علي الوردي : (72) تهمة الزندقة وجلسة التكفير الشهيرة
تهمة الزندقة .. وجلسة التكفير الشهيرة
لكن تبقى تهمة الزندقة والتكفير من أخطر المحن التي واجهها الوردي . لقد جاءت هذه التهمة مصحوبة بحملة شعواء تطالب بتكفيره وقتله وخصوصا من قبل بعض رجال الدين في خطبهم في المساجد . ردّ الفعل العاصف والخطير هذا جاء بعد أن
أصدر الوردي كتابه الشهير " وعّاظ السلاطين " الذي جعل الدنيا تقوم ولا تقعد وجعل بعض الناس يتنادى لقتله . وبالمناسبة فقد نشرت عشرات المقالات المناهضة للكتاب والشاجبة لأفكار الوردي ، وكذلك مجموعة من الكتب منها :
- "الموعظة الحسنة" للسيد محمد صالح القزويني .
- "مع الدكتور الوردي" للسيد مرتضى العسكري .
- "من كنت مولاه" للسيد عبد المنعم الكاظمي .
- "حكم المقسطين على كتاب وعاظ السلاطين" للسيد سهيل حبيب العاني .
يقول الدكتور "عبد الأمير الورد" في مقدمة كتاب سلام الشماع : "من وحي الثمانين " :
(( كتابه أثار ضجة كبرى لتناوله قضية الإمام علي سلام الله عليه وقال فيه : ( لم يشهد التاريخ رجلا فرّق الجماعة كعلي ابن أبي طالب .. وعلي لم يكتف بتفريق جماعة المسلمين بنفسه ، بل أورث نزعته الهدّامة هذه لأولاده من بعده ، ففي كل مجتمع نجد زمرة تدعو إلى مبدأ جديد فتقلق المجتمع وتمزّق شمله ) ومال فيه إلى رأي طه حسين في الإمام الذي يقول فيه : ( إن محمدا كان يدعو ويفضّل خلافة علي ولكنه لم يجبر المسلمين عليها)) (496) .
لقد تنادى الناس للفتك بالوردي ، فأمر السيّد "نوري السعيد" رئيس الوزراء آنذاك بسحب نسخ الكتاب من السوق وحجز الوردي لمدّة ثلاثة أيام في مركز شرطة الكاظمية في إجراء ذكي يمتص النقمة ويهدّيء المشاعر ويوفّر الحماية للوردي المطلوب حيّا أو ميتا . وتدخل الشيخ "محمد الخالصي" عميد المدرسة الخالصية في الكاظمية آنذاك ، وعقد جلسة شهيرة سُمّيت وقتها بـ "جلسة التكفير"، ندع الشيخ " جواد الخالصي" حفيد الخالصي الأكبر يتحدّث عنها في وصف كتبه لنا بخطّ يده :
( كان الوقت صيفا وجرت المناقشة ليلا بعد صلاة العشاء بحضور الشيخ مهدي الخالصي، حيث جلس الوردي على كرسي منفردا وأمامه جمع غفير من المعارضين غصّت بهم ساحة المدرسة . وكان أكثر المتحمّسين هو المحامي "صبري الزبيدي" الذي استغل الأزمة لأغراض انتخابية حيث كان مرشحا للإنتخابات عن الحزب الوطني الديمقراطي، وكان قد نشر مقالات ضد الوردي في جريدة الأهالي. هيّج الناس كثيرا ضد الوردي وركب الموجة لأسباب انتخابية ، وقد تحدث طويلا حتى ملّ الناس من حديثه، والمشكلة أنه لم يكن يفهم الموضوع أصلا.
قال السيد الوالد- يقصد الشيخ محمد الخالصي- مخاطبا الجمهور: قولوا كلامكم واطرحوا أسئلتكم والوردي يجيب عليها.
وبدأ جدال مشحون وصاخب.. الجميع يهاجمون ويدينون والوردي يرد بهدوء.. استمر النقاش إلى ما بعد منتصف الليل ولم يقتنع الطرفان بمبررات كل منهما.. ولأن النفوس كانت مشحونة والأعصاب متوترة فقد خشي الوالد على حياة الوردي فكلّفنا بتوصيله إلى بيته لحمايته.. كان الوردي يعتقد أن رجل الدين صاحب دكّان يريد جرّ النار لرغيفه.. وكان ينتهز أي فرصة للإساءة لرجال الدين والسخرية منهم ويعتقد أنهم جميعا في خدمة السلاطين ) (497) .
ولنستمع أيضا إلى الدكتور حسان علي الوردي - نجل الوردي الأكبر - وهو يصف هذه الملابسات نفسها وذلك في الكلمة التي ألقاها بمناسبة مرور عامين على وفاة والده في مجلس الشيخ ( عيسى الخاقاني ) وذلك يوم 14/7/1997 :
( إن الحادثة المهمة التي تأثرنا بها كثيرا كعائلة كانت عند صدور كتاب ( وعاظ السلاطين ) الذي أثار ضجة كبيرة جدا في المجتمع وخاصة بين رجال الدين الذين وصلوا إلى درجة شتمه وعائلته على المنابر في خطب الجمعة وتهديده بالقتل . فاضطرت الحكومة إلى أخذ والدي إلى أحد مراكز الشرطة في الكاظمية لمدة ثلاثة أيام حماية له ، وجمعت نسخ الكتاب من الأسواق . وأتذكر أن أحد الوزراء من بيت الخالصي اتصل تلفونيا بوالدتي وطمأنها على والدي ، وكان الوزير من أقارب الشيخ محمد الخالصي الذي هدده بسفح دمه ، ولكن بعد فترة حصلت مناظرة أو مناقشة في مدرسة الخالصي العلمية حول محتويات الكتاب فانتصر فيها والدي ، ووصل إلى البيت ومعه مظاهرة كبيرة من جماعة الخالصي في وقت متأخر بعد منتصف الليل ، أوصلوه للبيت وتصالحوا بعدها) (498) .
تهمة زندقة جديدة أخطر
_______________
وتتكرّر أزمة خطيرة أخرى تهدّد حياته ويقودها بعض الكتّاب ورجال الدين المتعصبين وذلك بعد أن ألقى محاضرة عامة في قاعة كلية الآداب حاول فيها أن يبين أن قريشا كانت متفسّخة أخلاقيا وأن النبي الكريم (ص) جاء ثائرا عليها. يقول الوردي في "خاتمة المهزلة- بعض رجال الدين" وهي خاتمة كتابه " مهزلة العقل البشري " :
(( لم أكد أنتهي من طبع هذا الكتاب الذي بين يدي القاريء حتى فوجئت بحادثة تصحّ أن تكون نموذجا رائعا لمهزلة العقل البشري . فقد ألقيت في مساء الثامن والعشرين من شهر شباط الماضي محاضرة عامة في قاعة الآداب .. وقد أشرت أثناء المحاضرة إلى مدى التشابه بين التفسّخ الذي كانت عليه قريش وهذا التفسخ الذي عليه المترفون من قومنا في هذا العصر . ولم يكن يخطر ببالي أن هناك بين المستمعين من يقدّس قريشا أو يقدّس المترفين في عصر من العصور . سئلت أثناء المحاضرة عن النبي محمد .. ورأيي في هذا النبي معروف ، يعرفه جميع الطلّاب اللذين يحضرون صفوفي وجميع القراء الذين يقرأون كتبي وليس عندي ما أكتمه في هذا الصدد )) (499) .
خلاصة رأي الوردي في النبي محمد ( ص ) والذي طرحه في المحاضرة هو أن النبي لم يأت ثائرا على قبيلة صالحة - قريش- اكتملت فيها خصال الشرف والفضيلة ولا ينقصها سوى ترك عبادة الأوثان ، بل جاء ثائرا اجتماعيا انتقد عيوب قومه قبل غيرهم. ووصف النبي بأنه من أصحاب الشخصيات " الحدّية " التي تسمو بصاحبها على الحدود الاجتماعية وتبعده عن التعصب لقومه أو غض النظر عن عيوبه . لكن كيف أوّل بعض رجال الدين حديث الوردي هذا ؟
لقد قدّموا شكوى إلى وزارة العدل يفسّرون فيها مفهوم الشخصية " الحدّية " الذي وصف به الوردي الرسول في محاضرته بأنه يعني الشخصية " المحدودة " !!! يقول الوردي تعليقا على ذلك وعلى التحقيق الذي أُجري معه :
(( ولست أدري من أين جاؤوا بهذا التفسير . فهم يفسّرون الأمور كما يشتهون ثم يغضبون مما يفسّرون . والأحرى بهم أن يغضبوا من أنفسهم . تذكّرني هذه الحادثة بالضجّة التي حدثت إثر صدور كتاب "وعّاظ السلاطين" فقد وصفت الإمام عليّا في ذلك الكتاب بأنه كان رجلا ثائرا. ففسّر رجال الدين الثورة بأنها مشتقة من طبيعة " الثور".. وهاج الغوغاء .. ويا ويل الكاتب إذا هاج عليه الغوغاء )) (500) .
ويواصل عرض محنته مع اللجنة التحقيقية والمحرّضين عليه فيقول :
(( هذه هي عقيدتي في محمد . لست أنكرها أو أحيد عنها . وهذا هو عين ما ذكرت في المحاضرة كما سجلته لجنة التحقيق التي ألفت لهذا الغرض وقد نشرت الصحف المحلّية بيانا أوضحت فيه حقيقة المحاضرة ، ونشر أحد الأساتذة بيانا مثله . وكنت أظن أن رجال الدين سيكتفون به ويقتنعون. وتبيّن أخيرا أنهم لا يكتفون ولا يقتنعون . وكان يقودهم في ذلك رجل حقوقي يشغل وظيفة مدوّن قانوني. فأخذ هذا الرجل، سامحه الله ، يترك دائرته ويراجع المسؤولين ، ولعله أراد أن يكسر رقبة كاتب هذه السطور)) (501) .
ويستغرب الوردي من حماسة هذا المدوّن القانوني الملكي أكثر من الملك كما يقال ، ويحاول وضع تفسير لسلوكه العدواني فيقول :
( ليت شعري ما الذي حفزه على ذلك ؟ فإذا كان الحافز هو ضميره الديني ، فالدين يأمره بأن يحقّق في التهمة قبل أن يحكم فيها . وإذا كان الحافز هو ضميره القانوني ، فالقانون يأمر بمثل ما يأمر به الدين ، يبدو أن له ضميرا آخر ) (502) .
وتتطور " المهزلة " المميتة إلى حدّ الإتهام بالزندقة وتحريض خطباء الجوامع على المناداة بالاقتصاص من الوردي ، وهو أمر لم يتعرض له أي مفكّر عراقي قبله في القرن العشرين على الإطلاق . إنها ريادة في التحدي والإيمان بأن " لحرّية الفكر تأريخ يحدّثنا – بأن ألف مسيح دونها صلبا " . الوردي كان مشروع مسيح الفكر في المجتمع العراقي المعاصر . لم يثبت مفكّر قبله أن المفكر ينبغي أن يحمل صليبه على ظهره . يواصل الوردي عرض تفاصيل محنته الخطيرة التي بدأت تتصاعد لتصل إلى حدود التهديد العدواني الجسدي :
(( ذهب وفد رجال الدين ، يرأسهم المدوّن القانوني ، إلى وزارة العدلية فطلبوا منها إقامة الدعوة على الكافر الزنديق الذي هو أنا . ولم يكتفوا بذلك بل حرّضوا وعّاظ المساجد على القيام بواجبهم الديني في هذا السبيل . وقام الوعّاظ بواجبهم خير قيام)) (503) .
أسباب الفساد ثلاثة : القمار والبغاء والدكتور علي الوردي
____________________________________
وقد ذكر الدكتور عبد الأمير الورد في مقدّمته السابقة، أن أئمة الجمعة كانوا يهاجمون الوردي في خطبهم حتى قال أحدهم :
" إن أسباب الفساد في البلد ثلاثة : الخمر والميسر وعلي الوردي "
لكن الوردي يقدّم لنا الوصف الهجومي بصورة أدق حين يواصل الحديث عن محنته تلك فيقول :
(( قال أحد هؤلاء الوعّاظ ، وهو خطيب جامع من جوامع بغداد المعروفة ، في خطبة الجمعة: "هناك ثلاثة أمور تؤدي إلى فساد البلاد ، هي القمار والبغاء والدكتور علي الوردي!!" ونسي الواعظ أن خطبته هذه وأمثالها هي من أسباب الفساد (504) .
بعد هذا التحريض يتطوّر الأمر إلى حدّ الترتيب لاعتداء جسدي مبيّت على الوردي ، محاولة يستثمرها لصالحه وبهدوء كعادته من خلال الإمعان في مسخ صورة المحرّضين الذين يعادون جهده التنويري ويدعون إلى تصفيته :
(( جاء إلى بيتي، بعد تلك الموعظة الشعواء، ثلاثة رجال وهم يلفون رؤوسهم بالأغطية البيضاء . وصاروا يحومون حوله ويتهامسون ، فخرج إليهم أحد الجيران فهربوا. وكنت لسوء الحظ غائبا عن البيت . وإني أعتقد بأن هؤلاء الرجال الثلاثة هم من الذين يرتكبون في حياتهم رذيلة القمار والبغاء. وهم إنما أرادوا الاعتداء عليّ بعد أن سمعوا الواعظ يضعني في مرتبة القمار والبغاء . أتراهم وجدوني منافسا لهم في هاتين الرذيلتين؟ إنهم يرتكبون فعلا ما نهى عنه الدين . ولكنهم يصبحون من أشدّ الناس غيرة على الدين حين يجدون فيه وسيلة للاعتداء . ونحن نأسف أن نرى الوعاظ يستخدمون مثل هؤلاء السفلة في دعايتهم الدينية. لو اطلع القاريء على المحضر الذي سجلته لجنة التحقيق عن المحاضرة ، ثم قارنها بما أثاره الواعظون في الغوغاء من هياج وشغب، لخرج من ذلك بنتيجة مذهلة. إن هذه المهزلة تدل على مبلغ الظلم الذي اقترفه وعاظ السلاطين في الأزمان البائدة. وكلّما تذكرت أولئك الأبرياء الذين قتلهم الكهّان باسم الدين قديما حمدت الله على أني أعيش في عصر جديد. ومن أغرب المفارقات أن أحد المصلّين الذين سمعوا تلك الموعظة الاعتدائية في الجامع المعروف كان من الذين شهدوا محاضرتي. وقد عجب من ذلك عجبا شديدا . وحين أخبرني بالقصّة سألته: لماذا لم ترد على الواعظ وأنت تعلم علم اليقين مبلغ الجهالة التي قام بها ؟ فأجابني : خفتُ والله أن أردّ عليه فيتهمني بالكفر . وسألته مرة أخرى : وهل عندك إيمان بصدق ما يقوله الواعظون بعد الآن ؟ فقال : لا والله)) (505) .
في عام 1994 .. ويعتبرون الوردي "كافراً"
____________________________
ومن الحوادث الخطيرة التي ذكرها لي الصحفي (سلام الشماع) أنه حتى عام 1994 وحين تقرّر إقامة حفل يُمنح فيه الدكتور (حسين علي محفوظ) " إجازة مفسّر للحديث " قال أحد رجال الدين : لا تدعو الوردي إلى الحفل فهو كافر !! "
ومن طريف ما يذكره الوردي في كتابه "الأحلام بين العلم والعقيدة" حادثة مرتبطة بمواقف الناس منه في حملتهم العدائية ضده بعد صدور كتابه الخطير: "وعاظ السلاطين" حيث قام أحد الكتّاب بإصدار كتاب قال فيه إنه رأى النبي محمد ( ص ) والإمام علي ( ع ) في أحد الأحلام وهما يأمران الملائكة بإلقاء الوردي في نار الجحيم . والمشكلة أن حلم هذا الكاتب "النحرير" كما يصفه الوردي ، كان طويلا جدا بحيث أنه ملأ به معظم صفحات الكتاب . والمشكلة - وهذا ما يؤكد وجهة نظر فرويد في أن واجب الحلم الأساسي هو تحقيق الرغبة - أن صاحب الكتاب يحضر في هذا اليوم الهائل قبل الوردي وكانت ذنوبه كثيرة إلا أن ولاءه لأهل البيت أنقذه ونجا من الجحيم. لكن "وعلى حين غرة صاح المنادي : "علي الوردي، علي الوردي، يُقدّم للحساب" . وأخذ الوردي يتوسّل ويتضرع ويدّعي بأنه متمسك بكتاب الله وعترة النبي ، فلم ينفعه ذلك شيئا ، فقد نظر النبي إلى الإمام مبتسما ثم التفت إلى الوردي وعليه سيماء الغضب . وأخذ يحاسبه على أقواله الماضية ويشتد في حسابه . ثم قال أخيرا : زنو أعماله ، فهو بأعماله يهوي وبأعماله يفوز ، وليس له من ولائنا شيء ، وحاسبوه حسابا عسيرا. فصرخ الوردي صرخة أبكت أهل الحشر. ورقّ قلب صاحبنا عليه وأشفق حين رآه بتلك الحالة المؤلمة. ثم استيقظ مرعوبا باكيا" (506) .
ويعلّق الوردي على المفارقة الأخيرة بالقول:
( لست أدري لماذا استيقظ صاحبنا مرعوبا باكيا بينما كان الرعب والبكاء من نصيب المسكين كاتب هذه السطور؟ ) . وأبسط ما يمكن قوله من ناحية التحليل النفسي للأحلام إن استيقاظ الحالم باكيا يعكس شعوره هو بالذنب والإحساس بالإثم وليس مشاعر الوردي المُتهم .
وسوم: العدد 682