الحكمة الشعرية في ديوان: (من يطفئ الشمس؟) للشاعر د.حيدر الغدير
الغدير ما يغادره السيل من الماء فتنمو حوله الحياة.. تجتمع إليه الطيور، وتنبت فيه وحوله الأشجار والزهور.
وهذا الديوان كذلك الغدير من الماء في شفافيَّته وروحه الباعثة للحياة، وقد نبت فيه من كل لون، ولكن اللون الأخضر هو الغالب فيه؛ لأنه موجود مع كلِّ لون مما نبت فيه وحوله، واللون الأخضرُ في هذا الديوان هو الحكمة.
فالحكمة الشعرية هي العنصرُ المبثوث في كلِّ الديوان كما ينبثُّ اللون الأخضر في البستان. ولا عجب! فالديوان جاء بعد أن تجاوز الشاعر المراحلَ المتقلبة في حياته، واليوم هو في طريقه إلى السبعين، عركته تجارب الحياة، فخَبَرَها وخَبَرَته، وكشف أسرارها وكشفته حتى ظهر لنا من أمرهما العجب!
وإذا كانت قصائد الرثاء العديدةُ في الديوان بدوائرها المختلفة المكانَ الطبيعي لشعر الحكمة من حديث عن الموت والحياة، والدنيا والآخرة، والفناء والخلود - فإن قصائد عديدة فيه كانت وقفات حقيقية للتأمُّل في الحياة وما فيها، عبَّر الشاعر من خلالها عن رؤيته الثاقبة لما وراء الظواهر الخادعة كالسراب الذي يحسبه الظمآنُ ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه، إن الله سريع الحساب.
فما المحطَّاتُ التي وقف الشاعر فيها للتأمُّل في الحياة بحكمة حتى لينطبق على شعره قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر لحكمة))؟
الموت.. الصديق:
جرت العادة أن يجزعَ الإنسان من الموت، ويهربَ منه، ويدعوَ لعدوِّه به، ولصديقه بضده، وليس الشاعر بِدْعاً في هذا، ولكن معايشة الشاعر لهذه القضية الكبرى في الحياة، وإمعانَ التأمل كشف له سراً جعله يسلك مذهباً جديداً فيه، فلنسمع القصة:
أخافَني الموتُ دَهراً ثمَّ صافاني وقالَ لي: لستَ بالعادِي ولا الجاني
ويعرض علينا الشاعر دفاعَ الموت عن نفسه فيما يظنه الناس، وبراءته من التهم الموجَّهة إليه، فيقول على لسانه:
لا أُنقِصُ المرءَ يوماً قطُّ من أجَلٍ ولا أَجورُ على إنسٍ ولا جانِ أنا الوَفيُّ لأمرِ اللهِ أُنفِذُهُ كما يَشاءُ وإنَّ العَدلَ مِيزاني ولستُ أَظلمُ إنساناً لمَسكَنَةٍ ولا أُداري ذَوي مالٍ وسُلطانِ بل أَحرِسُ العُمرَ للإنسانِ يَقطَعُه والحَبلُ أُرخِيهِ للقاصي وللدَّاني حتَّى إذا جاءَ أمرُ اللهِ قُمتُ بهِ أَذاكَ ظُلمي لَهُ أم ذاكَ إِحساني؟!
وأمام بيان الدفاع في إثبات البراءة من الجناية يقدِّم لنا الشاعر الموتَ بريئاً مما وُجِّه إليه من التهم فهو عادل مطيع لأمر الله، حافظ للإنسان أن يَنتقص من أجَله، ولذلك ينتزع منا الإجابةَ على تساؤله لنعترفَ بأن ذلك منه إحسان للإنسان، وليس ظلماً!
ويذهب الشاعر أبعدَ من ذلك، فيضع الموت في دعواه تحت المراقبة السلوكية حتى يتيقَّن صدقَ دعواه، واستقامة مسلكه، فيقول:
سمعتُ ما قالَ واستَرسَلتُ أَرقُبُه فكانَ حقّاً أخا صِدقٍ وإيمانِ وكان أَرحَمَ مِن باغٍ وطاغِيةٍ يَستأصِلُ الناسَ وهو الباسمُ الهاني فماتَ خَوفيَ منهُ وهو بادَلَني حُبّاً بُحِبٍّ وناجاني وآخاني رأيتُ منهُ وَفاءً رغمَ سَطوَتِهِ لم أَلقَهُ في كَثيرٍ بينَ إخواني وَضَعتُ في كَفِّهِ كَفِّي فعاهَدَني على الإخاءِ ولا تَعجَب وأَرضاني
إذن، اجتاز الموتُ اختبار البراءة المسلكية، وبدأ عهدٌ جديدٌ في العلاقة بينه وبين الشاعر، حلَّت فيه الطمأنينة محلَّ الخوف، والثقة محلَّ الشك، مما أثار استغرابَ الآخَرين الذين يجهلون ما أدركه الشاعرُ الحكيم، فقال:
رأى صَداقَتَنا قالٍ، فساءلَنا: هل أنتُما - هكذا يَبدو - صَديقانِ؟! فقلتُ: بل نحنُ في أَعلى مَكارِمِها ونحنُ في ذُروَةٍ منها نَديمانِ
وتبدأ صفحةٌ جديدةٌ مع الموت:
أتانيَ الموتُ في رِفقٍ وفي حَدَب يَقتادُني عن شَقاءِ العالَمِ الفاني فَزالَ عنِّي غِطائي وانجَلى بَصَري يَرنو وبي لَهفَةٌ للعالَمِ الثاني وطارَ بي أَمَلٌ جَذلانُ يَغمُرُني أنَّ الكَريمَ تَوَلَّاني وأَدناني
قد علمنا من قبلُ صداقةَ الشاعر الفرزدق للذئب، وها هنا نرى صداقة شاعر للموت!
الإنسان والمال:
المال محبوبُ الإنسان، قال تعالى: {وتَأكُلونَ التُّراثَ أكلاً لَمًّا. وتُحبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً}، وفتنته قد تهلكه في الحياة! والشاعر يُدرك هذه الحقائق، ويُدرك الطريقة المثلى في التعامل مع هذا العدو المحبوب!! فالغنى في إنفاق المال، وليس في كَنزه، والعز في بذله، وليس في البخل به.
ولا شك في أن معانيه مستقاةٌ من توجيهات القرآن الكريم، والحديث الشريف فيما ذهب إليه من أن الذين يكنزون الذهبَ والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله لهم عذاب أليم، وأن مالَ الإنسان ما تصدَّق فأبقى، وأن ما يكنزه هو لوارثه يبدِّده من بعده ويحاسب هو عليه!
ويقدِّم لنا الشاعر الغدير هذه المعاني بحكمته الشعرية، فيقول:
كلُّ مالٍ جَمعتُه في اصطِبارٍ مرَّةً وافِراً وأُخرى قَلِيلا سوفَ يَغدو لِوارثِيكَ قريباً كي يُبيدوهُ بُكرةً وأَصِيلا فَهُمُ الناعِمونَ فيهِ ومنهُ وعَليكَ الحِسابُ مُرّاً ثَقِيلا
ويُدرك الشاعر أن المالَ صعب المراس قويُّ الشكيمة، لا يَستسلم ولا يَلين لمالكه بسهولة، لذلك يتوجَّه إليه بالخِطاب، ويُعطيه درساً لا يَترك له فيه من مَطمع، فيقول:
أنتَ عَبدي إذا بَذَلتُكَ دَوماً فإذا ما بَخِلتُ كنتُ الذَّليلا
ويختم الشاعر قصيدته ببيت مفرد يتضمَّن خُلاصة حِكمته في المال فيقول:
يُدركُ المرءُ حينَ يَسخو المعالي ويَنالُ البَخيلُ مَرعًى وَبِيلا
ومع اليقين أن هذه الرؤيةَ الحكيمة في المال أصيلةٌ لدى الشاعر؛ لأن غديرَه من سيل نهر الشريعة الغرَّاء، نجده يلتقي بنصوص معلومةٍ لدى شُعراء الحكمة في تراثنا الشعريِّ قبل الإسلام وبعده مثل زهير بن أبي سلمى في قوله:
ومَن يَكُ ذا فَضلٍ فيبخَلْ بفَضلِهِ على قَومِه يُستَغنَ عنه ويُذمَمِ
وحاتِم الطائي في قصائده العديدة التي يحاور فيها زوجتَه ماوية التي كانت تحاولُ ثَنيه عن البذل، فيقول لها:
أماوِيَّ إنَّ المالَ غادٍ ورائِحُ ويَبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكرُ
والمتنبي في قوله - وهو ماثلٌ لدى الشاعر دائماً-:
لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلُّهُمُ الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قَتَّالُ
الإنسان والجبن:
الجبن صفة ذميمة، بخلاف الخوف الذي وصف الله سبحانه به ملائكته المقرَّبين {يخافونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم}، ووصف به عبادَه المؤمنين {يَدعُونَ رَبَّهُم خَوفاً وطَمَعاً}، لذلك يعالج الشاعر صفة الجبن لدى الإنسان معالجةً حكيمة، ويعبِّر عن مفهومه له، وفلسفته فيه.
فالجبن في نظر الشاعر يفعلُ بالإنسان ما تفعله العواملُ الطبيعية في الصخر الصلد من الحتِّ حتى يتأَكَّل ويضعف ثم ينهار، فيقول:
رأيتُ الجبنَ قبلَ الموتِ مَوتا يَحُتُّ المرءَ -إذ يَرضاهُ- حَتّا ويَترُكُه رِماماً بالياتٍ تَعيثُ بها الرِّياحُ وهُنَّ شَتَّى تُبعثِرُها ولا باكٍ عليها ومَن يَبكي منَ الأَقذاءِ بَحتا تَجنَّبهُ الوَرى سُخطاً وهُزءاً وبَتَّ حِبالَهُ الأصحابُ بَتّا ويُبصِرهُ فيَمقُته أَخوهُ فإن لامُوهُ فيهِ ازدادَ مَقتا
صورة كئيبة كريهة للجبان يرسمها الشاعر منبوذا يجرُّ أسماله الممزَّقة وكأنه صار كالسامِريِّ الذي يقول: {لا مَساس}!!
ولكن ما معنى قوله: (رأيتُ الجبنَ قبلَ الموتِ مَوتا)؟! وهل يُذم الجبن قبل الموت، ويُمدح بعده؟ أوهل بعد الموت جبنٌ حتى يكون له ظَرف قبله؟ أعتقد أن الشاعر لا يقصد القبليَّةَ مقابل البعدية، وإنما أراد بما قبل الموت الحياة، فهو يريد أن يقول: رأيت الجبن في الحياة موتاً، ولكنه استخدم بدل كلمة (الحياة) المتوهِّجة بالمعاني الإيجابية المشرقة كلمة (قبل الموت)، وهي تعبير مُنطفئ، فجعل التضادَّ بطباق السلب بدل الإيجاب.
وأمر آخر يستوقفنا، إذ جعل (الجبن) في الحياة (موتا)، ولا شكَّ في أنه يذمُّ الجبن، ولازمه أنه يذمُّ الموت، بل الموت المشبَّه به أشد ذمّاً، مع أننا علمنا أن الشاعرَ في قصيدته (صداقة) أضفى على الموت كلَّ الصفات الحسنة واتخذه صديقاً نديماً، فهل يجد (القالي) مَطعناً ليقول للشاعر: أنت مخطئ في أحد الأمرين؛ اتخاذ الموت صديقاً، أو تشبيه الجبن بالموت!! وإذا صحَّ الأمران عند الشاعر يكون الجبن صديقاً له غيرَ مذموم!! ولعل الشاعر يُخرجنا من هذه الإشكالية الفلسفية.
ونعود إلى القصيدة لنرى أن الشاعر يتحدَّث عن دواعي الجبن في حياة الإنسان، فيقول:
وفي الدنيا نقائضُ واعِظاتٌ تَبينُ وتَختَفي أنَّى نَظَرتا أَلِفناها لكَثرتِها فصارَت نديمَ حياتِنا جَهراً وصَمتا فنَسكُنُها وتَسكُنُنا كأنَّا بها الأضيافُ مُصطافاً ومَشتى تَأَمَّلها ستَلقاها صَديقاً وجِيراناً لنا، وأنا، وأنتا
فالأشياء التي يُشير إليها الشاعر مجملاً غير مفصِّل، هي الأمور التي تثير القلق عند الإنسان، فينفخ فيه الوهم، فيتولَّد الجبن في داخله، فإذا هو يذل ويخضع، ولو تأمَّل تلك الأمورَ لوجدها قريبة منه صديقة له، فهم الجيرانُ وأنا وأنت!!
ونجد هنا إلحاحَ الصداقة على الشاعر مرة أخرى، وهي حالة قلقٍ لديه؛ إذ يجد في الأشياء المجهولة أصدقاء لم يجد مثلها فيمن ظنَّ صداقتهم من الناس!
ويفتح لنا الشاعر الغدير صفحةً من نقائض الحياة الواعظات.. يفتحُ صفحة من المجهول فيقول:
فتَحتَ الأرضِ ميتٌ وهو حَيٌّ بما أَهدى وما أَسدى وأَفتى ومَرُّ الدهرِ لا يَمحو جَداهُ سَيبقى صَرحُهُ نَضراً وثَبتا وفوقَ الأرضِ أحياءٌ ولكِن غَدَوا من إِلفِهِم للجُبنِ مَوتى
ويستقي حكمته هنا من الشمسِ الشاهدِ الذي لا يغيب عن الأحياء والأموات فيقول :
تقولُ الشمسُ إنْ طَلَعَت عَلَيهِم رأيتُ بَقاءهُم زَيفاً وأَلتا وإن كرامةَ الأمواتِ دَفنٌ يَضمُّ رُفاتَهُم، فعَسى ولَيتا!
والشاعر يوظِّف الجملة المتداولة بين الناس (كرامة الميت دفنه) في الاستهزاء بأحياء (الجبن) الأموات، ومنهم الذين تخاذلوا في معركة نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم أمام (الجبن) الدانمركي، فقال فيهم في قصيدته أبا الزهراء:
وأَخزى اللهُ أَقواماً دَعاهُم إلى الغضَبِ الوَفاءُ فما أبانُوا لقد صَمَتوا وإن الصَّمتَ لُؤمٌ لدى الجُلَّى، وأَلهَتهُم قِيانُ عَليهِم مِن مَخازِيهم غَواشٍ ومِلْءُ قُلوبِهِم ذامٌ ورانُ فهُم مَوتى وإن ذَهَبوا وراحُوا وهُم جِيَفٌ عَليها الطَّيلَسانُ
ويُشير إليهم بصريح العبارة بعد أبيات فيقول:
ويَقتَحِمُ الشجاع ذُرا الرَّزايا ويَغرقُ في مَخاوِفِه الجبانُ
الإنسان والزمن:
زمن الإنسان هو عمره الذي يعيشه، فيملؤه بالخير أو بغيره.
وقد استوقف الزمنُ الشاعر الحكيم - أو هو توقَّف عنده - كثيراً يحادثه فيسجِّل مواعظه وعبره.
وكان ما يسمى رأس السنة محطَّة وقوفه أكثر من مرة، إذا كان يصح أن يُقال ليوم في السنة رأس السنة!! فلكل إنسان رأس سنته، وعدد أيام رأس السنة بعدد الناس على الأرض، ومع ذلك فإن ما اصطلح عليه الناس فرض نفسه، وفرضته حاجة الناس إلى الحساب بدءاً وانتهاء!
وقد لحظ الشاعر ليلةَ رأس السنة اجتماعَ الناس في ساعة يرقصون ويلهون، والزمن يسرقهم ولا يدرون! فقال يخاطب العام:
أَقبَلتَ تَستَرِقُ الخُطا يا عامُ والناسُ حَولَكَ سامِرونَ قِيامُ قد أَسكَرَتهُم خَمرَةٌ مِن غَفلَةٍ أَمشاجُها الأَوهامُ والأَحلامُ يُسراهُمُ عامٌ تَفلَّتَ وانْطَوى ويَمينُهم يَهفو إليها عامُ
ويمضي الشاعر واصفاً غفلةَ الناس عن حقيقة الزمن الذي يحتفلون برحيله واستقباله، فيقول:
والعُمرُ يَمضي والرَّدى دونَ المُنى وتقَلُّبُ الأيامِ والأسقامُ والأَرشَدونَ ولَيتَني مِن بينهِم يَقِفونَ حيثُ الحقُّ لا الأَوهامُ نَظَروا إلى الدُّنيا فما زاغُوا بِها أو أَسكَرَتهُم صَبوَةٌ ومُدامُ
وتتكرر التجربة نفسُها مع الزمن في عام آخر، ولكنه هذه المرة ينتبه إلى الأوراق التي تعدُّ أيام العام، فإذا الورقة الأخيرة منها تُنذر برحيل عام وبداية آخر، فيقول الشاعر تحت عنوان (نحن لا نفنى):
مَرحباً ياعامُ إنَّا ها هُنا تَسكُنُ الآلامُ فِينا والمُنى كلُّها تُومي لنا إيماءةً ربَّما كانت عَلَينا أو لَنا يَومُنا كالأَمسِ حُزنٌ وأَسىً لَيتَ شِعري كيفَ نَلقى غَدَنا؟!
والشاعر الغدير هنا مسكون بهم الأمة الإسلامية، وإن كان هذا الهمُّ لا يكاد يغادره، إذ يسيطر على هذه القصيدة ضمير الجماعة منذ العنوان، في إصرار دالٍّ على الثبات وعدم اليأس، برغم دواعيه الكثيرة التي جعلت الشاعر يتساءل بألم مَشوب بالحيرة والتوجُّس من الغد المجهول (ليت شعري كيف نلقى غدنا؟!)، والبيت يَستدعي إلى الذاكرة مثيلَه من الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى:
وأَعلَمُ عِلمَ اليومِ والأَمسِ قَبلَهُ ولكِنَّني عَن عِلم ما في غَدٍ عَمي
كما أجد في وقفات الشاعر مع الزمن وتأمُّلاته فيه ومحاوراته معه نفَساً من الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، إذ له العديد من المقالات في كتبه مع الزمن، والشاعر الغدير من عشاق السياحة والسباحة في أدب الطنطاوي، وقصيدته (شاهد القرن) في الديوان في رثاء الطنطاوي تقوِّي هذا الرأي عندي.
ويبدو الشاعر في حواره للعام الجديد مُستعطفاً غارقاً في حَيرته من الغد المجهول، نازفاً بالأسى والألم من حال الأمَّة، فيقول:
بَيدَ أنَّا أيُّها العامُ الذي جاءنا يَعدو بِما حَيَّرَنا لم يَزَل فِينا رجاءٌ واعِدٌ أنْ تُواتِينا وقَد أَفرَحتَنا!
ويخيَّل إليَّ الشاعر مادّاً يديه إلى العام الجديد بلونه الرمادي البائس كسابقاته يخاطبه، والعام يرنو إليه صامتاً، فيمضي دون أن يجيب، ويفهم الشاعر دلالة السكوت، والصمت حكمة وقليل فاعله! فيقاوم اليأس الذي يحاول اختراقه، فيقول:
أيُّها العامُ الذي نَرنو له مِثلَما جاءَ إلينا ورَنا قُل لِمَن ظَنَّ بأنَّا أُمَّةٌ أَوشَكَت تَغرَقُ في لُجِّ الفَنا نحنُ لا نَفنى فإنَّا أُمَّةٌ لم تزَل جَذوَتُها مِلءَ الدُّنى
الإنسان والحياة:
وقد يقف الشاعر مع الزمن في غير ما مناسبة، فيلحظ سرعة تصرُّمه وتقلُّبه بين الأفراح والآلام، فيقول في قصيدة (إذن تفوز):
أَبصَرتُ في العُمر أَفراحِي كآلامِي مُهراً سريعَ الخُطا يَعدو بأيَّامِي هَذي تُخادِعُني والحُسن فِتنتُها وتِلكَ تشتَدُّ في جَرْحِي وإِسقامِي وَجَدتُّ نَفسي مَضى عُمري إزاءَهُما كأنه بعضُ يومٍ لاهثٍ ظامِ
ونلحظ هنا الهم الذاتيَّ المسيطر على الشاعر، وتعابيره المبنية على ضمير المتكلم المفرد، فالشاعر في صراع مرير مع الزمن، فهو لايكاد يلتقط أنفاسه لاهثاً ظامياً، وإن نسب ذلك إلى العمر، لأن عمر الإنسان هو ذاته، إذ لا إنسان بلا عمر!!
ويُتابع الشاعر عرض مأساته مع الزمن فيقول:
إذا صَحَوتُ منَ الأَوهامِ تَأسِرُني عادَت لِتَجعَلَني في سِجنِها الدَّامِي فَهِيَ الأَعادِي وإنْ أَبدَت بَشاشَتَها وسَهمُها سَهمُ بادي الكُرهِ غَشَّامِ
وفي البحث عن مخرج نجاةٍ من الهلاك المحدق من سهام الأوهام الأعداء يسأل الشاعر الشمسَ والبدر:
وكيفَ أَنجو؟! سألتُ الشمسَ طالعةً والبدرَ يَحبو الدُّنى من نُورِهِ الهامِي
والشمس والبدر شاهدا الليل والنهار، فبماذا نصَحا الشاعرَ، وما الحِكَم التي زوَّداه بها:
قالا: اتَّخِذ مِن يَقينٍ سابِغٍ وَزَراً واطْوِ المَخاوِفَ في صَبرٍ وإِقدامِ وفَوِّضِ الأَمرَ للرَّحمنِ في ثقةٍ ولُذْ بهِ، فهوَ نِعْمَ العَونُ والحامِي إذَن تَفوزَ وتَغدو كلُّ داهِيةٍ أَشجَتكَ حِيناً سَراباً بينَ آكامِ ويُصبحُ العُمرُ أَمناً لا يُكَدِّرُهُ سَطوُ المَخاوِفِ مِن ناسٍ وأَوهامِ
والفوز هو الغاية التي يسعى إليها الشاعر، وهي غايةٌ مشروعة {فمَن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنَّةَ فقد فاز}، لذلك نجده يكرِّر عبارة (إذن تفوز) في قصيدة أُخرى بعنوان (زُلفى)، مبشراً نفسه إذا التزمت الخطَّة الحكيمة في منهجها في الحياة، يقول الشاعر وقد اتخذ مشيبه صديقاً نصوحاً حين جاء إليه بالنذير:
وأَبصَرتُ المَشيبَ فقال هَمساً وجَهراً: إنَّ في بُرديَّ حَتفا أنا بُشراكَ إن أَحسَنتَ صُنعاً وإلا فالنذيرُ يَمورُ عَصفا فقُلتُ: أُريدُ نُصحَكَ يا صَديقِي فمَحِّضْنِيهِ مثلَ النُّورِ شَفّا فقال: تَوَخَّ نَهجَ الحَقِّ أَنَّى مَضَيتَ وكُن بهِ شَهماً وعَفّا
ويأخذ الشاعر الأمر بجدٍّ بالغ، ويحشد تفكيره كلَّه، فيقول:
حَشَدتُّ خَواطِري وهَتَفتُ فِيهِ رَضِيتُ، فَطابَ بي قَلباً وطَرْفا
وقالَ: إذن تفوزَ! فقُلتُ: بَهْراً سَتَلقاني الفَتى إنْ قالَ أَوفى
وهذا منه كقول طَرَفَة:
إذا القَومُ قالوا مَن فَتىً خِلتُ أَنَّني عُنيتُ فلم أَكسَل ولم أَتبَلَّدِ
فالمقصود صفاتُ الفتوَّة عند العرب من الوفاء والمروءة والنجدة والترفُّع عن الدنايا، وليس المرحلةَ العمرية التي تجاوزها الشاعر إلى الشيخوخة إذ يقول:
وللسَّبعينَ أَدنو مِن ذُراها مَواجِعُها تَبدَّى أو تَخَفَّى
والسبعون يذكِّرنا بقصيدة (سبعون) للشاعر عبد العزيز الرفاعي رحمه الله تعالى، وهو صديقٌ حميم لشاعرنا الحكيم، ومن القلائل الذين صَفَت لهم صداقته من الناس، وقد أصفاه بقصيدة في العدد (54) الخاصِّ بالرفاعي من مجلة الأدب الإسلامي أشار فيها إلى هذه القصيدة فقال:
سبعونَ قد وَفَدَ الشِّتاءُ يَزورُني والنارُ قد خَمَدَت وجَفَّ المورقُ حَنَّت إلى عَبقِ التُّرابِ جَوانِحي لا غَرْوَ يَشتاقُ الرفيقُ الأَرفَقُ
والسبعون الذي يتحدث عنه الشاعر الغدير يقف بنا في محطَّته الأخيرة من قصائد الحكمة، وهي (إذا متُّ) جعلها نصائحَ موجهة إلى ابنه إذ أحسَّ بدنو أجله -متَّعه الله بالصحة والعافية- على غِرار قصيدة مالك بن الرَّيب وأبي فراس الحَمْداني في رثاء نفسَيهما، ولا شك أن التجربة الشعرية تبلغ قمَّتها صدقاً وحرارة في مثل هذا، لذلك جاء المقطع الأول من القصيدة في تصوير خطوات الدَّفن الرهيبة، ثم ينتقل الشاعر إلى توجيه نصائحه إلى ابنه الذي هو امتدادٌ له، فكأنه بذلك يريد منه أن ينالَ ما ناله، و يتدارك ما فاته من الخير، ونجد قضية الفوز والنجاة حاضرةً أيضاً، يقول الشاعر:
وعِشْ صادِقاً شَهماً يُنقِّي فُؤادَهُ ومَسعاهُ أنَّى كانَ في السرِّ والعَلَنْ وداعِيةً للهِ يَرجو ثَوابَهُ ويَشكُرُ في النُّعمى ويَصبِرُ في المِحَنْ إذن تبلغَ الفَوزَ العَظيمَ وتَرتَقي وأَفرَحُ في قَبري لما نِلتَه إذَنْ!!
والشطر الأخير يؤكد صدقَ الإحساس عندي بشعور الامتداد والتواصل لدى الشاعر.
وبعد.. فهذه جولةٌ في الحياة مع الشاعر الحكيم د.حيدر الغدير في ديوانه (من يطفئ الشمس؟) الذي شبهته بالغدير في مائه وأشجاره وأزهاره، وإن شعر الحكمة فيه هو اللون الأخضر في البستان بانتشاره في كل جزء من الديوان، وأنه الوقار الذي يناسب الشاعر في هذه المرحلة العمرية وهو على أبواب السبعين!!
وقد قدَّم لنا الشاعر حِكَماً كثيرة في أسلوب حيٍّ من حركية الحياة، فجعلها حواراً، وسرداً أقرب ما يكون إلى القصة، مُحلِّقاً بصور شعرية من الخيال المجنَّح، والأداء المهموس المتَّسم برقَّة الكلمات وتناسق العبارات. ومع هذا لم يخل الديوان من بعض الحكم والنصائح التي جاءت مُباشرة على طريقة شعراء الحكمة قديماً، ولكنَّ ذلك لم يعب التجربة؛ لأن المقام تطلَّب ذلك كما في قصيدته التي يَرثي نفسه ويوصي ابنه بعنوان (إذا متُّ)، فلو لجأ الشاعر إلى الخيال والرمز في هذا الموقف لكان ذلك مأخَذاً على تجربته؛ لأن الموقف لا يتحمَّل مثل ذلك.
وسوم: العدد 687