فلسطين في شعر حيدر الغدير
للقضية الفلسطينية حضور قوي في وجدان كل عربي ومسلم، ولها في وجدان الشعراء والأدباء حضور آخر، حيث إنهم أقدر على التعبير عن مكنونات أنفسهم، وصياغة الوجدان الجمعي تعبيرا عن رؤية الأمة في قضاياها المصيرية. ولأن القضية الفلسطينية حية حاضرة متجددة بأحداثها المتوالية التي لم تنقطع يوما منذ ما يزيد على ستين عاما حين اغتصبت بمؤامرة دولية، فأعطى من يملك لمن لا يستحق، كما قيل.
وحيدر الغدير بشاعريته المتألقة تجاوب مع هذه القضية، وعايش أحداثها، وسجل رؤيته، ومشاعره نحوها، وتناول عدة أمور مهمة في القضية، يعد المسجد الأقصى في الذروة منها، حتى إنه سمى أحد دواوينه: غدا نأتيك يا أقصى!
ومن هنا أبدأ بما قاله عن الأقصى في ديوانه هذا ودواوينه الأخرى، ولنبدأ بالقصيدة التي حملت الديوان عنوانها (غدا نأتيك يا أقصى، ص 9)، حيث يعطي الأقصى عهدا بالتحرير، والخلاص من اليهود، وأن هذا الغد آت بإذن الله ومتحقق، فيقول:
لعهدك أيها الأقصى، وعهدك جمرة فينا
وحلم في مآقينا
ينادينا فلا ننسى، وكل خلية فينا هي الأخرى تنادينا
إلى الأقصى إلى الأقصى
وهذا الغد الآتي مرتبط بالماضي يأخذ منه شرعيته، وأمله، ويرسم طريقه، فهو ينظر إلى معركة النصر القادمة مع اليهود من خلال معركة حطين، وغزوة خيبر، فيقول:
سنأتي في غد نارا
وبركاناً وإعصارا
لنصنع مرة أخرى
وقد لاحت لنا البشرى
بعون الله حِطينا
ونغضب غضبة كبرى
ونصنع خَيبراً أخرى
ونحمي الأرض والدينا
والشاعر يرسم هوية هؤلاء الآتين إلى الأقصى غدا، فهم يحملون كتاب الله في أيديهم، وموعد الغد هذا في كتاب الله الذي يحملونه، إنه وعد الآخرة الذي إذا وقع أرسل الله عبادا فجاسوا خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، إنه الوعد الذي لا مناص منه، يقول حيدر الغدير:
غداً نأتيك يا أقصى
كتاب الله في يدنا، ينادينا لموعدنا
وموعدنا صباح ظافر ضاحك
وموعدهم مساء خاسر حالك
وإن الصبح يا باغون يا عادون يا قتلة
سيأتيكم ويأتينا، ليرديكم ويبقينا، فنمضي نَعْمُرُ الدنيا، ونمضي نحرس الدينا
غدا نأتيك يا أقصى سراعاً ذادةً خُمْصا
كتائب حرة تمضي، لصون الحق والعرض، ترى التحرير كالفرض
ولا ترتد أو تحصى، ولا تعصى، تنادي أيها الأقصى
لقد جئناك سارينا، مساعيراً ميامينا، كتاب الله هادينا، وصوت الثأر حادينا
وفي اليمنى مواضينا، وفي اليسرى أمانينا
لنزرع في روابينا، وقد طهرت رياحينا
ونهدي أهلها أمناً، وزيتوناً، ونسرينا
ونسقي من بغى سماً، وزقوماً، وغسلينا
فقل: يا رب آمينا.
فهؤلاء الآتون بيدهم كتاب الله يبنون ولا يهدمون، ويزرعون ولا يحرقون، وينشرون الأمن والسلام بدلا من الخوف والرعب، يزرعون الزيتون والورود، وتصون الأرض والعرض.
وفي ديوان (عادت لنا الخنساء قصيدة بعنوان: بل أنت يا أقصى لنا، ص 53)، يجعلها "برقية شعرية إلى المسجد الأقصى المبارك في ذكرى إحراقه" ويرى "في الأفق ملامح يوم قادم، فيه بشير ونذير، أما البشير فإنه يحمل للمسلمين أناشيد النصر، وأما النذير فإنه يحمل لليهود أصوات الناعين"، وهو يؤكد في هذه القصيدة أحقية المسلمين بالأقصى، كما أكد في قصيدته السابقة (غدا نأتيك يا أقصى) أنهم قادمون لتحرير من اليهود. ويكرر في هذه القصيدة عبارة (بل أنت يا أقصى لنا) في كل مقطع، كما كرر هناك (غدا نأتيك يا أقصى)، يقول الغدير:
بل أنت يا أقصى لنا والدهر يشهد والسنا ومعاهد ومساجد في القدس قد عزت بنا وحضارة ميمونة عمرت رحابك أزمنا شدنا صروح فخارها حسناً ينافس أحسنا
***
بل أنت يا أقصى لنا وتظل أنت الموطنا للمسلمين على المدى من قبلنا أو بعدنا أما اليهود فإنهم إفك تسلل موهنا وغداً يزول فإنه بالشر قام وأمعنا
***
بل أنت يا أقصى لنا وتظل يا أقصى لنا أما اليهود فربما يجدون قربك مدفنا
فالشاعر يؤكد على أحقية المسلمين بالأقصى، أما اليهود فإنهم إفك تسللوا بغير حق، فلا بد أن يزولوا يوما، وعند ذاك قد يجدون موضعا يكون قبرا لهم أو لا يجدون.
ويؤكد على هذه المعاني في قصيدته (يا حماة الأقصى، ص 59، من ديوان عادت لنا الخنساء)، حيث لا يمكن أن يعود الأقصى لنا، ولا يمكن أن نأتيه غدا من دون أن تقوم فئة مؤمنة مجاهدة تدافع عن الأقصى، امتثالا لأمر الله سبحانه، برد العدوان عن مساجده، والأقصى ثالث المساجد المقدسة في الإسلام، يقول الشاعر الغدير واصفا هؤلاء الحماة مناديا إياهم في بداية كل مقطع من القصيدة:
يا حماة الأقصى عليكم سلام أنتم السيف سلّه الإسلام وحفاظٌ من المروءات غالٍ ويقين فوق المدى واعتصام أنتم الأشجعون عقلاً وقلباً ركبوا كل شدّة وأقاموا
*****
يا حماة الأقصى عليكم سلام من ملايينَ لم تزل تشتام رادةً ذادةً فكنتم مناها ورجاها إذ تصدق الأحلام وطلعتم لها صقور اقتحام زان أحلامها فدىً واقتحام
*****
يا حماة الأقصى وأنتم بروق صادقات تهمي وأنتم سهام فوَّقتها الأقدارُ فهي جنود ليس تخطي إذا رمت فالهام أنتم النور في علاه ويوم سيّد حين تذكر الأيام وليوث تحمي العرين غضاب ما عراها يوم الكريهة ذام
فهذه الأوصاف التي أضفاها الشاعر على حماة الأقصى من الإيمان والشجاعة والريادة والصدق وحملة النور هي صفات الفئة المؤمنة المجاهدة التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ولذلك يطلب من سائر الأمة بلسانهم أن تعينهم في حربهم مع اليهود، فيقول:
أيها المسلمون لا تخذلونا نحن دين وإخوة وذمام انصرونا فنحن للقدس قمنا إنما ينصر الكرامَ الكرام قد دعانا إليه أغلى منادٍ فأجيبوا فإنه الإسلام
وحيدر الغدير التفت في عدد من قصائده إلى الرموز اليهودية المجرمة التي تقود الحرب على الإسلام والمسلمين في فلسطين كلها، وفي القدس والأقصى بخاصة، فقول في قصيدة بعنوان (أعماك حقدك، ص 67، من ديوان عادت لنا الخنساء)، ومن هؤلاء رموز دينية مؤثرة في المجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة، فوجه خطابه إلى "الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس في فلسطين المحتلة لما عرف عنه من سفاهة وبذاءة، حيث سب العرب سباً قبيحاً ودعا إلى إبادتهم وقطع نسلهم"، حسب المقدمة التي وطأ بها للقصيدة، يقول الغدير:
أعماك حقدك أيها الحاخام والحقد عند ذويه ليس ينام فهو الضنى فيهم وسم قاتل وسعار محموم الحشا وضِرام يسطو بهم ويسومهم ويشينهم فإذا بهم في أسره أيتام يتطاولون وهم أذل من الحصى وهم الدمى تلهو بها الأقوام ويفاخرون وهم عبيد ضلاله ويسابقون وهم به أقزام ويكابرون وهم بقايا أنفس محقورة لم يطوهن رجام
ويكرر في كل مقطع من القصيدة الشطر الأول: "أعماك حقدك أيها الحاخام "للدلالة على شدة تفاعله مع الموقف السيئ لهذا الحاخام، بما جعله يصب غضبه عله سياطا لاهبة موجعة.
وفي قصيدة (ونحن الحق، ص 51، من ديوان عادت لنا الخنساء) وقفة أخرى للشاعر حيدر الغدير مع الحاخام عوفاديا، فيوجه "برقية شعرية إلى حاخام جاهل" يقول في مقدمة القصيدة: " قال الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس في المسلمين كلاماً سيئاً يمتلئ بالحقد والشر والكفر والجهل، معتمداً في ذلك على التلمود، فباح ببعض ما في صدره وما في تلموده من آثام"، ويختم قصيدته قائلا: تأمل أيها الحاخام دهراً وتاريخاً لكم بالإثم فاحا لتعلم أن دولتكم ستمضي كحلم مرَّ لمحاً ثم راحا وما تبقى الزيوف وإن تمادت ويبقى الحق ما الإصباح لاحا ونحن الحق يا حاخام نبقى لنملأ هذه الدنيا صلاحا وأمجاداً مطهرة حساناً لبسن على وضاءتها السماحا وأنتم في غد خبر دميم يقيم عليه أهلوكم نواحا
وفي قصيدة بعنوان (احفر ضريحك، ص 73، من ديوان عادت لنا الخنساء)، يخاطب مجرم الحرب شارون في دولة إسرائيل المغتصبة، عندما تمادى في عدوانه على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وغيرهما، فرأى الشاعر في ذلك التمادي قرب نهاية الظالم، فاختار لقصيدته هذا العنوان اللافت للنظر، فيقول بعد أن يعدد جرائمه التي فاق بها مجرمي الحرب المشاهير في التاريخ من أمثال جنكيز خان في الشرق، ونيرون في الغرب، يخاطبه قائلا:
يا أيها الغرُّ الذي أزرت به أحلامه الحمقى وهن منون هلاّ أفقت ولن تفيق وإنما يصحو الفتى الميمون لا الملعون إبليس أورثك العناد بكبره فإذا بك المغرور والمفتون وغداً ستعنو للقصاص لأننا آتون كالأقدار يا شارون فاحفر ضريحك كي يضمك جثة أوْ، لا، فإنك في العرا مدفون تذرو بقاياك الرياح ذميمة وتعافها الحشرات حيث تكون
وتوجه الشاعر الغدير إلى شارون بقصيدة أخرى بعنوان (الصبح موعدكم، ص 84، من ديوان عادت لنا الخنساء)، وخطاب العنوان بضمير جمع المخاطب المقصود به اليهود الإسرائيليون كلهم، وخصص فيها شارون بالخطاب لأنه هو الذي كان يقود الأعمال الحربية الإجرامية ضد غزة خاصة، يقول الشاعر مخاطبا الإسرائيليين:
والشرق نحن يحيطكم والمغربُ الصبح موعدكم فأين المهربُ؟ تعدو بكم وهي الضلال الأكذب أدمنتم الآثام وهي سخائم أنـّى اتجهتم حاضرون وغيّب في أسرها أنتم وفي غمراتها تملي عليكم ما تشاء وتكتب أعمت خطاكم فالجهالة دينكم
وأذل من رأت القرون وأعجب
أنتم خلاصة سمّها وزيوفها
ثم يتوجه بالخطاب إلى شارون بعد أن يصفه بأوصافه من النقيصة والغرور والفساد والمكر، فيقول:
فاستقبلوا يوم الردى وتأهبوا شارون إن الظلم يقتل أهله رعناء أغراها سراب خلّب لمصيركم إذ تنطوون كفرية تبقى لنا ولها الجلال الأرحب والقدس مصيدة الطغاة ولحدهم وجنوده من كل صوب موكب والخالد الإسلام في أعراسه
فالشاعر في مطلع القصيدة أشار إلى الآية الكريمة التي أوعدت قوم لوط بالعذاب، فقال تعالى على لسان ملائكته مخاطبين لوطا عليه السلام، يبثون في نفسه الطمأنينة: [إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب]، وهكذا يعطينا الشاعر هذا المعنى الدلالي العميق بقرب نهاية الظالمين. وفي البيت ما قبل الآخر ذكر الشاعر القدس، وأنها مصيدة الطغاة ولحدهم، فكم غزاها من طغاة وظالمين، وآل أمرهم إلى الزوال!.
وفي قصيدته (أيها المعتدون، ص 105، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى) يرسل الشاعر كلماته شواظا من نار على المعتدين، وعلى رأسهم شارون، وفي مقدمة نثرية يوجه قصيدته رسالة مفتوحة: "إلى شارون ومَنْ معه، ومن قبله، ومن بعده، من أعداء الدين والوطن، والأرض والعرض، والحرية والعدل، والشجر والبشر، والهواء والماء، في فلسطين المحتلة." ويقول في مطلع القصيدة:
أيها المعتدون كيف النجاءُ نحن طلاّبكم ونحن القضاءُ أنتم الظالمون والظلم يردي صانعيه فهم به أشقياء سنة الله منذ كانت وتبقى أنْ سيأتي مثل الصنيع الجزاء
ويظهر الشاعر تماسك الأمة في وجه الاعتداء الصهيوني، والظلم اليهودي على فلسطين والقدس والأقصى وشعبها، ويعرب عن يقينه بزوال العدوان والظلم مهما تكبر وتجبر، فيقول:
أيها الراكضون في القدس تيهاً أنتم الواهمون والأغبياء إنكم فلتة وتمضي سريعاً كالسوافي، وفرية رعناء وبقايا من الخرافات حمقى زوّرتها السخائم الشوهاء لن تظلوا في دارنا غير ليل وضحاه ثم المآل هباء
وهنا يستنجد الشاعر بالرموز التاريخية التي صنع الله سبحانه النصر على يدها فيذكر عددا من الأسماء، ويتبعها بأسماء معاصرة أيضا، فيقول:
أيها المعتدون نحن المنايا قاهرات ومالها إبطاء نحن آتون عنوة واقتداراً وسيوفاً ظمأى ونحن ظماء كلنا حمزة وزيد وسعد والمثنى ومصعب والبراء والحسينيّ يوم هب فأبلى والشهيد القسام وهو اللواء وعبير وبسمة وسعاد وسناء وفاطم ووفاء والمصونات من ذؤابات قومي هن زهر المنى وهن العطاء يتنافسن في الثواب احتساباً مسرعات وحين يدعو النداء في الطريق الذي مشته قديماً وهي تتلو أسماء والخنساء ومشته البتول «آيات»( وجُذاها الآيات والآلاء سيدٌ إثر سيدٍ وفتاة إثر أخرى ويصعب الإحصاء
وبذلك يرسم لوحة جميلة من صور وتاريخ هذه الأسماء العظيمة رحالا ونساء، وفتيانا وفتيات، بما يؤكد زوال دولة قتلة الأنبياء في فلسطين أرض الأنبياء.
وفي قصيدة بعنوان (شَرَك، ص 105، من ديوان عادت لنا الخنساء) يتحدث حيدر الغدير عن البغي بصفة عامة، وعاقبته السيئة، وأن شرك لصاحبه يرديه ولو بعد، كما قدم بذلك للقصيدة. وهو في السياق يقدم المثال الواضح والصارخ لهذا البغي والباغي وعاقبته المنتظرة اليهود، فيقول عن المعاملة الحسنة من المسلمين لليهود، ثم بغيهم على المسلمين:
منا السخاء وكان الخوف قد هرأه جاء اليهوديُّ يرجونا فأمَّنه سوط من الرعب مثل السيف قد وجأه أنـّى مشى في فجاج الأرض أرّقه والسوء يسكن أخراه ومبتدأه حياته نقمة من بعدها نقم
ونحن من حاطه فيه ومن كلأه
وَوَحْدَنا نحن من أهداه مأمنه
وهذا الذي يذكره الشاعر وصف لحالة اليهود في بلاد كثيرة عبر التاريخ وآخرها ما تعرضوا له في الأندلس من إبادة وتهجير مع من هجر من المسلمين إلى المغرب وإلى الدولة العثمانية، فأقاموا فيها في دعة وأمن وسلام، ولكن قابلوا المعروف بالإنكار، وكشفوا عن جلد الذئب بعد الظهور بثوب الحمل، يقول الشاعر:
حتى تفرعن والشيطان من درأه دار الزمان بنا في غفلة وبه كما يعيث بها الطاغوت والـهُـزَأة فسار في الأرض إعصاراً يعيث بها والوهم قد طمّه والبغي قد ردأه وجاءنا مجرماً تغلي سخائمه نيرانه ورجوماً حُمِّلت وبأه يُصْلي حمانا الذي آواه ملتجئاً وسوف يصرعه جهراً وإن نسأه إن الغدور له من بغيه شرك تذرو السوافي إلى كل الدنى نبأه غداً سيقتله في لمحة وغداً
فهذه حالتنا مع اليهود، وإن غدا لناظره قريب.
وحيدر الغدير مسكون بهم المسجد الأقصى وعودته إلى المسلمين، وعندما يتلاشى الأمل القريب في الواقع الذي نعيشه للأمة لا يصيبه اليأس، وينبعث الأمل لديه في الحلم ولو في سنة من النوم، وهكذا يعنون لقصيدته بـ (أمل، ص71، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقدم لها بهذه المقدمة الكاشفة عن لحظة التجربة الشعرية التي ولدت القصيدة، فيقول: "في سِنةٍ أصدق من النوم واليقظة، رأيت أمل المسلمين في عودة الأقصى عزيزاً محرراً قد تحقق، وبعض الآمال كبعض الرؤى تأتي مثل فلق الصبح."
ويصف لنا أمل الفتح هذا أنه يطوي اليهود في فلسطين كما طواهم من قبل في خيبر وقريظة، وهو يستند إلى حديث البشارة بقتل اليهود على يد المسلمين حتى إن الحجر والشجر سينادي هذا يهودي مختبئ ورائي تعال فاقتله! وسيكون ذلك القائد مثل من سبقه من فاتحي القدس الفاروق أولا، ثم صلاح الدين ثانيا، فيقول:
أمل يضيء وبالبشائر يبرقُ جذلان يستبق الخطوب فيسبقُ أملي الذي ملأ الجوانح بهجة ومشى بما أرجو وأزهو يغدق أني سمعت الثأر يدعو أمتي فإذا صداه وقد تهادى الفيلق يمضي به ويقوده ذو همة للنصر فيه أو الممات تشوق يطوي اليهود كما طوتهم خيبر وطوى قريظة يوم خانوا الخندق حتى الحجارة سوف تصبح عونه في زحفه يوم اللقاء وتنطق والموعد الأقصى وراية أحمد ستجوز آفاق السماء وتخفق والفاتح المنصور بين جنوده بالنصر زاه بالوقار مطوق عنت اليهود لأمره وجبينه لله عان مستكين مطرق وسعى له الفاروق يشكر صنعه وصلاح وهو بشاشة تتدفق وتعانقوا فإذا الجميع قلادة قبل الصدور على القلوب تعلق وعلا على الأقصى الأذان مظفراً فإذا العيون بدمعها تغرورق
والشاعر يعيش هذا الأمل هاجسا لا يفارقه، لأنه عقيدة يؤمن بها، فهو جزء من كيانه في اليقظة والنوم، فيقول فيه أكثر من قصيدة، ويكرر ذكره في سياق قصائده الأخرى، ويرقب الفاتح الثالث للقدس، ويسميه (الثالث الميمون، ص97، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، ويقدم لها قائلا: "إلى الثالث الميمون الذي سينقذ القدس من الاحتلال اليهودي، كما فعل من قبل الفاتحان العظيمان: عمر بن الخطاب الذي أنقذها من الاحتلال الروماني، وصلاح الدين الأيوبي الذي أنقذها من الاحتلال الصليبي. إليه وهو من ترقبه الأمة بإجلال واشتياق، وقد صار لها سري رؤاها، ونجي مناها، وحلمها الدائم" ويبحث عنه في كل مكان؛ في الأرض وفي السماء، ممتطيا أحلامه، وخواطره البيض، ومصطحبا طيوفا لا ترى من الأصحاب، فيقول مجيبا من يسأله:
وتسألني الأفلاك عما أريده فأهتف حتى أسمع الصم والبكما وحتى تراني الشمس في الناس حادياً أهز موات الحي والميت قد رمَّا أريد الفتى الآتي على صهوة الردى إلى القدس مثل السيف يستأصل الظلما يحرر أقصاها ويحمي ذمارها ويمحو عن التاريخ والأمة الوصما هو الثالث الميمون والله صاغه فكان الفتى السباق والهدي والحزما أمانيه «محض الرشد في محض قدرة» وراياته الأمجاد لم تعرف الغشما إليه ومنه اليوم وهج قصيدتي وحب إذا طال انتظاري له أرمى
وهكذا يجعل الشاعر قصائده إلى هذا الثالث الميمون الفاتح المنتظر للقدس، ومنه تتفجر تعابير سامية محلقة في الفضاءات العالية. ويناديه واصفا إياه سليل العلا، ويبثه ما يعيثه اليهود من فساد في القدس الطاهرة، طالبا أن يطهرها من فسادهم ورجسهم، فيقول:
سليل العلا في القدس تعبث عصبة على الغدر والعصيان قد نشأت قِدْما وفَيْنا لهم دوماً فخانوا عهودنا وصاروا لنا حرباً وكنا لهم سلما تداعوا إلى القدس التي نحن أهلها وفيهم سُعار كالجنون أو الحمى أتوها نفوساً كالحاتٍ دميمةً وأفئدةً حرّى وأغربةً عُصْما فيا ويحها تصلى بنيران بطشهم فأيامها شكوى وأرجاؤها كَلْمَى تنادي علينا راعفاتٍ جراحُها ألا من شجاع إن رمى سهمَه أصمى ونادت مع القدس الأسيرة صبية وطفل رضيع كابد الجوع واليتما ونادت محاريب ونادت قوانت نريد خيولَ الثأرِ لا النثرَ والنظما
ويلتفت الشاعر حوله، وينظر هنا وهناك، وتدور عيون الملهوفين، ويتراءى له قادم، فيقول الشاعر: كنه أيها الثالث الميمون منقذ القدس من اليهود:
ودارت عيون الناس تستشرف المنى تسائل أين الشهم؟ هل جاء أم لمَّا فكنه؛ تكن للقدس أروع مفتد وكنه؛ تكن للقدس فارسها الشهما وإن لنا في القدس يوماً مظفراً يكون لنا عيداً ويغدو لهم شؤما ولا بد أن يأتي ففي الآي وعده وفي السنة الزهراء والنخوة العظمى وفيه ستعلو في فلسطين راية عليها سنا التوحيد صافحت النجما
غير أن رفاقه ليسوا معه في الرؤية والرؤيا المباركة المتفائلة، ويستبعدون ما يتوقعه، واصفين ذلك بأنه خيال شاعر، يعيش في غير واقعه وعالمه، فيجيبهم:
يقول رفاقي: إنه حُلْمُ شاعرٍ فقلت: هبوه نحن من يجعل الحُلْما حقائقَ مثلَ الشمس والناس والدنا وقد شمخت هاماً وقد كرمت حِلْما ونحن سنبقى، واليهودُ خُرافةٌ ستمضي وتغدو مثلهم في الدنا ذما حقائق هذا اليوم أحلام أمسنا وها هو حلم اليوم من غدنا أوما يقول: غدُ الإسلام مجدٌ مظفرٌ سيأتي كما يأتي القضاء إذا حما
وإذ يرد على رفاقه المثبطين فإنه يرى في حماة الأقصى، والمجاهدين في أكناف بيت المقدس إرهاصات قدوم ذلك الثالث الميمون، فيقول:
أحيي بأولى القبلتين عصابةً إذا هي قالت كانت العمل الضخما يباركها الله الذي بارك الحمى وجلت مقادير الإله لها حكما تنادت لتحمي الأرضَ والعرضَ والهدى وتفدي ثرى الأقصى العزيز وما ضمّا على يدها اليمنى كتاب وسنة وفي يدها اليسرى تلاقي القنا الصما كتائب فيها ألْفُ عمرٍو وخالدٍ وألف همُامٍ يأنف الذل والضيما وألف حَصَانٍ تقتدي بسميةٍ وقد عشقت حب الشهادة أو أسما وشيب وشبان وطفل وصبية وفيهم عناد الحر لا يعرف السوما على كفهم مقلاع داود ظافراً وداود منا، نحن منه، ولا لوما
وفي البيت الأخير يوغل الشاعر في التاريخ؛ تاريخ بين إسرائيل أنفسهم، فيجعل مقلاع أطفال الحجارة مقلاع داود عليه السلام الذي يجعله اليهود أحد أعمدة عز دولتهم في الماضي، فيقلب الشاعر عليهم الأمر ويقول: إن داود رسول حق في سلسلة مواكب الأنبياء والرسل، فهو منا ونحن منه، وهؤلاء الظالمون المعتدون ليس لهم منه شيء.
ويأوي الشاعر إلى الراحة بعد ذلك الجدل بينه وبين رفاقه المشككين في أحلامه فتأخذ غفوة يرى فيها ما يراه من قبل، كأنه رأي العين فإذا هم؛ هم أنفسهم الثلاثة الميامين، فاتحي القدس السابقين والثالث المنتظر، فيقول مصورا رؤياه:
ومر بنا طيفٌ ملامحه الرضا وإن عليه من بشاشته بَسْما فقال: تأملْ هاهناك بشارة عليها الوعود الخضر ضاحكةً شَمَّا تأملتها حيناً فكانت ثلاثةً هم النصر لم يعرف خداعاً ولا إثما هنا عمر الفاروق يسجد شاكراً هناك صلاح الدين بالمجد معتما وثالثهم لم أبصر اليوم وجهه ولكنه بدر السماء إذا تما منِ الثالثُ الميمونُ؟ الله وحده سيأتي به نعمى ويأتي به رغما أكان اسمه عمراً؟ أكان عبادةً؟ أنا لا أسميه، فربي الذي سمى
وهكذا نكاد نرى ما يراه الشاعر بأم أعيننا يقظة لا مناما، لقوة إحساسه بما يعتقد من قرب تحرير فلسطين والقدس والأقصى.
وتتكرر هذه الرؤية والرؤيا لدى الشاعر في قصيدته (صباح مؤمن، ص88، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، فيقول: "رأيت فارساً من فرسان الفتح، على صهوة جواد أبيض فحملني هذه البشارة." فقد كان الشاعر في جو حزين لما يقع في القدس من عدوان اليهود، فتأتيه البشارة لتفرج همه وكربه، وتبعث الأمل بالنصر القريب، فيصور لنن الجو الذي كان فيه فيقول:
أطرقت في أسف حزيناً مَوهَنا والليل يمضي مثل حالي مُوهَنا والنجم مثلي ناظري ومسامري أرنو له وأراه نحوي قد رنا والقدس أحزان تطول ثقيلة تغشى الديار وأهلها والأعينا فطيورها تشدو ولكن للشجا وأذانها يعلو ولكنْ محزنا والمسلمون عدا عليهم وهنهم والوهن أفتك بالذليل من القنا
ففي هذا الجو الكئيب الحزين الثقيل تأتيه البشارة:
ولمحت في الظلماء صهوة فارس يعدو فيسبق نفسه حتى دنا من أنت؟ قلت: أخالد أم طارق أم سعد أم عمرو؟ أجبني إننا نهفو لمثلك نحن حولك أمة طالت مواجعها وطال بها العنا والقدس ترقب مثل سيفك ظافراً والناس والتاريخ يرقب والدنا من أنت يا أغلى البشارات التي شمنا بها الوعد المظفر والمنى
فيأتيه الجواب من ذلك الفارس:
فأجاب: كل المسلمين أنا همُ وأجاب: كلُّ الفاتحين همُ أنا هم أرسلوني كي أزف بشارة لك، بل لهم، بل لي سناها، بل لنا النصر آت قد دنت أقداره فأجبت في لهف وطار بي الهنا ماذا ومن ومتى وأين الملتقى!؟ فأجاب حيث المسلمون وهاهنا
ويخاطب القدس في ختام قصيدته، معرفا بعنوانها: صباح مؤمن، فيقول:
يا قدس موعدنا صباح مؤمن يأتي به الأنجاد نضراً مؤمنا صنعوه من نصر تزيّن بالتقى وتزيّنوا للقائه وتزيّنا هم مؤمنون ومحسنون فهل ترى نصراً لهم إلا نبيلاً محسنا
وهذه الرؤية المستبشرة لا تغادر الشاعر، ونجدها في سياق قصائد أخرى، يقول في قصيدته (غدا نأتيك يا أقصى، ص9)
سنلقى نصرنا طلقا، يعانق حسنه الحقا، ويقفو رعده البرقا
على أهداب مئذنة، وفي أوراق سوسنة، وفي إنشاد مؤمنة
وفي أحلام رابية، وفي ماء وساقية
وفي يافا، وفي عكا، وفي صفد، وفي الرملة
وفي النارنج والليمون والتفاح والفل، سقاها الطل في الليل
وفي زيد، وفي سعد، وفي حسنى، وفي لبنى
وفي الخيل التي تعدو، وفي الطير التي تشدو
وبعد هذه الجولة في كل مكان استطاع أن يفكر به، ويستذكره يلتقي الفاتحين الثلاثة فيقول:
ونلقى الفاتح الأولْ، أبا حفص بهيبته
ونلقى الفاتح الثاني، صلاحاً في وضاءته
ونلقى الفاتح الثالثْ، فنعرفه بطلعته
وقامته التي شمخت، وسطوته، ورحمته
ونسجد كلنا شكراً، لواهب زحفنا النصرا
ونقف في ختام تجوالنا مع الشاعر حيدر الغدير في حدائق رياضه الشعرية على أرض فلسطين، وفي ربوع القدس الشريف، وفي المسجد الأقصى المبارك؛ نقف مع أولئك النخبة الأطهر الذي اختارهم الله سبحانه تكرمة شهداء في سبيله فكتب لهم حياة دائمة إذ يظنهم الناس أمواتا، فيقول في قصيدة (الشهداء، ص74، من ديوان عادت لنا الخنساء) وقد جعل إهداءها: "إلى الشهيدة السعيدة، الصغيرة الكبيرة، آيات الأخرس ومَنْ قبلها ومَنْ بعدها من أبطال فلسطين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، الذين يصنعون للأمة نصرها القادم بدمائهم الطاهرة."
أنتم الباذلون والأوفياء أنتم الخالدون والأصفياء والذؤابات باركتها السماء أنتم المفتدون أرضاً وعرضاً بردتاه هما السنا والسناء إن أغلى ما في الحياة شهيد مجدها باذخاً هم الشهداء والذي يصنع الحياة ويبني
والشاعر جعل قصيدته هذه للشهداء عامة، فلم يذكر فيها أسماء بعينها من فلسطين ولا غيرها، إلا أنه ربها بأرض الإسراء فقال وهو يصف جراح الشهيد:
والهتاف الذي لديه دعاء الجراح التي عليه هتاف والبراق الذي له إسراء والدعاء الذي لديه براق سطرته قصيدة عصماء وله من فم الزمان ثناء
وللشاعر وقفة مع الأم الفلسطينية التي تدفع بابنها إلى الجهاد والشهادة راضية، ثابتة الجنان، فهو يوجه إلى تحية إكبار وتقدير، ويجعل مثالا للأمهات المجاهدات اللاتي أعدن سيرة الخنساء، وخصوصا أن القصيدة في ديوان (عادت لنا الخنساء، ص79، بعنوان أودعتك الله)، يقول في إهداء القصيدة: "إلى الأم الفلسطينية البطلة التي جاء ابنها يستأذنها ويودعها قبل انطلاقه إلى عملية استشهادية، فشجعته ودعت له وربطت على قلبه، وهي في غاية السعادة والثبات، ذلك أنها على يقين أنه ذاهب ليموت فيحيا." فهو من هنا يشبهها بأسماء بنت أبي بكر الصديق، وبالخنساء رضي الله عنهما:
وأنت ــ واليوم صنوُ الأمس ــ خنساء بل أنت في عزة الإيمان أسماء
ويصور موقف النساء الأخريات اللاتي لا يملكن شجاعتها ويقينها فيقول:
وكيف أهدت فتاها؟ أهي حمقاء؟ يركضن يسألن من هذي؟ وكيف أتت؟ يقينها وهو أطياف ولألاء كلا ولكنها أم تملّكها وقلبها بالرضا مسك وأنداء فباعت الله أغلى ما حباه لها
وهذا موقف صعب على الرجال، فضلا عن المرأة، فما بالك بالأم تدفع فلذة كبدها على الموت! يقول الشاعر في وصف موقف الوداع:
والصمت بوح وإغماض وإغفاء أتأذنين؟ وسال الدمع مؤتلقاً وللسرائر إخفاء وإفشاء وللعيون ابتهالات وأدعية وما عراهن فيما قلن إعياء قالتْ وما نبستْ، أغضتْ وما سكتتْ وللسؤال كما للدمع إملاء والدمع يملي وللأشواق لهفتها أني سأفقده والخوف إزراء أذنتُ، كلا، نعم، قلبي يحدثني والإذن كالمنع ضرّاء وسراء إذن تلين قناتي وهي شامخة إني أذنت ولا عَوْد وإبطاء من قال أفقده؟ إني سأربحه من عشقه وهو إعتاق وإرضاء؟ إني أذنت، وقل لي، كيف أمنعه في هجعة الناس قوَّام وبَكَّاء وَهْو الجدير بما يرجوه وَهْو فتى
هذا الموقف المشحون بالعواطف الجياشة المتناقضة المتضاربة، تنتصر فيها الأم بعقيدتها وبإيمانها بسمو الشهادة، ومكانة الشهيد عند الله سبحانه، وترى في استشهاد ولدها ربحا لا خسارة، لذلك تأذن له راضية قائلة بلسان حالها:
وموته عرسه والسعد مشّاء يا موت خذه فتى يحمي عرينته وفي يميني التي ربته حِنّاء في عرسه سوف تلقوني مزغردة
وتدعو الله سبحانه، مسمعة ولدها أنه وديعة عند الله، وعند الله لا تضيع الودائع:
والملتقى جنة زهراء غناء أودعتك الله جل الله يا ولدي
وينطلق ولدها فتخر لله ساجدة شاكرة:
تبكي وتضحك والحالان نعماء وخرّت الأم للرحمن ساجدة وحولها الملأ الأعلى وقد جاؤوا وروحها في سماوات عَلَوْنَ بها والبشر من حولها روّاحُ غدّاء والطير تشدو لها والسعد توأمها إلى الشهادة فهي الحلم والماء قالت: أيا رب إن ابني به ظمأ والعشق توق وأفراح ولأواء إن الشهادة حسناء تعشَّقها وللجنون ابتهالات وإيحاء يعتاده فهو مجنون به كلف على ثرى القدس والأعضاء أشلاء ورِيُّه دمه ينهلُّ في مَرَحٍ يساكن الطير جذلى وهي خضراء هبها له إنه أهل لها وبها وبسمتي كالدنى الفيحاء فيحاء وإن ينلها فإني فرحة سرحت وهو المنى البيض جادتهن سحّاء أمّا رضاك فأغلى ما نؤمله
وقد أبدع الشاعر في وصف حالة الأم التي ودعت ولدها، وما جال في خاطرها من أفكار ومعان، وما يؤمله الفتى الذي ذهب لمواجهة الموت النبيل راضيا مشتاقا.
ويختم هذه القصيدة الرائعة بأبعادها المعنوية والنفسية، وحسن رصدها وتصويرها، مشيدا بفعلها الإيماني الذي يندر أمثاله في التاريخ، فيقول:
يروى وتتبعه هند وشيماء لله أنت وتبقين المدى مثلاً برئت من وهننا إذ غالنا الداء شجاعة أنت، لا بل أنت أشجعنا ومن قضوا في سبيل الله أحياء والوهن موت الفتى من قبل موعده
وبهذا نستطيع القول: إن فلسطين عامة، والقدس والأقصى بخاصة هي في بؤرة اهتمام الشاعر حيدر الغدير، وقصائده فيها ليست قصائد مناسبات، وإنما هي تفاعل مع قضية مصيرية مقدسة لدى المسلمين، وينطلق في رؤيته للقضية التي تحولت إلى رؤى حالمة دائمة؛ ينطلق فيها من عقيدة راسخة بما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من حتمية الصراع بين المسلمين واليهود، وحتمية انتصار المسلمين، لذلك فهو لا يأبه للمثبطين، ويشد على يد المجاهدين، ويبارك مواقف المجاهدات.
وقد تصدى في قصائده لبعض زعماء اليهود الدينيين مثل الحاخام عوفاديا يوسف، والسياسيين مثل شارون، واستقى كثيرا من الأمل بالنصر من مواقف أبطال المسلمين من الصحابة ومن بعدهم الذين عملوا على تحرير بيت المقدس، حتى موقف انتصار داود عليه السلام مع الملك طالوت جعله نصرا للمسلمين، وليس لليهود، وذلك انطلاقا من وحدة الدين الحق.
وفي رأيي يبقى ما كتبه دون المتوقع من شاعر تمكنت القضية الفلسطينية من قلبه إلى هذا الحد، فبالتأمل في مجمل القصائد نجدها عامة، سيطرت عليها شمولية المعاني بما يمكن وصفه بالتكرار، ولم نجد قصائد في رموز القضية الفلسطينية لا مدحا وإشادة، ولا ندبا ورثاء، ولم يمر ذكرهم إلا أسماء عابرة من دون توقف وإضاءة.
ألا يستحق عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وأحمد ياسين والرنتيسي وغيرهم قصائد مستقلة؟ وألا تستحق مدن مثل القدس، والخليل ونابلس وجنين وغزة ورفح وغيرها قصائد مستقلة؟
إن فلسطين وما فيها ومن فيها وما مر عليها تستحق ملحمة شعرية متكاملة مستقلة على غرار ما كتبه الشاعر عدنان النحوي من ملاحم؛ ملحمة الأقصى، ملحمة القدس، وملحمة فلسطين، وملحمة جنين وغيرها. وإن الوقوف عند الصور الجزئية في أحيان كثيرة لها مدلول عميق بالإحساس بالشيء، مثل تصويره موقف الأم التي ودعت ولدها في قصيدة: أودعتك الله! في ديوانه عادت لنا الخنساء.
([1]) هي إحدى الشهيدات الفلسطينيات.
وسوم: العدد 692