مكة المكرمة في شعر حيدر الغدير
تعد مكة المكرمة المدينة المقدسة الأولى لدى المسلمين، لكونها تحتضن البيت الحرام [أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا]. والكعبة المشرفة قبلة المسلمين التي رضيها الله سبحانه لهم، قال تعالى: [قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام] الآية. لذلك من الطبيعي أن يصوغ شاعر مسلم مرهف الحس مشاعره الإيمانية شعرا متلألئا يعبر فيه عن حبه لهذه المدينة المقدسة التي يتوجه نحوها بصلواته في فرائضها، وسننها ونوافلها التي يتقرب بها إلى الله سبحانه، ثم هو يحج ويعتمر إليها، وإن لم يستطع فقلبه متعلق بذلك مادام حيا.
ففي (ص 114، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى) نجد قصيدة بعنوان: حللت على نعماك يقول فيها مقدما بكلمة نثرية: " إلى أكرم المدائن وأجلها، مكة المكرمة، حرسها الله." ويبدأ القصيدة معبرا عن استجابته للدعوة المباركة التي انطلقت من إبراهيم عليه السلام بأمر الله سبحانه في عالم الغيب، إذ أذن في الناس بالحج، فإذا هم يأتون رجالا وركبانا وعلى كل ضامر من كل فج عميق، ولكن لشاعرنا مطية مختلفة عن مطايا الناس، فهو يمتطي آماله، وركائبه هذه أمضى من ركائب القوافل، فيقول:
أتيتك آمالي إليك ركائبي وهنّ ــ وقيت السوء ــ أمضى نجائبي رحلن بقلبي والسُرى ما ألفنه بلوعة مشتاق وعزم محارب وما كنت وحدي فالأنام قوافل إليك توالى عَبْرَ أَفْيَحَ لاحب مشى فيه جيل إثر جيل وأسمعت أناشيدهم فيه قصي الكواكب
وهذه في الحقيقة رحلة الروح، التي تسبق رحلة الجسد، وتصاحبه، فآماله رحلت بقلبه بلوعة المشتاق، وعزم المحارب، وليس هو بدعا في هذه الرحلة، بل الأنام تسير عبر الأمكنة والأزمنة قوافل تتوالى ولا تتوانى، جيلا بعد جيل، وأناشيدهم التي تحدوهم (لبيك اللهم لبيك) تبلغ قصي الكواكب مرتفعة إلى السماء.
فالشاعر في هذا المطلع يضع نفسه في سياق مواكب الحجيج منذ ذلك النداء المبارك، فيقول:
مشى فيه إبراهيم والناس بعده غداة دعاهم تائباً إثر تائب وسار عليه سيد الخلق أحمد فجلّ بنور منه أزهر ثاقب
ونجد في هذه الأبيات استمرارية الزمان من الماضي، إلى الحاضر، إلى المستقبل، فقد بدأ بإبراهيم عليه السلام باني البيت الحرام، والداعي الأول إليه، حتى وصل إلى سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فجدد معالم دعوة إبراهيم، ثم ها هو ذا شاعرنا ينضم إلى مواكب المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، ويؤكد بقاء تلك الدعوة:
وباقٍ ويبقى والزمان امتداده
على بيض أيام وسود نوائب
ويمتلئ الشاعر بمشاعر الأمن الذي وعد به الله سبحانه لمن زار بيته الكريم، إذ جعله مثابة للناس وأمنا، فيعبر عن هذا الاطمئنان بالهدى والأمن والسعد والشذا:
وكان الهدى والسعد والأمن والشذا تزاحم فيه طيبات المناقب
ويزيد من سعادته واطمئنانه الرفقة المباركة حوله، حيث الأخوة الإيمانية التي تشعر المؤمن بشعور الجسد الواحد، فالورى رفاقه وأهله، والخطوات بريئة خالية من الريبة، فما أطيبها من رحلة! وما أعظمها من آمال وأمنيات!:
مشيت عليه يا لسعدي أرى الورى رفاقي وأهلي بين غادٍ وآيب وأما الخطا فَهْيَ البراءة والتقى وأما المنى فالعفو من خير واهب فيا طيبه درباً ويا طيبها خطا ويا طيب آمال سرت ومواكب
وينتقل بنا حيدر الغدير إلى مشهد بصري سمعي، فيصور الحجيج وهم في ملابس الإحرام البيضاء، وترتفع أصواتهم ملبين لربهم، راجين فضله ورحمته، تغمرهم مشاعر الفرحة إذ بلغوا هذا الموقف العظيم، كالظمآن الذي يبلغ الماء فيروى! وباتت آمالهم قريبة المنال، ولم لا.. وهم يدعون رحمانا رحيما كريما غنيا لا يرد سائله!؟
يلبّون، يدعون الكريم، أهلةً
بإصرار محرومٍ ودأب مواظب
وفرحة ظمآن رأى الماء جارياً فراتاً يناديه قريب المشارب وأردية بيضاء سوّت حشودهم فكانوا سواء من سعيد وناصب مواكب شتىّ شائقات جوائب على إثر أخرى شائقات جوائب تكبِّر للرحمن ترجو نواله وآمالها في كفّها والمناكب
فمن هنا ندرك مدى الحب الذي يكنه قلب الشاعر لمكة المكرمة، وشدة شوقه إليها، فذكرها لا يفارقه في ليل أو نهار، وهي قد سكنت كل موضع من جسمه: عينه وحشاه وكفه وترائبه، فهي جليسه مع الجلساء، بل أكثر من ذلك هي فوق أهله الذين يغيب عنهم، وهي معه مصاحبة له، فيقول:
وأنت ويدري الله في العين والحشا وفي كفِّيَ اليمنى وفوق ترائبي وخِدْنيَ إذ أخلو، وخدنيَ إن أكن جليس صحابي من بشوش وقاطب أغيب عن الأهلين والدار والحمى وحبك يا حسناء ليس بغائب يلازمني إما توجهت مَشْرقاً وإن أنا ألقيت العصا في المغارب وأكرمْ به خلاًّ صفياً ومورداً هنيئاً مريئاً لم يكدر بشائب
وإنصافا لنفسه وللآخرين من إخوانه المؤمنين يعترف الشاعر أنه ليس المحب الوحيد، وليس المشوق الذي لا ثاني له، بل هاهم أولاء كل الناس المؤمنين يهفون إلى مكة من كل وجهة استجابة للدعوة المباركة التي أمر الله سبحانه بها:
فيهفو إليه الناس من كل وجهة وتحيا به حتى قفار الأجادب وأهفو مع الهافين تعدو بنا المنى بهم فرحة تمتد آفاقها وبي أهيم به حباً وأشتار شهده وما من حسود أتقيه وحاجب فأرنو لها حباً وأهتز بهجة وأقسم أني ظافر غير خائب
فمكة بلد الأمن والسلام، والرحمة والعفو والغفران، والخيرات والبركات، وخيرها في ازدياد لا ينضب، فهي كريمة سخية لضيوفها بكل ما يؤملون، ويتمنون. وليس ذلك بعجب، لأنه عطاء الله الكريم الجواد:
ولا عجب فالله جل جلاله يجود عليه بالغيوث السواكب فيحلو ويسخو والحِداقُ نواظر وقد طرفت من سيبه المتراكب ولله إحسان يليق بجوده وليس بذي منٍّ وليس بناضب
ومن هنا عد الشاعر نفسه ضيفا عزيزا على مكة، فاقترى من خيرات أم القرى المادية والمعنوية، فارتوت روحه مثلما شبع جسمه، فيثني عليها شأن الشعراء الذين يمدحون مكرميهم، وليس أكرم من بلدة جعلها الله سبحانه أم القرى، وجعل فيها بيته العتيق، بناه خليله إبراهيم وابنه إسماعيل، وجدد معالمه أكرم رسله وسيد خلقه محمد صلى الله عليهم وسلم، فيقول:
حللتُ على نعماك طيفاً معزّزاً يسابقني شوقي وتعدو رغائبي فكنتِ التي لم ألق والله مثلها وكنت الشذا في جبهتي وذوائبي ترابك لا المسك المصفى ولا الندى ولا دل مخضوب ولا صبغ خاضب
فمن هذا الشوق العارم الذي يدفعه، يجد تراب مكة أعلى وأغلى من المسك المصفى، ومن الندى المنعش في نسائم الصباح، ولا يدانيه ولا يقاربه دلال فتاة مخضوب، ولا صبغة خاضب! وهو هنا يجمع نعائم مادية ومعنوية، ويفضل تراب مكة عليها جميعا، ويبني على ذلك كله حبه وشوقه العميقين لمكة، ومقدار الفرحة التي تسكنه، والأنس الذي يملأ جوانحه فيقول:
وأشواق روحي حين آتيك فرحة ترش عليّ الصفو رش السحائب وتملؤُني أنساً وتملؤُني رضا فتورق أحلامي وتدنو مطالبي
ونرى نتائج ذلك عليه في سجود روحه وجسمه شكرا، ودموع الفرح التي تنهل في جوانحه قبل عينيه، فيقول:
وتسجد روحي قبل جسمي وجبهتي وتخضرّ أيامي وتحلو مضاربي وينهلّ دمع الشكر بين جوانحي وفي مهجتي من قبل كفي وغاربي
ويختم قصيدته (حللت على نعماك) بنظرة إيمانية مستقبلية بأن أم القرى ستبقى كما أرادها الله سبحانه مثابة للناس وأمنا، مهما دالت الدول والحضارات، وتحولت الأحوال وتبدلت، شامخة الذرى، حصنا للإسلام، فيقول:
ستبقين يا أم القرى الأمن للورى ونورَ هداهمْ بين داجي الغياهب تزول حضارات وتفنى مبادئ ويهلك طاغ إثر عاد وغاصب وتبقين بعد الكل شامخة الذرا يفيء إليك الناس من كل جانب
وتبقين للإسلام دوماً حصونه
مدى الدهر ما حنّ اليراع لكاتب
وأن أمة الإسلام تفديها بكل ما تملك حفاظا عليها، فيقول:
أيا مكتي تحميك ما عشت أمتي بأرواحها قبل القنا والكتائب
ونعيش مع الشاعر في قصيدة أخرى بعنوان (في الحرم المكي، ص 135، من ديوان سنأتيك يا أقصى) جوا آخر، في روحانية محلقة، إذ تتمتع هذه القصيدة بخصوصية العنوان أولا، وبالجو النفسي الذي كان يكتنف الشاعر إذ ذاك من خلال عتبة النص النثري الذي جعله بين يدي القصيدة، فيقول: "مرتبة الصّديقين مرتبة عزيزة لا ينالها إلا ذوو العزم من المؤمنين، رجوتها فوجدت نفسي دونها فحزنت، ثم تذكرت أن رحمة الله الواسعة فتحت بابها لأصحاب الرخص والمقتصدين، ليصلوا إليها، وذلك من خلال ((الصدق))، فعزمت على التحلي به، وعساي فعلت."
إذن الشاعر يبحث عن السمو الروحي، ويطمح إلى مرتبة عليا تتقطع دونها الأعناق، وتهلك المطي، وتتيه القوافل في البيداء! ولكنها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ إذ سأله: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير لمن يسر الله له". وحيدر الغدير يستشعر هذا، وما يتمناه ليس أمنية العاجز الذي يتبع النفس هواها ويتمنى على الله الأماني! لذلك يعترف أنه دونها، ويحزن! ولكن الشيطان لا يستحوذ عليه فيدفعه إلى اليأس، فيتذكر رحمة الله الواسعة، فتبطل نزغة الشيطان، ويعيش في عالم الرجاء المتحقق بإذن الله تعالى، وعساه وعسانا..!
وقبل أن ندخل مع الشاعر في عالم قصيدته في الحرم المكي نقف عند بيت من القصيدة السابقة (حللت على نعماك) حيث يقول:
وصلَّيت ما بين الحطيم وزمزم صلاة منيب من خطاياه هارب
هذه الصلاة أظنها ركعتي الطواف التي يصليهما الطائف خلف المقام، أو حيث تتيسر له، وأظن أن الشاعر احتاج إلى الراحة قليلا فاتخذ ركنا من المسجد الحرام، وأسند ظهره ورأسه على جدار المسجد فأخذته سنة من النوم، فرأى ما يحكيه لنا في هذه القصيدة، يقول حيدر الغدير:
وفي خلوةٍ حسناءَ في الحرم المكي ألذَّ من النعمى وأزكى من المسكِ أتانيَ طيفٌ وجهه الطيب والسنا وإشراق ذي تقوى وإغضاء ذي نسك صموتٌ وأسرار البلاغة صمته وفيه بيان الأفصحين إذا يحكي بشوشٌ كأن الحبَ محضُ فؤاده جوادٌ كما يهمي الغمام على الأيك وكفّاه ما يرجو اللحوح من القرى وأجود ما كانا لدى العسر والضنك
وكان لابد من الشاعر أن يهب لاستقبال ضيفه الذي بدا عليه كل مخايل الشرف والمروءة من التقوى والبشاشة والجود والفصاحة، فيحدثنا عما حصل قائلا:
هششتُ فحيّا، وابتدرتُ فراقني لقائيه حتى شِئْتُهُ غَيْرَ منفــك رأيت الصفا والدفء فيه ونيــــةً هي الخير في الإقدام واللبث والترك توالى عليه الفضل أوسمةً له مطهرة الأردان مصقولة السبك
وإذ زادنا الشاعر بأوصاف أخرى لضيفه، أشعرنا بالاطمئنان أيضا كما اطمأن هو لهذا الزائر، فابتدره بالكلام، وجرى بينهما الحديث:
وساءلته: من أنت؟ إنك رعتني بما شاقني من معجب مطرب مُذْك فقال: أنا الصدق الذي عِشْتَ تشتهي محاسنَه وَهْيَ اللآلئُ في السلك وأستغفر الرحمن بل هو فوقهــــا وفوق مدى الإدراك والظن والشك به يبلغ الإنسانُ فوق رغابه وهنّ العوالي في المعاني وفي السَمْك وفيه جلالٌ زانه الحسن والهدى وفيه نجاة المرء في اليسر والهُلْك
وهنا علمنا أن الزائر القادم على الشاعر في الحرم المكي، وهو في خلوته تلك هو (الصدق)! ولم يدع الصدق الشاعر في حيرة من أمره، بل عرف نفسه تعريفا وافيا، وأفصح عن مزاياه العديدة، والتي تتلخص نتائجها في قول الزائر الصادق:
أنا الصدق كُنْهُ تبلغِ القمةَ التي بلغتُ وزكّ النفس من شَوْبِها زك فإن أنت تفعلْ زِدْتَ فضلاً وهيبةً وإلاّ رماك العجز في أسفل الدرك
وإذ كان الشاعر يبحث بلوغ تلك القمة فقد سأله بمزيد من اللهفة:
وقلت له: زدني رأيتك ناصحاً وأنت أخو نبل وذو نخوة يُشْكي
فقال له مجيبا:
فقال: اعتصم بالصدق فالصدق رُقْية تشبثْ به تبلغْ مناك دوانياً..
وأنجى وِقاء من أذاةِ ومن سفك
وهنا ينقطع حديث الصدق الصادق الناصح، ويغيب فجأة كما ظهر: " وغاب كما قد جاء في الحرم المكي"
ويبقى الشاعر مع نفسه، وقد تنبه من السِّنَة الخفيفة العابرة، فبدأ يفكر فيما رأى، وفيما سمع، وفيما كان يفكر به، وكان عليه ألا تمر رؤياه مرورا عابرا، وكان عليه أن يتقين أنها ليست أضغاث أحلام، في ذلك المكان المبارك، وفي تلك اللحظات التي تتنزل فيها الرحمات، فيكشف عن سر تجربته تلك، فيقول:
خلوتُ إلى نفسي فقلتُ: نصيحةٌ هي الخير إذ يدنو بآلائه منك خذيها فصونيها تنالي وعودها إذا سرتِ في روض وإن سرت في شوك
وهل أصدق من نصيحة الصدق نفسه!؟
ومازلنا مع الشاعر داخل الحرم المكي، ولعله لم يخرج من الحرم بعدما رأى في خلوته تلك، فتنبهت أحاسيسه، وغير مجلسه، فجلس في مكان يرى منه الكعبة المشرفة ببصر جسمه، وبصيرة قلبه، فيحدثنا في (ص 163، عن الكعبة الزهراء). ويستهلها بمقدمة نثرية، ترتبط بما سبق من رؤيا، وما دار من حديث بينه وبين الصدق الذي زاره.
وهو بالتأكيد قد استجمع أفكاره، وعاد من حديث النوم إلى حديث اليقظة، وتواردت الخواطر على ذهنه، فأراد أن ينقل تجربته إلى غيره، وجعل قصيدته الجديدة إهداء فقال: "أهدي هذه القصيدة إلى كل من أراد الحج فاستطاع، وإلى كل من أراده فلم يستطع، وعساه ينال بصدق نيته ثواب حجة مبرورة، وأهديها بشكل خاص إلى الشاعر الكبير بدوي الجبل، الذي راعتني قصيدته ((الكعبة الزهراء)) فحاكيتها بهذه القصيدة."
والرابط الحاضر في المقدمة هو (الصدق) وقوله: (عساه ينال بصدق نيته ثواب حجة مبرورة)، وهذه هي آخر ثلاث جمل تحدث بها الصادق مع الشاعر، وغاب، ووعد الشاعر نفسه أن يلتزم به، ومن علامات الصدق أن تنصح غيرك بصدق.
فماذا قال الشاعر في قصيدته التي عارض بها قصيدة بدوي الجبل بالعنوان نفسه؟ وهو ملمح آخر للصدق عند الشاعر، لأن بدوي الجبل بقصيدته عن الكعبة تحدث بجواهر الحكمة، ودعا إلى العودة للكتاب والسنة وسماهما النورين.
فحيدر الغدير يعبر في المقطع الأول عن دواعي رحلته إلى الكعبة الزهراء التي هي وسط المسجد الحرام، والمسجد وسط مكة المكرمة. وأهم هذه الدواعي الشوق اللحوح، وتعلقه بها يافعا وشابا وكهلا وشيبا، وكونها أمامه في صلاته، وفي خلوته وجلوته، يقول:
علــى لهــفة مـــن صـــبوة ووجـــيب وشــــوق لحـــوح ظـــامئ ورحــــيب رحــــــلتُ إليــــها قـــبل جــــــسمــيَ بالمـــــــنى وهــــنّ حــــسان مـــن هــدى وطـــــيوب ولــــمْ لا وقــد عُلّـــقتها مُـــذْ يفـــاعــتي وحــين اســـتوى عـــودي وحــــين مشــــيبــــي وأســـكنـــتها قـــبلَ الجـــوارح مهــــجتي فــــكانـــت شــــذا عمـــري ونـــور دروبـــي وكـــانت أمــــامي في صـــلاتي وخـــلوتــي وفي الـــربع إن أمــــكث وحـــين ركـــوبي
ويجلس الشاعر أمام الكعبة، ويتملى فيها ويملأ ناظريه منها، ويرصد عطاءاتها الجمة فيقول:
هــي الكــــعبة الــزهــراء جــمٌّ عـــطاؤها لـــدانٍ إلــى نعمــــائهــا وغريـــب أنخــــتُ بها بـــعد العـــناء ركائـــبي فبــادرنــي ســـيبٌ لها بهبــــوب
ويصلي فيركع ويسجد، ويفعل ما يفعله العشاق على أعتاب محبوبيهم، فيكحل عينه بتراب المسجد الحرام مبالغة في التعبير عن محبته وتعلقه بالكعبة الزهراء، ويرى أن ما هو فيه هو الفوز الذي ليس وراءه مطلب، فيقول:
ســـجــدت فكحـــلت المــــآقـــي بتربـــــها وقبّلتــه ســــبعاً فأتـــرع كــــوبي وقـــال هـــنا الفــوز الــذي عشـــتَ تبتــــغي فخـــذه كـــما ترجـــو بـــدون رقــــيب
وفي هذه اللحظات الروحانية السامية يلهج المؤمن بالتوبة والاستغفار من كل ذنب، ويأوي إلى كنف ربه طالبا منه الصفح والغفران فتمتلئ نفسه بالأمل برحمة الله، وقد قال سبحانه: (ادعوني أستجب لكم)، فيقول الشاعر:
دعـــوتُ بروحـــي والفــؤاد ومقــــلتي وقبـــل لســــــاني خالــــقي وحــــسيبي وقلــــت وآمــــالي إلــيه نواظــــر: أأدعــو وإن الـــرمـــلُ عَـــدُّ ذنــــوبـــي أناخــــتْ علـــى عقــلي وقلـــبي وأعــــظمي وعــرّت لصــــحبي والعــــداة عيــــوبي هــُـرِعت إلى نعمــــاك منـــها فإنــــها فواقر غالـــت جيـــئتــي وذُهــوبي
ويتجاوز الشاعر لحظات الذروة النفسية، فيهدأ قليلا، ويصيخ إلى صوت قلبه ومشاعره الداخلية، فيسمع ما يسمعه النائم بأذن قلبه، فيقول:
ومرتْ ثـــوانٍ قمـــت جذلان بــــعدها وثمــــة صــــوت كالمــــلاك مجيــــــبي يقــــول: لك البشــــرى فربــــك قابـــل متـــاب فتـــى مهــــما أســـــاء منــــــيب فأبــــصرت آمــــالي حســــاناً روانيـــــاً كأيـــــك ضحــــــوك المقلتيــــن قشـــــــيب لأن رجـــــائي فــيه فوق مخــــاوفي وأكـــرمْ به من قادر ووهـــوب فأورق عـــــودي بعــــد طــــول جفـــافه وأشــرق وجهـــي بعـــد طــول شــــحوب وجـــاءت لــيَ النـــعمى ودانـــت ليَ المنـى فـــعدت إلى نجــواي عـــود طــــروب أردد حـــــمد اللــه دون مــلالــة بفـــرحــة محـبور وبــــوح أديــــب
ينطلق الشاعر بعد شعوره بالفوز بعيدا في الزمان والمكان، فيعود إلى بداية بناء البيت العتيق، ويستعرض في ذاكرته، ويستحضر إبراهيم عليه السلام وهو يؤذن في الناس بالحج امتثالا لأمر الله سبحانه، فإذا قافلة الحج تبدأ ولا تتوقف أبدا، فيقول:
هو الحــــج بـــاق كالزمـــان وأهـــله جــــديداً قـــديماً دون أي مغـــــيب ويــــمتد في يـــومٍ من الســـلم باســــمٍ وآخــــر مـــثل الغاشيـــات عصــــيب لقــد قـــام إبراهــــيم يدعــــو لـــه الدنــا فكـــان صـــداه الضخـــم زحـــف شـــــعوب قوافـــل شـــتى وحّـــد اللــه بينهـــا فكانـــت حبيـــــباً يحتـــــفي بحــــــبيب قوافـــل كالتــــاريـــخ تمـــضي ولا تني وليـــس بها مــن حســــرة ولغـــوب تســــير تـــرجّ الأرض رجـــاً كأنهـــا كتـــائب جيــــش حافـــل ولجيب
ويصور مسير قافلة من تلك القوافل وهي تحث السير، وتلبي بصدق، حتى إذا رأت البيت الحرام خرت ساجدة شاكرة لله سبحانه، ويزول عنها كل ما كابدته من مشقات الطريق ومخاطره، فيقول:
مضــــت وهي لا تأْلو تســـير بهــا المنــى تلّـــبي بــصدق شـــف غيـــر مشـــوب إلى ربـــها ترجــو نـــداه ورحمــة مداها سهوب تنتهي بسهوب فلما رأى البيتَ الحرامَ دليلُها وبشرها هبت هبوب كَسُوب لتسجد للرحمن شكراً وفرحة بإقبال أوّاب ولمح أريب وزال العنا منها سريعاً وغردت هناءتها تختال ملء قلوب
وفي هذه الرحلة الذهنية التي يخرج إليها الشاعر وهو جالس أمام الكعبة الزهراء، يعود إلى حاضر الأمة الإسلامية ليجدها على غير ما يسر من الضعف والهوان والتنازع كالغريق الذي يصارع الموت ولا يمد يده إلى طوق النجاة الذي بين يديه، فلا يجد ملجأ إلا الله سبحانه وهو في رحاب بيته، فيدعوه قائلا:
دعوتك ربي قبل نفسي لأمتي فكن لهما يا رب خير مجيب
ونقتحم خلوة الشاعر، ونتسور محرابه مرة أخرى لنجده هذه المرة طائرا مع حمامة من حمامات الحرم، يتحدث إليها، وتتحدث إليه، في جو من الأنس والأمن والطمأنينة، وقد افتتح قصيدته (أنا أدرى، ص 88، من ديوانه عادت لنا الخنساء) قائلا: "في خلوة ساجية لقيت حمامة في الحرم المكي الشريف فقلت لها وقالت لي."
وحمامات الحرم لافتة لنظر مرتادي الحرم، فهي تقترب من الناس، وتسير بين أرجلهم لشعورها بالأمن، ولإقبال الناس على رمي الطعام لها، وكثيرا ما يجلس الإنسان داخل الحرم فيتأمل في فضاء الساحة المفتوحة في المطاف يتأمل الحمامات التي تطير محلقة فوق الكعبة المشرفة وحولها وكأنها تطوف مع الطائفين فتمتلئ النفس بهجة وراحة لهذا المنظر، وتشارك الطيور الأخرى الحمام في هذا التجوال، بل ترتفع تغاريدها وضجيجها في المساءات جاذبة أسماع رواد الحرم وأنظارهم. ولأن الحمام وحده يقترب من الناس، وينزل على الأرض فقد اختار شاعرنا حمامة ليتحدث إليها، فماذا قال لها، وماذا قالت له!؟
شاعرنا يستوقف الحمامة كما كان الشعراء قديما يقفون ويستوقفون، ويسألون ويستجوبون، فيقول:
وكنتِ الحُسْنَ والبِشْرا قفي قد لُحْتِ لي سِحْرا سيحبوك الثنا درا قفي إني أخو شوق
ويبدأ يبث إليها مشاعره التي يحملها نحوها، ومحبته لها في جولة واسعة في فضاءات الزمان والمكان والمشاعر الإنسانية، فيقول:
يبث الحب والخيرا هديلك في دمي نجوى سَكَنَّ بخافقي عمرا وأحلام مرفرفة وجدت بها وما أحرى أتيتِ بها فما أحلى فما أسنى وما أثرى ملأنَ العمرَ أفراحاً وكان عطاؤها نهرا رضيتُ بها فأعلتني أجوب البر والبحرا ورحت وراءها غرداً حبتني الصفو والطهرا إلى دنيا مكرّمة
ويعود الشاعر من هذا التجوال بالربح الوفير، والغنائم الخيرة، فيقول:
تهنئ أختها اليسرى وعدتُ المرءَ يمناه وهذي ضَوْعة البشرى وهذي رفّة النعمى سرايا العزم لا الكبرا وأعطتني سحائبه وبعض الجنة الأخرى أرتني جنة الدنيا
والشاعر هنا يطيل الحديث إلى الحمامة، ولا شك أنها كانت صبورا جدا إذ أصغت منه إلى هذه المعلقة التي انزلق إليها الشاعر من كلمة المطلع: قفي!
وتجيبه الحمامة بعد لأي، وبعد إعادة السؤال "قفي من أنت!؟" فتجيبه: "أنا يا سائلي أدرى"
فَقَرَّ بمهجتي ذكرى بما قالوه من قدم يؤمّ الكعبة الزهرا وما غنّى به الحادي ويجعل عشقه شعرا ويجعل عشقه نثراً طيوف الفرحة الكبرى ويبصر وَهْوَ جذلان لتروي القلب والصدرا تطوف البيت في وَلَهٍ على الورّاد والحِجْرا ويبصر زمزماً تسخو بحرقة صدره الوِزْرا وسجدة تائب يمحو حشود لم تزل تترى وأدعية تردّدها
وتعود الحمامة هنا رمز التاريخ، وشاهد العيان لهذا السجل الحافل بالأنبياء والأتقياء والصالحين من الطائفين والركع السجود في حرم بيت الله العتيق، منذ بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى هذا اليوم الذي جعل شاعرنا فيه الحمامة صفية خلوته الساجية، كما قال.
تقول الحمامة:
وعلمي لم يكن نزرا أنا يا شاعري أدرى وقد كابدته دهرا فقد عاينته حدثاً وحسبك مكة فخرا أنا أم القرى بلدي وسَلْ عرفات سلْ ثورا ولي في الفضل تاريخ وسل من أذّنوا ظهرا وسل من أذنوا صبحاً وزاد مكانتي قَدْرا فهذا زانَ منزلتي أرتّل سورة الإسرا وأني كنت عاكفة وأسجد أبتغي الأجرا وأركع أبتغي أمناً ــم يبني الكعبة الزهرا أنا أبصرت إبراهـيـ فغيّر في الدنى المجرى وأحمد يوم أن نادى وفي بدر وفي المسرى ويوم الفتح منصوراً وكنت وكان لي ذخرا أنا التاريخ إذ يروي من العبر التي تُشْرَى فسلني إنني كنز
وإذ تقدم الحمامة نفسها حكيمة الدهر، التي صاحبت الصفوة الكريمة من عباد الله، يبادر الشاعر حيدر الغدير بسؤالها: "بما توصين؟" فقالت: "حاذر الشرا"، ثم أتبعت ذلك بجملة من النصائح القيمة من عدم الاغترار بالدنيا، ومن الاعتصام بالله لينال النهاية السعيدة في الدنيا والأخرى
سعيداً محسناً برّا وتقطع رحلة الدنيا وتقضي سيداً حرا وتحيا سيداً حراً وقد حفلت بما سرّا وتدخل جنة المأوى
وفي ديوانه عادت لنا الخنساء قصيدة أخرى بعنوان (تلبية، ص 107) تدخل في صميم موضوعنا في الحديث عن مكة لدى الشاعر حيد الغدير. ويكشف لنا سر العنوان وأنها معايشة متطلبات التلبية بعد العودة من رحلة الحج أو العمرة إلى بيت الله الحرام، وألا ينتكس المرء المسلم في حياته، وأن يحافظ على رقيه الروحي ونقائه، فيقول: "من أمارات التوفيق أن يحتفظ الإنسان بروح التلبية وصداها، بعد أن يعود من البيت الحرام."
ويكشف الشاعر هنا طرفا من معاناته في الصراع مع النفس الأمارة بالسوء، وفتون الدنيا وغيرهما من الإغراءات والإغواءات التي تدفع بالإنسان إلى الهلكة بعد إذ نجا، وإلى التلوث بعد إذ تطهر وعاد كيوم ولدته أمه، فيقول في المقطع الأول:
لبيك يا رباه في الضرّاء لبيك يا رباه في السراء تجتاحني وكأنها أعدائي لبيك إني هارب من غفلة شوهاء تبدو في حلى حسناء وأماميَ الدنيا فتون لم تزل
في وقفة من حيرة وبلاء
وأنا إزاء جمالها وضلالها فأنا لها الداني ومنها النائي أخشى وأرغب والدواعي جمة وأعود بعد الطهر للأخطاء وأطيعها حيناً وآبى مرة
والشاعر يلوم نفسه في هذا التردد والخور أمام المغريات، غير أنه يلجأ إلى ربه يطلب منه العون على نفسه، فيقول:
لم أغلب الأهواء وَهْيَ إزائي ومن الملوم؟ أنا الملوم لأنني فإذا بها كالحية الرقطاء؟ أأحبها وأنا الذي قد رازها ما زلت أرغبها وأنت رجائي يا رب فانصرني عليها إنني وامنن عليّ بنيّة بيضاء أطلق إساري من خوادع زيفها هي محض إيمان ومحض نقاء وعزيمة عمرية وبتوبة ويكون خيراً من هداه مسائي ليكون صبحي بالهداية عامراً
فالتلبية هنا إذا ليست وصفا لحالة الحجاج أو المعتمرين وهم يؤدون مناسكهم، وإنما هي وقفة مع النفس التي لبت نداء الله، واستجابت لأوامره سبحانه؛ لتحافظ على معانيها من الوفاء بالتوحيد، والطاعة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، بعد عودته من حمى البيت الحرام، أو بعد خروجه من عالم النسك والشعائر والمشاعر ليكون فيه بوعيه العميق بمعاني التلبية العظيمة.
وفي ديوان عادت لنا الخنساء نقف مع قصيدة أخرى بعنوان (أترع الكأس، ص 111) لنشارك الشاعر في كأسه المترعة إذا سمح لنا بذلك. يقول في تقديم القصيدة: "طاف بالبيت الحرام، وصلى، وشرب من زمزم كأساً دهاقاً وضع فيها كل أشواقه وآماله."
فقاصدو المسجد الحرام يبادرون إلى الشرب من ماء زمزم، غير أن الحجاج والمعتمرين يتضلعون من زمزم بعد الطواف، أو الانتهاء من السعي، ويشربون خلال ذلك أيضا، وهاهو الشاعر يقبل على الشرب بوعيه الكامل، فطلب كأسا مترعة، كأسا ليست كعامة الكؤوس، بل مترعة باليقين والهداية، فيقول:
وملاباً سكباً ومسكاً فتيقا أترع الكأس باليقين رحيقا لا تمل السمو والتحليقا وطيوباً من الهداية حسنى
رُعْنَ رأدَ الضحى نقاء أنيقا
إنهن المنى حساناً وضاء
يزهر الخير ناضراً ووريقا فهي كأس لا كالكؤوس، ففيها دونه الأفق في مداه طليقا وهي تحبوك من نداها جداها ملء مشكاتها أضاء الطريقا كيف لا؟ والهدى سراج وزيت
فكأس الشاعر هنا زمزم يشرب، لكنها ممزوجة بكل معاني الخير والهداية التي يمتلئ بها زائر بيت الله الحرام، والذي يخطئ كأس الهداية إلى غيرها فقد ضل الطريق:
يصطفيها دون البرايا صديقا فاز من يجعل الهداية كأساً هالك ضل نفسه والطريقا والذي كأسه هوى أو ضلال
ويلتقي الشاعر حيدر الغدير بصديق له قد حج وهو يتهيأ للعودة إلى أهله بشراء الهدايا، ومستلزمات العودة، فإذا به يقدم له هدية من خاص ليصطحبه معه إلى أهله، فلنقرأ معا المقدمة النثرية لأنشودته (أيها العائد، ص 138، من ديوان غدا نأتيك يا أقصى)، يقول: "قال لي والوجه منه نور، والفرحة نشيد، والبسمة شكر: لقد أكرمني الله U بالحج، ففزت بحجة بعد انتظار طويل، أرجو أن تكون مبرورة، إنها حجتي الأولى، وقد تكون الأخيرة، ولن أنساها ما حييت.
قلت له: ماذا تفعل في هذا السوق؟ قال: أختار هدايا من الأرض المباركة تكون أجمل قنية، وأغلى تذكار. قلت له: إليك هذه الهدية، قال: وما هي؟ قلت: قصيدة تلتقي مع ما تود، قرأها فقال: إنها هدية جميلة لي، ولكنْ أهدها أيضاً إلى محمد إقبال، فهي تصلح أن تكون مع روائعه الحسان في ديوانه: أرمغان حجاز".
وهذه القصيدة الأنشودة مقاطع خماسية من حيث الشكل، يبدأ فيها الشاعر بمخاطبة الحاج العائد إلى أهله، وقد وفقه الله سبحانه لأداء النسك، راجيا له القبول، ومهنئا إياه بالفوز بثواب الله من العفو والمغفرة، فيقول:
جاءك العفوُ فخذه باليدينْ وفؤاد وامق والمقلتينْ نلته ينهلّ نوراً كاللجينْ أيها الزائر أرض الحرمينْ
إنه الفوز المرجّى قد همى
قد قبستَ النورَ من غار حراء فَهْو هاديك صباحاً والمساء وَهْو أفراح ومسك ودعاء وَهْو في القبر وفي البعث النجاء
فاز من فاء إليه وانتمى
ويصرح الشاعر بقصيدته بذكر فريضة الحج، مؤكدا شخصية القصيدة لأن عبارة (أيها الزائر أرض الحرمين) ذات دلالات مفتوحة تعني الحج والعمرة والزيارة العادية، مصورا حالة قاصدي البيت الحرام للحج والاستعداد له ومشاعرهم فيقول:
موعدُ الحج دنا فاستبقتْ أنفسٌ من كل حدب أيقنتْ أنه الفوز فلبّت واشتكت شوقها وابتسمت إذ أنشدت إننا الآتون نبغي الحرما
وهذه استعدادات كل حاج في بلدته، ثم تنطلق الوفود من كل فج عميق يحدوهم ذلك الشوق إلى بيت الله سبحانه، فيقول:
أمةٌ جاءت تليها أممُ بين عينيها يلوح الحرمُ أنت فيهم ظامئ محتدم بشّرته حين قالت زمزم قطرة مني فلا يبقى ظما
فإذا وصلوا رووا ظمأ أجسامهم بالشرب من ماء زمزم المبارك، ورووا أرواحهم بالإقبال على الله سبحانه ساجدين بين يديه في رحاب بيته العتيق، فترتقي نفوسهم وتسمو، يقول الشاعر:
سجدةٌ منك على الأرض الطهورْ سوف يبقى كَسْبُها حتى النشورْ منحةً تربو على مر الدهور وَهْي أكواب من النعمى تدور فاتخذها للمراقي سلّما
أما وقد أدوا المناسك، وصلوا وشربوا وزاروا وبدأت رحلة العودة فها هي ذي علائم الفرحة بالتوفيق والأمل بالقبول تملأ وجوههم، فليحملوا معهم أفضل ما يمكن حمله ليس من متاع الدنيا، ولكن من الشكر الذي يوفق الله عباده الصالحين إليه، فيقول:
أيها العائد من أرض الحجازْ تضحك الفرحة فيه حيث جازْ بالذي نال من الغنم وحاز أنت بالشكر ستزداد مفاز فاصطحبه تَلـقَهُ خيراً نما
ومن تمام الشكر يقول الشاعر للحاج العائد أن يعرف غيره من المسلمين ما حصل عليه من نعمة التوفيق لأداء فريضة الحج:
من تمام الشكر أن تدعو الأنامْ للذي أهداكه البيتُ الحرامْ حين أسقاك الهدى جاماً فجام فَامْحُ بالنور عن الناس الظلام يهتدي الناس ويخضّر الحمى
ويؤكد نصيحته للحاج العائد الذي حصل له اليقين التام برحمة الله سبحانه، وتحصن بيقينه بالله، أن يهمل على نشر الخير، والوعي بالإسلام بين أناس محرومين من هذه النعمة لجهلهم بها، فعمله هذا هو أفضل ما يقدمه من هدايا للبرايا:
أيها العائد قد حاز اليقينْ فهْو في حصن من الله حصينْ محنة الإنسان دنيا دون دين فَاهْدِ للإسلام أقواماً عَمِين تصبح الأهدى وتغدو الأكرما
وبذلك يكمل الشاعر هديته لصاحبه العائد من زيارة بيت الله الحرام حاجا، يحمل معه هدايا لأهله من السوق يدفع أثمانها، فأهداه الشاعر هدية ثمينة بغير ثمن، ولكن صاحبه الذكي ألمح إلى قصده حينما قرأ القصيدة وطلب منه أن يجعلها في ديوان الشاعر ىالمسلم العظيم محمد إقبال: أرمغان حجاز، وأرمغان باللغات الفارسية والأردية والتركية تعني الهدية، وخصوصا هدية الفاكهة!.
قال الشاعر حيدر الغدير في ختام قصيدته حللت على نعماك:
أيا مكتي تحميك ما عشت أمتي بأرواحها قبل القنا والكتائب
وهذا الفداء من أمة الإسلام للكعبة المشرفة، وللمسجد الحرام، ولمكة كلها؛ مبعثه اليقين بأن هذه البقعة المباركة تمثل أساس الإسلام، ومنبعث الهدى، ورمزا لوحدة الأمة الإسلامية، فالاعتداء عليها لا يمكن قبوله مهما كانت النتائج.
وقد تعرضت مكة والمسجد الحرام لاعتداءات متكررة عبر التاريخ القديم والحديث، ولعل أبرهة الحبشي واعتداءه مصطحبا فيله الضخم أبرز عدوان، ولكن الله سبحانه حمى بيته منه، وبدد شمل جيشه ودمره فكان عبرة لكل من يريد البيت بالعدوان، وهو ما سجله القرآن الكريم في سورة الفيل.
والشاعر يتخذ من أبرهة نموذجا لمآل كل عدوان، فيعبر عن مشاعره العميقة الممزوجة بالقلق والاطمئنان بآن واحد، قلق من العدوان على البيت، واطمئنان بنصرة الله سبحانه لدينه، وهذا لا يلغي الواجب الملقاة على الأمة الإسلامية لحماية رمز دينها فيهيب بها أن تقوم بواجبها في حماية مكة والمسجد الحرام والكعبة المشرفة. فيقول في مقدمة قصيدته بعنوان (أبرهة، ص86، من ديوان عادت لنا الخنساء): "هلك أبرهة حين استبدت به الحماقة وركبه الجنون فحاول المستحيل فقصمه الله تعالى وأنزل فيه قرآناً يتلى إلى آخر الدهر، ومصير أبرهة مصير كل من يريد السوء بالإسلام والمسلمين والعرب عامة، وبهذه البلاد المباركة خاصة، ذلك أنها أرض الحرمين الشريفين ومأرز الإيمان، ورايتها الخضراء تحمل أغلى الغوالي «لا إله إلا الله محمد رسول الله» لتقول للدنيا كلها: هذا أنا وهذه هويتي"
وينطلق في قصيدته بكلمة "محروسة" يكررها تأكيدا منه على هذا الشعور، الذي يكتنفه بحراسة الله سبحانه لبيته والبلدة التي فيها وهي مكة، فيقول:
محروسة يا ملاذ المجد والكرم محروسةٌ يا ديار البيت والحرم أجنادُكِ الصيدُ من عرب ومن عجم محروسة بقلوب المسلمين فهم تتيه بالراية الخضرا على الأُمَمِ محروسة بصدور لم تهبْ أحداً وديمة في السهول الفيح والقمم محروسة بدعاء ما يزال شذاً من ظامئات إلى صون الحمى وظم محروسة، أمةُ المليار عدتها والموتَ أوسمةً قد سطرت بدم ممن يرون الأذى في الله مكرمةً
ثم يوجه خطابه لكل أبرهة في كل عصر، فيقول:
هوجاء تمضي كما هبت ومن أَمَمِ وأنت يا أيها المغرور عاصفة والطير من فوقه ترميه بالحمم إن كنت أبرهة فاذكر نهايته يقتاته الذرّ بعد الدود والغنم حتى غدا مثل عصف بائد مزقاً ونحن والخلد أترابٌ من القدم إن الأبابيل حرّاس كأسيفنا واجعلْ ضريحك من بؤس ومن ندم فارقب مصيرك إن البغي مهلكة
ويؤكد على أبدية هذا البيت الحرام، وأهله ودينه، فيقول:
تجول في هذه الدنيا بكل فم غداً ستفنى ونبقى نحن أمنيةً كأنها الغيث بعد الجدب للنَّسَمِ تبني وتهدي وتحبو الناس ما رغبوا
وهكذا رأينا حيدر الغدير يحب مكة حب مجنون لليلى، ولكن حبه حب غير مجنون، حب واع مبناه على الهدى، جذوره ممتدة في التاريخ الماضي، وباقية في المستقبل الآتي، يفديها بالروح قبل المال، يحملها معه أنى ذهب، قد ينسى أقرب الناس إليه من أهله وولده، ولكنه لا ينسى مكة.
وسوم: العدد 693