نجيب محفوظ يتنبأ بالانقلاب!
من حين لأخر أعود إلى كتب نجيب محفوظ ، لأكتشف دلالات جديدة من ناحية ، وأستمتع بصياغة لغوية نادرا ما أستشعرها في معظم ما أطالعه لكتاب لمعاصرين ، وخاصة أولئك الذين يتاجرون باسم نجيب محفوظ ، ليس حبا فيه ولكن لاستخدامه ذريعة لهجاء الإسلام والمسلمين وتشويه صورة الدين الحنيف في أذهان الشباب .
سماسرة الثقافة وكلافو الحظيرة يتخذون من أي رأي لا يوافق هواهم في نجيب محفوظ تكأة ليقيموا الدنيا ولا يقعدونها . فالنائب الذي رأي أن أعمال نجيب محفوظ التي ظهرت على الشاشة تخدش الحياء لم يكد ينتهي من كلامه حتى طالبوا بعنقه ، وحملوا عليه وعلى مجلس النواب ، وأقاموا مناحة لم تتوقف حتى اليوم ، وكانوا في كل الأحوال يلقون بتبعة ما يقال على المسلمين أو الظلاميين كما يسمونهم ، وهجاء علماء الإسلام لدرجة أن سمسارا ثقافيا أدخل الشيخ الغزالي رحمه الله إلى الموضوع ، بل تجاوز الحدود إلى وصفه بالشيخ الإرهابي المتنكر!
يغضبون من أجل رأي النائب الذي يمثل السلطة التي يخدمونها ، ولكنهم أبدا لا يغضبون من كلاف الحظيرة الذي رأى أن القرآن الكريم فيه ما يخدش الحياء ، ويطالبون بإغلاق الملف لأن الكلاف الحظائري لا يحب المشكلات ، مما يعني أن شأن القرآن عندهم أهون كثيرا من شأن نجيب أو أفلامه التي قدمها أحد المخرجين وحشد فيها العوالم والغوازي والرقص والمشاهد التي لا تناسب العرض على الأسرة، مما دفع نجيب محفوظ في حينه أن يكرر أكثر من مرة أنه مسئول عما يكتب، وليس مسئولا عن تحويل أعماله إلى السينما أو التلفزيون أو الإذاعة .
ثم تأمل موقف السماسرة والكلافين من الإساءة التي وجهها متعصب حاقد إلى الشيخ الشعراوي واتهامه - رحمه الله - بأنه مهد أرضا خصبة للإرهاب والتطرف. لقد بلعوا ألسنتهم وسكتوا بل إنهم استنكروا أن يُرفع الأمر للقضاء، واتهموا الحسبة والمتخلفين والظلاميين بمحاربة الفكر والإبداع، ولم يقولوا للمتعصب الحاقد: كف عن هذا الإجرام الذي يعبر عن انتقام خسيس من رجل في ذمة الله !
مهما يكن من أمر؛ فإن سماسرة الثقافة وكلافي الحظيرة لا يعنيهم أمر نجيب محفوظ إلا بقدر ما يحققون أهدافهم الرخيصة في إهانة الإسلام وأهله، خاصة بعد أن ماتت ضمائرهم ومنحهم النظام العسكري تكية ينزحون منها بالقانون ما يملأ جيوبهم وبطونهم ويزيد أرصدتهم في البنوك بعد أن كان بعضهم يمضي بحذاء مخروم!
لاشك أن أمر نجيب محفوظ يعنيني بحكم التخصص وبحكم أنني أحمل قلما يخاطب الناس ويقدم شهادته على الرجل الذي يشغلهم من خلال كتاباته وتصوراته، وسبق أن أشرت إلى ذلك في بعض المناسبات .. ويهمني الآن أن اشير إلى إحدى رواياته التي اهملها دارسوه، ولم يشر إليها بعضهم إلا نادرا . أعني روايته "العائش في الحقيقة".
تنتمي هذا الرواية إلى ما يعرف بالروايات الفرعونية أو تلك التي استلهمت التاريخ المصري القديم : كفاح طيبة ، عبث الأقدار ، رادوبيس ، ويمكن أن نضيف إليها بصورة ما رواية "أمام العرش" التي تتناول تاريخ حكام مصر منذ فجر التاريخ حتى العصر الحديث .
كتب نجيب رواية "العائش في الحقيقة" عام 1985 بعد سنوات طوال من الكتابة القصصية، كتب فيها الرواية التاريخية والواقعية والنفسية والبوليسية ومسرح العبث أو اللامعقول والأسطورة، واستيحاء ألف ليلة وليلة ورحلة ابن بطوطة. في "العائش في الحقيقة" يوظف تأملاته من خلال التاريخ المصري القديم ليطرح معادلة السيطرة على الشعب بالسلاح وتجار الوثنية وكهنة الدين في مواجهة الحكم بالحب والحوار تحت ظلال الإيمان والتوحيد. إنه يتناول دور الكهنة والقادة والنخبة والتجار (الدولة العميقة)، وتفضليهم للمصالح والمظاهر على حساب القيم والأخلاق .
حين يتولى إخناتون السلطة بعد والده ، يسعى لنشر التوحيد ، وإزالة وثنية آمون والقضاء على نفوذ الكهنة الذين يروجون لعبادته ، ويقيم عاصمة جديدة (أخت أتون) فيها معبد الإله الواحد ، ونظام الدولة التي تقوم على الحوار والسلام والحب . ولكن الأمر يزعج الكهنة والقادة وكبار القوم لأنه يهدد مصالحهم، ويقررون عزله من الحكم وحبسه في قصره وإنهاء حياته اغتيالا، والرجوع إلى العاصمة القديمة (طيبة) ، وفعلوا الشيء نفسه بزوجه المحبوبة نفرتيتي التي عزلوها منفردة في أحد قصور العاصمة المهجورة التي لم يعد يسمع فيها أحد صوتا ولا حركة.. أطلقوا على إخناتون وصف المارق ، وعلى نفرتيتي زوجة المارقة، وقاموا بحملة تشهير نزعت منهما كل فضيلة. ومن خلال رحلة يقوم بها مري مون ابن أحد كبار الدولة العميقة بحثا عن الحقيقة؛ يقابل كل الباقين على قيد الحياة من رموز هذه الدولة ومن المتعاطفين مع اخناتون، فينقل إلينا آراءهم وتصوراتهم وصراعاتهم .
مري مون يقوم برحلته من أجل الحقيقة، ويقول لوالده " .. إن رغبة مقدسة تغزوني مثل ريح الشمال كي أعرف الحقيقة وأسجلها كما كنت تفعل في صدر شبابك يا أبي .." وذلك ليعرف كل شيء عن المدينة الغريبة التي سماها أبوه مدينة المارق ، المدينة الكافرة الملعونة . إن رغبة مري مون تأتي تأكيدا لمقولة الحكيم قاقمنا "لا تحكم في قضية حتى تسمع الطرفين " ( العائش في الحقيقة ، مكتبة مصر ، 1985 ، ص 3 ، 4) .
يرحل مري مون مزودا من أبيه بتوصيات لشهود الإعصار الذي حل بالإمبراطورية المصرية، فيلتقي بكاهن آمون والحكيم آي وحور محب والمثال بك وتادوخيبا زوجة أمنحتب الثالث ووزير الرسائل توتو وزوجة الحكيم آي وابنته موت نجمت ومري رع صديق إخناتون المخلص وقائد جيش الحدود ماي ومحو رئيس الشرطة السابق وآخرين من الوزراء والقادة والحكماء وبعض النساء المؤثرات في السلطة .
سنكتشف أن ممثلي الدولة العميقة وعلى رأسهم كاهن آمون يرفضون التوحيد وينالون من إخناتون ، " نحن نعرف كيف نصيد الحقيقة وإن امتنعت عن الكثيرين. لنا من السحر قوة ، ولنا من العيون قوة .. فالمارق مجهول الأب ، فاقد الرجولة ، مؤنث الصورة ، متنافر القسمات ، وعلى مثال أبيه تزوج من فتاة من الشعب ، جمعت في شخصها مثل أمه بين الأصل الشعبي والطموح الجنوني والفسق ... ما كان رجلا أو امرأة ، وكان ضعيفا لحد الحقد على الأقوياء جميعا من رجال وكهنة وآلهة ، وقد اخترع إلها على مثاله في الضعف والأنوثة تصوره أبا وأما في وقت واحد ، وتصور له وظيفة وحيدة هي الحب !..." ( السابق ، ص 11) .
في المقابل نجد مري رع الكاهن الأكبر للإله الواحد يطرح الرؤية المقابلة " ما الكهنة إلا دجالون ، يستعبدون الضعفاء ،وينشرون الخرافات ، وينهبون الأرزاق، معابدهم مواخير، وقلوبهم ثملة بحب الدنيا .. فاكتشفت فيه قوة حقيقية أخفاها عن الأعين بنيانه، وشجاعة لا يحظى بجزء منها حور محب قائد الحرس أو ماي قائد الحدود. وقد حسبه الناس لغزا لا يحل ولكنه وضح بالنسبة لي مثل نور الشمس . لقد فني في حب إلهه وأحبه الإله فكرس حياته لخدمته ملقيا بالعواقب جانبا .." (نفسه ، ص 99) .
لقد تآمر عليه الخونة واقتضى نجاح حملة التحريض وقتا طويلا, ولكنه بعث إلى المتمردين رسائل حب بدلا من جيش الدفاع، مع أن قادة عديدين انبهروا به وآمنوا برسالته وكان في إمكانهم القضاء على التمرد. وكان يعد بتوزيع الأوقاف على الفقراء ودعوة شعبه إلى عبادة الإله الواحد وهجر معابد الشرك. وكان يقول :
" – لن آمر بسفك نقطة دماء واحدة " ويهتف :
" لا يهمني العرش إلا باعتباره وسيلة لخدمة الإله!"
ولكن الجنون استحكم وانتصر القدر ( الرواية ، ص 161) .
تقول نفرتيتي حين جاءها خبر موته :" لعلهم اغتالوه ليؤمنوا نصرهم الزائف، ففارق الدنيا المارقة ليستقر في قلب الخلود " ( الرواية ، ص 166) .
ولعل ختام الرواية الذي يسجله مري مون يؤكد أن الحقيقة تظل ساطعة ولا تموت ، فقد قال لأبيه كل شيء، ولكنه أخفى عنه أمرين : ولعه بالأناشيد ( رمز التوحيد ) وحبه العميق لتلك السيدة الجميلة يقصد نفرتيتي التي شوهوا سيرتها ومواقفها.
لا ريب أن هناك وجوه شبه عميقة بين ما جرى في الانقلاب العسكري الدموي الفاشي مؤخرا وبين ما جرى لإخناتون، وهو ما يطرح سؤالا : هل كان نجيب محفوظ يتنبأ بالانقلاب مع الفارق الزمني الذي يقارب ثلاثين عاما ؟
آية الأدب الرفيع تفسير حوادث التاريخ والتنبؤ بدلالاتها وخاصة في المجتمعات البائسة .
وسوم: العدد 702