قراءة في المجموعة القصصيّة "التّيه" للقاص والرّوائي التّونسي حسن السّالمي
رحلة في تيه الكيان الإنسانيّ
يضعنا القاص والرّوائي حسن السّالمي في مجموعته "التّيه" أمام عنوان للمجموعة ذي دلالات مرتبطة بالسّلوكيّات الإنسانيّة على المستوى الفكري والرّوحي والاجتماعي والعلائقي. فيختزل معنى التّيه في مجموعة قصص متماسكة النّسيج، مشكّلة جسداً واحداً. وكأنّي بالقارئ أمام كيان إنسانيّ يتدرّج تيهه من المستوى المكانيّ مروراً بالتّيه المرفق بالتّشبّث الجاهل وصولاً إلى العلاقات الاجتماعيّة. ثمّ يبلغ التّيه ذروته في السّلوك الإنسانيّ المرتبط بالأخلاقيّات. فيشهد القارئ تيه الإنسان عن ذاته، كما عن محيطه، ويتعمّق الكاتب ليصل في تعبيره عن التّيه المرادف للغربة في داخل الإنسان. وبالتّالي فالقارئ أمام شكل من أشكال التّعبير عن التّيه الإنسانيّ المتجذّر في الحياة الاجتماعيّة أوّلاً، وفي الدّاخل الإنسانيّ ثانياً، بفعل الفوضى الإنسانيّة الّتي تعبّر عنها السّلوكيّات والممارسات الإنسانيّة.
يفتتح الكاتب مجموعته بقصّتين يتكوّن إطارهما في الصّحراء (لدغـــــة ص4/ التّيـــــه ص6)، فتأتي دلالة الصّحراء في سياق الوحدة، والفراغ، وفقدان دلالة الاتّجاه. ما يرمز إلى التّيه المكانيّ، خاصّة أنّ القصّة الأولى تبيّن ظروفاً إنسانيّة قد تودي بحياة الشّخصيّة إلى الموت. لم يتدارك الرّاعي المأخوذ بهواجسه وأفكاره، خروج حيّة من وكرها لتبثّ سمّها في لحمه، فما كان من السّمّ إلّا أن يدفعه إلى شفير الهاوية. والتّيه هنا يعبّر عن القلق السّاكن في النّفس الإنسانيّة (غير بعيد عن قطيع الإبل الباركة في عرض الصّحراء، جلس راعيها على الأرض يعالج إبريق شاي على نار هادئة، وقد طوّفت به أفكاره وحبلت رأسه بهواجس لا حصر لها./ ص5). لكنّه يجنح كذلك إلى التّيه نتيجة الوحدة (أيقن بالنّهاية، ولأوّل مرّة يشعر بقسوة الوحدة، سيما والمضارب جدّ بعيدة.. التفت حوله في يأس.. لا شيء إلاّ هذه الصّحراء القاتلة بصمتها وسكونها... / ص5).
حرص الكاتب على سرد القصص بدقّة ملازمة للشّخصيّات والظّروف، بل رسم السّلوك الإنسانيّ ببساطة تتيح للقارئ أن يتأمّل ذاته وكأنّه أمام مرآة تعكس تصرّفاته أو تصرّفات الإنسان بشكل عام تجاه مواقف عدّة، كالسّلوك الّذي يعبّر عن تيه الإنسان عن إنسانيّته في قصّة (من ثقب إبرة/ ص20). فتلك السّيدة المزمعة ألّا تلبس إلّا ما اشتعل سعره وغلا ثمنه، تبيّن الفراغ الإنسانيّ الدّاخليّ من جهة، وارتباط القيمة الإنسانيّة بالمادة من جهة ثانية. ما يدلّنا على تيه يجتاح المجتمع، بحيث فقدت القيمة الإنسانيّة قدسيّتها؛ لأنّ الإنسان يبحث عمّا يعزّز ظاهره لا عمقه الإنسانيّ.
(صكّت الأرض برجليها، دافعة بالفستان إلى البائع في اشمئزاز واضح، كما لو كانت القذارة بين طيّاته.. التفتت إلى صاحبتها قائلة والزّبد على شفتيها:
- أمثلي يلبس هذا!
- لكنّه رائق عليك.. أظهرك كأجمل ما تكون النّساء!
- أيّتها المجنونة.. لا ألبس إلاّ ما اشتعل سعره وغلا ثمنه!/ص).
يتجلّى التّيه بقسوة في قصّة (المثبّطون/ ص22) حيث يتعرّض مخترع للتّحقيق بسبب اختراعه الّذي هدف من خلاله خدمة وطنه. وإذ يتمّ نبذه تنكشف في ذاته الغربة داخل الوطن ("ذروني وحيداً. لا أنيس لي إلاّ بقايا أمل يوشك أن يندثر..")، ("ويظلّ هذا الصّحن يدور في رتابة، يأكل من أحلامي كلّ حين.. فلمّا خرّ سقفها وأتى عليها الدّمار، قيل لي: أخرج.. ولا تعد إلى مثل اختراعك.. الوطن لا يحتاج إليك!"). إنّه التّيه المرادف للإحباط، وفقدان القدرة على تحقيق الهدف، والمترافق والشّعور بالخذلان وخيبة الأمل. غالباً ما يرسم الإنسان صورة محدّدة لوطنيّته إلّا أنّه يواجَه الخيبة عندما يصطدم بواقع مغاير لذلك الّذي آمن به. (بعد أيّام أخرى شاهدوه في السّوق جالسا على الأرض، يبيع مناجل ومحشّات من صنع يده!)
وما يلبث الكاتب أن يعبّر عن التّيه المرتبط بالجهل والخرافات المبيّن للجانب الإنسانيّ القلق من المستقبل. فيبحث الإنسان عن ضمانة لظروفه وأهدافه وعلاقاته في دواميس الخرافات ليطمئن نفسه، ويضمن مستقبل علاقاته، سواء أكانت علاقة حبّ أم صداقة، أم عمل، أم نجاحاً وظيفيّا أو علميّاً... (التّميمة/ ص31)
يأخذ التّيه شكله الأشدّ قسوة في تأثيره في التّضليل الدّينيّ، حين يستخدمه الإنسان لتحقيق مآربه الشّخصيّة، فيتوه عن نفسه وعن الله، بل وينصّب نفسه إلهاً ليستحكم ويتحكّم. (حكاية منبر/ ص 116). يربط الكاتب هذا التّحوّل السّلوكيّ الديّنيّ بالثّورة، ولعلّه يرى فيها تدخّل أطراف استغلتها في سبيل السّيطرة مستغلّة الدّين لتحقيق أهدافها. (أنت.. انزل.. سوّد الله وجهك.. لا يجلس على هذا المنبر إلا تقيّ!). ولعلّه يرى الوجه السّلبيّ للثّورة، إذ إن هذا التّحوّل أتى سريعاً. فالكاتب يستخدم عبارات تدلّ على جهوزيّة تمهّد لهذه الأطراف الوصول إلى أهدافها (أسبوع واحد بعد الثّورة/ أسبوعان بعد الثّورة). وسيؤدّي هذا التّحوّل الدّينيّ إلى نزاعات وصراعات بين أبناء الدّين الواحد:
(والتقت الهراوات في سماء المسجد.. هوت على الرّؤوس والأذرع والأيدي، فتدافع الرّجال حتّى سال الدّم...
قيل أنّ الملائكة بكت في ذلك اليوم.. كذلك فعلت السّماء...).
وهكذا يتطوّر مفهوم التّيه، ليشمل الكيان الإنسانيّ، ويصبح هذا المعنى مفتوحاً على دلالات أعمق مما تنتجه البنية الصّوتيّة لهذا المصطلح، جغرافياً واجتماعيّاً ودينيّاً وسياسيّاً كذلك، وبهذا تغدو مهمّة الأدب مهمّة مضاعفة في تحميل الألفاظ أبعد ممّا يتصوّر القارئ؛ إنتاجاً لنصّ معرفيّ زاخر بأدواته الفنيّة المعبّرة.
وسوم: العدد 706