معمّر بختاوي يفضح الفساد والتّخلف

الخروج من الصّمت

clip_image002_28e62.jpg

صدرت مؤخّرا رواية "الخروج من الصّمت للأديب المغربيّ معمّر بختاوي، وتقع في ١٣٢ صفحة من الحجم الصّغير كما وردتني على الحاسوب.

والرّواية من عنوانها  مثيرة للتّساؤلات، فأيّ صمت يعنيه الكاتب؟ وما الدّاعي للخروج عليه؟ وفي الواقع أنّ هذا العنوان اللافت أثار فضولي لأطالع ما جاء فيها، فقرأتها في جلسة واحدة، رغم مرارة مضمونها، غير أنّ عنصر التّشويق فيها أجبرني على متابعتها حتّى النّهاية.

وتمنّيت لو أنّ لديّ نسخة ورقيّة من الرّواية لأضع ملاحظاتي عليها؛ لتساعدني في الكتابة عنها.

وبما أنّ عنوان الرّواية لافت، فإنّ "سيرواية" التي جاءت على الغلاف الخارجيّ الأوّل لافتة هي الأخرى، فهي نحت من كلمتين هما"سيرة ورواية" أي أنّنا أمام سييرة روائيّة، وبهذا فإنّ الكاتب أراحني من التّساؤل حول الرّواية التي جاء السارد فيها بضمير "الأنا" وهذا يعني أنّ أديبنا كتب تجربته الشّخصيّة مع مرض السّرطان اللعين على شكل رواية إلى أن شافاه الله منه، ونتمنى له دوام الصّحة والعافية والعمر المديد السّعيد.

ويجيء إهداء هذا الاصدار من الكاتب لزوجته التي وقفت  وتألّمت معه في محنته مع المرض، كما يهديه إلى جواهر ياسين التي ساهمت في اخراج هذا العمل. وهذا ردّ للجميل من قبلل الكاتب.

وينوّه أديبنا منذ البداية بأنّ " هذا الكتاب تجربة واقعية، أحكيها للمرضى المصابين بداء السرطان ولذويهم لعلهم يجدون فيها الأمل للنجاة من براثن هذا المرض الفتّاك. كَتبتها تحت إلحاح أحد الأصدقاء الذين أعزّهم كثيرا". 

وبهذا فهو لا يترك مجالا للقارئ بأن يفكّر بوجود خيال في هذا العمل، وهذا بطبيعة الحال يفرضه الواقع الذي كتب عنه أديبنا، والحكمة من وراء دوافعه للكتابة.

المضمون: يسرد لنا الكاتب وبلغة الأنا معاناته مع مرض السّرطان، ويجول بنا في سنوات العلاج الأربعة ما بين بلدته بركان مسقط رأسه، ووجدة ورحلاته منها للعلاج في مدينة الرّباط،  ويرى المرء من خلال السّرد مدى الاهمال الطّبّي الذي تعانيه  المستشفيات في بلاده، بل مدى عدم وجود رعاية طبّيّة كافية في المدن الأخرى البعيدة عن العاصمة الرّباط، وحتّى المستشفيات في الرّباط وكوادرها الطّبّيّة في غالبيّتها ليست على ما يرام، فهل يعقل أن يسافر مريض سرطان من وجدة عشر ساعات في قطار مهترئ حتّى يصل الرّباط للعلاج؟ وبالتأكيد هناك مدن وقرى وتجمّعات سكنيّة أخرى تبعد أيّاما في المواصلات العامّة عن العاصمة، فأين الخدمات الطّبّيّة في المدن الأخرى غير الرّباط والدّار البيضاء؟

 ونلاحظ معاناة المريض  عندما ذهب من وجدة لمراجعة الطّبيب في مستشفى مولاي يوسف في الرّباط ويصف لنا حالة المستشفى المزرية، ورغم خطورة حالته وبعد مكان سكناه، ومعاناته في السّفر، إلا أنّ الطبيب طلب منه ببساطة:"عد بعد ثلاثة أشهر ونصف"! . 

فذهب صحبة زوجته وزوج أخت زوجته إلى مستشفى الشّيخ زايد، فحوّلته طبيبة الاختصاص بأمراض الرّئة إلى الجرّاح الموجود في مستشفى "ابن سيناء" وهناك أخبروه بأنّ الطبيب ربّما يكون في عيادة "ابن خلدون" وبعد انتظار طويل ومعاناة في تلك العيادة يحوّله الطبيب إلى مركز تحاليل آخر وهكذا، فهل يعقل وجود مستشفيات بدون مختبرات طبّيّة؟

وعندما تظهر نتائج الفحص وثبت أنّ المريض مصاب بسرطان الرّئة الذي امتدّ إلى فقرات في العمود الفقري، يظهر مدى "وحشيّة" الطبيب في تعامله مع المرضى وذويهم، عندما أخبر زوجة المريض بأنّ زوجها في وضع حرج جدّا، وبدلا من مواساتها وتخفيف وطأة الخبر المفجع عليها قال لها:"لست الوحيدة التي ترمّلت، وهذه سنّة الحياة"! 

تلقى المريض العلاج الكيماوي غير الموجود في المستشفى! وكان يشتريه على حسابه الخاص من " المصحّة التّابعة للتعاضديّة العامّة"! وعانى الكثير، إلى أن أصيب بعوارض مرضيّة أخرى أوصلته "لمصحّة الأزهر" حيث  تمّ تشخيص المرض بورم على الدّماغ، وتمّ علاجه بالأشعة حتّى الشّفاء، وتبيّن أنّ سبب معاناته هو خطأ الطبيب السّابق "العجلان" الذي لم يعالجه بالأشعة مع الكيماوي، وتخلى عن مريضه وأخفى ملفّه الطّبّيّ كي لا تنفضح أخطاؤه!.

اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد:

واضح أنّ الكاتب الذي اكتوى بمعاناة وآلام  لا تطاق طرح الوضع المزري للمستشفيات في بلاده، وكأنّه يستصرخ أصحاب القرار بتحسين الأوضاع،  وورد في النّصّ على لسان أحد المرضى انتقاد لاذع لنوّاب البرلمان الذين من المفترض أن يحملوا هموم ومطالب ناخبيهم، فوصفهم"البرلمان يدخله الجوعى كي يشبعوا"! أي أنّ النّوّاب يبحثون عن مصالحهم الشّخصيّة فقط، ولو كانوا ممثّلين حقيقيّين للشّعب، لما كانت الرّعاية الصّحّيّة والمستشفيات بهذا السّوء.

وممّا ورد على لسان مريض يتعاطى المخدّرات، وعمل في توزيعها لصالح "الامبراطور" و"الامبراطور" هذا تاجر مخدّرات مجرم أثرى على حساب الجياع والمحرومين ونشر الرّذيلة والجريمة في البلاد، وبدلا من عقابه إلا أنّ هناك من يحميه من كبار المتنفّذين، يصفه المريض بقوله"يتحصّن الامبراطور داخل جدران من حديد لا تعرف حدود دولته من حدود الدّولة الكبرى"!

وهكذا فإنّ مقدّرات البلاد وثرواتها في أيدي المتنفّذين من رجالات الدّولة ورجالات المال وكلا الطرفين فاسدان. وبما أنّ كلمة الامبراطور تعني"ملك الملوك" فإنّنا سنرى مدى سطوة ونفوذ هكذا مجرم، وفي نفس الوقت يحاول أن يظهر أمام الفقراء والمحتاجين بمظهر الانسان الخيّر.

وقد وردت في النّصّ حادثة غاية في الذّكاء، وهي قضيّة الشّابّ الذي يقرأ صحيفة باللغة الفرنسيّة في القطار، وسرق "موبايل" المريض، وقد فهمتُ من هذه الحادثة أنّها إشارة واضحة "لسقوط المتعلّمين والمثقفين" فبدلا من أن يستثمروا علمهم وثقافتهم للنّهوض بمجتمعهم، وتغيير الأوضاع إلى الأحسن، فإنّهم يتساقطون ويتذيّلون ويمارسون الفساد على حساب المسحوقين من أبناء شعبهم، فهو لن يستفيد شيئا من سرقة "الموبايل" الذي يحمل أرقام هواتف الأطبّاء الذين يحتاجهم المريض صاحب الموبايل، وهذا الرّجل المريض رأى اللصّ ولم يمسك به، وفي ذلك إشارة إلى أنّ سقوط المتعلّمين والمثقفين ظاهر للعيان، ومع ذلك لا يحرّك النّاس شيئا. 

الشّعوذة: ورد في الرّواية ذكر "للشّريف الذي يعالج بالماء والسّكّر" وهو مشعوذ محتال يصطفّ الفقراء والجهلاء المرضى على بابه بطوابير ليسلبهم أموالهم القليلة بحجّة العلاج، وهذا مع الأسف موجود بكثرة في مجتمعاتنا العربية التي تعاني من ويلات الجهل والتّخلف.

التّراث الدّيني والشّعبي:

ورد في النّص عدد من الآيات القرآنية في مكانها الصّحيح، كشواهد، كما وردت بعض المفاهيم الدّينيّة حول المرض مثل" قال بعض المؤمنين: حتّى الأنبياء والصّحابة والصّالحون والأولياء، اختبروا وامتحنوا بالمرض، وليس هناك من يعفي من المرض".

وقد وردت أيضا بعض الموروثات الشّعبيّة التي أعطت النّص زخما جماليا مثل الأغاني:

يا مَوْجَة غَنّي غَنّي.. عَلَى لْبَحْر غَنّي.

كَيْفَ اللّي شَايَفْ مَحْبُوب مُتَهَنّي.

 ووردت بعض العادات والتّقاليد، مثلا عندما أورد حلما سوداويا، ولمّا استيقظ قال:"تفلْتُ على يساري وقرأت الفاتحة"! ولهذه العادة أيضا خلفيّة دينيّة.

البناء الرّوائي:

 وصف الكاتب حالة المريض منذ شعوره بأعراض المرض حتّى شفائه منه، واعتمد على السّرد بلغة الأنا، ليكون أكثر حميميّة لذهن المتلقي، وهذه أيضا من سمات كتابة السّيرة. 

الأسلوب واللغة:

 استعمل الكاتب السّرد الرّوائيّ، الذي لم يخلُ من الحكي وأسلوب الحكاية، كما لم يخلُ أيضا من التّقرير الاخباري في أكثر من موضع. ويلاحظ أنّ اللغة انسيابيّة متلاحقة لا تعقيد فيها.   

 عنصر التّشويق:

يطغى عنصر التّشويق بشكل جارف على النّصّ رغم مرارة الموضوع.

أهمّيّة هذا النّص:

سيسجّل لصالح الكاتب أنّه خاض في موضوع خطير ، لم يخض فيه كاتب عربيّ من قبل –حسب معرفتي على الأقلّ- وهو تجربة مرض السّرطان المخيف، وكيف نجا منه بعد معاناة صعبة وقاسية، وفيه درس لمن يصابون بهذا المرض أو بغيره من الأمراض أن لا يستسلموا للمرض، وأن يتابعوا العلاج فامكانيّة الشّفاء واردة.

وفي النّص انتقاد واضح لكيفيّة تعامل المجتمع مع المريض، فبدلا من دعمه ورفع معنويّاته فإنّهم يحبطونه ويحبطون ذويه أيضا، كوصفهم المريض بأنّه مسكين، وصغير في العمر، وزوجته شابّة وأبناؤه أطفال وهكذا.

وفي هذا النّص جرأة في طرح السّلبيّات ليس للشماتة وإنّما للفت انتباه ذوي الأمر للاصلاح.

وماذا بعد:

يشكّل هذا النّص إضافة نوعيّة للمكتبة المغربيّة بشكل خاصّ والمكتبة العربيّة بشكل عام، فتحياتنا للكاتب وأمنياتنا له بالصّحّة الجيّدة والعمر المديد، مع التّأكيد أنّ هذه العجالة لا تغني عن قراءة النّص.

وسوم: العدد 692