قراءة في ديوان "في غيابة ليل"* للشّاعر الفلسطيني سميح محسن
الرؤية المنفتحة على الأكوان الشعرية
"لن تعرف نفسكَ حقاً إلا إذا خرجتَ منها"، كما يقول الشاعر أدونيس، وكذا يعرّفنا الشّاعر سميح محسن عن ذاته الشّعريّة بعد أن أُخرِج من أناه، لنستدلّ على الشّاعر الكائن فيه. فنستقرئ في ديوان "في غيابة ليل" التّركيبة الوجدانيّة لشخصيّة الشّاعر الّتي تتدرّج شعريّاً حتّى تبلغ مقام الرّؤى، بدءاً من طقوس الكتابة حتّى يرتقي بنا سلّمه الشّعريّ شيئاً فشيئّاً إلى موطن الشّعراء، عالم الجمال الحرّ.
- الشّاعر ابن الشّعر كحالة حرّة:
إذا كان الشّعر عالم الحبّ والجمال وموطن الحرّيّة الكاملة، حيث يتحرّر الشّاعر من قيوده ويتفلّت من أناه ومن قيود اللّغة، ليحقّق الحرّيّة المتكوّنة في أفق الشّعر. وإذا كانت الحالة الشّعريّة وحياً ينسكب في ذات الشّاعر فينفتح على نوره ويستدلّ على الاستنارة الشّعريّة، فالشّاعر هو ذاك المستنير الخارج عن الأنا والمتّحد بالحالة الشّعريّة اتّحاداً كاملاً. فيخرج من الإطار الإنسانيّ إلى الإطار الشّاعريّ. ذاك ما نقرأه في قصائد الشّاعر سميح محسن، وتنقلنا القصائد إلى عالم الشّاعر وترتفع بنا إلى ما بعد الكلمة حتّى ندرك به ومعه عوالم لا يدركها البصر، وإنّما تعاينها البصيرة وتتلمّس جمالها.
الشّاعر حرّ نسبة للعالم الّذي ينتمي إليه، عالم الشّعر. ويعتنق مذهب القصيدة الّتي بفعلها يتحرّر من عتمة الأرض ليستنير بنور الشّعر.
عيونٌ سوفَ ترقبني
ولكنّي أحرّرُ صورتي منّي
أخبئُ سرّها
أفضي إلى غصنينِ من شجرٍ تدلى
من فضاءاتٍ،
سماواتٍ،
على بحرِ الإفاضةِ في دلالاتِ المعاني
وتحملني على وجعي،
مفاعيلُ الكآبةِ،
والكتابةِ،
والحكايةِ (1)
يتّضح من هذه السّطور تحرّر الشّاعر من أناه ومحيطه وعالمه ليستحيل سرّ القصائد، وسرّ الشّعر الوحي. وبهذا نفهم أنّ الشّاعر لا يؤلّف القصيدة أو يصنعها، بل هي اليد الممتدّة إلى قلبه حيث تولد المعاني الشّعريّة. إلّا أنّ الحزن والكآبة تتداخلان في وجدانيّة الشّاعر لأنّ ثمّة انفصالاً يولد مع كلّ قصيدة، وثمّة تجرّداً يفرض نفسه بفعل الحالة. كما أنّ المعاني الجديدة تفرض نفسها والرؤّية تتبدّل وتخرج الشّاعر من عالمه ليراه بوضوح أكبر، فيتألّم ويحزن.
أكتفي بالخبز دونَ خميرةٍ
أو ملح،
وأمّا قهوتي كالوقتِ أشربُها
فيّا نصي انتفِضْ يوماً على صوتي
وكُنْ ما شئتَ في فجرٍ يطُّلُ عليّ ملتبساً
كعصفورٍ يحُرّرُ نفْسَهُ من ظلمةَ القفص (2).
ما للعالم يبقى في العالم، وما للشّعر يسمو إلى عالم الشّعر، فلا يعود القوت ذاته، ولا ملامح الوقت تتقيّد بشروط الزّمان والمكان. يتفلّت الشّاعر من ذاته فيولد القصيد، ويتحرّر من صوته فيعلو صوت القصيدة، وتتجلّى ملامح حرّيّة الذّات الشّعريّة. عندها تستحيل مهمّة الشّاعر تبليغ هذه الحرّيّة والانقلاب على ما هو تقليديّ وكلاسيكيّ كيما تنبلج الذّات الشّعريّة وتؤثّر في نفس المتلقّي:
أريدُ الآن تحريرَ الحكاياتِ القديمةِ من تماثيلِ القداسةِ،
في الكتابةِ لي رؤى طفلٍ،
ورغبتُهُ الشديدةُ في امتلاكِ الوقتِ والألعاب،
ولي طقسٌ يماثلني تماماً،
كلّما حلّت فراغاتُ الهواءِ مكانَ أقلامي وأوراقي(3)
الشّاعر بحسب ما يستشفّ من نصوص الشّاعر سميح محسن أشبه بطفل لم تتكوّن لديه بعد الأنا المدركة للمحيط تمام الإدراك، بمعنى أنّه يرى الأمور بنقائها وطهرها ويسقط هذا الطّهر على رؤيته الشّعريّة كي لا تلمس الأرض وتتلوّث بالواقع. ليس الطّفل في الشّاعر من يصوغ القصيدة، وإنّما القصيدة تصوغ الشّاعر وتعيد إليه بهاءه الأوّل قبل أن تدرك الأنا خبرات الواقع وقبل أن تخوض غمار قسوة المحيط الإنساني. يقول الشّاعر التّونسي يوسف الهمامي: "الشّاعر الشّاعر تكتبه قصائده"، في دلالة على أمومة القصيدة وتبنّيها للشّاعر وانصهاره بها. فالشّاعر لا يكتب وإنّما يُكتَب، وبالتّالي تستبين الذّات الشّعريّة من خلال القصيدة، وتعرف عن الشّاعر وترسم ملامحه الفكريّة والنّفسيّة والرّوحيّة.
- تدرّج الذّات الشّعريّة:
كما تنمو الذّات الإنسانيّة وتمرّ بمراحل عدّة، كذلك الذّات الشّعريّة تتدرّج حتّى تبلغ مقامها الأرفع. ولا بدّ أنّ الذّات الإنسانيّة ومذ وجدت تتأمّل ذاتيّتها وتفكّر في طبيعتها وتتصادق معها. ما هو مشابه تماماً للذّات الشّعريّة مع الفرق أنّ الشّاعر أو الذّات الشّعريّة ترتفع عن المحسوسات لتتأمّل معالم اللّا منطق واللّا واقع.
يجوزُ لنا،
معشرَ الشعراءِ،
الذي لا يجوزُ لأيٍّ سوانا(4)
وجواز الشّيء من عدمه لا يندرج هنا في إطار القيم والأخلاقيّات، أو الاختبارات الإنسانيّة والحياتيّة، وإنّما في كون عالم الشّعر مخالف للعالم الإنساني، ولكونه حالة حرّة متفلّتة من القيود حتّى النحويّة منها ليبرز تمام كمال الشّعر. وكأنّي بالشّاعر في موطن القصيدة ينقلب على عالمه الأساسي، ويرفض أيّة إملاءات أو أسر أو تكبيل، موظفا الشّاعر هنا المقولة الكلاسيكيّة "يحق للشاعر ما لا يحقّ لغيره"، ومستفيداً من ذلك الإرث النّقدي العربي الذي أجاز للشاعر الخروج عن مألوف اللغة المتحدّث بها أو الّتي يكتب بها النّثر، وكأنّ الشاعر يقول: الشّعر لغته خاصّة، فليكن حراً مما يقيّده.
لنا:/ حين تطلب زوجاتُنا الانتباهَ/ إلى ركوةِ البنِّ كي لا تفور على الغازِ،/ أن لا نعيرَ انتباهاً لأقوالهنَّ،/ لنا:/ عندما يطلبُ الأصدقاءُ زيارتَنا فجأةً،/ لَيّ الحقيقةِ في موعِدٍ مُسْبَقٍ مَعْ طبيبِ العيونِ،/ أنْ نخُاصمَ كُتّابَ أعمدةِ الرأي والنقدِ، والصحفيينَ/ أن نخالفَ قاعدةَ النحوِ والصرفِ باسمِ الحداثةِ،/ أن ندوسَ القوانينَ تحتَ الدواليبِ/ ثمَّ نؤنّب ضابطَ دوريةِ السيّر... (5)
- الشّاعر الرّائي:
ما إن ينفتح الشّاعر على الوحي الشّعريّ حتّى يستنير بالحالة الشّعريّة، ما يمنح بصيرته آفاقاً لا حدّ لها، فيقوى على رؤية ما لا يُرى وكشف ما لا يُكشف.
ذاتَ مساءٍ رأيتُ فضاءاتِ روحي مجللةً بالبياضِ
فساءلتُ أنايَ
هو الحلمُ؟
ثلجٌ تساقَطَ فوقَ الملاءاتِ
أم صحوةُ النومِ وقتَ المغيبِ؟ (7)
يشير (الحلم) إلى الرّؤى الشّعريّة ويحيل القارئ إليها، وهو غير المصطلح المفيد في قراءة الماضي، بل هو قراءة للحاضر من وجهة الذّات الشّعريّة وارتشاف للمستقبل المرجو. فالشّاعر المنغمس في الحالة الشّعريّة يستشف نقاء الأمكنة وجملها، ويحتمي في نورها، ويتغذّى من صفائها.
أقول لكم إنني قلتُ للموتِ لمّا رآني:
سأفتحُ من باطن الروحِ نافذةً
فافسحوا لي طريقاً
إلى غيّمةٍ لم يدنسْ رداءَ طهارتَها الماءُ
تمطرني فوقَ سطحِ المساءِ الشتائيّ
تغسلني بالبَرَد،
وبيتٍ من الشعرِ لم يكتملْ (8)
الشّاعر الرّائي يرى ملامح العالم الآتي، هو المتبصّر النّقيّ يرتقي فوق الموت، وذاك الارتقاء؛ ابتداء من انصهاره بالحالة الشّعريّة وحتى اكتمال القصيدة. يعاين بدء تكوين الشّخصيّة الشّعريّة ويعلو على الموت، لأنّ الشّاعر يتحوّل إلى لغة، وبالتّالي يخلد بلغته.
وإنْ لم يكنْ ما رأيتُ هو الموتُ
ناديتُ:
يا أيّها الآتي تَمّهَل
وكنْ حذراً في الطريقِ إليّ (9)
والشّاعر الرّائي يحمل الهمّ الإنسانيّ ويتألّم، وقد يرجو إزالته بالشّعر وذلك بنثر عطر الجمال في النّفوس. فذاته الشّعريّة وإن كانت محلّقة في عوالم الشّعر ترفق بالحال الإنسانيّ الواقعيّ وتبحث في تفاصيله وتحمل همومه بصمت.
وهو إذا ما بلغ تكوين شخصيّته تمامها صار آخراً. فهل نقول إنّ الشّاعر تخلّى عن إنسانه، أو انفصل عنه؟ والجواب الدّقيق يكمن في شخصيّة الشّاعر سميح محسن وفي التّركيبة الشّعريّة المتلازمة والإنسانيّة الّتي نتلمّسها في القصائد. بيد أنّ الشّاعر ارتقى إلى رتبة الشّعر، وهي رتبة استحقّها بفعل اتّحاده بعالم الشّعر.
أنا يا روحَ هذا الليلِ
لا أُمْسِي فراشاتي
تمرّ على جبالِ الصمتِ
أغنيةً بلا موال
فأعطيني الأمانَ
لأمتطي سرجَك
أنا أخشاكِ من عبثك
بأنْ تستبدلي جسدي
وتعطيني سواي (10)
-------------
* صدر الديوان من منشورات مركز أوغاريت الثقافي، رام الله – فلسطين، الطبعة الأولى، 2012
(1) (2) (3) طقس للكتابة- ديوان في غيابة اللّيل- ص 11
(4) (5) يجوز لنا ما لا يجوز!- ص 15
(6) متتالياتُ حروفِ الجرّ- ص 28
(7) (8) (9) أرى ما أرى- ص 33
(10) نصيحة- ص 94
وسوم: العدد 695