قراءة في قصة جدي يعشق ارضه
هداني صديقي الأستاذ والكاتب سهيل عيساوي مؤلّفه الجديد، والّذي يحمل عنوان "جدّييعشقُ أرضهُ"، وهو عمل أدبيٌّ قصصيٌّ لجيل الطّفولة. ولطالما عوّدنا الكاتب سهيل على إصدارات كهذه، والّتي تصبُ في هذا الجانر( Genre) المعروف لدى من يكتب للأطفال. إذ ألمس بهذا التّوجّه عند الكاتب منذ زمن؛ وهو الكتابة للأطفال؛ أنّه ملتزمٌ تجاه هذه الشّريحة العمريّة. وبرأيي أنّ الكاتب يرى في توجّهه هذا نواةً ورسالةً عليها يؤسّسٌ بناء جيلٍ يمتح فكره وإبداعه من تراثهِ وعاداتِهِ وموروثِهِ الاِجتماعيّ والبيئيّ والفلسفيّ البسيط الّذي لا يُعوّلُ عليهِ أبدًا.
فإذا نظرنا إلى العنوان "جدّي يعشق أرضه" في تركيبه النّحويّ وجدنا ه ينضوي في إطار الجملة الاسميّة، والّتي في شقّها الثّاني تشكّل الجملة الفعليّة خبرًا لها. هذا التّركيب يختلف عن عناوينَ أخرى لقصصِ الأطفالِ والّتي تبداُ عادةً بجملةٍ فعليّةٍ؛ إذ أنّ الاِبتداءَ بالاِسمِ فيه إشارة ودلالة تلفتُ النّظر إلى طرفٍ مهمٍّ وهنا الجدُّ الّذي هو محطّ اِهتمام الكاتب. للعنوانِ دلالة سيميائيّة في استباق الدّلالة والأهميّة، ولفت نظر القارئ إلى مركزيّة وإشارة في تفسير العمل الأدبيّ، فهو يحملُ الثّيمة((Thematic المركزيّة للقصّةِ. هذا العنوان هو اِختزال لفكرة القصّة وهدفها معًا.
ونعتبر الجدّ العمود الفقريّ في القصّة، والّتي يمكن حملُ مرماها على أكثر من حبّ الأرض والتّمسّك بالجذورِ والمحبّة النّقيّة لما حولنا والّتي لا تشوبها شيء ممّا قد تُسوّل لنا أنفسنا أن نُفرّطَ به.
إنّ القصّة تعطينا المعنى الأبعد من المباشر. فالأرض ملاكُ الأمرِ كلّه في كينونتنا؛ فلا نصيرُ أحياءً أولي قوّةٍ وثباتٍ واحتمالٍ وعزّةٍ واضمحلال للهزيمة والضّعف إلّا بحبٍّ للأرضِ والوطنِ، والاِنصياع الكامل بكلّ أحاسيسنا وجوارنا للأرضِ كوجودٍ على المحكّ الإنسانيّ الّذي إن فارقناهُ صرنا إلى العدَمِ واللّاحياة ... وهذا ما وجدناه في الجدّ، وهو مركز الثّقل في القصّة؛ كونه يثمل فكرًا إنسانيًّا من الدّرجةِ الأولى. وهنا الكاتب نجده يتخطّى المحليّة، وهو يطمح برأيي لإيصال فكرة جمعيّةٍ تتجاوز المحليّةَ المؤطّرة على أيّ حال ( Universal) . يقول الرّاوي الحفيد: "هنا خرج جدّي من هدوئه واتّزانه قائلًا: ربّيتُ أبنائي على حبّ الأرضِ وعدم خذلانها مهما جار وتقلّب الدّهر" (ص 12)
إنّ المساومةَ على بيع الأرض لم تُفلحْ في ثَني الجدّ عن قرارهِ المصيريّ؛ فقرار كهذا يندغم مع مواصفات هذه الشّخصيّة المحوريّة والّتي تربط وجودها بالأرضِ، وحياتها كذلك دون أرضٍ هي للعَدمِ وللعبثِ أقرب لا تساوي شيئًا.
جاء في نهاية القصّة عندما خاطب الجدُّ حفيدهُ : "أنا لا أبيعُ أرضي، هي وطني. خذني إلى أرضي حالًا لأغسل عيوني بخضرتها، لتستحمّ روحي بعطرها الزكيّ، لتختلطَ أنفاسي بأنفاسها..."(ص23)
إنّ القصّة بفكرتها الإنسانيّة الجديرة بالتّناول، والّتي يدعو الكاتب من خلالها القارئ، ولا سيّما الجيل الصّاعد أن لا يتنازل عن أرضه عصَبِهِ وحياتِهِ ووجودِهِ، وعدم التّفريط بشيءٍ منها، فهي تساوي البقاء؛ بمعنى أن نكون أو لا نكون!
إنّها رسالة الكاتب الملتزم ولا سيّما أنّه يربّي الطّفل ويُذوّت فيه حبّ الموطنِ والأرضِ ببقاء ِ الوجودِ ووجودِ البقاءِ، وما أرضنا إلّا شاهدٌ على تمسّكنا بحقيقة وجودنا. وكأنّني أرى في هذه القصّة المعادل الموضوعيّ (Objective Correlative) لقصّة أخرى وهي للكبار؛ "نخلة على الجدول" للكاتب الرّاحل الطّيّب صالح، وكيف أنّ بطل القصّة " الشّيخ محجوب" يرفض التّنازل عن نخلته الوحيدةمقابل الإبقاء على حياته والحفاظ على كفاف عيشه؛ فصبر على حالته وهو مؤمن بالله وهو يردّد عبارة" يفتحُ الله"، وما يلبث أن يأتيه الفرج من اِبنه العائد من مصر؛ فعندها يأتيه الفرج حقًّا بعد حالة البؤس القابضة على خناقه، وتبقى النّخلة بحوزته!..
إنّ قصد الكاتب، وإن كنّا نقاربُهُ ونحاول الوصول إليه، على اعتبار أنّ القصد منوط بالكاتب وليس بالقارئ، وإنّما من خلال المعطيات في القصّة والفكرة المباشرة، نستدلّ على أنّ الكاتب يدعو بصراحة دون مواربةٍ إلى حقيقة واحدة، وهي أنّ الأرض تساوي وجود الإنسان بل أكثر!
لولا هذا المنطلق الوطنيّ الأيديولوجيّ لما كنّا نستطيع العيش، وما مراوحتنا في أماكننا إلّا لتقصيرنا عن الدّفاع عن أوطاننا. إنّ التّفريط في الأرض يعني الموت على هامش الحياة؛ إذ من الصّعب التمسّك بالأرض في وضعيّة ضعيفة فيها اِنهزام من داخلنا لا نجرؤ فيها على الدّفاع المستميتّ!...
وسوم: العدد 684