحون في خبايا النقود حقود…" وإلى التوازن يطيل به الكاتب عبارته حين يحتاج إلى الإطالة ليبقي للعبارات نغمتها، إنه يوشي عباراته بزخارف جعلت النص الأدبي صناعة كتابية فيها تطريز وتزيين وحيل بلاغية شتى.

ولنقرأ هذا النص ففيه من التصنع الكثير أيضاً وقد ورد في ترجمة السيد عبد الرزاق البهنسي([56])، وترجمه الشيخ سعيد السمان وقال في وصفه "جيفة ضغن وحسد، وشنشنة([57]) لؤم ضمها جسد، راض جواد فكره في حزن الخداع وسهله، فتلا عليه حاله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، متشدقاً فيما يؤديه، متكبراً فيما يخفيه ويبديه، مهتماً بشأن الظهور، ومتأسفاً على يوم مشهور، فلم تجب الأيام له وسيلة، ولم تنقع من تلك الأوام([58]) غليله، فنصب الحيلة في نيابة بعض محاكم الأطراف، وانتصب لإجراء الأحكام فجرى في سوح الجور والإسراف، فحققت إساءة الظنون فيه، والظلم كمين في النفس، القدرة تظهره، والعجز يخفيه، فما مكث إلا يسيراً، وانقلب لصولة العزل أسيراً، فندم ندم الفرزدق حين طلق نوار"([59])

هذا النص كله زخرف وتطريز وترصيع وطباق واقتباس وإشارات تاريخية، أو أدبية، وكلمات غريبة وإن كانت قليلة وكأن الأديب جعل من نص ترجمته متحفاً يعرض فيه المحسنات البديعية وهو يطيل في عرض فكرته ويتعب نفسه في تكلفه دون أن يأتي بصورة بديعة، أو وصف محبب بل بالغ في الإساءة إلى هذا العام الجليل كما بالغ في تصنعه.

وفي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" رسالة تصحيفية تقرأ فيها كل كلمتين مثل بعضهما لولا النقط مثل "غرير غزير، بديع يذيع، سهران شهوان، أهيف أهتف، باسمة باسمة أيامه إن أمه، أحد أخذ…" ([60]) .

وكأن صاحبها أراد أن يقلد الحريري في رسالته السينية والشينية، وليس هذا من الأدب في شيء، لأن الأدب تعبير فني عن تجربة شعورية، تعبيرا تشترك فيه العاطفة مع اللغة والتصوير والموسيقى.

ثانيا – أسلوب الترسل :

ملّ بعضهم الصنعة والتأنق، ورأوا أن كثيراً من ذويها قد انحرفوا عن خط الأدب فدعوا إلى الترسل ، وكان رائدهم في ذلك كما ذكرت آنفا ابن الأثير

قد بدا هذا الأسلوب في ثلاثة مجالات :

1- في النثر الفني الإبداعي  وجاء أسلوبه محكما مشرق البيان .

2- المجال الأدبي والتأليفي للعلوم النقلية، أو ما يسمى في عصرنا بالدراسات الإنسانية.

3- المجال العلمي ويسمى بالعلوم العقلية.

وسأوضح هذا من خلال معطيات العصر الثقافية.

1-  النثر الفني المرسل

     في أواخر العهد العثماني خاصة وبعدما آتت الدعوات النقدية أكلها، ظهرت مدرسة الإحياء أو المدرسة الاتباعية الجديدة ، وهي مدرسة أدبية قادها محمود سامي البارودي([61]) الذي عاش وتوفي في العهد العثماني ، وقد دعا إلى العودة بالأسلوب إلى وضاءته وإشراقه ، ومما أبدعه أصحابها قول فرح أنطون في  مسرحيته السلطان صلاح الدين :

 " – بلونديل : إن لك الآن شفيعا من مرضك وحزنك ، وإني لعاذرك ، ولكن لاتنسي أن امتلاكنا هذه البلاد فرض علينا ، ومهما يصبنا في سبيلها فلا بد من قضاء هذا الفرض .

-    ماريا : فرض عليكم أن تملكوا هذه البلاد ، وفرض على أهلها أن يذودوا عنها ، فهلموا الآن واملكوها إن كنتم تستطيعون ، قد يقال هذا عن أرض لاناس فيها في القمر أو في المشتري أو غيره من كواكب السماء، أما الأرض التي يسكنها العباد وتحوي في بطنها على قبور الآباء والأجداد وعلى ظهرها خدور النساء وأسرة الأولاد فهي حرام حرام ، واليد التي تمتد للقبض عليها إنما تقبض على النار أو القتاد .

................

-         برنت : لانسألك إلا أمرا واحدا وهو ألا تحالفي أعداء قومك .

-    ماريا : لاعدو لي اليوم إلا من يفقدني أخي ، فلئن أفقدنيه السلطان لأقسمَنَّ أنني أثأر منه لأخي ثأرا يهتز له التاريخ عجبا ، ولئن كنتم أنتم مفقديَّ إياه فلأثأرَنَّ منكم ومن قومكم ثأرا ترتعد له فرائص بني الإنسان([62]) " .    

فالكاتب هنا جاء بجمل محكمة متينة لم تعتمد على جرس موسيقي ، وإن كانت لاتخلو من موسيقى العبارة ، ولم تتكلف تصويرا ، وإنما كانت كل كلمة وكل عبارة قد أخذت موضعها اللائق بها،واتسابت انسياب الماء الزلال فنفذت إلى الأسماع وأثرت في القلوب.

2- الأسلوب المرسل في الدراسات الإنسانية:

وهو يمثل تياراً من التيارات النثرية في ذلك العصر، وينتمي إليه كتاب ملّوا السجع وقيود الصنعة، ورغبوا في الانطلاقة في التعبير، فتركوا لأسلات أقلامهم العنان، ونأوا عن التقعر والتوشية قدر الإمكان.

ها هو ابن الأثير يتحدث عن الملك الأفضل علي بن صلاح الدين الأيوبي فيقول:

"كان رحمه الله من محاسن الزمان، لم يكن في الملوك مثله، كان خيراً عادلاً فاضلاً حليماً، قل أن عاقب على ذنب، ولم يمنع طالباً، وكان يكتب خطاً حسناً… وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، لا جرم حرم الملك والدنيا، وعاداه الدهر، ومات بموته كل خلق جميل، وفعل حميد، فرحمة الله عليه ورضي الله عنه، ورأيت من كتابته أشياء حسنة فمما بقي على خاطري منها أنه كتب إلى أصحابه لما أخذت دمشق منه كتاباً من فصوله…"([63])

فالكاتب هنا يطبق ما كان دعا إليه من إرسال العبارة على سجيتها دونما تكلف أو تعمّل، ولذلك جاءت العبارات سهلة رهوة، لينة ومحكمة، ومتسلسلة تسلسل الماء النمير.

وهذا أسلوب مرسل بخط أبي الفداء المعروف بابن كثير([64]) يصف فيه وقعة هولاكو في كتابه التاريخي البداية والنهاية فيقول:

   "فلما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير([65]) والقنى  والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، وفوض إليه الشحنكية([66]) و إلى الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب ولكنه كان شيعياً جلداً ورافضياً خبيثاً فمات جهداً وغماً وحزناً وندماً إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام ولله الحمد والمنة. وذكر أبو شامة [أي في الروضتين] وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق، وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام"([67]).

فهنا نرى الأسلوب المرسل، والتمكن من العبارة، وانسيابها مع عدم خلوها من التأنق الذي لا يغير سمة الترسل العامة في النص، وكانت ألفاظه واضحة الدلالة، مشحونة بقوة العاطفة الإيمانية، وكأن صاحبها قد سكب فيها روحه قبل أن يسكب فيها عباراته، وهذه هي البلاغة بعينها.

وهذا نموذج آخر لكاتب عرف بأسلوبه المطبوع الناصع ، إنه ابن خلدون([68]) عالم الاجتماع العربي يتحدث من خلال مقدمته عن اللغة العربية في الدولة الإسلامية مشرقها ومغربها ويبين سبب انتشارها وفساد ملكتها وتغير إعرابها فيقول:

"اعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالِبين عليها أو المختطِّين لها، ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية، وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغَلْب على الأمم والدين والملة صورة للوجود وللمَلِك وكلها موادُّ له، والصورة مقدمة على المادة، والدين إنما يستفاد من الشريعة وهي بلسان العرب لِمَا أن النبي r عربي فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها، واعتَبِرْ ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن بِطانة الأعاجم وقال إنها خِبٌّ أي مكر وخديعة، فلما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً هجرت كلها في جميع ممالكها لأن الناس تبَعٌ للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب، وهجر الأمم لغاتهم و ألسنتهم في جميع الأمصار والممالك، وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة، ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره وان كان بقي في الدلالات على أصله وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام "([69]).

فابن خلدون وهو من أدباء القرن الثامن الهجري نراه يرسل كلامه إرسالاً يشابه ما نكتبه في أيامنا من مقالات تتعلق بموضوع معين وقد عالج فيه قضية اللغة العربية إذ بين سبب انتشارها هو قوة الدولة الإسلامية ذات اللسان العربي ، كما بين ضعفها وما آل إليه أمرها بعد مخالطة الأعاجم  إذ داخلتها العجمة ، وهذه المعاني الهامة جاءت بأسلوب محكم سلس مطبوع نشعر فيه بمتانة السبك وقوة العبارة وانسجام التراكيب دون أي زخرفة إلا ما يستدعيه المقام، وهو أسلوب كثر نظيره في الكتب المؤلفة، ولاسيما التاريخية والاجتماعية لأن غاية مؤلفيها كانت إيضاح الفكرة، وتبيان السبب والعلة، وتقديم البراهين والحجج بلسان عربي مبين.

والمعاني الرصينة تحتاج إلى لغة رصينة.

وهذا وصف لمكة المكرمة ورد في رحلة ابن بطوطة لا نرى فيه عناية بالتصوير ولا تدبيجاً للعبارة، و إنما نراه يؤدي المعنى اللازم بألفاظ على قدرها، فهو يصف للعلم والإخبار لا للأدب. يقول فيها :

 "  ومكة شرفها الله كما أخبر الله في كتابه العزيز حاكياً عن نبيه الخليل بوادٍ غير ذي زرع، ولكن سبقت لها الدعوة المباركة، فكل طُرْفة تجلب إليها وثمرات كل شيء تجبى لها، ولقد أكلتُ بها من الفواكه العنب والتين والخوخ والرطب ما لا نظير لها في الدنيا، وكذلك البطيخ المجلوب إليها لا يماثله سواه طِيباً وحلاوة، واللحوم بها سمان لذيذات الطعوم، وكل ما يفترق في البلاد من السلع فيها اجتماعه، وتجلب لها الفواكه والخضر من الطائف ووادي نخلة وبطن مر لطفا من الله بسكان حرمه الأمين ومجاوري بيته العتيق"([70])

3- الأسلوب العلمي المرسل:

وهو أسلوب لا يقصد منه صاحبه تجميل المعاني، إنما الدلالة منها على قدرها، وهو عند كثيرين لا يعد في النثر الفني إلا حينما يعمد صاحبه إلى بعض التحبير، ويرسل عباراته محكمة دون أن يتكلف عاطفة أو صورة أو محسناً إلا ما يأتي عفو الخاطر، ويرى في هذا الأسلوب مصطلحات علمية وبراهين وأدلة من ذلك قول العمري وهو يصف لنا نبات البندق في كتابه مسالك الأبصار إذ يقول:

"هو رديء للمعدة ضار لها وإذا سحق وشرب بماء العسل أبرأ من السعال المزمن، وإذا قلي وأكل مع يسير من الفلفل أنضج النزلة، وإذا أحرق كما هو بقشرة وسحق وخلط بالشحم العتيق من شحم الدب ولطخ به داء الثعلب أنبت فيه الشعر، وزعم قوم أن البندق المحرق إذا سحق مع الزيت وسقيت به يافوخات الصبيان الزرق العيون سوّد أحداقهم وشعورهم، والبندق يزيد في الدماغ أكلاً"([71]).

فالكاتب هنا ذكر من أسماء النبات البندق والفلفل، وذكر من جسم الإنسان المعدة ويافوخ الصبيان والعيون الزرق، والأحداق والشعر، ومن الأمراض النزلة وداء الثعلب وهي كلها مصطلحات عملية لها دلالات خاصة. كما ذكر فوائد البندق وجاء هذا كله في بضعة أسطر لأن غاية العلم وإيصال المعلومة.

وهذا وصف آخر لحيوان من عجائب مخلوقات الله، وقيل إنه العنقاء حيوان أسطوري، ولكن ما نقله ابن بطوطة عنه يجعلنا نميل إلى القول الأول، إذ ذكر أن "العنقاء أكبر الطيور وأعظمها خلقة، تخطف الفيل والجاموس كما تخطف الحدأة الفارة . وذكروا أنها كانت من قديم الزمان تختطف من بيوت الناس فكان جناياتها تكثر عليهم إلى أن خطفت يوماً عروساً مجلية، فدعا عليها حنظلة النبي r فذهب الله بها إلى بعض الجزائر في البحر المحيط تحت خط الاستواء ولا يصل إليها الناس، وهناك حيوانات كثيرة كالفيل والجاموس والكركدن وسباع الجوارح والعنقاء، تصيد منها لأنها تحت طاعته، فإذا اصطادت العنقاء شيئاً تأكل منه وتترك الباقي للحيوانات التي تحت طاعتها، ولا تصيد إلا فيلاً أو حوتاً عظيماً أو تنيناً وإذا فرغ من أكله صعد إلى مكانه، ….وعند طيرانه يسمع من جناحه شبيه صوت هجوم السيل، أو صوت الأشجار عند هبوب الريح العاصفة، وذكر أن عمرها ألف وسبعمئة سنة، ويتزاوج إذا أتى عليها خمسمئة سنة، فإذا حان وقت بيضها وجد لذلك ألماً شديداً، فيأتي الذكر بماء البحر في منقاره فيحقنها به، فيخرج البيض بسهولة، ويحضن الذكر البيض، والأنثى تصيد، ويفرخ البيض بمئة وخمسة وعشرين سنة"([72])

وأسلوب الكاتب في هذا النص كأسلوبه في وصف النبات، لا عاطفة ولا أخيلة و إنما تأتى العبارات مؤيدة بأدلة علمية تذكر فيها السنوات، والأعمار، وهذا يدل على مرونة اللغة العربية، التي استوعبت علوم العصور.

ثالثا – الأسلوب الرمزي:

الرمز لغة هو الإشارة([73]) وهو من أنواع الكناية([74])، ولكنه في مفهوم العصر الحديث مدرسة أدبية لها سماتها، ولعل أهمها الإيحاء، والصور المكثفة، وتراسل الحواس والرمزيون يرون اللغة المعجمية لا تكفي للتعبير عن مشاعرهم وأحوالهم النفسية، ولذلك يلجؤون إليه باستعمال ألفاظ موحية و إشارات تاريخية وصور متراكمة تشير إلى الخاطرة التي يريدونها([75]) وقد مرّ معنا إبان الحديث عن الفن القصصي أن أدباء العصر عرفوا القصة الرمزية، كما عرفوا الألفاظ الرمزية الموحية، ذلك لأنهم، ولاسيما المتصوفة منهم، أدركوا أن اللغة العادية قد لا تقوى على حمل ما يحوك في صدورهم من فكر خالفوا بها المجتمع، ولذلك استعملوا كلمات موحية و إشارات تاريخية وأدبية، وقدموها في قوالب ذات صور مكثفة لتنم عن معتقداتهم و أحاسيسهم ([76]) .

وأستطيع أن أقول أن الأسلوب الرمزي بدا في هذا العصر في ثلاثة أنواع:

1- مفردات رمزية دالة.

2- فكر متوالية لا يمكن التصريح بكثير منها إلا عن طريق الرمز، ولذلك يتواصل وقد يكون في تفسيرات غامضة كما هو عند المتصوفة المغالين ، كما قد  يكون قصة ، وغايته إيراد الفكرة لا الفن.

3- قصص رمزية على ألسنة الحيوانات أو الجمادات، ويراد منها فكرة ما ، سياسية أو اجتماعية.

1- ويكثر النوع الأول خلال الأحاديث كالخمرة الصوفية، والعنقاء عند المقدسي رمز الذات الإلهية، والهدهد رمز العابد المخلص([77]).

2- و أما النوع الثاني الدال على أفكار متوالية فقد ورد منه في قصة كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار([78]) وقد عرض علينا خلال مسيرة القصة ما كان يريده من إشارات، كإشارة البنفسج والورد والهدهد و….مما يشير إلى أخلاق المتصوف، وفي الهدهد يقول مثلاً "لو انشرحت الصدور لظهر ذلك النور ولو ارتفعت الستور لانكشف المستور، ولو طهرت القلوب لظهرت سرائر الغيوب وشوهد المحبوب، ولو خلعت ثياب الإعجاب لرفع لك الحجاب، ولو غبت عن عالم العَيْب لشاهدت عالم الغيب، ولو قطعت العلائق لانكشفت لك الحقائق، ولو تجردت من الإرادة لوصلت إلى رتبة السيادة ولكنك مسجون في سجن طبعك متعلق بحبال خيال حسك"([79])

فظهور النور بعد ارتفاع الستور وانكشاف المستور ومشاهدة المحبوب بعد رفع الحجاب وعالم الغيب، والحقائق والسيادة كلها كلمات لها دلالاتها عند المتصوفة، وهذا المعنى العقائدي لا يمكن التصريح به ولذلك جاء في شكل حديث على لسان الهدهد.

وكذلك تحدث المقدسي عن العنقاء، لا على أنه طائر ضخم يحمل فيلاً، ولكن على أنه رمز للذات الإلهية – معاذ الله – التي رفعت الحجب عن الطيور القادمة بعد العناء، رمزا للعابد المريد.

ويمكننا أن نعد من هذا النوع تفسيرات ابن عربي، في ترجمان أشواقه، و أقوال عبد الغني النابلسي في رحلته الحجازية وهم يرون أن للعبارة ظاهراً وباطناً، والأول يفهمه العامة، والباطن يدركونه هو، وهم يزعمون أن الرسول r قد أملى عليهم هذه المعاني الباطنية، يقول عبد الغني النابلسي فيما سماه الحزب الأعظم أن محمداً البكري([80]) أخبره أن "الرسول r أملاه عليه" فتلقنه منه، وهو قول البكري:

"اللهم صل وسلم على نورك الأسنى وسرك الأبهى وحبيبك الأعلى وصفيك الأزكى واسطة أهل الحب وقبلة أهل القرب، روح المشاهد الملكوتية، ولوح الأسرار القيومية ترجمان الأزل والأبد، لسان الغيب الذي لا يحيط به أحد، صورة الحقيقة الفردانية وحقيقة الصورة المزنية بالأنوار الرحمانية، إنسان عين الله المختص بالعبارة عنده أحمد من حَمَد وحُمِد عند ربه محمد الباطن والظاهر بتفعيل التكميل الذاتي في مراتب قربة غاية طرفي الدورة النبوية المتصلة بالأول نظراً وإمداداً، بداية نقطة الانفعال الوجودي إرشاداً وإسعاداً، أمين الله على سر الألوهية المطلسم، وحفيظه على غيب اللاهوتية المكتم، من لا تدرك العقول الكاملة منه إلا مقدار ما تقوم عليها به حجته الباهرة، ولا تعرف النفوس العرشية من حقيقته إلا ما يتعرف لها به من لوامع أنواره الظاهرة ،منتهى همم القديسين، وهو النور المطلق ولا تتلى مزاميره على لسان إلا برنّات ذكره، وهو الوتر الشفعي المحقق المحكوم بالجهل على كل من ادعى معرفة مجردة في نفس الأمر([81])  عن نفسه المحمدي، الفرع الحدثاني المترعرع في نمائه بما يمد به كل أصل أبدي جنى شجرة القدم، خلاصة نسختي الوجود والعدم، عبد الله ونعم العبد الذي كمال الكمال وعابد الله بالله بلا اتحاد ولا حلول ولا اتصال ولا انفصال، الداعي إلى الله على صراط مستقيم، نبي الأنبياء ومحمّد الرسل عليه بالذات ،وعليهم منه أفضل الصلاة وأشرف التسليم ياالله يارحمن يا رحيم، اللهم صل وسلم على جمال التجليات الاختصاصية في جلال التدليات الاصطفائية الباطن بك في غيابات العز الأكبر الظاهر بلورك في مشارق المجد الأفخر عزيز الحضرة الصمدية وسلطان المملكة الأحمدية، عبدك من حيث أنت كما هو عبدك من حيث كافة أسمائك وصفاتك، مستوى تجلي عظمتك وعلمك ورحمتك وحكمتك في جميع مخلوقاتك، من كحلت بنور قدسك مقلته فرأى ذاتك العلية جهارا وسترت عن كل أحد من خلقك في باطنه أسراراً وفلتت بكلمة خصوصية المحمدية بحار الجمع…."([82])

نلاحظ هنا أن الصوفي انسلخ من عالمه وراح يتحدث عن عالم آخر يجتاز حدود العقل والحلم والخيال ويورد ألفاظا رمزية لا يفهمها إلا هو أو من ثقف ثقافة المتصوفة من أمثال روح المشاهد الملكوتية، ولوج الأسرار القيومية، صورة الحقيقة الفردانية إنسان عين الله … محمد الباطن والظاهر بتفعيل التكميل الذاتي…. الدورة النبوية أمين الله على سر الألوهية المطلسم، غيب اللاهوتية النفوس العرشية، الوتر الشفعي، الفرع الحدثاني، خلاصة نسختي الوجود والعدم، محمد الرسل عليه بالذات، التجليات الاختصاصية في جلال التدليات الاصطفائية، الباطن بك في غيابات العز الأكبر الظاهر بلورك في مشارق المجد رأى ذاتك العلية جهاراً وسترت عن كل أحد من خلقك في باطنه لك أسراراً.

 ولعمري إن هذا ليس بعبادة ، فكتاب رب العالمين جاء بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين، فضلاً عما في هذه العبارات من انحراف بل الحاد غنيٍّ عن البيان والرمز البليغ ما شف من المعنى لا ما أغمضه.

3- و أما النوع الثالث وهو القصص الرمزي، فقد أوردت ما خطه محمد النحاس من قصة رمزية اجتماعية صور فيها قلعة الكرك تضيق من إسناد ووظائف الدولة إلى غير المسلمين، وتقدم شكواها إلى السلطان المصري، وتطلب منه أن يختار لهذا المنصب الجليل رجلاً مسلماً غذي بلبان الإسلام، ورضع من سيرة نبيه الكريم ثم قال في نهايتها "وقد أرسلتِ المملوكةُ هذه القصة والسيل بالغ الزبا وخفيفَ بلله قد عم أعالي الربا، فإن أجيبت فاللوم عداكم وإلا أنشدت فعلى علاكم"([83])

وقد استخدم الأديب الرمز ليشير به إلى شكواه كما يبين به مقدرته الأدبية.

رابعاً – النثر الشعبي:

برزت في عصر الدول المتتابعة مشكلة الأدب الشعبي الذي كتبه أعاجم بلغة فصيحة مازجها عبارات عامية ولهجات محلية كانت قد شاعت على ألسن العوام نتيجة عدم تمكنهم من اللغة الفصحى. وكان الناقد ابن الأثير قد قسم الكلمات العامية إلى مبتذلة وأخرى لها أصل في الفصيح، يتداولها الناس بعد أن يغيروا فيها بعض التغيير، أو يستعملوها لغير ما جاءت له في أصل اللغة.

والحق يقال أن أسلوب السير الشعبية يتراوح بين الفصيح والممتزج بغيره .

فمن النوع الأول ما ورد في خطبة الزواج على لسان الشخصية شاهين الذي كان رسول الملك الصالح نجم الدين لخطبة شجرة الدر إذ يقول فيها:

"الحمد لله الذي حلل النكاح وحرم السفاح، وأجرى بقدرته الرياح، خلق الخلق بقدرته، ومسّكهم بحبل عصمته، وأقامهم على سنته، وجعلهم يتناسلون شيئاً بعد شيء وصنفاً بعد صنف، وما زال المؤمن متمسكاً بالكتاب لا يخاف ولا يفزع من الارتياب.

وبعد.

فقد قال أعز من قائل )وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً( أعلمك أيتها السيدة الفاخرة أن الدنيا ساخرة، والباقي الدار الآخرة، فهنيئاً لمن تزود فيها بالخيرات وجعل رأس ماله الأعمال الصالحات، وأن الله تعالى خلق النساء للرجال ليظهر النسل بإذن الله المتعال، وأن الملك الصالح نجم الدين أيوب ... يريد أن يتشرف بقربك، ويحظى بطلعتك وقدك، وقد بعثني إليك بهذه الرسالة ... فماذا أنت قائلة في ذلك، كفاك الله شر المهالك" ([84]) .

فالخطبة هنا ذات أسلوب محكم معتمد على التزيين بالسجع والاقتباس وفيها مسحة من الجمال الأدبي، وهي تسعى إلى الأناقة اللفظية، وتحقيق جرس عذب، إلا أن فيها بعض تكلف في التعبير.

لكن في السيرة نصوصاً أخر دون ذلك المستوى لاحتوائها على أخطاء في الألفاظ والتراكيب سببها تفشي العامية أو لهجاتها فيها، من ذلك قول المؤلف وهو يصف حرباً بين هلاوون قائد الأعاجم، وبين المسلمين في بغداد:

"فبينما هم في ألذ ما يكون من المنام، وإذا بالصباح قد أخذهم من سائر الأقطار، ووقع فيهم بالقتل بالسيف البتار، فلا أحد قدر أن يثور من مكانه حتى طارت رأسه عن أبدانه([85])، وربما كان الرجل منهم إذا أخذ سلاحه قتل به أخاه وأعدمه الحياة ومنهم من كان متجرد([86]) بغير حسام. وصارت المجوس شنيارها([87]) معكوس وجيشها مكبوس، وعمل فيهم السيف والدبوس، ...وزهقت النفوس وجرى الدماء من الرجال مثل ذبح التيوس، وعاد صياحهم معكوس، وعمل فيهم البتار، وقد اشتعلت نار الحرب إشعال([88])، وتجندل الأفيال، وجرى الدماء وسال، فلا كنت تسمع([89]) إلا الرنين ولا للمجاريح إلا الأنين، وأخذهم السيف من الشمال واليمين، وضاق عليهم البر الفسيح، وتعاووا مثل عيّ الذبيح، وضاق الخناق، وشربوا من الموت أمر مذاق، ووقف الحرب على قدم وساق، وتعلقت الفرسان بالفرسان والشجعان، وطارت الرؤوس من الأبدان، وزهقت النفوس من شدة الوَلَهان، وشيب الشجاع المصان، وولى الجبان المهان، وصار الدم ينزل والسيف يعمل، ونار الحرب يشعل([90]) وكانت هذه الوقعة لا يعرف لها أول من آخر"([91]).

فالمؤلف هنا نراه يحاول أن يحقق لأسلوبه الجمال وقد حسب أن ذلك يكون بالسجع فتكلفه تكلفاً ممقوتاً، ولم يحسن اختيار ألفاظه فجاء بعضها مبتذلاً مثل: مكبوس، وذبح التيوس، وصياحهم معكوس، ووقع في ضعف في تراكيب العبارة مثل (فلا كنت تسمع إلا الرنين) وسكَّن بعض العبارات من أجل السجعة (اشتعلت نار الحرب إشعال) ووقع في بعض الأخطاء النحوية، مثل (طارت رأسه عن أبدانه) و (نار الحرب يشعل)، واستعمل كلمات أعجمية مثل (شنيار) بمعنى الراية.

وهذا الأدب الشعبي لا يمكن أن يعد من النثر الفني، ولا يرقى إليه، والفرق شاسع بينهما، وأين الثرى من الثريا، فللأدب جمال وطلاوة، وهو تعبير فني بأسلوب راق.

أما الأسلوب الشعبي فيرى فيه:

1- ضعف في تراكيب النص من ذلك ما ورد في سيرة الظاهر بيبرس: "فلما عاين ذلك الأمير بيبرس منهم فتبسم لهم" والصحيح تبسم.

2- استعمال تراكيب عامية مثل إنك ولي الله مثل أبوك وجدك، والصحيح أبيك وجدك.

3- وهذان نوعان يدخلان أيضاً في الأخطاء النحوية، ومن هذه الأخطاء أيضاً (حصل عنده غماً شديداً)، والصحيح غم، (في سد الإسكندر ذو القرنين) والصحيح (ذي)، و (لا أورانا الله وجهه) والصحيح لا أرانا.

4- ومن هذه الأخطاء أيضاً تسكين أواخر الكلمات: "وأعطاه شيء كثير) والصحيح (شيئاً كثيراً) و (وما زال سائر) والصحيح (سائراً) ،وبعض التسكين جاء رعاية للفاصلة مثل (وأعطاني هذا الصندوق المنحوس، فلأجعلن أيامه عليه بوس).

5- الأخذ بلهجة متروكة كلهجة أكلوني البراغيث مثل (أدركوه المماليك وأكابر دولته) والصحيح (أدركه المماليك)، و(أرادوا الانفصال القومُ اللئام) والصحيح (وأراد).

6- أو الأخذ بلهجة قطر عربي كاللهجة المصرية ، ومما ورد منها في سيرة الظاهر بيبرس : (قال بيبرس دول إيه يا أبي؟).

7- أو إبدال بعض الحروف على غير قياس مثل (عتمان) والصحيح (عثمان)، و (صوط) بدلاً من (صوت)، و(الأندال) بدلاً من (الأنذال).

8- ومن غير القياس أن تنسب الكلمة العربية على طريقة اللغة التركية مثل (دولَتْلي) بدلاً من (دَوْلِيّ).

9- أما قصر الممدود مثل (سيف الإخفا) بدلاً من (الإخفاء)، وتخفيف الهمز مثل (أوايل النيل) بدلاً من (أوائل) فأمر معروف ومعترف به.

10- واستعمال كلمات أعجمية مثل (الجاشنكير) وهو من يقطع اللحم ويتذوقه قبل السلطان للتأكد من سلامته من نحو السم([92])، ومثل باشا، كيخيا أي حارس.

11- وتأنيث المذكر وتذكير المؤنث من سمات اللسان الأعجمي المستعرب مثل (ومال إلى ذلك الشجرة) والصحيح (تلك)، و (وهو يترنم بتلك الصوت) والصحيح (بذلك).

12- وأخطاء بين المفرد والجمع مثل (وأجلوا عن نفسكم العار) والصحيح (أنفسكم)([93]) .

ومن أجل هذا نرفض أن يعد في النثر الفني مثل هذه الأساليب، وإن كان فيها تصوير بديع، كما نرفض أن تكتب القصة والمسرحية المعاصرتان بالعامية وما سجل بهما يعد فناً شعبياً، لا نثراً فنياً.

خامساً سمات النثر الفني:

ما سبق يتبين لنا أن النثر الفني في عصر الدول المتتابعة كان ذا مكانة مرموقة وقد عمل ديوان الإنشاء في العصر المملوكي دوراً كبيراً في حفاظ النثر على جمالياته، إذ كان لا يعين فيه إلا من عرف بفصاحته وبلاغته وكان السلاطين والأمراء يهتمون به اهتماماً بالغاً.

وكان الأسلوب الذي يعجب أبناء العصر هو المنمق المجود الذي تبدو فيه العبارة متوائمة مع أختها في موسيقاها وتصويرها، ومن هنا فقد عني الكتاب بالسجع وتواردت الصور في آدابهم مكثفة وكان الكتاب يحاولون أن يأتوا بالجديد من المعاني والصور لأدبهم، وإذا كان كتاب أواخر العصر العباسي قد وصلوا إلى درجة من تعقيد الأسلوب وتكلفه فإن دعوة إلى العودة بالأسلوب إلى رونقة الأصيل قد ظهرت في هذا العصر على يد بن الأثير إذ حاول أن يحقق الجمال في أسلوبه بالترسل فيه وعدم التكلف، ولكن أذواق المسؤولين حالت دون تنفيذه هذا في جميع ما سطره، ولذلك صار يكتب لهؤلاء بما يطلبونه من تحبير العبارة وتنقيحها وزخرفتها ويسطر لنفسه في تآليفه بالأسلوب المرسل، وقد تبعه في ذلك كثير من أدباء عصر الدول المتتابعة مثل القلقشندي ويوسف البديعي، وعرف أصحابه بمدرسة ازدواجية الأسلوب، وعلى هذا وجد في هذا العصر أسلوبان:

1- الأسلوب المنمق وقد تراوح الكتاب في مدى تجويدهم فأحسن بعض وأساء آخرون.

2- الأسلوب المرسل سواء أكان في الإبداع الفني أو في  كتابات الدراسات الإنسانية والعلمية.

وقد قدمت نماذج كافية برأيي تثبت ما ذهبت إليه.

إضافة إلى الأسلوب الرمزي والشعبي .

وأستطيع أن أقول إن أساليب الرسائل عامة، وكذلك المقامات والخطب والمواعظ كانت محبرة بأسلوب أنيق فيه تصوير بديع، وتراكيب توفر فيها قيم موسيقية فأكسبت النص جرساً عذباً، وجاءت في تراكيب محكمة، وإن كثر فيها السجع وغيره من أنواع البديع كما تكاثفت فيها الصور، حتى كأن أصحابها أتبعوا الواحدة بأخرى وذلك كله ليكسبوا عباراتهم أخيلة وتعادلاً وتوازناً، وتوقيعاً عذباً. كما وجد في أساليبهم مزج الشعر بالنثر.

لكن هناك أساليب أخر كانت دون هذا المستوى، وتأرجحت بين التصنيع والتصنع بل التعقيد ولكن على قلة.

أما الأسلوب المرسل فقد بدا في التآليف الأدبية والتاريخية، وكان أصحابها يحاولون أن يجودوا عباراتهم، ولكن هدفهم الأول هو عرض الفكرة، وظهر هذا عند ابن الأثير، وابن خلدون، ويوسف البديعي، وفي كتب الرحلات، وفي كثير من أخبار التراجم.

أما الأسلوب العلمي فكان فيه اللفظ على قدر المعنى، ومن كتبه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعمري، وفيه تحدث عن الحيوانات والنباتات والمعادن فوصفها، وذكر أماكن وجودها، وفوائدها ومضارها، وقد ضربت نماذج لذلك.

وبرز في هذا الأسلوب الرمزي في عبارات، وتفسيرات وقصص وشروح وقد حمل أصحابها اللغة فوق ما تحتمله، وكان الرمز لدى كثير من المتصوفة طلاسم لا يدري كنهها، ويدعي أصحابها أنهم يفهمون بواطنها، وغيرهم يعلم ظواهرها.

وبهذه التفسيرات الباطنية الرمزية أساؤوا إلى الفكر الإسلامي وإلى اللغة العربية إذا أقحموا فيها ما لا يقبلاه.

وهناك نثر شعبي ولا يعد هذا النثر الفني بحال من الأحوال من التراث الأدبي.

ومعظم أخطائه تعود إلى عجمة كتابه الذين لم يتمكنوا من الفصحى فأدخلوا إليها لهجات عامية أو عربية مهجورة.

ومع هذا وبناء على ما أوردته من نماذج فنية يعد بعضها في القمة، ويتأرجح آخر أرد تهمة من اتهم العصر بضعف أساليبه ومن هؤلاء د.شوقي ضيف الذي يقول "اقرأ في الآثار الأدبية أثناء العصر العثماني فستجد هذه الآثار أضعف وأقل من أن تقرن إلى أي عصر من العصور السابقة، وبون بعيد جداً بين كتاب مثل بدائع الزهور في التاريخ، وكتاب آخر مماثل له في عصر المماليك فأنت لا تجد عند المقريزي ولا بن تعزي بردي ركالة ولا أخطاء نحوية ولا أخرى لغوية، كما لا تجد ألفاظاً تركية، أما عند ابن إياس فإنك تجد ضعف التأليف عامة، فالأسلوب واهٍ، والأخطاء النحوية كثيرة، والألفاظ التركية منتشرة، وإذا تركت هذا الجانب من الكتابة التاريخية إلى الكتابة الفنية وجدتها تلفيقاً خالصاً من أساليب السابقين، وهو تلفيق ليس فيه جديد إلا التصنع الشديد لألوان البديع ومصطلحات العلوم، وقد كانت هذه الأشياء توجد في عصر المماليك فتقبل، لأن الأسلوب كان جزلاً رصيناً فيستطيع القيام بها.

أما في هذا العصر فالأسلوب واه ضعيف، لا يكاد يقوم… ولم يعد هناك مجال للتجديد فالقوم يعيشون على التقليد، واجترار أعمال السابقين، فقد جمدت الكتابة الفنية بمصر جموداً، بل لقد تحجرت إذ أجدبت الحياة الفنية، وأصبحت مواتاً خالصاً أو ما يشبه الموات([94]).

وما أوردته من نماذج أساليب العصر العثماني تفوق في جودتها أساليب العهد المملوكي، وإطلاق صفة الجمود والتحجير على عصر يمتد ثلاثة قرون في عهده المملوكي ويزيد عن ذلك في عهده العثماني جريمة أدبية لأن هذه الأحكام الجائرة صدّت الدارسين فخسروا آداب قرون مديدة لو اطلع أدباؤنا وناشئتنا عليها لعرفوا سعة هذه الآداب وغناها، وأسبقية كثير منها، ولحفظوا للغة العربية رونقها وبهاءها، وقوة تراكيبها، وما نراه من ضعف في اللغة العربية تفشى في أجيالنا يعود سببه إلى الإعراض عن لآلئ اللغة الفصحى ودورها الثمينة ، وكثير منها مما يلتقط من هذا العصر.

([1] ) أحببت - منعا للتكرار - ألا أدرس المديح والشوق والحنين في النثر العربي لأن الرسائل الديوانية والإخوانية والمفاخرات والمناظرات تحوي هذه المضامين ، ينظر ذلك في هذا الكتاب 33،68،8،97

([2]) ريحانة الألبا 2/355 .

([3]) حامد العبادي (1103-1171هـ) عالم من دمشق له ديوان شعر: علماء دمشق وأعيانها في القرن الثاني عشر الهجري ج3/29 .

([4]) النفحة المسكية /321 .

([5]) خالد أبو البهاء ضياء الدين بن أحمد الشهرزوري النقشبندي (1193-1242هـ) من متصوفة دمشق كان عالماً بالعلوم العقلية والنقلية: علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري  ج1/298 .

([6]) علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري 1/311 .

([7])ترجمان الأشواق /108 .

([8] ) وحدة الوجود تعني عند المتصوفة أن الله سبحانه يتمثل في صور مخلوقاته حتى لم يعد هناك بزعمهم فرق بين الخالق والمخلوق ، ينظر للحديث عنها في كتابي الشعر العربي في عصر الدول المتتابعة / 124-129 أوينظر لها في كتاب  فضائح الصوفية / 24 -27 ، وقد أفتى ابن خلدون بإحراق كتب ابن عربي لما فيها من شطحات إلحادية : الموسوعة الصوفية / 61

([9]) مراحل تطور النثر العربي 3/315  -329.

([10]) علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري 1/315

([11]) الشيخ سعيد الخالدي الشاذلي الترشيحي اليشرطي (1221-1294هـ) كان عالماً ثم اعتراه طيش وجنون فترك الفقه وأنكر العلم والعمل واستخف بالعلماء وترك التكاليف: حلية البشر 2/669 .

([12]) حلية البشر 2/671 .

([13] ) أعيان العصر  5/ 395-396

([14]) النفحة المسكية /116 والرُّها مدينة أدسا الإغريقية سماها العرب (الرُّها) وسماها العثمانيون (أورفة)، وهي تقع عند منابع أحد روافد نهر البليخ الذي يصب في نهر الفرات في سوريا، وتقع اليوم في الأراضي التركية: النفحة المسكية ص116 هـ1 .

([15]) الشيخ محمد الترمانيني (ت 1250)   إعلام النبلاء 3/328 .

([16]) إعلام النبلاء 3/328 .

([17]) عبد الكريم بن سنان منشئ الديوان: خلاصة الأثر 2/216 .

([18]) وسنان باشا الوزير الأعظم صاحب الآثار والفتوحات العظمى: خلاصة 2/214 .

([19]) خلاصة 2/216 .

([20]) الملك الأفضل ناصر الدين بن الملك العالم عماد الدين المؤيد صاحب حماة وينتسبان إلى الأيوبيين (ت742هـ) : أعيان العصر 3/322 .

([21]) أعيان العصر 4/327 .

([22]) خاله: شامته في بدنه والجمع خيلان: القاموس المحيط (خال) .

([23]) صبح الأعشى 9/83 0 وفي ص84-87 تعزية لشهاب الدين محمود تجمع النثر مع الشعر .

([24]) ديوان جميل بثينة / 39.

([25]) محمد بن محمد المعروف بابن خصيب الصادي وبالسيد القدسي (ت1008هـ) كان مدرساً في بلاد الروم: علماء دمشق وأعيانها في القرن الحادي عشر الهجري 1/98 .

([26]) علماء دمشق وأعيانها في القرن الحادي عشر الهجري 1/99 .

([27]) لأحمد بن شاهين الدمشقي هجاء ندد فيه بأخلاق المهجو واتهم نساءه في مقامة طويلة، علماء دمشق وأعيانها في القرن الحادي عشر الهجري 2/126 .

([28]) في النقد الأدبي ، عتيق /183 .

([29]) العمدة /172 .

([30]) مسند الإمام أحمد بن حنبل  م3 / 481

([31]) محمد باشا بن مصطفى باشا الشهير بابن الدفتردار (ت1066هـ) أصله من بوسنة ثم صار وزيراً في دار السلطنة، ومقرباً لشيخ الإسلام يحيى بن زكريا: علماء دمشق وأعيانها في القرن الحادي عشر الهجري 2/154 .

([32]) المرجع نفسه /155 .

([33]) النفحة المسكية /114

([34]) أحمد بن علي المنيني شاعر وعالم من دمشق له مؤلفات ورسائل: سلك الدرر 1/143 .

([35]) سلك الدرر 1/144 .

([36]) العمدة /160 .

([37]) سورة يوسف /86

([38] ) مسند الإمام أحمد بن حنبل  م2 / 168

([39]) صبح الأعشى 2/224-225 .

([40]) صبح الأعشى 2/224-225 .

([41]) صبح الأعشى 2/234 .

([42]) بهاء الدين بن حسن البيطار (1265-1328هـ) عالم من دمشق في العصر العثماني حفظ القرآن الكريم: حلية البشر 1/381 .

([43]) وسمت : سميت ، والعين من قولهم : عين الشمس .

([44]) حلية البشر 1/385-387 .

([45]) الفن ومذاهبه في النثر العربي /10 .

([46]) سعيد بن محمد الخروصي الملقب بالعشري من شعراء القرن 12 هـ ، ينظر له في مقدمة ديوانه .

([47]) مقدمة ديوانه العشري ص27-30 .

([48])  النفحة المسكية /96-97 .

([49] ) الصورة الفنية في شعر أبي تمام/ 18

([50]) اصطلح د.شوقي ضيف على تسمية القيم الفنية التصويرية والموسيقية من تشبيه واستعارة وتمثيل وسجع وسائر أنواع البديع باسم الصنعة ، بينما التصنيع عنده ما تكلف صاحبه الصنعة مع جمال في العبارة، أما التعقيد والتكلف الممقوت فقد سماه تصنُّعاً. الفن ومذاهبه في النثر العربي ص24

([51]) منائح الكرم 3/369-371 .

([52]) نسيم الصبا /31-33 .

([53]) عبد البر الفيومي ( ت 1071هـ)  شاعر مصري عرف بأسلوبه المصنوع ، ينظر لترجمته في خلاصة الأثر 2/295 .

([54]) خلاصة 2/295 .

([55]) الكامل للمبرد 1/10 .

([56]) عبد الرزاق بن محمد البهنسي (1125هـ-1186هـ) عالم فاضل من دمشق: سلك الدرر 3/21 .

([57]) شنشنة : طبيعة وسجية : لسان العرب مادة شنَّ .

([58]) أوام :عطش : لسان العرب مادة أوم .

([59]) سلك الدرر 3/21 .

([60]) عجائب الآثار 5/535 .

([61] ) محمود سامي البارودي ( 1904م ) شاعر عاش حياته كلها في العهد العثماني ، وهو رائد الشعر الحديث : الأعلام 7/171 .

([62] ) السلطان صلاح الدين / 38-39

([63]) إعلام النبلاء 2/189 .

([64]) أبو الفداء الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير (700هـ-774هـ) مؤلف كتاب البداية والنهاية، تنظر ترجمته في مقدمته.

([65]) المطامير أماكن تحت الأرض ليطمر بها الحبوب: المعجم الوسيط 2/586 .

([66]) الشحنكية: الفرقة المسؤولة عن الأمن: المعجم الوسيط 1/493 .

([67]) البداية والنهاية 13/263 .

([68]) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الإشبيلي (784-808هـ) عالم  في الاجتماع توفي في مصر، له كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر ، وشهر بمقدمته التي عرفت باسم مقدمة ابن خلدون : الأعلام 3/330  .

  

([69] ) مقدمة ابن خلدون / 351-352

([70]) رحلة ابن بطوطة /77 .

([71]) مسالك الأبصار /380 .

([72]) مسالك الأبصار /109 .

([73])  القاموس مادة رمز

([74]) علوم البلاغة للمراغي / 284.

([75]) مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية / 460 - 471

([76] ) ينظر ذلك ص 158-161

([77]) ينظر نماذج منه في هذا الكتاب في ص 158، 161

([78]) ينظر دراسة أسلوبها الرمزي في ص126-129 .

([79]) كشف الأسرار /36 .

([80]) محمد بن محمد البكري أبو المواهب ( ت 1037هـ) شاعر وعالم من مصر متصوف ينتسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وله ديوان شعر : الخلاصة 1/145 .

([81]) نفس الأمر خطأ شاع لأن المؤكِّد يأتي بعد المؤكَّد ، ولا يخطئ الرسول r .

([82]) الحقيقة والمجاز /234 .

([83]) ينظر ما ذكر عن هذه الشكوى في الكتاب ص 159-161

([84]) سيرة الظاهر بيبرس 1/61 .

([85]) الصحيح بدنه لأنه يتكلم عن المفرد، ولكنه جمع لتناسب السجعة في كلمة مكانه.

([86]) الصحيح متجرداً لأنها خبر كان ولكنه سكّن الألفاظ .

([87]) أي علمها والكلمة أعجمية شائعة في المجتمع.

([88]) سكن للفاصلة والصحيح اشتعالاً.

([89]) الأَولى أن يقول (فما كنت تسمع) .

([90]) الصحيح تشعل لأن الفاعل ضمير يعود إلى مؤنث مجازي يجب فيه التأنيث .

([91]) سيرة الظاهر بيبرس /793 .

([92]) ورد شرح هذا المصطلح في رحلة ابن بطوطة 288 .

([93]) ورد من أسلوب السير الشعبية الكثير خلال دراسة سيرة الظاهر بيبرس ، ينظر لذلك ص 240

([94]) الفن ومذاهبه في النثر العربي /387

وسوم: العدد 682