شخصية الإمام المودودي في الشعر الإسلامي المعاصر
(1321- 1399هـ)
(1850- 1979م)
أ – سيرة الإمام المودودي : أمير الجماعة الإسلامية في باكستان :
يعد أبو الأعلى المودودي نموذجًا فريدًا للداعية الإسلامي المجتهد الذي أوقف حياته على الدعوة إلى الإسلام، وجعل رسالته في الحياة إعلاءَ كلمة الحق، والتمكين للإسلام في قلوب أتباعه قبل ربوعه وأوطانه. وكان لإخلاصه في دعوته واجتهاده في رسالته أكبر الأثر في التفاف الكثيرين حوله، وانضوائهم تحت لواء فكره الذي تخطى حدود القومية ونطاق المكان؛ ليصبح راعية عالميًا للإسلام في كل مكان، بل إن أعماله ومؤلفاته قد انطلقت لتتخطى حدود المكان، وتتجاوز إسار اللغة، فترجمت إلى معظم لغات العالم؛ لتظل ينبوعًا متجددًا لعطائه الفكري والدعوي الذي تجاوز مرحلة الدعوة باللسان والتنظير الفكري إلى مجال التطبيق العملي للتشريع الإسلامي حكمًا وقيادة ومعاملات.
ينتمي الإمام المجاهد ( أبو الأعلى المودودي ) إلى أسرة تمتد جذورها إلى آل البيت النبوي في شبه جزيرة العرب، فقد هاجرت أسرته منذ أكثر من ألف عام إلى جشت بالقرب من مدينة هراة، على حدود أفغانستان وإيران، وكان (أبو أحمد إبراك) كبير هذا الغصن الشريف، وبه بدأت طريقة صوفية شهيرة عرفت بالالتزام بالشريعة والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله وإصلاح الناس عرفت بالطريقة (الجشتية )، ثم خلف الطريقة بعد أحمد حفيده من ابنته ..ثم خلفه ابنه الأكبر الشيخ قطب مودود الجشتي المتوفى 527 من الهجرة، وهو الجد الأعلى للأسرة المودودية، ثم رحل جده الأكبر "ضواجه مودود" إلى الهند في أواخر القرن التاسع الهجري .
ولادته ونشأته :
وبعد مولده بنحو عام اعتزل الأب الناس، ومال إلى الزهد، وقد عمل الوالد على تنشئة ولده، وتثقيفه، فنشأ أبو الأعلى في ذلك الجو الصوفي، وتفتحت عيناه على تلك الحياة التي تفيض بالزهد والورع والتقوى والثقافة .
حرص والده على تنقية لغته لتظل صافية على الرغم من تجوال الأسرة في مناطق الهند المختلفة ذات اللهجات العديدة .
ويرجع المودودي بنسبه البعيد إلى الشيخ قطب الدين مودود صاحب الطريقة الجشتية المعروفة منذ القرن السادس الهجري في منطقة (هرات) من ديار الأفغان ....
واستنكر الشيخ حمد الجاسر على الشيخ : (( أبي الأعلى المودودي )) تكنيه بذلك محتجاً بقول الله - تعالى - : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} .
وهذا من باب التوقي؛ لأن للمخلوق علواً يناسبه، والخلق في ذلك متفاوتون .
ولا يظهر لي المنع ولا وجه لاعتراض الشيخ الجاسر .
دراسته :
قضى أبو الأعلى طفولته الأولى في مسقط رأسه في مدينة "أورنك آباد الدكن"، بمقاطعة حيدر آباد، وكان أبوه معلمه الأول حيث درسه اللغة العربية والقرآن والحديث والفقه، وكانت أسرته أسرة علم وفضل، وقد حرص أبوه على تنشئته تنشئة دينية، واهتم بتلقينه قصص الأنبياء والتاريخ الإسلامي، وكان يصحبه إلى مجالس أصدقائه من رجال الدين والعلماء؛ فتفتحت ملكاته وظهر نبوغه وذكاؤه منذ حداثة سنه حيث حفظ موطأ مالك في زمن قصير.. ونال إعجاب أساتذته منذ سنوات دراسته الأولى، وحرص أبوه على تعليمه اللغة العربية، والفارسية بالإضافة إلى الفقه والحديث، ولم تمض سنوات حتى كان أبو الأعلى الفتى الصغير قد حصل من العلوم في خمس سنوات ما لم يحصله نظراؤه من الأطفال في ضعف هذه المدة، وبعد أن استوى عوده، ونال من الثقافة الإسلامية حظاً طيباً. ألحقه أبوه في المدرسة الحكومية، وكانت سنه لا تزيد عن إحدى عشرة سنة، فأجري له اختبار للقبول، ونجح إلى الصف الثامن، واستمر في المدرسة إلى نهاية المرحلة الثانوية في (أورنج آباد)، جمع المودودي بين الثقافة الدينية والمدنية، فدرس الرياضة والكيمياء وغير ذلك .
وأقبل المودودي على التعليم بجدٍ واهتمام حتى اجتاز امتحان مولوي، وهو ما يعادل الليسانس في الشريعة .
المودودي صحفيًا :
وفي هذه الأثناء أصيب الأب بالشلل، وأصبح قعيدًا بلا حراك، فانقطع أبو الأعلى إلى ملازمته وخدمته، والعناية به، ولم يلبث أن توفي أبوه عام 1920م، ولم يتجاوز السادسة عشرة، فكان عليه أن يعتمد بعد الله على نفسه، بعد أن ضاقت سبل العيش بالأسرة والأبناء، فكان على( المودودي ) أن يكافح من أجل لقمة العيش، وقد وهبه الله ملكة الكتابة التي صقلها بالقراءة والمطالعة، فقرر أبو الأعلى أن يجعل من قلمه وسيلة للرزق، وكان أخوه الأكبر "سيد أبو الخير" مديرًا لتحرير جريدة مدينة (بجنور)، فعمل المودودي محررًا بالجريدة، ابتداء من عام 1337ه/ 1918م إلا أنه لم يستمر طويلاً بها، فقد أغلقت الحكومة الجريدة، ثم اشترك مع أخيه في جمعية إعانة وغوث المسلمين، ثم في حركة إحياء الخلافة هي الشغل الشاغل لمسلمي شبه القارة الهندية.
وفي سنة 1351 هـ أصدر المودودي مجلة (ترجمان القرآن) وجعلها منبراً للدعوة الإسلامية، وكان يبدؤها بتفسير القرآن العظيم بأسلوب يحافظ فيه على جوهر المعنى بأسلوب عصري يبلغ به دعوة الإسلام إلى معاصريه.
وكان يحرر في جريدة (تاج) التي كانت تصدر أسبوعية من جبلبور، ثم أصبحت يومية، وفيها كتب افتتاحيات عديدة تتحمس للمحافظة على الخلافة الإسلامية وفي هذه الاثناء كتب كتاب ( النشاطات التبشيرية في تركيا ).
مع إقبال :
وفي عام 1926م وقعت اضطرابات في الهند على أثر مقتل زعيم حركة إكراه المسلمين على اعتناق الهندوسية المدعو ( سوامي شردهانند )، وواجه المسلمون هجوماً عنيفاً، وكان المودودي بين الشباب المسلم الذين وقفوا في وجه الهجوم، وفي عام 1928 م أتم كتابه "الجهاد في الإسلام" الذي حقق شهرة عالمية، وكان المودودي متميزاً غاية التميز، وقد كتبه ردًا على مزاعم غاندي التي يدعي فيها أن الإسلام انتشر بحدِّ السيف.
في عام 1930م ألف المودودي كتابه النفيس (مبادئ الإسلام ) .
وهذا الرجل (إقبال) عرف الحضارة الغربية، ودرسها، فهو يعرفها معرفة تامة.
يقول المودودي: كنا نعظ الناس، ونحذرهم من الحضارة الغربية فما يستمعون إلينا؛ لأننا ما سافرنا على الغرب، فلما أتى محمد إقبال يحذرهم من الحضارة الغربية أنصتوا إليه، واستمعوا، واتعظوا بما قال.
تأسيس الجماعة الإسلامية :
الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية الباكستانية هي: جماعة إسلامية معاصرة كرّست جهودها في سبيل إقرار الشريعة الإسلامية وتطبيقها في حياة الناس والوقوف بحزم ضد جميع أشكال الاتجاهات العلمانية التي تحاول السيطرة على المنطقة.
وكان يقول : إن هذه الحركة هي هدف حياتي، حياتي ومماتي وقف على هذه الحركة، إذا تردد أحد في السير على هذا الطريق فأنا سائر، وأعطي الروح في سبيل هذا إذا لم يتقدم أحد إلى الأمام فسوف أتقدم أنا، وإذا لم يرافقني أحد فسوف أسير وحيداً، ولو اتحدت الدنيا كلها، وبقيت وحيداً، فلن أفزع من نزالها .
ونادى بضرورة العمل الجماعي، فالفرد لا يقاوم ذلك التيار الجارف من الفساد والاستبداد، وقد قامت هذه الجماعة لتبين للناس أن إقامة الدين فريضة على كل مسلم ، فركزت على الإصلاح الأخلاقي، وحاوت تقديم البديل الإسلامي عن الفكر القومي، وكان ظاهر هذه الجماعة هو الإصلاح الشامل لحياة المسلمين اليوم على أساس الفهم الصحيح النقي للإسلام مما ألصق به الحاقدون من شوائب، وأراد من خلال هذه الجماعة نشر أفكاره المقامة على الكتاب والسنة .
شرعت الجماعة الإسلامية في مهمتها بتعميم الدعوة ونشر فكرة الإسلام، وكان الأستاذ المودودي رحمه الله لا يزال ينشر آراءه وأفكاره في مجلته ترجمان القرآن، ويلقي المحاضرات في الموضوعات الإسلامية أمام طلاب الجامعات وأساتذتها، وظهر في الجماعة نخبة من المؤلفين، وقفوا حياتهم ومواهبهم لاستجلاء محاسن الإسلام بأسلوب عصري متين، وحرصت الجماعة الإسلامية على تربية أعضائها على الأخلاق الإسلامية وحثهم على أداء شهادة الحق قولاً وعملاً: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} .
ولم يزد أعضاء الجماعة في مدى ست سنوات (من1360- 1366 هـ) على ستمائة وخمسة وعشرين عضواً، إذ كان على من يلتحق بعضوية الجماعة الإسلامية أن يستقيل من وظائف الحكومة الإنجليزية المستعمرة، وإن كان محامياً أن يمتنع عن المرافعة أمام المحاكم التي كانت تحكم بغير ما أنزل الله، وأن يرفضوا التعامل بالربا والعقود المحرمة الأخرى، وقد أثبت هؤلاء النفر المؤمنون الذين بايعوا المودودي أنهم جادون في عملهم للإسلام ودعوته.
وحين انقسمت الهند إلى دولتين الهند وباكستان، ازدادت أعباء (الجماعة الإسلامية) فكان عليها إلى جانب نشر التصور الصحيح للإسلام وإعداد الفرد المسلم وإصلاح المجتمع، أن تعمل على جعل باكستان دولة إسلامه تطبق الإسلام، وذلك:
1- بمطالبة الحكومة بوضع الدستور الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية..
2- إعداد جيل متمسك بتعاليم الإسلام، مستقيم السلوك يستطيع تحمل مسئوليات النظام الإسلامي.
وقد كان لجهاد الجماعة الإسلامية لوضع الدستور الإسلامي لدولة باكستان أن أصدرت الجمعية التأسيسية (قرار المبادئ) سنة 1368هـ الذي ينص على أن الحاكمية في باكستان ليست إلا لله عز وجل وأن كل ما تتمتع به الدولة من الصلاحيات والسلطات هي وديعة عندها لله سبحانه وتعالى، وأن الحكومة من واجبها أن تجعل المسلمين يعيشون حياة إسلامية يرتضيها الله ورسوله.
اعتقاله :
وبدأت الجماعة الإسلامية في الضغط على الحكومة ومجلس سن القوانين للموافقة على المطالب التي قدمها المودودي بجعل القانون الأساسي لباكستان هو الشريعة الإسلامية، وأن تقوم الحكومة الباكستانية بتحديد سلطتها طبقاً لحدود الشريعة .
وقد كان من كيد أعداء الإسلام أن الحكومة البريطانية، ورثت دولة باكستان الناشئة تحكم القاديانيين وسيطرتهم على جانب من السلطة فكان ظفر الله خان وزيراً للخارجية وبعض الضباط القاديانيين يتحكمون في سلاح الطيران.. وكانت للقاديانية دعاية واسعة خبيثة بين ظهراني المسلمين، فكتب الأستاذ المودودي (المسألة القاديانية) وبين في هذا الكتاب حقيقة القاديانية وخطرها على المسلمين، وبسبب هذا الكتاب ألقي القبض على الأستاذ المودودي سنة 1372 هـ مع عدة مئات من أعضاء الجماعة الإسلامية، وحوكم المودودي أمام محكمة عسكرية فأصدرت قراراً بإعدامه، واستقبل المودودي هذا الحكم بطلاقة وجه ورحابة صدر، ولكن المحكمة عادت، فخففت الحكم إلى السجن المؤبد، وبقي المودودي في السجن ثمانية عشر شهراً، ثم اضطرت الحكومة إلى إطلاق سراحه تحت ضغط جماهير الشعب المسلم في باكستان وفي العالم الإسلامي.
وفي سنه 1384 هـ قامت الحرب بين الهند وباكستان بسبب عدوان الهند على كشمير فاضطر أيوب خان رئيس الباكستان أن يذهب إلى مقر الجماعة الإسلامية في لاهور وأن يصحب المودودي في سيارته إلى دار الإذاعة ليوجه خطابا إلى الأمة وإلى الجيش كان يذاع على المقاتلين في الجبهة، وتحقق الانتصار للجيش الباكستاني رغم ضآلة عدده وعدته أمام الجيش الهندي.
إطلاق سراحه :
اعتقاله مرة أخرى :
الحكم بإعدامه :
وبعد أربعة أيام فقط من اعتقاله أصدرت محكمة العسكر قرارها بإعدام المودودي، في محاكمة صورية كالتي يساق إليها الإسلاميون في مصر، وتركيا، وإندونيسية، والعديد من أقطار المسلمين الرازحة تحت كابوس العسكريين.
ويصف مرافقه الأستاذ ( خليل أحمد الحامدي ) موقفه، وهو يتلقى ذلك الحكم الظالم، فيقول: " لقد استمع إلى هذا القرار بوجه باسم، وقلب مطمئن، ولم يزد على قوله "الحمد لله على كل حال ..". وجاء الضابط ليسلمه نص القرار، وهو يقول: "يمكنك أن تقدم الاسترحام خلال أسبوع."
ولعل هذا الضابط كان يظن أنه يقدم بذلك بشرى سارة إلى ذلك المحكوم بالموت، وهو يجهل أنه تلقاء نوع من الرجال لم يسمع بمثله قط، لذلك لا بد أنه فوجئ بقول الشيخ في الرد على عرضه: "لن أسترحم أحداً لأن أحكام الموت والحياة لا تصدر من الأرض، بل من السماء، فإذا قدر الله لي موتي فلن يستطيع أحد إنقاذي، وإذا قدر الله الحياة فليس بمقدور أحد أن يضرني قيد شعرة "، ثم توجه الأستاذ إلى إخوانه الحاضرين تلك المحاكمة بقوله: " لا يقدم أحد منكم أي استرحام بشأني، وأؤكد بذلك على والدتي، وأخي، وزوجتي، وأولادي جميعاً..".
حظر الجماعة الإسلامية :
تأثيره الجماهيري :
ـ ساعدت الجماعة الإسلامية المجاهدين الكشميريين في جهادهم ضد الهند، وقدمت لهم المؤن والمراكز الطبية والمخيمات.
وقدّم المودودي فهماً شاملاً للإسلام، وقد وضح ذلك من خلال مبادئ الجماعة ودستورها وأهدافها ، كما يظهر كذلك من خلال الوسائل المتخذة لإبراز معالم الدعوة ، فالبحوث والكتب والجرائد والمجلات والمؤتمرات والندوات والدروس والمحاضرات والمدارس ودور العلم والمطالعة ، وأكد المودودي على ضرورة الكفاح السياسي فمهمة الحكومة حراسة الدين وسياسة الدنيا، فدعت الجماعة أهل الأرض جميعاً أن يحدثوا انقلاباً عاماً في أصول الحكم الحاضر، الذي استبدّ به الطواغيت والفجرة، ونادى بدولة باكستان مستقلة تحمي مسلمي شبه القارة الهندية .
ـ في نوفمبر 1971م انشطرت الباكستان إلى شطرين، الغربية حافظت على اسم الباكستان، والشرقية عرفت باسم بنغلاديش، وقد أزعج هذا الانقسام الشيخ المودودي كثيرًا.
ولما وصل بوتو وحزبه إلى حكم باكستان سنة 1392 هـ لم يستطع أن ينفذ ما كان ينادى به من جعل دستور الدولة اشتراكياً علمانياً رغم أكثريته الساحقة، لأن الجماعة الإسلامية والهيئات الدينية الأخرى استنكرت مشروعة، وأبت إلا أن يكون الدستور متفقاً مع قرار المبادئ، فرضخ هذا المتغطرس وحزبه لرغبة الشعب المسلم، ووضع مادة تصرح بأن دين الدولة الإسلام، ومصدر التشريع فيها هو الإسلام.
بين المودودي والندوي:
كان الأستاذ السيد أبو الحسن الندوي قد ألف كتاباً في نقد بعض آراء الأستاذ أبي الأعلى المودودي التي وردت في بعض كتبه وخاصة كتاب (المصطلحات الأربعة في القرآن) ، وقد طبع منذ سنوات باللغة الأردية في السند ثم طبعت ترجمته باللغة العربية باسم (التفسير السياسي للإسلام) في عام 1399 هـ ويقول السيد الندوي أن السيد المودودي قد كتب له في رسالته الأخيرة التي تلقاها منه حين وصله كتاب المذكور الذي جاءت فيه ملاحظاته عليه. كتب له مرحباً بهذه الملاحظات، وشكره عليها، ودعاه إلى مراجعة سائر كتاباته ومؤلفاته، وإبداء الملاحظات عنها، وقال: "إنني لا أستطيع أن أقول إني سأوافق عليها تماماً، ولكني أدرسها، وأتأمل فيها" ، وقال: "إنني لا أعتبر نفسي فوق مستوى النقد واختلاف وجهات النظر.."
ومما يذكر أن كلاً الرجلين كانا من أعضاء رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ومن أعضاء المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ويشيد السيد الندوي حفظه الله بالسيد المودودي "الذي قامت دعوته على أسس علمية أعمق وأمتن من أسس تقوم عليها دعوات سياسية.. وكانت كتاباته وبحوثه موجهة إلى معرفة طبيعة هذه الحضارة الغربية وفلسفتها للحياة، وتحليلها تحليلاً علمياً قلما يوجد له نظير في الزمن القريب، وقد عرض الإسلام ونظام حياته، وأوضاع حضارته وحكمه، وصياغته للمجتمع والحياة، وقيادته للركب البشري والسيرة الإنسانية في أسلوب علمي رصين، وفي لغة عصرية تتفق مع نفسية الجيل المثقف ومستوى العصر العلمي ويملا الفراغ في الأدب الإسلامي المعاصر من زمن طويل، ويقضي حاجة الشباب الطموح إلى مجد الإسلام والمسلمين.."، ويقول الندوي أيضاً : "وقد بعثت كتاباته - المودودي – القوية، ثم جهوده المتواصلة الرغبة القوية العارمة لقيام حكم إسلامي ونظام إسلامي ومجتمع أفضل في كل بلد إسلامي".
معالم التجديد في فكر المودودي :
وظل َّ الإمام المودودي – رحمه الله - ينافح بقلمه ولسانه عن الإسلام والمسلمين، ويتصدى لدعاة العلمانية في القارة الهندية من أبناء المسلمين الذين يريدون السير على منهاج ( أتاتورك ) الذي ألغى الخلافة الإسلامية، وسار في ركاب جمعية الاتحاد والترقي الماسونية.
وهو صاحب فكرة ومشروع إنشاء الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وبعد إنشائها صار عضواً في مجلس الجامعة .
وكان عضواً مؤسساً في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة .
كما كان أبو الأعلى المودودي يطرح الفكر الإسلامي الأصيل المستقى من الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، وينبري مفنداً كل المقولات والدعاوى الباطلة التي يرددها ببغاوات الغرب وعملاء الإنجليز في القارة الهندية وباكستان، كما كان على اطلاع واسع على حضارة الغرب وعوراتها وسوءاتها، مما مكنه من نقدها نقد الخبير العارف المتمكن.
لقد دعا الإمام إلى تصحيح الأفكار وتعميق المفاهيم الإسلامية في نفوس المسلمين، ومواجهة فكرة القومية الهندية الموحدة، والدفاع عن فكرة القومية المسلمة، ودعا إلى مواجهة العلمانية، وطرح الدستور الإسلامي وطرق تنفيذه، بالإضافة إلى جهوده في التصنيف والتأليف ...
وكان دأب الإمام أن يقرن القول بالعمل، حتى لا تكون هناك هوة بين النظرية والتطبيق. ولهذا ركز على ثلاثة أمور في بناء رجاله :
1- أن يكونوا أقوياء في العقيدة، موثوقين في السلوك، يلتزمون بالفرائض، ويجتنبون الكبائر، ويحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله.
2- أن يكون نظام الجماعة والدعوة قوياً محكماً، ولو أدى ذلك إلى أن ينفض عنها أعز عزيز.
3- أن تشمل الجماعة العناصر المثقفة ثقافة إسلامية شرعية، والعناصر المثقفة ثقافة عصرية، تعملان معاً من أجل إقامة النظام الإسلامي الشامل.
ويعتبر الإمام المودودي مفكر الدولة الإسلامية الأول، الذي أنشأ الجماعة الإسلامية بعد الإخوان المسلمين في مصر بثلاثة عشر عاماً، ويتسم الفكر الإسلامي لديه بعدة سمات، أبرزها: - الحاكمية :
يرى الإمام المودودي أن الله خلق الإنسان والكون، وهو وحده الذي يجب أن يحكمه، واستدل بقوله تعالى: ( إن الحكم إلا لله )، والأنبياء هم الذين يعلنون الحاكمية، ولا يجوز لأحد أن يخرج عن حكم الله، بل يجب أن يأتمر بأمر الله، يسجد له، ويرضى بحكمه، ويسلم تسليماً، وقد قرّر الأنبياء هذه الحاكمية مؤكدين ثلاث حقائق، وهي :
أ – السلطة العليا على الإنسان هي سلطة الله، يخضع لها، ويطيعها، ويقرُّ بعبوديته لها .
ب – حتمية طاعة النبي – عليه السلام – بوصفه ممثلاً عن السلطان الأعلى، ومبلغاً عن الله.
ج – القانون الذي يقرّر التحليل والتحريم هو قانون الله وحده، وهو ناسخ لجميع القوانين البشرية، وليس للعباد الحق في مناقشة أحكام الله، وردّها، بل يجب عليهم تنفيذها . وتتمثل حاكمية البشر في العلمانية، والقومية، والديمقراطية .
الدولة الإسلامية :
ليست الدولة الإسلامية دولة ( ثيوقراطية )؛ لأنها ليست دولة رجال الدين الذين يحكمون نيابة عن الله، وليست دولة ديمقراطية صرفة تعطي السلطة للشعب، بل هي دولة إسلامية تقوم على عن الشورى والديمقراطية، الحاكمية فيها لله طبقاً لاختيار الشعب، فالله هو المشرّع، والمسلمون هم المنفذون. والدولة الإسلامية لا تقوم على جنس أو عنصر، أو مصلحة، أو حدود جغرافية، بل هي دولة فكرية تقوم على المبادئ والديمقراطية الإسلامية، وليس فيها ظلم واستبداد .
وقد قدم الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان مقترحات لتكون أساس الدستور فيها نلخصها فيما يلي:
1 - الحاكمية في الدولة لله وحده.
2 - الشريعة الإسلامية هي القانون الأساسي للدولة.
3 - وظيفة الدولة تنحصر في أن تحقق مرضاه الله تعالى بالعمل في هذه الدنيا وفقا لهدايته المنزلة وفي ضمن الحدود التي عينها المولى وتعالى.
4 - يجب أن تعمل الحكومة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمحافظة على تحقيق أهل الدولة من هجمات الأعداء.
5 - يجب أن تكون الحكومة شورية ينتخب أفرادها لصلاحيتهم وكفايتهم لإدارة شؤون الدولة.
6 - كل تأويل للدستور يخالف مضمون القرآن والسنة لا ينفذ شرعاً.
7 - لا يجوز التفرقة بين الناس في الحقوق والواجبات بسبب لونهم أو جنسهم أو لغتهم.
8 - يكون رئيس الدولة فيما يتعلق بالحقوق المدنية مساويا لكل مسلم آخر يجوز له أن يتخطى القوانين.
9 - إذا خرج رئيس الدولة على الدستور يجب عزله.
وقد عرضت هذه المقترحات على المؤتمر الإسلامي في العام الماضي فوافق عليها باعتبارها (مبادئ أساسية لإقامة دولة إسلامية).
طاعة الإمام ليست مطلقة :
حينما أوجب الله عز وجل على الرعية أن تطيع ولاة الأمور المسلمين لم يجعل هذه الطاعة مطلقة من كل قيد، وذلك لأن الحاكم والمحكوم كلهم عبيد لله عز وجل، واجب عليهم طاعته وامتثال أوامره، لأنه هو الحاكم وحده، فإذا قصرت الرعية في حق من حقوق الله تعالى فعلى الحاكم تقويمها بالترغيب والترهيب حتى تستقيم على الطريق، وكذلك الحاكم إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، وإنما على الأمة نصحه وإرشاده، والسعي بكل وسيلة إلى إرجاعه إلى الحق شريطة ألا يكون هناك مفسدة أعظم من مصلحة تقويمه، وإلا فعلى الرعية الصبر حتى يقضي الله فيه بأمره ويريحهم منه .
يقول الأستاذ المودودي رحمه الله في شأن تقييد سلطة الحاكم والفرد في الحكم الإسلامي : ( لقد أقيم بين الفرد والدولة في هذا النظام توازن لا هو يجعل الدولة سلطانًا مطلق اليد، فتصبح السيد صاحب السطوة والسلطة والهيمنة على كل شيء فتجعل من الإنسان عبدًا مملوكًا لها لا حول له ولا طول، ولا هو يعطي الفرد حرية مطلقة، ويترك له الحبل على الغارب، فيصبح عدوًا لنفسه ولمصلحة الجماعة، وإنما أعطى الأفراد حقوقهم الأساسية، وألزم الحكومة بإتباع القانون الأعلى والتزام الشورى، وهيأ الفرص التامة لتربية وتنشئة الشخصية الفردية وحفظها من تدخل السلطة دون وجه من ناحية، ثم من جانب آخر ربط الفرد بضوابط الأخلاق، وفرض عليه طاعة الحكومة التي تسير وفق قانون الله وشرعته، والتعاون معها في الخير والمعروف ومنعه من إيقاع الخلل في نظامها وبث الفوضى في أرجائها والتقاعس عن التضحية بالروح والمال والنفس في سبيل حمايتها والحفاظ عليه ) .
الشورى هل هي ملزمة أم معلمة :
وأضاف العلامة أبو الأعلى المودودي في قضية الشورى هل هي معلمة أو ملزمة بعدًا آخر، وهو طبيعة المجتمع، وما يسوده من أخلاق؛ حيث يقول: "ما وجدت حكمًا قاطعًا في هذا الباب في أحاديث الرسول، غير أن العلماء قد استنبطوا من عمل الصحابة في عهد الخلافة الراشدة أن رئيس الدولة هو المسئول الحقيقي عن شئون الدولة، وعليه أن يُسيِّرها بمشاورة أهل الحل والعقد، ولكنَّه ليس مقيدًا بأن يعمل بما يتفقون عليه كلهم أو أكثرهم من الآراء، وبكلمة أخرى أنه يتمتع بحق الاعتراض على آرائهم.
ولكن هذا الرأي في صورته المجملة كثيرًا ما يسبب سوء الفهم بالقياس إلى أحوالهم وأوساطهم الحاضرة، ولا ينظرون إلى ذلك الزمان ولا الوسط الذى قد أخذنا هذا الرأي من أعمال الأمة فيه، فما كان أهل الحِلِّ والعَقْد في عهد الخلافة الراشدة منقسمين إلى أحزاب متفرقة, بل كانوا كلما دُعوا للمشاورة يأتون المجلس بقلوب ملؤها الإخلاص. . ثم يوازن الخليفة بين الحجج الموافقة والمعارضة، ويعرض عليهم ما عنده من الدلائل، ويبين رأيه, وكان هذا الرأي في عامة الأحوال رأيًا يسلم به أعضاء المجلس كلهم. . " ثم قال: "لم نعثر في تاريخ الخلافة الراشدة كلِّه على مثال واحد نرى فيه أهل الحِلِّ والعَقْد قد تفرقت آراؤهم حتى آل الأمر إلى عدد الأصوات"، وهذا تفريق جميل بين المجتمع الإسلامي في حاضرنا وبين المجتمع الإسلامي القائم على أسس دولة القرآن التي تربَّى المسلم على خشية الله، فلا ينحرف عن الجادَّة.
وقد رجح فضيلة الشيخ القرضاوي أن الشورى في الإسلام ملزمة للحاكم، وتأخذ برأي الأكثرية واستدل بالسيرة، وعمل الرسول عليه السلام في أحد ...
العقل والنقل :
يرى الإمام المودودي أن النصوص القطعية في الكتاب والسنة مقدسة، ودور العقل هو في فهما وتنفيذها، وليس ردها، فالنص كالشمس، والعقل كالبصر دوره أن يبصر نور الشمس .
الإسلام والجاهلية :
ويرى المودودي ثنائية الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، والإسلام والجاهلية، ويرفض طريق التدرج والإصلاح لإحداث ( الانقلاب الإسلامي )، ويرى أن الجهاد هو السبيل لإقامة نظام الحق ، ويكون ذلك عن طريق تكوين جماعة إسلامية تقوم على الصفوة، تحمل رسالة الإسلام بمفهومها الشامل والكامل، وتقوم على نشره في العالم، وتغير أسس الجاهلية الحديثة التي ترفض الاهتداء بهدى الله. ويرى أن للطلبة دوراً في العالم الإسلامي فهم قادة الوعي، والقادرون على اعتناق الأفكار، والمؤهلون للزعامة .
مفهوم الحضارة بين ابن نبي وأبى الأعلى المودودي :
... ينتقد أبو الأعلى المودودي الحضارة الغربية، بقوله: إنها حضارة غير إنسانية، وغير دينية" فالحضارة الغربية لا دينية بحته... مادية تماماً، لا إمكان فيها لمقصد أو غاية أجل وأسمى من المقاصد الحيوانية" فالحضارة عنده هي التي تخضع" لإله في السماء عليم قدير وفيها وزن للنبوة أو الوحي، وفيها تصور لحياة أخرى هي الموت، وفيها خوف من المحاسبة على أعمال الدنيا، وفيها وجود لمسئولية ملقاة على الإنسان، وفيها مقصد وغاية أجلّ وأسمى من المقاصد الحيوانية" " حضارة إنسانية أساسها الدين " يفهم من ذلك أن الحضارة عنده هي الإسلام.
الدورة الحضارية عند أبى الأعلى المودودي:
. إنه يقول بها لكنه لم يعتمد في تحليلها على معادلات فلسفية، أو من خلال التحليل النفسي، بل استنبطها من خلال القرآن الكريم، حيث يقول: " لا تزال أحداث هذا العالم تجري تتحرك فيما يشبه حركة دورية، فالولادة والموت والشيخوخة، والقوة والضعف، والربيع والخريف، والنضارة والذبول، كل أولئك وجوه مختلفة لتلك الحركة الدورية... سنة الله فيما خلق، وهذه السنة كما هي جارية في الموجودات، هي جارية أيضاً في الإنسان، سواء في حالته الفردية، أو في حالته الجماعية القومية، فلا يزال العز والذل، والعسر واليسر، والصعود والنزول، وما إلى ذلك من الحالات، تنتاب الأفراد والأمم المختلفة، وفي تلك الحركة الدورية" قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).
... وقد بيّن المودودي أسباب وبواعث الهلاك والدمار، فهو الفساد الفردي، والشر والفساد الاجتماعي القومي، وإذا حدثت المفاسد الاعتقادية والعملية، تجاوز الأفراد إلى الأمة بأسرها وتخدر شعور الأمة الديني والأخلاقي، فحينها تنصرف العناية الإلهية عن هذه الأمة، وتأخذ بالهبوط )) - نحن والحضارة الغربية ، ص234 ،ص 235 .
ويذكر أمثلة واضحة للدلالة على قوله من خلال القرآن الكريم منها :
-قوله تعالى: ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) سورة نوح ، آية : 26 ،ص 27 .
وقال تعالى : ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ )سورة هود ، آية : ص59 .
وقوله تعالى : (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) سورة العنكبوت : آية : 29 .
وقوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) سورة هود : آية : 85 .
وقوله تعالى عن بني إسرائيل: ( وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) سورة المائدة ، آية : 62 .
وقوله تعالى:( كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) وبهذه الآيات يدلل على ما يقول.
وهو يرى أن بداية الفساد تأتي من الزعماء " إن القوة لأمة ما لا تكون في عامتها بل في خاصتها من الزعماء والرؤساء، فهؤلاء الذين يتوقف عليهم صلاح الأمة وفسادها، يؤدي رشدهم إلى رشد الأمة بكاملها، ويؤدي ضلالهم إلى ضلال الأمة جمعاء"
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ )
ومتى كانت الأمة في إدبارها، ابتدأ الفساد في خاصتها الذين يتأثر العامة والجمهور بضلالهم وفساد أخلاقهم، فيقعون جميعاً في الضلال، وسيئات الأعمال، قال تعالى: ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) الإسراء : آية : 73 .
تدعي الخاصة في المصطلح القرآني " المترفين" ـ ... وهم الأمراء ـ الذين يكونون في نعمة واسعة من عند الله، ويشهد الله عزّ وجل بأن هؤلاء المترفين، هم الذين يرتكبون أولاً الفسق والظلم والعدوان في البلاد، ثم تبتلى كلها بالسيئات، وأي شك في هذه الشهادة الإلهية، انظروا إلى أمتنا نحن فقد نتج الفساد عن مترفيها لا غير" نحن والحضارة الغربية : ص218 .
... مما سبق يستطيع الباحث أن يتعرف على الفرق بين رأي أبى الأعلى المودودي ومالك بن نبي في مفهوم الحضارة، فالمودودي يرى أن الدورة الحضارية تتم من خلال القرب من المنهج الإلهي أو البعد عنه، فالحضارة تتم بالقرب من المنهج الإلهي، حيث يقل الظلم والفساد والكبرياء، فتكون الحضارة في أوجها، وإذا ابتعدت عن المنهج سقطت.
.. بينما ابن نبي يرى أنه لابد من دخول الدورة الحضارية من خلال ثلاث مسارات الروح، والعقل، والغريزة، ثم تعود من جديد ففي ذلك نوع من الحتمية.
... ونرى المودودي يعتمد في تحليلاته للحضارة ودورتها على منهج واضح أصيل، ألا وهو منهج القرآن الكريم، بينما مالك اعتمد على علم النفس في تحليلاته للدورة الحضارية فقد قال : خصصت في هذه الطبعة، فصل أثر الفكرة الدينية في مركب الحضارة، سالكاً هذه المرة مسلك التحليل النفساني، الذي يبين بوضوح أكبر جانب الظاهرة في هذا المركب"
ولقد اعتمد على العلماء المشكوك في فكرهم مثل فرويد مثلاً، فقد قال في موضوع الفكرة الدينية " غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إخضاع غرائزه ـ الإنسان ـ إلى عملية شرطية، تمثل ما يصطلح عليه في علم النفس الفرويدي بالكبت ".
... والمودودي يرى أن الذي يؤثر في الدورة الحضارية، هو العقيدة الإسلامية قرباً أو بعداً، وذلك واضح من مفهوم الحضارة عنده بقوله أنها: " تخضع لإله في السماء عليم قدير"
واستدل على ذلك بالقرآن الكريم.
... بينما مالك قد استفاد من أفكار الغربيين وتطبيقاتهم على المسيحية، في مسألة التأثير الديني، ثم قام بتعميمها كفكرة دينية على ما سواها من الأديان ومنها الدين الحق " الإسلام " ولم يرتكز على العقيدة الإسلامية فيقول: " اعتمدت على " آراء لكسر لنج "التي استخلصها من دورة الفكرة المسيحية في تركيب الحضارة " شروط النهضة : ص12 .
فمالك قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلاً عميقاً، واعتمد في كثير من كتاباته وتحليلاته على كتابات وأعمال بعض الفلاسفة الغربيين، واعتنى بالتحليلات الفلسفية المعاصرة.
مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي :
ويشمل على ثلاث مسائل :
1- المسألة الأولى ... : معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند الإمام المَوْدودِي.
2- المسألة الثانية ... : كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي.
3- المطلب الثالث ... : منهج المَوْدودِي في التوفيق بين العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة
والفِكْر الإسلامي.
المسألة الأولى : معنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي
... إن المتتبع لكتابات الأستاذ أبو الأعلى المَوْدودِي يجد أنه لم يلتزم معنى محدداً واضح المعالم لمفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، فقد استعمله في الفِكْر الإسلامي بدلالة تتباين عن دلالته الغَرْبيّة حيث إن العدل والعَدالَة لا يتعلقان بالثروة وتوزيعها كما أنه لا يقيم وزناً للمساواة بين الناس في توزيعها، ولا يرى أي علاقة بين العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وهذه الأمور الاقتصادية، وإنما العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة هي تطبيق أنظمة الإسلام في المجتمع وفي ذلك يقول: « إن الإسلام لا يقول بالمساواة في قسمة الثروة، وإنما يريد أن يقيم العدل... لا المساواة في توزيع الثروة، وقد رسم _الإسلام- خطة واضحة كاملة لهذا العدل في قوانينه وفي تعاليمه الخلقية وفي تنظيم مجتمعه... فإذا أردنا العَدالَة فما علينا إلا أن نفهم فهماً صَحِيْحاً كاملاً ما قد وضعه الإسلام من صورة العدل والنصفة ثمّ نسعى إلى إفراغه في قَالب العمل والتنفيذ في نظامنا الاقتصادي والاجتماعي» مسألة ملكية الأرض في الإسلام، نقله للعربية محمد عاصم الحداد، ص(92-93).
... كما أن المَوْدودِي يرى أن التفاوت والتباين بين الناس في الرزق هو أمر طبيعي، ينسجم مع السُنَن الفطرية وفي هذا يقول: « فالفطرة التي فطر الله الناس عليها تقتضي أن يكون التفاوت والتباين في رزق العباد كشأنه في مواهبها الأخرى، فكل مشروع يختار لإيجاد المساواة الاقتصادية المدعاة بين العباد باطل من أساسه حسب ما يراه الإسلام، لأن الإسلام لا يقول بالمساواة في الرزق نفسه» المَوْدودِي، نظام الحياة في الإسلام، ص(59).
وبهذا رفض المَوْدودِي العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الغَرْبيّة وألبسها لبوس الإسلام بمعنى أنه استعمل اللفظ بدلالة جديدة تنسجم مع معنى العدل والعَدالَة اللذين هما مقصد الدين وفي ذلك يقول: « إن بعض الناس بقولون في الإسلام عدالة اجتماعية، فهذا القول فيه نقص كبير أما الصَحِيْح فهو أن الإسلام هو العدل بعينه والعدل ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، إنما الإسلام هو العدل : تطبيق الإسلام وإقامة العدل شيء واحد...» المَوْدودِي، مفاهيم إسلامية حول الدين والدَّوْلَة نقله للعربية أحمد حامدي ، ص(130-131).
... وبناء على هذا التصوير فقد حاول أن يحدد معنى لهذه العَدالَة التي أطلق عليها مصطلح العَدالَة الحقيقة أو العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الحقة فقَالَ في سبيل تحديد معناها « فالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في حقيقة أمرها : هي عبارة عن كون كل فرد من الأفراد وكل أسرة من الأسر وكل قبيلة من القبائل وكل أمّة من الأمم على حظ مناسب من الحرِّيَّة وكون كل مجتمع من المجتمعات العديدة على قدر معيّن من السيادة بعضها على بعض، سداً لباب الظلم والعدوان، واستخداماً لمختلف الأفراد والمجتمعات فيما تقتضيه المصالح الاجْتِمَاعِيَّة » مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(133).
... وفي موضع آخر قَالَ : « إن العَدالَة في حقيقتها تعني: منح الأفراد والأسر والعشائر... قدراً مناسباً من الحرِّيَّة ولمنع الظلم تحصل الأشكال الاجْتِمَاعِيَّة على سلطة فوق الأفراد، كما يحصل كل شكل منها على سلطة فوق الآخر من أجل تحقيق الاستقرار والسعادة للمجتمع بأسره» الحكومة الإسْلاميَّة تعريب أحمد إدريس، ص(190).
. واستناداً لهذا التحديد لمعنى العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، ذكر أن العَدالَة لا توجد إلا في الإسلام حيث يقول: « فلعمر الحق إنّ من يزعم أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة تتحقق عن طريق النِّظَام الرأسمالي، إنما يقول كذباً وافتراءً وبهتاناً، وفي موطن آخر يقول: وكذلك النِّظَام الاشتراكي الحاضر المستمد من نظريات كارك ماركس وانجلز يناقض العدل مثل النِّظَام السابق بل أكثر...» مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(134).
... ومن هنا كان انطلاق المَوْدودِي في الهجوم على الرَّأْسُماليَّة والاشْتِراكِيَّة الشيوعية معاً ووصفها بالظلم ومناقضة العدل، فظلم الرَّأْسُماليَّة عنده مرده إلى أنها تسلب الأفراد والقبائل والأسر والشعوب والأمم حرياتها وتعطي للدولة الصلاحيات المطلقة لاستخدام الفرد لتحقيق المصالح الاجْتِمَاعِيَّة فيتحول الفرد في ظلها من إنسان ذي روح إلى جزء من الآلة التي لا روح فيها، وفي ذلك يقول المَوْدودِي: « فالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في حقيقة أمرها هي عبارة عن كون كل فرد من الأفراد وكل أسرة من الأسر وكل قبيلة من القبائل وكل أمّة من الأمم على حظ مناسب من الحرِّيَّة وكون كل مجتمع من المجتمعات العديدة على قدر معيّن من السيادة بعضها على بعض سداً لباب الظلم والعدوان واستخداماً لمختلف الأفراد والمجتمعات فيما تقتضيه المصالح الاجْتِمَاعِيَّة» مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(133).
... وبناءً على وجهة النظر هذه فلا مكان للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة عنده في أيٍّ من النظم الوضعية، وإنما تكمن في وضع الدستور الإسلامي المتضمن في الكتاب والسنة موضع التطبيق، لأن هذا الدستور وحده هو الذي روعيت فيه حقوق الفرد وواجباته تجاه الجماعة وحقوق الجماعة وواجباتها تجاه الأفراد. وفي هذا يقول:
« فالدستور المستقل الخالد... لو جاز بالتطبيق في أية بقعة من بقاع الأرض لرأى الناس فيها العدل الاجتماعي... ما لا يرضون بعده بهذا أو ذاك من النظم الوضعية، وما دام هذا الدستور منصوصاً في الكتاب والسنة ليس في وسع واحد أن يخدع المسلمين ويقدم لهم الاشْتِراكِيَّة المستوردة بإلباسها ثوب الإسلام ومن مزايا هذا الدستور أنه قد روعي فيه الاعتدال الكامل بين مطالب الفرد ومقتضيات المجتمع، فلا الفرد أوتي من الحرِّيَّة ما يطغى على مصالح المجتمع ولا المجتمع قد أحيل إليه من الصلاحيات ما يسلب الفرد حريته التي لا غنى لإكمال شخصيته وتنميتها على الطريقة المستقيمة الفطرية»-مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(137).
المسألة الثانية : كيفية تحقيق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي
... وبناء على الدلالة العامة والشاملة للعدالة الاجْتِمَاعِيَّة عند المَوْدودِي القائمة على العَدالَة الإلهية التي تتمثل في الدستور الإسلامي المتضمن في الكتاب والسنة، حدد المَوْدودِي الكيفية التي يجري على أساسها إيجاد هذه العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الحقيقية أو الحقة على حدّ تعبيره في الواقع العملي، وذلك من خلال النِّظَام الاقتصادي الإسلامي المرتبط بالنظم الإسْلاميَّة الأخرى السِّيَاسِيَّة والقانونية والمَدَنيَّة مع ارتكازها على أساس الإيمان الكامل بالعقيدة الإسْلاميَّة وفي هذا يقول:
« ولعمر الحق إن أي إنسان إذا نظر إلى نظام الإسلام الاقتصادي بعين الإنصاف والعدل... فإنه لم يجد بداً من الاعتراف بأن هذا النِّظَام أحسن وأصح نظام للاقتصاد عرفه الإنسان غير أنه لا يصح الظن بهذا الصدد بأنه من الممكن تسيير نظام الإسلام الاقتصادي هذا بنجاح مع تجريده عن مجموعة نظم الإسلام للاعتقاد و الأخلاق والمَدَنيَّة والاجتماع... إنكم لم تقبلوا عقيدة الإسلام وضابطه للأخلاق، ومنهاجه للحياة كما هي، فإن مجرد نظامه للاقتصاد لا يمكن أن يسير بروحه الصَحِيْحة ولا ليوم واحد، ولا يمكن أن تستفيدوا منه إلا قليلاً »أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة، نقله للعربية محمد عاصم حداد، ص(188-189).
... وكما أن المَوْدودِي يذهب إلى اعتبار العَدالَة غير المساواة في التوزيع أو عدمها، وإنما تحقيق العَدالَة عنده يكون من خلال مراعاة القواعد الإسْلاميَّة في التصرف بالثروة وفي ذلك يقول:
« والذي يقرأ القرآن يتضح له أن هذا الكون الشاسع لا أثر فيه للتوزيع المتساوي في أية ناحية من نواحيه... إذا لم توجد المساواة في جميع هذه النواحي التي أشرنا إليها فما معنى المساواة في وسائل الإنتاج أو في توزيع الثروة؟ هذا أمر لا يستحيل من جهة الواقع فحسب، بل لو فرض على المجتمع بطرق مفتعلة ينال الغش المحتوم ولذلك فإن الإسلام لا يقول بوجوب توزيع أدوات الإنتاج والمنتوجات على قدم المساواة، بل هو يقول بوجوب التوزيع على أساس العدل ولتحقيق التوزيع العادل يضع طائفة من القواعد والالتزامات» -مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(112).
... وبذلك يقرر المَوْدودِي أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة الإسْلاميَّة لا تتحقق إلا من خلال التوازن بين حاجات الفرد وصيانتها وحاجات الجماعية بحيث لا يطغى طرف على طرف، ولا يتجاوز أي طرف حدوده الشَّرْعية التي رسمها الإسلام. وفي ذلك يقول:
« لا يكتفي الإسلام بأن تكون الهيئة الاجْتِمَاعِيَّة عادلة مفتوحاً بابها لكل واحد من أفراد البشر، بل يقتضي مع ذلك أن يكون المتسابقون في هذه الحلبة متراحمين متواسين متعاونين... يرسخ في أذهان الناس بتعاليمه الخلقية فكرة التعاون والتكافل وبجانب آخر يقتضي بأن لا يخلو المجتمع أبداً من مؤسسة ثانية تضمن إعانة العجزة والمستضعفين الذين لا يهتدون لاكتساب المعاش سبيلاً... ويريد الإسلام أن يقيم الفرد بحيث يُبقي حقوق الفرد وحريته مصونة من حيث هو فرد لا تضر بالمجتمع، بل تكون نافعة لمصالحه قطعاً»-نظام الحياة في الإسلام، ص(66-70).
... والذي يراه المَوْدودِي هو: أن هذا التوازن الاجتماعي الذي يحقق العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، إنما يتحقق بجعل الفرد محور النِّظَام الاجتماعي، فالنِّظَام الذي يساعد أفراد الجماعة على تنمية شخصياتهم وترقية مواهبهم ولا يقيد حريتهم في المِلْكِيَّة والتصرف، هو النِّظَام الفطري الذي تتحقق العَدالَة في ظله وهو النِّظَام الإسلامي على حد قول المَوْدودِي.
المسألة الثالثة :
منهج المَوْدودِي في التوفيق بين مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والفِكْر الإسلامي
... إن المتتبع لما سطره المَوْدودِي في كتبه ومقَالاته المتنوعة يلحظ أنه عمل جاهداً على إخفاء طابع إسلامي على مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة، وهذا يتضح من خلال موقفه من هذا المفهوم حيث ذهب في بعض أقواله إلى رفضه باعتباره من مكائد الشيطان اللعين وأنه من المفاهيم الغَرْبيّة والقائل به إنما هو واقع تحت تأثير الغزو الفِكْري الغَرْبيّ وجاهل بأمور الإسلام وفي ذلك يقول:
« غير أنهم -المسلمون- يجهلون أمر دينهم ويخضعون تحت تيار الغزو الاستعماري الفِكْري والحضاري... ولهذا فكل صيحة ترتفع في معسكر الشعوب القاهرة، يعلو صداها من ديارنا المغلوبة المقهورة ... وما هي إلا سنوات حتى شرع المنادون بالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة في الظهور بين ظهرانينا... جماعة قامت بيننا تريد الإسلام أن يغير قبلته... وها هم الآن يحاولون إثبات أن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة بالمفهوم الاشتراكي من صميم الإسلام... فعلى هذا الأساس حصلت المحاولات فيما مضى من قبل هذه الفئة في صدد جعل التصورات الغَرْبيّة حول حرية الفرد والتسامح، والرَّأْسُماليَّة والدِّيمُقْراطِيَّة تصورات إسلامية خالصة وتبذل الجهود اليوم في جعل الإسلام مؤيداً لتلك العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة التي تنشدها هذه الفئة وتقيم عليها الدنيا وتقعدها »-الحكومة الإسْلاميَّة ، ص(190).
... وفي موطن آخر يقول: « أتى على الدنيا حين من الدهر شعر الإنسان فيه أنّ هذا النِّظَام الشيطاني -نظام الرأسمالي الديمقراطي الغَرْبيّ- قد ملأ الأرض جوراً وفساداً وطغياناً... فلم يبقَ بعد ذلك للشيطان الرجيم أي مجال لإبقاء البشر في حبال خديعته... فجاء إلى الإنسان بمكيدة أخرى سمّاها العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة أو الاشْتِراكِيَّة...»-الحكومة الإسْلاميَّة ، ص(190). وانظر: مفاهيم إنسانية حول الدين والدولة، ص(128).
... وإذا كان موقف المَوْدودِي من مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة يتسم بالحدّة والصرامة لأنه مصطلح من المصطلحات الغَرْبيّة، فهذا يعني أن موقفه من الحَضَارَة الغَرْبيّة موقف الرّفض البات الذي لا يسمح للتوفيق بأي حال من الأحوال بينها وبين الإسلام وفي ذلك يقول:
« الحَضَارَة الغَرْبيّة... حضارة مادية تماماً يخلو نظامها من كل ما تقوم عليه حضارة الإسلام... ونظريتها على نقيض من نظرية الإسلام وطريقها واسع في الجهة المعاكسة لطريق الإسلام، فكل ما يبنى عليه الإسلام نظام الأخلاق الإنسانية والتمدن تكاد هذه الحَضَارَة تأتي عليه من القواعد، كما أن الأسس التي ترفع هذه الحَضَارَة عليها قواعد السلوك الفردي والنِّظَام الاجتماعي لا يمكن أن يقوم عليها بنيان الإسلام ولو ساعة من الدهر فكأن الإسلام والحَضَارَة الغَرْبيّة سفينتان تجريان في جهتين متعاكستين، فمن ركب إحداهما هجر الأخرى ولا بدّ، ومن أبى إلا أن يركبها في الوقت الواحد فاتتاه معاً وانشق بينهما نصفين )) -نحن والحَضَارَة الغَرْبيّة، ص(21-22).
... وهذا النص يدل دلالة واضحة على موقفه الرافض للحضارة الغَرْبيّة والرافض للتوفيق بينها وبين الإسلام أيضاً.
... بل ذهب المَوْدودِي إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر الفِكْر الغَرْبيّ جهالة وضلالاً وظلماً وهلاكاً ووصفه بالشجرة الخبيثة التي لا تثمر للبشرية إلا السُّم الزعاف.
... وعليه فإنه دعا في الكثير من كتاباته إلى إنقاذ البشرية وشفائها من العلل التي أوجدتها هذه الحَضَارَة الشيطانية، إنما يقع على عاتق علماء المسلمين الواعين الذين يهدمون بقوة فكرهم -المستمد من الإسلام الخالص- حضارة الغَرْب ويستبدلونها بحضارة الإسلام الحقة، القائمة على النظرية الإلهيّة على حد قوله:
« وهذه الشجرة الخبيثة قد أخذ يتأفف منها الآن أهل الغَرْب... لأنها خلفت مشكلات وعقداً تنتهي كل محاولة لحلها إلى عقد كثيرة أُخر... وموجز القول أن هناك سلسلة من المفاسد لا تنتهي... تخرج من شجرة الحَضَارَة هذه، جعلت الحياة الغَرْبيّة جرحاً دامياً من المصائب والآلام... وهذا هو الأوان الذي يجب أن يعرض على أمم الغَرْب كتاب الله وسنة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ... وهذا هو العصير الشافي... وهذه هي الشجرة الطيبة» -نحن والحَضَارَة العربية، ص(41-42).
مما سبق بيانه يتبين أن المَوْدودِي لا يرضى بعملية التوفيق بين مفاهيم الحَضَارَة الغَرْبيّة والإسلام بأي حال من الأحوال حيث أن النهضة الإسْلاميَّة، لا بد أن تعتمد على الإسلام الخالص ولذلك كان يوضح في كتاباته ومقَالاته ذلك على نحو تفصيلي يفرق فيها بين ما يؤخذ وما يترك من أمور التمدن والحَضَارَة الغَرْبيّة وفي ذلك يقول:
« لا بدّ أن نميز ما حازه الغَرْب من الرقي الحقيقي في المَدَنيَّة والعلوم عن ضلالاته في فلسفة الحياة ووجهة الفِكْر والنظر والاختلاف والاجتماع ثم نأخذ الأول ونستفيد به ونضرب الصفح عن الثاني ونطهر من أدناسه شؤون حياتنا كلها... إنّه لا يمكن أن يتحمله من قد جعلوا دينهم التفرنج الخالص أو طبعة من طبعات الإسلام الفرنجية- واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم نقله إلى العربية محمد عاصم حداد، ص(63-64). تحت عنوان: ماذا نريد؟
. وأمام هذا الموقف الصارم والرَأْي الحاد تجاه مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة والحَضَارَة الغَرْبيّة، فإن المَوْدودِي قد أوقع نفسه في تناقض حاد ومفارقة عجيبة حين تبنى مفهوم العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة مع محاولة منه حمل هذا المفهوم على بعض الأسس والقواعد الشَّرْعيّة وبعبارة أخرى فإنه قد عمل على تسويغ هذه المفهوم الشيطاني على حد قوله تسويغاً شرعياً عن طريق وضع الأطر الشَّرْعية اللازمة لهذا الغرض.
... وقد التزم المَوْدودِي لتأصيل هذا المفهوم في الفِكْر الإسلامي منهجاً خاصاً يقوم على اعتماد المصلحة كدليل لاستنباط الأحكام، وفي هذا الصدد يقول:
... « إن الكتاب والسنة لا يشمل تفاصيل اقتصادية... بل نرجع في ذلك إلى النافع من أقوال فقهاء المسلمين في مختلف العصور إلى جانب استخراج أحكام جديدة للحاجات المستحدثة ضمن الأسس التي أتى بها الإسلام... وهي الحرِّيَّة الاقتصادية، تنمية المكارم الخلقية، محاربة الصراع الطبقي، إقرار المِلْكِيَّة الفردية، توزيع الثروة على مبدأ العدل...بهذه الإسلام كان وسطاً )) - مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، ص(108-120).
. ومن ناحية أخرى فإن أقواله قد اكتنفت التعارض والتناقض، ففي الوقت الذي يعتبر العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة مكيدة شيطانية فإنه يقول «إنّ العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة لا توجد إلا في الإسلام»
ويقول أن الإسلام والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة شيء واحد لا يمكن الفصل بينهما.
ويقول: « إن العَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة تمنح الأفراد والأسر... قدراً مناسباً من الحرِّيَّة» فهذا التناقض حسب ما أرى مردّه إلى أن المَوْدودِي يعالج أفكاره الفلسفية بأسلوب أدبي إنشائي، وهذا أمر يفقد أحياناً أفكاره الدقة والوضوح إلى جانب أن كتاباته في معظمها مقَالات وخطابات ولقاءات ومحاضرات وردود على تساؤلات وتحديات كانت تنشر في الصحف والمجلات التي أشرف بنفسه على تحريرها وهذا يؤدي إلى طرح الرَأْي ونقيضه عبر السنين والأعوام.
المودودي والقاديانية:
إنّ الأمر الطبيعي أن يكون المودودي هدفاً للاستعمار وأعوانه ومنذ مطلع دعوته، وظهور أثره في المجتمع الهندي، وقد قامت عليه قيامة أتباع الاستعمار .. وعلى الأخص القاديانيون، وكانت الهجمة الشرسة سنة 1953م عندما قامت الاضطرابات في لاهور وامتدت لكل باكستان .. وقتل عدد من الطرفين .. واعتقلت الحكومة الأستاذ المودودي، وحلت الجماعة الإسلاميّة، وحكمت عليه بالإعدام ومصادرة أمواله وأموال الجماعة .
وقدم الأستاذ المودودي لقاضي التحقيق ما سمي يومها ﺑ (البيانات) وبعد ذلك أبدلت الحكومة حكم الإعدام إلى المؤبد ثم أفرج عن الأستاذ، وأعيدت الجماعة .
ثم جمع إلى البيانات دراسة وافية عن القاديانية وخطرها الديني والاجتماعي والسياسي على الإسلام والمسلمين .. في كتابه ( ما هي القاديانية)، وترجم إلى عدد من اللغات .
وقد امتاز رد المودودي على هذه النحلة الضالة عن جميع الردود لشموله بيان خطرهم على أكثر من صعيد فكان ما كتب خير معرف بها .
ومن المعروف أن القاديانية تلبست بلباس الإسلام وزعمت فهم القرآن بالوحي المستمر وأخذت من تأويلات بعض السابقين مستنداً لها .. مما كتب عن الولاية والإلهام في بعض الكتب !
فكان موقف المودودي والجماعة الإسلاميّة أصلب موقف واجهته القاديانية فجزاه الله الخير وأحسن مثوبته .
الاقتصاد الإسلامي :
طرح الإمام ( المودودي ) نظرية متكاملة عن الاقتصاد الإسلامي، وحاول إيجاد المخرج لمشاكل الاقتصادية المعاصرة، وألف في ذلك الكتب، وتقوم نظريته على :
- التأكيد على مبدأ ملكية الأرض، ورفض التأميم، والإصلاح الزراعي، واحترام مبدأ الملكية الفردية.
- تحريم الربا والاحتكار، والتحريض على دفع الزكاة وتنظيمها، وتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي.
- التأكيد على حقوق أهل الذمة (الأقليات)، وحقوق الإنسان في حقِّ الحياة، والتعلم، والحرية، وعدم الإكراه، وحقوق المرأة ...
تخليه عن إمارة الجماعة الإسلامية :
أخلاقه وصفاته :
والعلامة المودودي صلب في مواقفه، تصدى للقاديانية ودعاتها وأنصارها من الحاكمين، ولم يتراجع عن موقفه، وأصدر حكمه بكفر مذهبها، واستمر في فضح عمالتها للإنجليز، وارتباطها بالاستعمار، ولم تنفع معه كل السبل لثنيه عن رأيه، وتلقى الحكم عليه بالإعدام عام 1953م برباطة جأش وشجاعة منقطعة النظير، وأحدث هذا الحكم ضجة في العالم الإسلامي كله مما دعا الدكتاتورية العسكرية في باكستان للعدول عن حكمها، والإفراج عنه بعد ذلك. ولعل من أبرز الصفات التي وهبها الله للعلامة المودودي الحكمة وبعد النظر، والعمق في الفهم، والصبر على العلم، والتأمل في الواقع، والدراسة الميدانية للأفكار الرائجة، والأوضاع السائدة، والتتبع لمصادر المعرفة وتمييزها وتوثيقها، والنقد الموضوعي لحضارة الغرب، بأخذ الصالح منها وطرح الضار، وتقديم الإسلام كحل لمشكلات الحياة في جميع جوانبها.
أبرز معالم شخصيته :
تميز بعدة ميزات لا تتوفر إلا في الرجال الذين اصطفاهم الله تعالى للإصلاح والجهاد نذكر أهمها:
معرفة الغاية والرسالة والاستعداد التام لها : عرف المودودي غايته في الحياة، وأدرك رسالته تمام الإدراك، وأرقه الواقع المرير الذي تحياه الأمة، فعقد العزم على الإصلاح والتغيير والقيام برسالة الإسلام كما قام بها الدعاة المصلحون قبله، ثم استعد لذلك أتم استعداد، فسار في طريق العلم بلا تردد ولا خوف برغم ضيق عيشه وقلة ذات يده، وأفرغ الكتب في ذهنه استعداداً لمهمة الدعوة، وتلقى علوم البلاغة والآداب العربية على يد الشيخ عبد السلام نيازي، والعجيب أنه كان يتلقى تلك الدروس قبل صلاة الفجر مما يدلك على تمام الجدّ والاجتهاد ، وقرأ الترمذي والموطأ على المحدث إشفاق الرحمن الكاندهلوي ، وقرأ التفسير والمنطق على الشيخ شريف الله .
وأهم ما يمتاز به الداعية المودودي هو الدقة والتحقيق وسبر أغوار المسائل قبل الخوض فيها، والتثبت قبل الحكم على الأشياء، فقبل أن ينخرط في حركة الخلافة درس الفكرة العلمانية والقومية في تركيا، وأدرك خطرها ، ولكنه لا يستطيع أن يواجه الكبار من علماء الهند، فعمل معهم في حركة الخلافة رغم كل المخاوف. وعندما عمل المسلمون في الهند مع الهندوس لتحقيق الحكم الذاتي، درس المودودي حزب المؤتمر الوطني الهندي، فوجد أنه يرمي أن ينال حصة الأسد من كل مؤسسة تقام في البلد على مبدأ المشاركة الشعبية في الحكم الذاتي .
وكان يتمتع بقوة العزيمة والثقة الشديدة في النفس، وعندما افتتح مجلة ترجمان القرآن كان المودودي هو الوحيد في الإدارة ، يكتب الافتتاحية والمقالات والمساجلات والردود على الأسئلة، وهو يذهب إلى المطابع لطبعها، ويحمل النسخ إلى البريد، ويسجل العناوين، ويراسل المشتركين ...وكان الدعوة تمثل المودودي والمجلة فقط، فما أعظم تلك الروح الوثابة والهمة العالية والعزيمة الصادقة .
وكانت ثقته بالغة في المنهج الإسلامي بدون شك أو تردد ولقد ضرب المثل الرائع والقدوة الحسنة ، فإنه لما شرح الله صدره للدعوة، وحبب إليه الإسلام وهداية المسلمين أعلن ذلك وأظهره فشهد عقله وقلبه أنه لا طريق سوى الإسلام لتحقيق الفلاح والصلاح، ومقاومة الظلم والطغيان، وسيادة العدل والمساواة والحرية ...
ثناء العلماء عليه :
وقد أثنى عليه الشيخ أبو الحسن الندوي -رحمه الله- ثناءً عادلاً حين زار القاهرة سنة 1951م ، وقال عنه: (إن المودودي من مفكري الإسلام الكبار في هذا العصر) كما أثنى على الجماعة الإسلامية التي يرأسها، وأشاد بتلامذته، وإن كان الندوي يرى أن مناهج الجماعة الإسلامية تحتاج إلى أن تولي الجانب التربوي والروحي عناية أكثر من الجانب الفكري والسياسي الذي يطغى على ما سواه من المناهج.
وتحدث عن فضله، وأشاد به فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي فقال : (( هو الأستاذ العلّامة أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان؛ أصفه وصف العارف الذي قرأ وشاهد، فهو رجل لم ترَ عيناي كثيرًا من مثله، بل لم أرَ مثله في خصائص امتاز بها عن علماء الإسلام في هذا العصر، منها الصلابة في الحق، والصبر على البلاء في سبيله، والعزُوف عن مجاراة الحاكمين فضلًا عن تملّقهم، وهو أفقه من رأيته أو سمعت به في باكستان والهند في حقائق الإسلام تشريعًا وتاريخًا، واسع الاطّلاع، دقيق الفهم، بارع الذهن، نيّر الفكر، كبير العقل، مشرق الروح على تجهّم في ظاهره، سديد التصرّف في المقارنة والموازنة والاستنباط، مستقلٌّ في الاستدلال إلى حد، يمضي من الشريعة إلى مقاصدها العامة، دون احتفال بالجزئيات إلا بمقدار ما يدخل من هذه إلى تلك، عميق الغوص في استخراج النكت، متين العقيدة، تظهر آثارها على أعماله ومواقفه قوة وثباتًا، كما تظهر آثار الغذاء الصالح على البدن فراهةً ونعمة، فلسفي النزعة العلمية لا العقلية، يذوده افتتانه بالنص والواقع عن أن يكون فيلسوفًا عقليًا، ولولا ذلك لكانه، فهو يؤمن بالنص، ويؤمن بعمل العقل في النص، ثم لا يزيد إلا بمقدار، جمهوري العشرة ولكنه خصوصي الزعامة، يرى أن لها- لا للزعيم- حقوقًا تحفظ النظام، وتوزّع الأعمال على الكفاءات، وتقف بالمتطفلين عند حد، فهمت هذا من مجموع أحواله ومن ملابستي لبعض أنصاره، فصورته بهذه العبارات، وأنا أرى أن الفرق بين الزعامة والزعيم شيء دقيق، ودقته هي التي غرّت الزعماء بأنفسهم، وغرّت الأتباع بهم.
وهو هيوبة للتحدّث بالعربية، مع دقة فهمه للقرآن والحديث وكتب الدين، واقتداره على تطبيقها، ويرجع سبب ضعفه في الكلام بالعربية إلى قلة استعماله لها في الحديث والكتابة، فهو مع كثرة مؤلفاته التي تبلغ العشرات لم يكتب كتابًا واحدًا بالعربية وكل مؤلفاته بالأوردية والإنكليزية، وكلها في المواضيع الإسلامية الخطيرة، التي تقتضيها النهضة والتجديد، ويكثر الخوض فيها في هذا العصر، ويتناولها الغربيون بالنقد والتشويه، وللأستاذ مشاركة قوية في معارف العصر واطّلاع على حضارته، وهو يزنها بالميزان القسط، فلا إنكار ولا اندفاع، بل إنه يقف منها موقف الحذر والانتباه، وقد ترجم أحد أعضاء الجماعة طائفةً من كتبه إلى العربية فمكّن بذلك أبناء العرب من الاطّلاع على أفكاره، وهذا العضو هو صديقنا الوفي الشيخ مسعود عالم الندوي، وقد أهدى لي جميعها منذ سنوات وأنا في الجزائر، فلمحتُ فكرًا شفّافًا، ورأيًا حكيمًا، وفكرًا عميقًا، وتساوقًا بين الألفاظ ومعانيها، لا ينم على أن هناك انتقالًا من لغة إلى لغة، وتبيّنت السرّ في ذلك، وهو أن الموضوعات إسلامية، واللغتان إسلاميتان، والمؤلف والمترجم سليلا فكرة، فعملت الروح عملها العجيب في ذلك، وصديقنا مسعود- لطف الله به- ثاني اثنين في القارة الهندية يحسنان الكتابة بالعربية كأبنائها، والآخر هو الأستاذ أبو الحسن الندوي.
والعلّامة المودودي وثيق الصلة بجمعية العلماء الجزائريين، من طريق جريدة «البصائر»، متتبع لحركتها، معجب بها وبأعمالها، قويّ الشعور بقرب المسافة بين مبادئها ومبادئه. وهو يحمل بين جنبيه قلبًا عامرًا بالاهتمام بأحوال المسلمين، والأسى لحاضرهم، والإعجاب بماضيهم، والتنويه بالنظام الحكومي في الإسلام، يراه أعدلَ نظام إنساني، وأضبط نظام للنزوات البشرية، وأحفظ نظام للمصالح المتشابكة، ومن هنا نشأت فكرته في الحكومة الإسلامية، وقد سرّ كثيرًا بالمعاني التي تنطوي عليها رحلتي، لأن تقارب المسلمين بالتعارف يُفضي بهم إلى التعاون على إصلاح شؤونهم، وهو ينعى عليّ شيئًا واحدًا وهو أنني لم أشتغل بتأليف كتب على أحوال المسلمين على النمط الذي سمعه من كلامي، فأجبته بما لم يقتنع به لأنه يعتقد أن هذه الأحاديث العادية التي سمعها مني كتب لا ينقصها إلا التدوين، ورأيه في التأليف أن تكون الكتب صغيرة الحجم حتى تسهل قراءتها وتصريفها، وهذا هو المسلك الذي سلكه في كتبه فكلها كراريس مستقلّة بموضوعات.
لقيي جماعة من أصحابه لأوّل نزولي بكراتشي، واتصلوا بي اتصالَ الأخوة والمشرب، فوجدتهم يعرفون عن جمعية العلماء ما يمكن أن يستفاد من جريدة «البصائر»، وسمع الأستاذ المودودي بوصولي وهو بمقامه من مدينة لاهور عاصمة البنجاب، فانتظر زيارتي لها فلما عزمت على الرحلة إلى الداخل وكان نظام الرحلة يقتضي أن أسافر إلى كشمير أولًا وأن لا أنزل في لاهور، كتبت إليه أن يلقاني بمحطة لاهور، حرصًا مني على التعارف الشخصي، قبل زيارتي للاهور، ولكن الرسالة لم تصله في حينها لأن الحكومة تعطل رسائله للمراقبة، لما بينها وبينه من الانحراف الذي سنتعرّض له، ولما بلغته الرسالة أسف وأرسل من ورائي رسولًا إلى راولبيندي التي هي منتهى رحلتي بالقطار وبينها وبين لاهور مئات الأميال فأدركني الرسول بها وبلّغني سلامه واسفه وانتظاره.
فلما رجعت من كشمير وبشاور لم أشأ أن أزعجه فلم أخبره إلا بعد نزولي بالفندق في لاهور، فزارني. وتعارفت الأجساد بعد تعارف الأرواح فإذا هو رجل رَبعة، مهيب الطلعة، ممتلئ صحة وحيوية، يغلب السوادُ البياض على لحيته الكثة المهيبة، ثم استدعاني إلى داره، وهي مركز الجماعة، فاجتمعنا على الشاي في ثُلّة من أعضاء الجماعة، وطلبوا مني كلمة ونحن على موائد الشاي، فخطبت وأفضت في المواضيع الإسلامية الشاغلة للأفكار، وكان- خفّف الله محنته- يستوقفني كلّما علت لغتي وتخللتها الإشارات والكنايات، ليترجم له أحد تلامذته البارعين في العربية ما غمض عليه، تقصيًا منه للمعاني وحرصًا على أن لا يفوته منها شيء.
أما ما بينه وبين حكومة باكستان، فأكبر أسبابه وأظهرها أن مبدأ الجماعة الإسلامية هو إقامة حكومة إسلامية في باكستان بالمعنى الصحيح الكامل الذي لا هوادة فيه ولا تساهل، يتضمن دستورها الحكم بما أنزل الله في المعاملات والحدود والقصاص، وللأستاذ المودودي في ذلك آراء بعيدة المدى ومناهج وتخطيطات مدروسة لا تقبل الجدل، بل له دستور كامل مهيّأ وقد نقلت منه مجلة "المسلمون" الغرّاء التي تصدر بمصر قطعًا دلّت على ما ذكرناه وعلى انفساح ذرع العلّامة المودودي في فهم النظام الإسلامي، وحجة الجماعة في ذلك أن المسلمين ما رضُوا بالانفصال عن الهند وما هانت عليهم التضحيات الجسيمة التي لم تضحّ بها أمةٌ في الدماء والأموال إلا في سبيل إقامة دينهم على حقيقته، أما إبقاء ما كان على ما كان فهو لا يساوي تلك التضحيات ولا جزءًا منها.
وحكومة باكستان- وإن كانت إسلامية المظهر- مدنيةُ المخبر، لم تزل تسير على النُظم التي وضعها الإنكليز للهند، وهي تريد أن يكون دستورها إسلاميًّا لأن الشعب يريد ذلك، أو لأن معظم الشعب يريد ذلك، ولكنها تريده تدريجيًّا ومع التسامح والتسهّل، ومراعاة مقتضيات الأحوال؛ وهناك طائفة من المستغربين لا تريد الدستور الإسلامي، ولكنها تعمل في الخفاء غالبًا لقلّتها بالنسبة إلى الشعب، ويعتقد المتبصّرون أن هذه الطائفة تلقى تأييدًا أجنبيًّا قويًّا، ولا تتّسع هذه الكلمة لترجيح إحدى الفكرتين، وإن كان لنا في ذلك رأيٌ صارحنا به بعض المسؤولين في ذلك الحين.
لهذا الذي شرحناه ضاقت الحكومة ذرعًا بالمودودي وتشدّده، وصلابته، وصراحة آرائه، وتسرّعه (في نظرها) فكانت تحبسه كلما ظهرت آراؤه المؤثرة، أو فتاواه في الحوادث الخاصة، وتنظر إليه بعين الحذر دائمًا، وقد نسبت إليه فتوى في قضية كشمير أيام اشتدادها والاصطدام المسلّح فيها، ووصفت بأنها سلاح في يد العدو، ومَدَد للدعاية الهندوسية، وقد كنتُ كثير الاهتمام بهذه الفتوى، شديد الحرص على أن أطّلع على حقيقتها، لأنها حكيت لي على وجه لو صحّ لكنت أول المخالفين لها، وقد ألقيت السؤال عنها في مجلس الأستاذ في داره، ولكن السؤال ضاع في معمعة المواضيع التي كان الحديث يتشقق عنها. ثم أنستني أحاديث المجلس إعادة السؤال، ولم تزل في نفسي حزة من فوات تلك الفرصة، ولا أدري هل تعود. وكل ذلك الحرص مني لآخذ الحقيقة من مصدرها ولأتباحث مع الأستاذ فيما يُنتقد عليه إن كانت حقًّا.
ومع احتفاظنا برأينا في الخلاف بين المودودي وبين الحكومة في إقامة حكومة على أساس دستور إسلامي، فإننا نقول كلمة صريحة لوجه الحق وهي أن المودودي وحده أقدر رجل على وضع الدستور الإسلامي المنشود لدولة باكستان، وأبرعُ عالم في انتزاع ذلك الدستور من القرآن والحديث، ومن المقاصد العامّة في التشريع الإسلامي والأصول المتّفق عليها بين الأمة، وأنا مع هذا مؤمن بأن العقبة الكأداء في طريق المودودي ودستوره ليست هي الحكومة وحدها بل العقبة التي تنبهر فيها الأنفاس هي جمود فقهاء المذاهب، وما أكثر المذاهب في باكستان! ...
وفي الأشهر الأخيرة حدثت اضطرابات في باكستان، وسالت دماء، وأمسكت كثير من الجرائد العربية عن شرحها، فلم نتبيّن دواعيها بالتفصيل ولا أغراضها، وأغلبُ الظن أنها تدور على "إسلامية الحكومة". ولعلّ الحكومة رأت آثار المودودي وأصحابه فيها بارزة فسجنته وسجنت كثيرًا منهم، ثم أحالته على محكمة عسكرية عقدت بمدينة لاهور فحكمت عليه بالإعدام وجاءت الأخبار بأنها خففت حكم الإعدام بالسجن أربعة عشر عامًا، فاهتزّ المسلمون بباكستان لهذا الحكم القاسي بنوعيه الثقيل والخفيف، وانصبّ على الحكومة تيّار من الاحتجاج والتظاهر بالغضب، ولا نشك أن تخفيف الحكم أثر من آثار تلك الغضبة.
ثم قامت الهيئات الإسلامية القوية بالاحتجاج والاستنكار من مصر وسوريا والعراق والكويت، وتأكّدت عندي الأخبار وأنا بالكويت فامتعضت- علم الله- لذلك وحزنت لما بيني وبين الرجل من صلات ولما بينه وبين جمعية العلماء من تقدير. ولأن الرجل ليس رجلاً بل أمة.
نص البرقية التي أرسلناها إلى حاكم باكستان، وإلى رئيس وزرائها في قضية المودودي :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضرة صاحب الفخامة السيد غلام محمد حاكم باكستان العام- كراتشي،
حضرة صاحب الدولة السيد محمد علي رئيس الوزارة الباكستانية- كراتشي:
شاع في أنحاء العالم أن المحكمة العسكرية بمدينة لاهور حكمت بالإعدام على عالم من أكبر علماء الإسلام ومن أعظم دعاته، وهو الشيخ أبو الأعلى المودودي، ثم شاع الخبر بأن الحكومة الباكستانية خففت هذا الحكم إلى السجن أربع عشرة سنة.
إن هذه الأخبار أحزنت مئات الملايين من المسلمين في العالم، وسرّت أعداء الإسلام كلهم، ومهما تكن الدواعي لهذه الأحكام القاسية فإن المسلمين في جميع الدنيا لا يرضون لحكومة باكستان الإسلامية أن يسجّل عليها التاريخ قتل علماء الدين أو سجنهم، لأنها لا تعدم بإعدام المودودي شخصًا، وإنما تحطّم سيفًا من سيوف الإسلام، وتسكت صوتًا من أصوات الإسلام، وتطمس مفخرة من مفاخر الإسلام، ويا فرحة أعداء الإسلام بذلك.
إننا باسم جمعية العلماء الجزائريين وباسم ثلاثين مليون مسلم في المغرب العربي نتوجّه في شدة وإلحاح إلى دولة باكستان الرشيدة التي نفخر بها ونعلّق عليها الآمال في إعلاء كلمة الإسلام أن ترجع عن هذه الأحكام التي تزعج نفوس المسلمين، وتطلق سراح المودودي عاجلًا لتردّ الاطمئنان إلى نفوس جميع المسلمين.
إن فرح المسلمين بنشأة باكستان، وعطفهم عليها، وانتصارهم لقضاياها، هو رأس مال عظيم للدولة الباكستانية، الواجب أن تزكيه بإطلاق حرية رجل من أكبر رجال الإسلام مهما كانت جريمته السياسية فإنها لا تعدو أن تكون جريمة رأي.
محمد البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عضو جمعية العلماء المسلمين في الجزائر
وقال عنه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي – رحمه الله – في رسالة هنّأه فيها بخروجه من محنة السجن ، أرسلها بتاريخ 28 يوليو سنة 1955م ، يقول فيها باختصار :
الأخ الأسعد العلامة الناصر لدين الله الأستاذ الكبير أبا الأعلى المودودي ، أمير الجماعة الإسلامية – لاهور ، باكستان ...
وبعد السلام والتحية راح الإبراهيمي يصف نفس المودودي بالنفس الزكية التي صفت كما يصفو الذهب على السبك ، وابتلاه الله بأقسى ما يبتلي به عباده المؤمنين ، فصبر ، وكان الإمام ممن وصفهم الله بأنهم أحسن عملاً، ومحصها بأوصاف من التمحيص ، فخلصت متلألئة مشرقة سامية عن المعاني الترابية التي ارتكس فيها كثير من هذا الصنف من العلماء مع الأسف . والإسلام محتاج لمثل هذه الأصناف التي أقام عليها عموده ، وهو محتاج إلى تلك الأمثلة العالية من الصبر والثبات على الحق والموت في سبيله ، ولقاء المنايا كالحات في ميدان نصرته ، وإعزاز قبيله ، وتمهيد سبيله ، وقطع البراري والبحار لنشره ، وغرسه ، وتثبيت عقائده في النفوس، وقواعد ملكه في الأرض . وأعلن الإبراهيمي حبه للإمام المودودي ، ووصفه بالتفاني في الذود عن حياض الإسلام ، ووصف المحنة التي ألمت به بأنها رفعة قدر ، ومنبع فخر ، وحسن ذكر ..... ويقول الأستاذ محمد رجب البيومي في كتابه القيم ( النهضة الإسلامية في سير أعلامها ): إن موقف المودودي من الماركسية أشهر من أن يشار إليه، فقد كتب ما صار سلاحاً باتراً لدى كل كاتب إسلامي، لأن علم المودودي الموسوعي، وعقله المبلور، وفكره المستنبط ونظره العميق إلى شتى حركات الانقلاب في الكتلة الشرقية، مما جعله يضع النقاط على الحروف.. والحق أن مفكراً كبيراً من طراز المودودي، يجب أن لا تخلو مكتبة في بيت مسلم من مؤلفاته، إذ يعطي المسلم ما لم يجده عند سواه، وكأنه في عطائه الفسيح الزاخر مؤيد بروح الله .
جائزة خدمة الإسلام :
لقد لقي المودودي التكريم الذي يستحقه، حيث أن الخدمات التي قدمها في مجال الدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي، وخدمة الإسلام، جعلته الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وهي أول جائزة تمنح لداعية إسلامي ومفكر، وقد تسلمها بالنيابة عنه ابنه (الفاروق) في حفل كبير رعاه الملك خالد بن عبد العزيز في الرياض في شهر ربيع الأول سنة 1399ه / 1979مـ. وقد تبرع بقيمة الجائزة لإنشاء مجمع المعارف الإسلامية بلاهور..
مؤلفاته :
ويكفي أن نعلم أن للمودودي أكثر من مئة وأربعين كتاباً، وأكثر من ألف خطاب، ترجم منها الكثير إلى عدة لغات، وكانت زاداً للمفكرين، والدعاة من رجال الصحوة الإسلامية، ومارست تأثيرها عليهم حيث كانوا في هذا العالم الفسيح.
ومن أبرز تلك المؤلفات :
ثم لما أصبح هؤلاء الذين آمنوا، ولبوا دعوته من كل وجهة - بقلوبهم وأذهانهم ونفوسهم وأخلاقهم وأفكارهم وأعمالهم - مسلمين متقين محسنين بالمعنى الحقيقي، وانصرفوا بأنفسهم إلى ذلك العمل الذي ينبغي لعباد الله المخلصين الأوفياء أن ينصرفوا إليه إذن، وبعد كل ذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يرشدهم إلى ما يزين حياة المتقين المحسنين من الآداب والعادات المهذبة في الهيئة والملبس والمأكل والمشرب والمعيشة والقيام و الجلوس، وما إلى ذلك من الشؤون الظاهرة . وكأنني به فتن الذهب ونقاه من الأوساخ والأقذار أولاً، ثم طبع عليه بطابع الدينار، ودرب المقاتلين أولاً، ثم كساهم زي القتال . وهذا هو التدرج الصحيح المرضي عند الله في هذا الباب كما يبدو لكل من تأمل القرآن والحديث وتبصر فيهما ". .) .
15ـ نحن والحضارة الغربية.
16ـ الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة.
17ـ مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة.
18ـ في محكمة العقل.
19ـ الرسول والرسالة.
20ـ حقوق الزوجين : نشر الدار السعودية للنشر والتوزيع- 1985
21ـ تحديد النسل.
22ـ مبادئ الإسلام : قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي -رحمه الله- في هذا الكتاب: "وأهم شيء وأجدره في هذا الصدد أنّ الإيمان بلا إله إلا الله يجعل الإنسان مقيداً بقانون الله ومحافظاً عليه، فإن المؤمن يكون على يقين بسبب اعتقاده بهذه الكلمة، أن الله خبير بكل شيء، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه إن أتى بعمل في ظلمة الليل أو حالة الوحدة، فإن الله يعلمه، وأنه إن خطر بباله شيء غير جميل فإن علم الله محيط به، وأنه إن كان من الممكن له أن يخفي أعماله عن كل واحد في الدنيا، فإنه لا يستطيع إخفاءها على الله عزّ وجل، وأنه إن كان يستطيع أن يفلت من بطش أي كان، فإنه لا يستطيع أن يفلت من الله عزّ وجلّ، فعلى قدر ما يكون هذا الإيمان راسخاً في ذهن الإنسان يكون متبعاً لأحكام الله، قائماً عند حدوده لا يجرؤ على اقتراف ما حرّم الله، ويسارع إلى الخيرات والعمل بما أمر الله، ولو في ظلمة الليل أو حال الوحدة والخلوة، فإن معه شرطة لا تفارقه حيناً من أحيانه، وهو يتمثل دائماً أمام عينه تلك المحكمة العليا التي لا يكاد الإنسان ينفذ من دائرة حسابها" ((مبادئ الإسلام ص:98، طبع الاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية)) .
23 ـ أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة.
24 ـ الحجاب.
25ـ الإسلام كما جاء به الرسول.
26ـ نظرية الإسلام الأخلاقية .
27 ـ نظرة فاحصة على العبادات الإسلامية.
28ـ منهاج الانقلاب الإسلامي.
29ـ استفسار ذو بال.
30ـ منهج جديد للتعليم والتربية.
31ـ معضلات الإنسان الاقتصادية وحلها في الإسلام.
32. تفسير سورة النور .
33. تذكرة دعاة الإسلام : وهو كتاب لطيف بين فيه أسلوب الدعوة وفضلها، وما تجاوز الأستاذ المودودي - رحمه الله - أعراف أجيال الدعاة حين صارحنا في تذكرته القيمة، وقال:
" إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم ناراً متقدة تكون في ضرامها على الأقل مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً، ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق حياة أولاده، ولا تزال تقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي
لذلك رأى المودودي ضرورة الصراحة, فحسم أمر الهمة بألفاظ يظن القارئ أنها خشنة، فقال : ( من دواعي الأسف أن الذين عندهم نصيب من القوى الفكرية والقلبية من النوع الأعلى من أفراد أمتنا هم مولعون بإحراز الترقيات الدنيوية، جاهدون في سبيلها ليل نهار، ولا يقبلون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتفعة, و ما بلغوا من تعلقهم بالدعوة إلى الاستعداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم، بل ولا بمجرد إمكانيات منافعهم . فإذا كنتم ترجون، معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية، أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل غاياتهم الباطلة، فما ذلك إلا حماقة ) ) تذكرة دعاة الإسلام /56
34. الربا .
35. نحو الدستور الإسلامي .
36. شهادة الحق .
37. ماضي المسلمين وحاضرهم وخطة العمل لمستقبلهم .
38. البيانات .
39. نظرية ملكية الأرض في الإسلام .
40. الإسلام اليوم .
41. الدولة القومية والدولة الإسلامية .
42. رسائل المودودي مع مريم جميلة .
43. دور الطلبة في العالم الإسلامي .
44.تنقيحات .
45. طائفة من قضايا الأمة الإسلامية في القرن الحاضر، تأليف أبو الأعلى المودودي، نشر مكتبة الرشد، الرياض .
46. النّظام الاقتصادي في الإسلام- المودودي- لجنة مسجد جامعة دمشق, دمشق .
47. العدالة الاجتماعية حقيقتها وسبل تحقيقها
48. حاجة الإنسانية لنظرية صالحة وجماعة راشدة .
49. قضية كشمير .
50. حدود التشريع في الإسلام .
51- احذروا مخطط اليهود .
52- الإسلام والمدنية الحديثة .
53-الإسلام اليوم .
54-إلى أي شيء يدعو الإسلام .
55-برّ الأمان .
56- بين يدي الشباب .
57- تفسير سورة الأحزاب .
58- الحياة بعد الموت .
59-ختم النبوة في ضوء القرآن والسنة .
60-الذبائح .
61-الزي بين الابتذال والاحتشام .
62-شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية .
63-فرعون في القرآن .
64-محكمة العقل .
65-قضية كشمير المسلمة .
66-نحن وبنغلادش .
67-نحو ثورة سلمية .
68-وحدة الأمم الإسلامية .
وقد حظيت مؤلفات المودودي بشهرة عريضة في جميع أنحاء العالم، ولقيت قبولاً واسعًا في قلوب المسلمين في شتى البقاع؛ فترجم الكثير منها إلى العديد من اللغات، حتى بلغ عدد اللغات التي ترجمت مصنفات المودودي إليها ست عشرة لغة، منها: الإنجليزية، والعربية، والألمانية، والفرنسية، والهندية، والبنغالية، والتركية، والسندية…، ونالت استحسان، ورضى المسلمين على شتى مستوياتهم واتجاهاتهم .
وانطفأ المصباح :
توفي الإمام أبو الأعلى المودودي -رحمه الله- في مستشفى (بافلد) بنيويورك بتاريخ 20/10/1399هـ / الموافق 20/9/1979م ، وانطفأت تلك الجذوة التي أضاءت الطريق إلى الرشد ، والهداية لكثير من المسلمين، ثم نقل جثمانه إلى باكستان، ودفن في ساحة منزله بمدينة لاهور الباكستانية .
وقد شارك في تشييع جنازته مئات الآلاف من تلاميذ الشيخ ومحبيه من أنحاء العالم الإسلامي ، فكانت جنازة مهيبة وموكباً عظيماً يدل على مكانة الرجل ، وتقدير الناس له، والوفاء لجهده وجهاده في سبيل الإسلام وتبليغ رسالته، والدفاع عن قضايا المسلمين، والتصدي لأعداء الإسلام من الصهيونيين، والصليبيين ، والشيوعيين ، والعلمانيين والمنحرفين ، والهدامين الذي يكيدون للإسلام والمسلمين.
لقد رحل المودودي عن عالمنا إلى رحاب ربه، ولكنه بقي بأفكاره ، وتعاليمه ، ومؤلفاته الجليلة ليظل قدوة للدعاة على مر العصور، ونبعًا صافيًا من منابع الإسلام الصافي والعقيدة الخالصة.
شخصية الإمام أبي الأعلى المودودي في الشعر الإسلامي المعاصر
لقد كان الإمام المودودي عبقرية فذة، ونموذجاً متميزاً بين كثير من الدعاة، يحدث الناس باللغة التي يفهمون، ويقدم لهم الإسلام واضحاً ناصعاً نقياً، كما فهمه من خلال اطلاعه الواسع الشامل لسائر ألوان المعارف والعلوم الإسلامية، وبذكاء الدارس الحصيف لثقافات الغرب وحضارته، المقارن بينها وبين الإسلام الذي جاء ليبقى المتفوق على سائر الثقافات والحضارات عبر الدهور، وهذا ما يستنتجه الدارس لكتبه التي بلغت ما بلغت كثرة، وعمقاً ، وشمولاً لشتى مناحي الفكر، والتي جعلت منه مفكراً عالمياً، وأحد أبرز قادة الفكر والدعوة والإصلاح في العصر الحديث. ويكفي أن نعلم أن للمودودي أكثر من مئة وأربعين كتاباً، وأكثر من ألف خطاب، ترجم منها الكثير إلى عدة لغات، وكانت زاداً للمفكرين والدعاة من رجال الصحوة الإسلامية، ومارست تأثيرها عليهم حيث كانوا في هذا العالم الفسيح.
كان الإمام الشيخ أبو الأعلى المودودي شمساً أضاءت العالم الإسلامي، واستنار بها كثير من حملة المشروع الإسلامي، في كل أنحاء العالم الإسلامي، ولم يكن حملة هذا المشروع في موريتانيا بدعاً بين إخوانهم في كل العالم الإسلامي، وإنما تلقوا تراث المودودي وإنتاجه بنهم ٍ شديد، وكان منهم المتعطش إلى الارتواء، والتلقي عن معالم الفكر السامقة.
ويرحم الله الشيخ المودودي يرحل عن هذا العالم سنة 1979 بعد أن أسس أمة، وبنى جيلاً، وخلف تراثاً وفكراً تربَّت ْعليه الأجيال المسلمة. ويقع هولُ الصدمة مدوياً على ملايين المسلمين ، لقد سقطت معلَمةٌ طالما استضاؤوا بمشاعلها، وأووا إلى ظلها الظليل. وهولُ الصدمة يكاد يعتصر الأكباد، فينتفض الشعر؛ ليعبر عن هذه المأساة بطريقة مختلفة في تناوله للحادث الجلل، لكن في اتجاهه الأكبر يميل إلى بناء شخصية مودودية غير قابلة للموت، متعالية على عوامل الإقصاء لأنها مما ينفع الناس والأرض فهو ماكث خالد فيها .
وفي ديوان الأدب الإسلامي الموريتاني المعاصر نجد قضية المودودي حاضرة جداً على صعيد الاستلهام، والبناء، والمنافحة عن المنهج، ولكن بعد وفاته صار أكثر مرجعية في الأدب، وأكثر قدرة على ولوج عالم الترميز، والاستخدام المتعدد الأشكال، وتنطبق على هذا المنحى ثلاث قصائد لشعراء موريتانيين دوِّنت في رثاء الشيخ المودودي، هي من إنتاج الدكتور محمد الحافظ ولد اكاه، وابن عمر لي، والقاضي أحمد الحسن ولد الشيخ، وقد لا تكون هي كل ما قيل في رثائه في موريتانيا، وليس لك أن تستكثر هذا على الشيخ المودودي أن تدبج في رثائه القصائد الخالدة، ولا أن تستكثر على هؤلاء الشعراء أن يلجوا عالَم رثاء الشيخ المودودي، فالشعرُ يقفُ عاجزاً عن الإحاطة بكمالات أمير الجماعة الإسلامية في باكستان .
أمير الجماعة الإسلامية في باكستان :
وتلتهب أشجان شاعرنا محمد محمود صيام على فقد علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الشيخ أبي الأعلى المودودي، وقد كانت مصيبة فقده تفوق جميع المصائب، فيقول:
غـير أن المصاب في أي فرد ليس مثل المصاب في المودودي فـهـو في مركز الصدارة منا ولـه فـي الـقلوب أي رصيد عـالـم عـامـل بـغير توان واثـب مـخـلص بغير حدود
وحدة المضمون والإطار :
كتب الدكتور ( محمد الحافظ ولد اكاه ) قصيدة في مدينة ( فاس ) المغربية، وكتب ابن عمر لي قصيدته في مدينة بوكي على ضفاف نهر السنغال، والعجيب أن يتفق النصان في إطارهما الموسيقي (بحر الكامل، وروي النون) وأن يتفقا كذلك في تناول رحيل المودودي بنفس النبرة المعلية من شأن الهول، والمصيبة ..وإن اختلفا قليلاً في القدرة على شحن الإطار الموسيقي، وتوزيع نفثات المصدور على أبيات النصين بصورة يتشكل فيها النص ، وقد تحمل فعلاً كل ما أراد صاحبه أن يعبر عنه.
يبدأ ( ابن عمر لي ) قصيدته بقوله:
ما ذا تعاني دوحــــــــــــــة الإيمان لماذا اختفى عن ساحة الميدانِ هل ذلك من كسوف في الســــــما أمّن قذى جُـــــــرحت به العينانِ بل كيفَ لا يقـــعُ الخبــــالُ لأمــــــةٍ فقدتْ دعـــــامةَ صــــــرحها الرباني
فهو يصور هول المصيبة التي نزلت بالمسلمين في العالم ، فهل كسفت الشمس ، أم أدميت عيون الناس ، فراحت تذرف الدموع غزيرة ، على رحيل ذلك الصرح الإسلامي العظيم.... ثم يدخل مباشرة في حوار مع الشيخ المودودي يستخدم فيه المزاوجة بين الرهبة، والانسياق في لجة الهمّ، وينتقل فيه من ضمائر الخطاب إلى الغيبة، على سبيل ( الالتفات ) ، لاستحضار ذات الشاعر في هذا الخضم:
أذهبت عنا يا أبا الأعلى الذي نشـــر الهداية من هدى القرآن ورفعت رايته التي انهزت بها في الأرض كل معاقل الطغيان أتتركنا يا ســـــــيدي في وحشـــــة ودخـــــلت فســــــحةَ جنة الرضـوانِ
لقد رفع الإمام المودودي راية التوحيد ، ونشر الهداية في كلِّ مكان ، وجاهد الطغيان ، وعلم أن الجنة تحت ظلال السيوف .. فلم يهدأ له بال حتى رحل إلى عالم الخلد والنعيم الدائم ، ثم يدعو له الشاعر ُ بالرحمة ، ويعدد سجاياه النبيلة ، فيقول :
رحمــاك ربي إنه العبـــد الذي خاضَ الحياةَ مكافحَ الشيـــــــــطانِ لم يعـــرفِ اليأسُ السبيلَ لقلبـه لم ينخــــــــــــــذل لتزايد العدوان كلا ولم يعطِ الولاء لكافــــــــــرٍ أبداً ولا للجـــاهلي الجاني حقاً رحلتَ وقد شبت يمناك في أرض الرجال جمــــاعة الإيمانِ علمتهم أنَّ الجــهادَ أمـانة وعبادةٌ وكرامةُ الشـــجعانِ وأراك قـــــد أرســـــيتَ كلَّ دعائم الإيمـــــــان والإســــــلام والإحســـانِ
لقد خاض الإمام معترك الحياة، وكافح الأشرار وحزب الشيطان، ولم يعرف طعم اليأس والقنوط، ولم يخش من كثرة الأعداء، وأرسى دعائم الجماعة الإسلامية على أرض صلبة، وصار قدوة للأجيال، يعلمهم دروس التضحية والفداء، فكان نعم المجاهد الجسور، والمؤمن الغيور.. وعلى هذا المنوال يسير النص كله في استنطاق الحادث وتحميله ما أراد الشاعر عن شيخه المودودي...
لقد أحسن الشاعر اختيار الألفاظ الملائمة لغرض الرثاء، والمناسبة لشخصية الفقيد، فكثرت في النص الألفاظ الإسلامية مثل : الإيمان، الرباني، الهداية، القرآن، الجهاد، عبادة، والإسلام، والإحسان ..وكلها موحية معبرة، مناسبة للمقام، تمتاز بالسلاسة، والجرس الموسيقي العذب الجميل ..
فداحة المصيبة : أما الدكتور محمد الحافظ فلا يبعد هو الآخر عن هذا النمط، ولا عن هذا الإيقاع، لكنه يرسم صورة موغلة في الفداحة جراء رحيل الإمام:
ألله أكبرُ زلــــــتِ الأركانُ منهارةً وتقوَّضَ البنيانُ واحلولكَ الأفقُ المنيرُ ودمـدمت هوجُ الرياحِ كأنَّها البركانُ لا غروَ فالكونُ الغداةَ مرزَّأ قمرُ الضياءِ تلفُّـه الأكفانُ تبكي الســماءُ لفقده ملتاعةً والأرضُ تبكي قلبها وجـفان تبكي الشريعةُ خِدنها المُسأدي لها جــــــللاً تقاصـــــرَ دونه الأخــــدانُ
فهو يصور أحزان الكون على رحيل الإمام، فالظلمة تغشى الأفق، وأركان الوجود تهتز، والرياح تعصف، والسماء تبكي لفقد الإمام المجاهد، وقلب الأرض يخفق، وشريعة الإسلام تنوح على ابنها البار، ويصور أحزان ومواجع إخوان الإمام من أبناء ( الجماعة الإسلامية ) الذين شاطروه هموم الدعوة، ورافقوه في المحن والشدائد، فكانت بيعة رابحة، وكانوا رهبان الليل، فرسان النهار:
من معشرٍ باعوا الإله نفوسهم في صفقة ما شابها خسران نعمَ الفريقُ أولائي كلُّ فعاله لله رهبــانٌ لهُ فرســانُ عاشوا على الأرض التي ولدتهم ويشدُّهم نحوَ السما الإيمانُ في معمعانِ الشِّرك قادَ سفينةَ الحقِّ الذي اندكَّت له الأوثانُ فتداركوها في خضم بعـــد أن ألقى القــــــــــياد عليكم الربانُ لا تتــــــركوها لعبةً لعواصــــفٍ يهـــــوي بها ويصــــــــــعدُ الطغيانُ
لقد قاد الإمام سفينة الدعوة، التي راحت تشق ّ العباب، ولا تبالي بالرياح، ويطلب من تلاميذ الإمام أن يواصلوا الطريق، ويحملوا الراية، ويكملوا المشوار.. ثم يخفف الشاعر ( محمد الحافظ ) من ضغط الحدث، ويرفع لواء خلود المودودي في الذاكرة الإسلامية :
ما ماتَ من أبقى تراثاً كله نورٌ على سننِ الهدى برهانُ والله يسكنه فسيحَ جنانهِ فهو الرحيمُ المــنعم المنانُ
لقد خلّد التاريخ ذكرى الإمام، وحفظ تراثه، لأن التاريخ لا يحفظ إلا ما تخطُّ يدٌ بناءة ٌ، فجّرتْ من خلفها كبدُ ...فالإخلاص سرُّ الخلود ..واسألوا التاريخ يخبركم بهذا ... وعلى الرغم مما أشرت إليه آنفاً من عوامل الالتقاء والاتفاق في النصين السابقين، فلا يخفى كذلك فروق في تناول هذه القضية هي مما يختلف فيه المبدعون تبعاً للقدرة على تطويع الإطار الموسيقي، وانسياب الشحن الإبداعي، أصلاً .
لكن أنوارَ الإمام لن تكسفا :
وكان هذا هو عنوان النص الثالث الذي كتبه القاضي أحمد الحسن ولد الشيخ فهو من النصوص الجميلة في رثاء المودودي في الشعر الإسلامي المعاصر استطاع – باقتدارٍ - السموَّ إلى رسم صورةٍ مثاليةٍ للشيخ الفقيد، واستطاع ربطَ المتلقي بالحدث دون أن يكون ذلك سرداً، وحكاية يبثُّها الساردُ غلى المتلقي دون أن يشركه في رسم معالمها، ثم إنه كذلك استطاع تجاوز النظرة المأتمية التي طبعت النصين السابقين، بل ضرب عنها الذكر صفحاً، وأحالنا إلى صورةٍ شجيةٍ ناطقةٍ وحدها بهول الصدمة دون الحاجة إلى الإبانة عن ذلك عبر الأسلوب السابق:
قالوا أبو الأعلى عن أعيننا اختفى فهتفت لكنْ نورهُ لن يكسفا هيَّا بنا لنراهُ يحمـــلُ مصـــــــحفا بيد وفي الأخرى حساماً مرهفا لنراه يخــــــرجُ وحــدَهُ متــــحدياً للجـــــــــاهلية لا يبالي من جفا يدعو فيخترقُ الحواجــزَ صــــوتُه ليقام شـــــــــــرع الله مهـــــــما كلفا
فالإمام كما يؤكد الشاعر جمع بين المصحف والسيف، بين الكتاب والكتيبة، بين اللسان والسنان، وبين الحكمة والقوة، وتحدى الجاهلية في عقر دارها، ولم يسأل عن وعورة الطريق ونيران المواجهة، فجهر بصوت ٍ جهير ٍ ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية، ورفع شعاره الخالد : الإسلام هو الحل .
ويشير الشاعر إلى ما لاقاه الإمام المودودي من محن ونكبات وسجون، وكان الطغاة، الظالمون يريدونه لكي يركع، ويضعف، ويتراجع، ولكن المصائب زادته قوة وصلابة، فيقول :
ويسيرُ في هذا الطريقِ فيبتلي ويعودُ من بلواهُ أصلبَ موقفا ويقـــــــارعُ الأيامَ وهي عصيبةٌ مستبشرَ القســماتِ لا متأففا هيَّا بنا لنـــــــــــراهُ في زنزانةٍ يجـــدُ العذابَ بها سـلافاً قرقفا وغياهبُ السجنِ الرهيبِ يحيلها إيمــــانُهُ نوراً عليه مــــرفرفا وسياطُ جلاديهِ تأكلُ لحمَــــــهُ فإذا انتهى لونٌ بآخرَ أسعفا لكن أبى إلا الوفــــــاءَ لدعــــــوةٍ تأبى وترفضُ أنْ تصـــــــــافحَ مخلفا
ويصور الشاعر كيف واجه الإمام الحكم عليه بالإعدام شنقاً، وكان رابط الجأش، ثابت الفؤاد، شامخاً شموخ الجبال الراسيات :
قالوا له حكموا بشنقك وانتهى أمدُ الحياةِ ونورُ مشعلك انطفا ويجيبُ والإيمانُ يملأُ قلبَهُ هلْ كنتُ من أحكامكمْ متخوِّفا إنْ لم يحنْ أجلي فحكمٌ باطلٌ ويعود والنكبات تعـــــجم عوده أو لا فحـكمُ اللهِ لنْ يختلفا ويعود والنكبات تعـــــجم عوده عجـــــما وتلفظــــه أمـــــرّ وأثقفــــا
هذه المحن ما هي إلا منحٌ ربانية، تلقَّاها الإمامُ بالرضا والابتسامة، وماهي إلا سحابة صيف تمرُّ، وتنقشع، ويعود الأسد إلى عرينه، فيملأ الدنيا علماً ونوراً، ومحاضرات، وكتباً :
ويظلُّ يخترقُ الصعابَ مجاهداً ومربياً ومحاضـــراً ومؤلفا وتعمُّ دعوتهُ وتؤتي أُكلَها وتعـــــودُ للحقِّ النقاوةُ والصفا كمْ قلـــــعةً للجاهليَّـــةِ دكَّــــها وأحــالها مــــــــن بعد قاعاً صفصفا
وتنشر دعوة ُ الإمام في ربوع العالم، وتؤتي ثمارها، فيا لهُ من عالمٍ ربانيٍّ مجاهدٍ حطّم الطواغيتَ، ودكّ صرحَ الجاهلية ....
ويتوجه الشاعر بالخطاب إلى أعداء الإمام من دعاة العلمانية والتغريب، فيقول لهم :
قلْ للذينَ تباشروا برحيـــلهِ وبودّهم لو أنّ الإسلامَ اختفى لا تفرحوا فلسوفَ يبقى خــــالداً ومســـــــيرةُ الإســــــــلام لن تتوقفا
هكذا استطاع القاضي بلوغ أقصى ما يمكن في رسم هذه الصورة المثالية للمؤمن، وهي صورة تدعو إلى الاستلهام، والتمثل وترسم مثالاً رائعاً، لا يقل عن الأثر الذي سطره المودودي بقلمه، ولا تنقص عن أن تجمل ما فصلته مسيرة المودودي في حياته الضخمة بعبير الذكر الحكيم، والجهاد وروائع الفكر، وحشرجة الأغلال في غياهب السجون.
أنت المعلم في الحياة ..وبعدها :
وننتقل إلى نص ٍ آخر، كتبه الشاعر الإسلامي ( أحمد محمد الصديق ) من أبناء فلسطين الطهور، وهو بعنوان : ( أنت المعلم في الحياة ..وبعدها ) دبجه في رثاء فقيد الدعوة الإسلامية الكبير الأستاذ العلامة أبي الأعلى المودودي – رحمه الله -ونشر تلك القصيدة العصماء في ديوانه ( الإيمان ..والتحدّي )، وكتبها في ذي القعدة 1399 هـ، حين توفي الإمام، ومطلعها :
وجمت ْ بحورُ الشعر ِوالأوزان مذهولة ً ..عيّتْ عن التبيان في مــــــوقفٍ آدَ النفـوسَ كأنما عقدَ الأســـــــــــى فيهنَّ كلَّ لســـــان
فالشاعر من البداية يصور عجز الشعر والقوافي عن الإحاطة بهذا المصاب الجلل، فالمصيبة أخرست ألسن الشعراء، وأدهشت عقولهم، ثم يتابع رسم صورة البطل العظيم، والمفكر الإسلامي العملاق :
هذا أبو الأعلى الإمام ُ ..مفارقاً دنياه ..في شوق ٍ إلى الرحمن تبكيه باســــــم ِ الدين أمتنا التي فقدتْ به علماً رفيع َ الشان ثلمت ْ بدين الله ِ أعظـــــم ُ ثُلمـة إذ راح مُرتحــــــلاً عــــــــن الميدان
رحل الإمام للقاء ربه وهو يلهج بصوت عال : وعجلت إليك ربي لترضى، فراحت الأمة تبكي لفراقه، فرحيل الإمام أحدث شرخاً وثلمة في الدين، لأن موت العلماء هو موت العالَم، ويعدد الشاعر صفات الإمام، ويشيد بسجاياه، فيقول :
لكنه يمضــــي رضيّاً ..هانئاً بالحق يصدع ُ ..ثائرَ الوجدان نهضت ْ عزائمه بأعظم دعــوة لله ..باقيـــــــة ٍ عـــــــلى الأزمـــــان
كان الإمام المودودي يجهر بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، تسلَّح بالإرادة القوية، والعزيمة الصلبة، والهمّة القعساء، ( وربّ همة أحيت أمة )، حيث أسس الجماعة الإسلامية في باكستان التي ما تزال تنافح عن قيم الحق والعدل والسلام، ويصور الشاعر انتشار دعوة الحق المباركة في باكستان وشبه القارة الهندية ..وغيرها، فيقول :
درجت ْ بأرض الهند ِثم ترعرعت وتوهّجت ْ في قلب ِ باكستان أصغت ْ لصيحته العقول ُ ..فهزّها ثقة ً وأيقظ َ همّة َ الوسنانِ وبكلِّ مـــــا ملكت ْ يداه وفكره ضحّى لأجل هداية ِ الإنسان وإذا بتلك الروحُ تسري ..مثلما يسري شُعاع ُ الصبح ِ في الأكوان سطعت ْ بأنوار السماء ِ فأخرجت جيلاً من الأبطال والشجعان قد بايعوه على الجهاد ..وأقبلوا صفّاً يعانق ُ راية َ القرآن متناصحين ..كأنهم من روحه نبضُ الحياة ِ ..وخفقة ُ الشريان ملأوا الصدور َ هداية ً ..وتوثبوا لبلوغ أهداف ٍ ..ونيل ِ أماني خاضوا المعارك خلفه ..دستـورهم نهج ُ النبيِّ وشـــــــــــــرعة ُ الفرقان
لقد انبثق فجرُ الدعوة في الهند، ثم بدأت أنوار تلك الدعوة المباركة تشع في باكستان، فانقادت له العقول، وهفت إليه الأرواح، وتعلقت به قلوب الشباب، فصحا النيام، وهبوا من رقادهم، لقد ضحى الإمام بكلّ ما يملك لأجل هداية الحيارى، فسرت روحه كالشعاع في هذا الوجود، وسطعت أنوار دعوته في السماء، والتفَّ من حوله العلماءُ والمجاهدون، فحملوا مشعل الهداية إلى البشر ..وجعلوا الله غايتهم، والرسول قدوتهم، والقرآن دستورهم، والجهاد سبيلهم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم ...
لقد كشفَ الإمامُ عُوارَ الحضارة الغربية التي فقدت الفضيلة والقيم والأخلاق، فصارت كالطائر الذي فقد إحدى جناحيه، فهي حضارة ينقصها الدين :
عرَّى عن الزيف الحضارة للورى فبـــــدت ْ حقيقتها بلا ألوان لا دين َ يعصمها عن الجُرف ِالذي تهوى إليه ..قرينة َ الخسران تؤتي الثمـــــارَ شقاوة ً ..وغـــواية بالكفر ِ قـــــد مُـــــزجت ْ وبالبــهتان
إنها حضارة مزيّفة، ثمارها خبيثة، وطعمها مرٌّ، ذهبتْ بإنسانية الإنسان، وآدميّة البشر، وهبطت بالغريزة، فضلّت، وأضلّت، وكانت حضارة كفر وبهتان ..
وشجاعة الإمام أصبحت مضرب المثل، فهو يصدع بقول الحق، ولا يخشى أحداً إلا الله، وكان – رحمه الله – جبلاً شامخاً لا يناطح، وأسداً يهاب صرخته طغاة العالم :
نادى أبو الأعلى فكان نـــــداؤه صوت َ النذير ِ وصيحة َ اللهفان لم يخش َ في الإسلام لومة َ لائم رغم َ الأذى وضراوة ِ العدوان كالطود ِ عزماً ..كالخضمِّ تدفقاً في علمـــــه المتألق النوراني كالليث يزأر ُ في العرين ..فينزوي كيدُ الخؤون ِ وترهات ِ الشاني متحدّياً بالحق صولة َ باطـــل مستمسكاً بالصــارم الرباني لا بدَّ للإنســــان مــن عــــــودٍ إلى ربِّ الوجــــــود ِ القـــــــاهر ِ الديانِ
وابتكرت عبقرية الإمام المودودي حلاً لمشكلة ( جاهلية القرن العشرين )، فكان الحل في الحاكمية، والتسليم لشرع الله :
الحـــــــاكمية كلها لله ..لا للظــــــالمين ..وشهوة الطغيان ورسالة التوحيد حبل ِ نجاته مما يُكابد ُ في الأسى ويعاني تتعطّش ُ الدنيا لدين محـــمد فتهيأوا يا معشر الشــــــبان هيا أقيموا في الدّنى أنموذجاً لحقــائق الإســــــــلام ِ والإيمان فتشع َّ بالشرع المطهَّر ِ دولة يهفو لها في الأرض كلُّ جَنان وتكاتفوا مـــن حولها في وحــــــدةٍ وأخــــــــوّةٍ ..وتعـــاطف ٍ وتفـــــاني
فالشريعة الإسلامية فيها السعادة لبني البشر جميعاً، فهي كالماء للظمآن، وكالبلسم للجراح، وكالعافية للبدن، وكالشمس للدنيا ..فهل يفهم هذا معشر العميان ...
إن إماماً عظيماً كالمودودي عصي على الموت، صعب على النسيان؛ لأن آثار دعوته تهز الوجود ، وتملأ الدنيا عبقاً وعطراً وشذى :
إيه ٍ أبا الأعلى ..ومثلك لم يمت بل أنت َ حيٌّ عاطرُ الأردان أنت َ المعلم في الحياة ..وبعدها فانعم ْ هناك بجنّة ِ الرضوان هل يبعث ُ الرحمن ُ عنك َ خليفة أو قائمــــــــاً لله بالبرهان نرجو الإله ولن تبوء على المـدى إلا بطــــــيب ِ الذكر ِ والعـــــــرفان
فمتى ستلد الأيام مثل الإمام المودودي، ومتى تخلفُ الدهور نظيراً له، لقد عجزت النساء أن يلدنَ مثل ذلك الإمام العظيم، فخسارة الأمة فيه لا تعوّض ...
الطبيعة تحزن على رحيل الإمام :
فجع العالم الإسلامي بوفاة الداعية المجاهد أبي الأعلى المودودي – رحمه الله – المعلم الرائد بعد أن قضى حياته في الدعوة والجهاد والمنافحة عن الشخصية الإسلامية، ولقد مثلت حياته ولخصت تاريخ الإسلام المعاصر بدءاً من الصراع مع الاستعمار البريطاني في الهند وفلسطين ومصر والعراق وسائر البلاد الإسلامية وانتهاء بمقاومة الظلم الاجتماعي والطغيان السياسي والعمالة الحضارية والسياسية .
لقد قضى على طريق الجهاد ذلك العقل العملاق والقدرة العجيبة في المناقشة والتحليل والاقناع وها هو الشاعر الإسلامي الفلسطيني محمود مفلح يكتب قصيدة نشرها في مجلة الأمة القطرية تحدث فيها عن جهاد الإمام المودودي، وندب رحيله، وبكاه أحر بكاء ... صور فيها مشاركة الطبيعة للأمة الإسلامية في حزنها على رحيل الإمام، ومن ذلك الصورة الآتية لوداع أبي الأعلى المودودي المفكر الإسلامي الكبير :
متّ والصبحُ موشكٌ أن يبينا والشواطئُ تدعو إليها السفينا أفقُ النصرِ قد أطلَّ أبا الأعلى فعانقْ إخوانكَ المسلمينا أنتَ من أطلقَ السهامَ فأدمى كبدَ الظلم والظلامِ سنينا فاسمعْ الريحَ تمضغُ الليلَ تلقي بالخفافيش يسرةً ويمينا أنتَ باقٍ في خفقة الرايةِ ريحاً وفي الظلام ِعيونا أنتَ باقٍ في يقظة الفكرِ فاقرأ فوق أشلاء فكرهم ياسينا
ويشيد الشاعر بصمود الإمام وشجاعته، وأنه فكره باق رغم أنف الأعداء، إن هذا الإمام المبجّل لم يتلفت إلى الوراء، ولم يركع لغير رب السماء، وسلك طريق الجهاد، وعما قريبٍ ستدوي صيحة التكبير في أرجاء الدنيا :
ماتلفتَّ للوراء ولا أسلستَ قيداً ولاخفضتَ جبينا وتقلّبتَ في الجهادِ زماناً وعرفتَ الحمى عريناً عرينا إنهُ الركبُ يقرأ ((الفتح)) والدهرُ يدوي في إثره ((آمينا))
ثم يتحدث الشاعر عن مأساة أفغانستان وكيف عاث فرعون فيها فساداً، ويتفاءل برحيل الاحتلال وبزوغ فجر الحرية، لأن الدمى لا تستطيع أن تحكم شعباً عرف الله، واقتدى بالرسول والسلف الصالح، ثم يعود الشاعر إلى الإمام المودودي، فيقول :
عفوَ مولاي مانسيتك لكن خفتُ أنسى طلائعَ الفجرِ فينا أنا لمـــــا علـــــمتُ أنك غُيبت رأيتُ الصباح طفلاً حزينا لملم الدمع َعن محاجر لاهور ودمعُ الرجال كان سخينا
ويقلع الشاعر عن البكاء؛ لأنه سلاح الضعفاء ، ولكن الذي أبكاه هو شجون الذكريات :
لستُ أبكيكَ فالبكاءُ هوانُ
إنمــــــــــــــا حــــــــــــــرّك الرحيــــــــــــــــــــلُ شجونا
أمة ٌ أنت َ كيفُ لا ينزف الشـعــــرُ ولا يُطـــــلقُ الأســـــى المـــــخزونا
إن خسارة المسلمين في هذا الإمام الكبير فادحة، وإن الشعر ليعجز عن تصوير جهاده وإنجازاته والإحاطة بكمالاته ...فيوم رحيله بكت الطيور على الغصون، وصار الصباح يبكي كالطفل الصغير ، وحزن الليل على رحيل الإمام ..وبكت الأشعار والقوافي ..ويا له من يوم ٍ دام ٍ حزين.. تفطَّرت فيه قلوب المحبين ..
وراح الشاعر الإسلامي محمد الحسناوي ( سورية ) يعدد المحن التي توالت على الدعاة في طول البلاد وعرضها، ويتحدث عن سجن الإمام المودودي، فقال :
ولقد صحونا يا سباعي صحوةً قـــد جرعتنا حنظلَ الخسران ِ قُتل ( الإمام ) ، ولاذَ ( نـــواب ) به وكبـــــا ( بأبي الأعلى ) باكــــستان
فطريق دعوتنا ليست مفروشة بالورود، بل هي ملحمة لاحبة، وطريق وعرة مفروشة بالدماء والأشلاء، فالإمام البنا سقط شهيداً، ونواب صفوي اغتيل في إيران، والإمام المودودي تعثرت دعوته، ودخل السجون في باكستان .
اعتقال الإمام :
وقال الأستاذ عصام العطار ( سورية ) متحدثاً عن اعتقال الإمام المودودي، ويشيد بصموده وثباته، ويهاجم السجان الطاغية الذي لم يقدّر الإمام، ولم يرحم شيخوخته، ولم يعرف لعالمنا حقه :
فدتك نفس (أبا الأعلى) وهل سلمت نفسي لأفديك من (أهل) ومن (صحب)! أما استحى السجنُ من شيخٍ ومفرقه نورٌ، بغير طلاب الحق لم يشبِ أنتَ المنارةُ للإسلامِ إن خبطت سفينةُ الفكرِ في داجٍ مـــنَ الرَّيبِ
فهو يقدم روحه فداء للإمام، ويعيب على السجان وحشيته، ويصوّر المودودي بأنه أصبح منارة ً تهتدي بها الأجيال إذا خيّم الظلام ..وحارت العقول والأفهام ...
واغوثاه :
وكتب الشيخ عبد الله قادري الأهدل ( اليمن ) قصيدة بعنوان (واغوثاه)، يقول في مطلعها :
غَوْثَاهُ يَا رَبِّ لِلإِسْلاَمِ غَوْثَاه فَكَمْ مِـــنَ الْكَيْدِ يَا الله يَلْقَاه وَمَا أَقَلَّ الأُولىَ يَحْمــــونَ حَوْزَتَه مِـــــنَ الْعَـــــــدُوِّ الَّذِي مَا كَلَّ مَسْعَاهُ
فالشاعر يشير إلى قلة الدعاة المجاهدين الذين يحمون حوزة الإسلام، ويفدونه بأرواحهم، ثم يتحدث عن أعداء الإسلام من يهود، ونصارى، وملحدين، فيقول :
هَذِي يَهُودُ طَغَتْ فِي الأَرْضِ عاتِيَة وَهُــــــــمْ أَذَلُّ عِبَادٍ أَوْجَـــــدَ اللَّه عَاثُوا فَسَاداً بِأَرْضِ الرُّسْلِ بَلْ فَسَقُوا فِي قِبْلَةِ الْمُصْطَفَى الأُولىَ وَمَسْرَاه وَلِلنَّصَارَى عَلَى الإِسْلاَمِ غَارَتُهُمْ وَكُلُّهُمْ بَـــــــــالِغٌ فِي الْكَيْدِ أَقْصَاهُ وَالْمُلْحِدُونَ وَأَهْـــــــلُ الزَّيْغِ مَا فَتِئُوا يُهَاجِمُونَ مِـــــــنَ الإِسْـــــلاَمِ أَعْلاَهُ
ويتحدث عن تقصير بعض العلماء، وركضهم وراء المال والجاه، فيقول :
وَبَعْضُ مَنْ نُسِبُوا لِلْعِلْمِ قـَدْ خَضَعُوا يَحْــــــدُوهُمُ الْخَوْفُ ثُمَّ الْمَالُ وَالْجَاهُ
إن واقع الأمة المسلمة أصبح مزرياً ، حتى راح اليهود - وهم أذل أمة - يعتدون عليهم ، ويعيثون فساداً في أولى القبلتين ، و ثالث الحرمين الشريفين ، ومسرى رسول الله –صلى الله عليه وسلم– وأغار النصارى على حرمات الإسلام وبلدانهم ، وهاجم الملاحدة أفغانستان ، والشيشان ، فوقع الإسلام بين كيد أعدائه ، وعجز علمائه ، ويستثني من هؤلاء العلماء الربانيين ، والمجاهدين الصادقين ، الإمام المودودي الذي سلَّ حسامه في وجه الطغاة ، وصبر على صعوبة الطريق ، وتسلح بخلق التقوى ، والعقيدة الحقة ، وتمسك بالكتاب والسنة :
لَكِنَّ أُسْدًا لِهَذَا الدِّينِ قَدْ وَقَفَتْ تُهْدِي الْحِمِامَ لِمَنْ يَطْغَى وتَهْوَاهُ وَلِلْفَقِيدِ أَبِي الأَعْلَى الإِمَامِ هُنَا مِضْمَارُ سَبْقٍ عَلَى الأَقْرَانِ وَافَاهُ رَأَى الْمَصَائِبَ بِالإِسْلاَمِ نَازِلَة مِنْ كُلِّ صَوْبٍ وَخَلْقُ اللهِ قَدْ تَاهُوا فَشَامَ سَيْفَ الْهُدَى فِي وَجْهِ مُغْتَصِبٍ عَاتٍ وَمُسْتَعْبَدٍ فِي الشَّعْبِ وَالاَه وَقَامَ يَدْعُو إِلَى الإِسْلاَمِ مُصْطَبرا عَلَى أَذَى الْقَوْمِ مُعْتَزًّا بِتَقْوَاهُ كَانَ انْطِلاَقُ الْفَتىَ فِي الْفِكْرِ مُسْتَنِدا إِلَى الْعَقِيــــــدَةِ ( رُكْنِ الْحَقِّ) مَبـــْدَاهُ
احترامه للأئمة ، وفتح باب الاجتهاد :
تمسك الإمام المودودي بما جاء في الكتاب والسنة، وأخذ بأقوال الأئمة المشهود لهم بالتقوى والفقه والصلاح، ...وكان – رحمه الله – يكره التقليد الأعمى، يقول الشيخ عبد الله قادري الأهدل :
وَلَيْسَ يَعْدِلُ بِالْوَحْيَيْنِ غَيْرَهمُا مَا دَامَ يُوجَدُ فِي الْوَحْيَيْنِ مَرْمَاهُ يَرَى الأْئِمَّةَ أَعْلاَماً وَرَمْزَ هُدًى يُفِيدُ مِنْهُمْ إِذَا أَفْتىَ فَتَاوَاهُ لَكِنَّـــــــــهُ يَكْرَهُ التَّقْلِيدَ مُـــــــلْتَزِما هُــــــدَى الإِلَهِ الَّذِي التَّقْلِيدُ نَــــــــاوَاهُ
وأشادَ الشاعرُ بفهم الإمام العميق الذي بزّ به أقرانه، ودخل معترك الحياة متسلحاً بإيمانه وأفكاره ، وكان شجاعاً، ثابتاً على الحق، لم تأخذه في الله لومة لائم :
وَكَانَ فِي فَهْمِهِ عُمْقٌ يَفُوقُ بِه مُعَاصِرِيهِ الأُولَى تَاقُوا لِعَلْيَاه غَاصَتْ مَدَارِكُهُ فِي كُلِّ مُعْتَركٍ مِنَ الْحَيَاةِ، فَأَنَّى سِرْتَ تَلْقَاهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي سَبِيلِ اللهِ تَأْخُذُه مَلاَمَةُ النَّاسِ وَالرَّحْمَنُ مَوْلاَه
وكان لا بدَّ من دخول الإمام المودودي السجن، لأن ذلك سنة الله في الدعوات :
قَالُوا: اسْجُنُوهُ فَـــــزَادَ السِّجْنُ قُوَّتَه قَــــــالُوا: اقْتُلُوهُ فَقَـــــــالَ اللَّهُ أَلْقَاهُ
تأسيس الجماعة الإسلامية :
لقد ربى الإمام شباباً، انخرطوا في صفوف الجماعة الإسلامية، أحبوا المودودي، وأحاطوا به كإحاطة السوار بالمعصم، وكان يركز دعوته على النخبة، فحوت جماعته الطبيب والقاضي، والتاجر .....
رَبَّى رِجَالاً عَلَى الإِسْلاَمِ َتْرْبِيَة فِيهَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا اللَّهُ أَوْلاَهُ بِهِ أَحَاطُوا عَلَى حُبٍّ وَتَضْحِيَةٍ كَمَا أَحَاطَتْ بِيَعْسُوبٍ خَلاَيَاه كُلُّ الْفِئَاتِ انْضَوَتْ فِي ظِلِّ دَعْوَتِه عَلَى الإِخَاءِ الَّذِي الرَّحْمَنُ يَرْضَاهُ هَذَا طَـــــبِيبٌ، وَذَا قَاضٍ، وَغَيْرُهُم مِـــــنْ عَامِلِين وَمَــــــــنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ
وألهب الإمام المودودي في جماعته مشاعر الحماس والثورة على الواقع الفاسد، فهبوا يدافعون عن قيم الإسلام، ويصلحون الواقع، ويسعون إلى النهضة :
وَأَلْهَبَ الرُّوحَ فِي الأَتْبَاعِ فَانْطَلَقُوا مَا فِي الصَّوَارِيخِ لِلأَتْبَاعِ أَشْبَاه رَاحُوا يَرُومُونَ تَغْيِيراً لِوَاقِعِنا مِنَ الْخُمُولِ وَمِنْ ذُلٍّ أَلِفْنَاهُ إِلَى النُّهُوضِ بِهَذَا الْجِيلِ حَيْثُ غَدَا هَمَّ الْفَقِيــــــدِ إِلَى أَنْ زَارَ مَثْـــــــــوَاهُ
موقف الإمام من التصوف :
وكان – رحمه الله – ينتقد التصوف السلبي، الذي يعتزل الحياة، ولا يهتم بالإصلاح والتغيير، حيث لا رهبانية في الإسلام، فمن سنن الله الخالدة أن يمنح خزائنه لأهل الجدّ والمثابرة، ويهبُ الكسلان الخزي والندامة :
وَكَانَ يُعْلِنُ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ كَما يَرَاهُ شَيْخُ الزَّوَايَا فِي زَوَايَاه بَلْ مَنْهَجٌ لِحَياةِ النَّاسِ أَجْمَعِهِمْ لاَ يَسْعَدُونَ إِذَا هُمْ عَنْهُ قَدْ تَاهُوا وَسُنَّــــــةُ اللَّهِ أَنْ تُعْطَى خَـــزَائِنُه مَنْ جَـــــــدَّ فِيهَا، وَلِلْكَســـــــْلاَنِ أَوَّاهُ
تحكيم الشريعة :
وكان هدف الإمام تحكيم شرع الله في أنظمة الحكم المختلفة، وفي جميع مناحي الحياة، فنحن نريدُ الفردَ المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة :
وَغَايَةُ السَّعْيِ فِي الدُّنْيَا إِقَامَتُهُ نِظَامَ حُكْمٍ عَلَى الإِسْلاَمِ مَبْنَاه وَغَسْلُ أَفْكَارِ هَذَا الْجِيلِ مِنْ درنٍ إِحْدَى وَسَائِلِهِ، وَالْغَرْسُ عُقْبَاهُ ثُمَّ اصْطِفَاءٌ لأَفْرَادٍ وَتَرْبِيَة فَسَلْكهُمْ فِي نِظَامٍ طَابَ مَغْزَاهُ يَلِيهِ سَعْيٌ إِلَى إِصْلاَحِ مُجْتَمَع يَرْضَى الشَّرِيعَةَ لاَ قَمْعٌ وَإِكْرَاهُ وَالْحُكْمُ إِنْ فَاتَهُ الإِصْلاَحُ كَانَ لَه مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي الطغْيَانُ يَهْوَاه
لقد جاهد المودودي من أجل توعية الشباب المثقفين، وتخليص أفكارهم من الشبهات والأدران، وتربيتهم على مبادئ الإسلام، والطهر، والفضيلة، ومن ثم إصلاح المجتمع، فالدولة، فالعالم. وجعل الإمام المودودي الحاكمية في مواجهة الجاهلية، فإما أن نختار منهج الله في الحياة، وإما أن نركض وراء الشيطان :
وَالْجَاهِلِيَّةُ عَرَّاهَا بِوَاقعِهَا فَبَانَ مِنْ قُبْحِهَا مَا كَانَ عَرَّاهُ وَصَاحِبُ الْحِقْدِ مَدْعُوٌّ لِتَوْبَتِهِ وَلِلرُّجُوعِ لإِرْثٍ قَدْ وَرِثْنَاهُ هَذِي مَآثِرُهُ تَحْكِي مَحَامِدَهُ جِيلٌ قَوِيٌّ بِوَحْيِ اللَّهِ زَكَّاه
وأظهر الشيخ الأهدل إعجابه بكتب الإمام المودودي التي أنارت طريق الجهاد للأجيال المعاصرة، فقال :
وَكُتْبُهُ قد غدت نُورا يُضِئُ لَنا دَرْبَ الْجِهَادِ الَّذِي جُيْناً أَضَعْنَاهُ وَقَدْ أَبَانَتْ لِبَاكِسْتَانَ دَعْوَتُهُ أَنَّ السَّعَادَةَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ
وكان الرئيس الشهيد ضياء الحق من تلاميذ الإمام المودودي، وقد سعى جاهداً خلال حكمه لتطبيق الشريعة :
وَقَــــد رَأَيْنَا ضِيَاءَ الْحَقِّ مُتَّجِهـاً لِلْحُكْمِ بِالشَّـــــــــرْعِ أَزْكَى اللَّهُ مَسْعَاهُ
ويعلن الشاعر حزنه على رحيل الإمام المودودي، ففقده لا يمكن أن يعوض بسهولة، لقد ترك برحيله فراغاً كبيراً في ميادين الدعوة والجهاد :
لَهْفِي عَلَيْكَ أَبَا الأَعْلَى وَقَدْ فَقَدَتْ بِفَقْدِكَ الأَرْضُ مِصْبَاحاً خَسِرْنَاهُ لَوْلاَ التَّأَسِّي وَأْمْرُ الصَّبْرِ مَا جَمَدَتْ لِلْمُسْلِمِ الْحَقِّ طُولَ الدَّهْرِ عَيْنَاهُ وَاللَّهَ نَسْأَلُ أَنْ تَغْشَاهُ رَحْمَتُهُ وَأَنْ يَكُونَ بِدَارِ الْخُلْدِ مَثْوَاهُ وَأَنْ يُوَاصِلَ جُنْدُ الْحَقِّ رِحْلَتَهُ حَتىَّ يُحَقِّقَ لِلإِسْلاَمِ مَرْمَاه
مناجاة الأستاذ ميّان طفيل :
ويخاطب الشاعر الأستاذ ميّان طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، ويحثه على مواصلة خط الإمام، والوفاء لنهجه، ومتابعة طريقه، فيقول :
تَابِعْ طُفَيْلُ خُطَا الْعِمْلاَقِ مُرْتَقِيا وَقُلْ لَهُمْ عَهْدُنَا مَا زَالَ مُنْعَقِدا وَفِي مَمَاتِ رَسُولِ اللَّهِ مُعْتَبَرٌ غَوْثَـــــــــــاهُ يَا رَبِّ لِلإِسْـــــــــــــــلاَمِ غَوْثَـــــــــــــاهُ بِالصَّحْبِ فَوْقَ ذُرَا نَصْرٍ تَمَنَّاهُ فَتَابِعُونِي عَلَى عَهْدٍ عَقَدْنَاهُ لِمَنْ تَأَسَّى كَمَا الصِّدِّيقُ أَبْدَاهُ بِرَكْبِ أَمْثَـــــــــــــــالِ شَـــــــــــــيْخٍ قَدْ فَقَدْنَــــــــاهُ
وكتب الشاعر المغربي قدور الورطاسي ( 1912 – 1994 ) : عدة قصائد نشرتها صحف ، ومجلات عصره، منها : «عبرات على أبي الأعلى المودودي» - نشرها في مجلة دعوة الحق – التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (ع10) - المغرب 1979 ....وغيرها كثير .
وأخيراً نقول :
لقد ولد الإمام المودودي في الهند، وتربى في أسرته على أخلاق الإسلام، وتلقى العلم على أيدي كبار العلماء، وعمل في الصحافة الإسلامية، وانخرط في حركة الخلافة، وعمل مع إقبال على قيام باكستان، وأسس الجماعة الإسلامية، وربى الأجيال على قيم الحق والخير والعدل والسلام، وألف الكتب، وألقى المحاضرات، وشارك في المؤتمرات، وكان عضواً مؤسساً لرابطة العالم الإسلامي في مكة، دخل السجون، وبقي وفيّاً لدعوته، صامداً في مواجهة الطواغيت، نادى بتطبيق الشريعة، وحمل مشعل التوحيد، والحاكمية، وعرّى الجاهليّة، وعاش حميداً، ومات سعيداً، فطوبى له، وحشرنا الله معه، مع النبيين، والصدّيقين، والشهداء والصالحين ...وحسن أولئك رفيقاً .
عمر محمد العبسو
عضو رابطة أدباء الشام
15 / آب / 2016 م
أهم مصادر الدراسة :
1- أبو الأعلى المودودي: حياته وفكره العقدي: حمد بن صادق الجمال – دار المدني
2- أبو الأعلى المودودي فكره ودعوته: د. سمير عبد الحميد إبراهيم – دار الأنصار
القلم – دمشق .
5- الإمام أبو الأعلى المودودي : حياته ، دعوته، مؤلفاته – رسالة ماجستير تقدم بها الباحث أليف الدين الترابي، في كلية الشريعة قسم الكتاب والسنة في جامعة أم القرى في مكة المكرمة ، عام 1403ه ، وتقع الرسالة في 357 صفحة .
6- علماء ومفكرون عرفتهم – محمد المجذوب – دار الاعتصام – مصر .
7- الإمام أبو الأعلى المودودي – مقالة عبد الله الطنطاوي، رابطة أدباء الشام .
8– ديوان الإيمان والتحدي، أحمد محمد الصديق، دار الضياء، الأردن ، ط1 ،
عام 1985م، ص 148، 153
9- شعراء وأدباء على منهج الأدب الإسلامي – د . محمد عادل الهاشمي : 59 .
10- ديوان ملحمة النور – محمد الحسناوي .
11- ديوان شموخاً أيتها المآذن – محمود مفلح .
12- مقالة عن الإمام المودودي في الشعر الموريتاني الحديث – بقلم: أ. محمد سالم
ولد محمدو – على مواقع الشبكة .
13 – موقع الأستاذ عصام العطار على الانترنت .
14—ديوان ميلاد أمة : الشاعر محمد محمود صيام (فلسطين) - ص 17 .
15-شروط النهضة – مالك بن نبي – دار الفكر بدمشق .
16- كلمة البشير الإبراهيمي ورسالته : نُشرت في العدد 232 من جريدة «البصائر»، 5 يونيو سنة 1953.
17-إدريس، أحمد: أبو الأعلى المَوْدودِي: صفحات من حياته وجهاده، ص(18-22).
18- ضناوي، محمد علي، الطريق إلى حكم إسلامي، ص(238-242).
19-أضواء على حركات الدعوة والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث – د. أحمد زايد – النداء
20- الإمام أبي الأعلى المودودي حياته، دعوته، جهاده – خليل أحمد الحامدي – مكتبة الرشد في الرياض عام 1403ه ، 71ص .
21- المودودي : ماله وما عليه – ط2- دار الاعتصام في القاهرة 1399ه .
22- المودودي ونتائج بحوثه وأفكاره – محمد زكريا الكاندهلوي – لائل فور باكستان – عام 1397ه ، 112 ص .
وسوم: العدد 692