النّقد الثقافيّ والصراعات الطائفيّة
ترتكز القراءات الجديدة للنصوص والواقع على الدراسات الثقافيّة المتنامية في الغرب منذ أوائل الألفيّة الثالثة، التي تعزى إلى التفكير ما بعد الحداثي في تناول مشكلات البشر والعالم والحضارات المعاصرة والكون، والمبيّنة لمنظريها أن أصل تلك المشكلات يعود إلى الاختلافات الثقافية Cultural Diversity بين الجماعات، الأمر الذي أدّى إلى ظهور كثير من الصراعات الثقافيّة التي لا مناص من الكفاح والمقاومة الثقافية للتخفيف من حدّتها أو السعيّ لإدارتها، وتقصّي جذور تكوّنها وتتبع آثارها الفاعلة في الواقع الراهن. ولعلّ تحليلَ النصوص والمخطوطات المؤسّسة لهذه الصراعات ونقدها نقدًا ثقافيًّا خطوةٌ على درب المقاومة الثقافيّة؛ ومن الممكن القول أنّ معظم الكتب الدينية والطائفيّة تندرج ضمن النصوص المؤسّسة لصراعات الهويات الثقافية، وبناء عليه فما خفيّ في بواطن تلك الكتب هو أهمّ ما يشتغل الباحث على قراءته؛ إن كان إخفاء مضامينها ناتج لترهات التلفيق فيها، أم لصون قداستها المتوهمة في رءوس أصحابها، أو كما قال حقّي بك العظم بسبب أن: "حفظتها مستغرقين في هناءة دفئها، يتنعمون بتلاوة رسائلها، ويسيغون تكرارها واجترارها، ومعظمهم لا يكلّفون أنفسهم عناء فهمها واستجلاء غوامضها وفكّ رموزها وحلّ طلاسمها"[1]، وبيت القصيد في هذا الأمر تعريّة العيوب النسقية المنتشرة في أركان المجتمع المتعالقة مع الأنماط الثقافية المتغلغلة في سياقات تلك النصوص، لأنّ ذلك يشكّل قطب الرحى لإفساح المجالات لمعرفة الناس لمصائرهم، وسيرهم على درب الكفاح ضد طغيان الجماعات (المنجمعات) على الفرد الذي طالما يستمرئ حالات ضعفه، ويتنازل عن فعالية ذاته الفرديّة، ويلغي إنسانيته، ويذعن للكلّ المنتمي إليه على غير إرادة منه.
إنّها الدرب الوحيدة، درب المقاومة الثقافية القاضيّة بالانتصار للذات الفاعلة المؤسّسة لبناء مجتمع حديث، والكفيلة بجعل الأفراد هم من يقودون المجتمع وليس العكس.
إذا بقيت أحوال الأمة، أفرادًا ومجتمعًا ودولة، رهينة للعقول المتخلفة والجاهلة بالتعامل مع التراث ومع معضلات الحاضر، فإننا سائرون نحو الاضمحلال، حيث إنّ: "نرجسيتنا العقائديّة وتشبيحاتنا المثاليّة وهواجسنا العُصابيّة حول الهويّة الثقافيّة ساقتنا، من حيث لا نعقل، إلى التعامي عن الواقع والحقيقة، لكي نضاعف المآزق، ونعيد إنتاج الأزمات"[2] ونكون من الذين تساءل جاك دريدا عنهم: "...أولئك الذين لم يعودوا هنا، أو أولئك الذين ما زالوا غير حاضرين وغير أحياء، فأيّ معنى يكون في طرح السؤال، أين؟ وأين غدًا؟ وإلى أين؟"[3]، وإذا كان التفاؤل مشروعًا لشعوب هذه الأمة مع انطلاق ثورات الربيع العربي منذ نهايات عام 2010 مع شباب أدركوا أهميّة وقيمة التصدّي للجهل والفساد والقهر بظلّ أنظمةِ حكمٍ، كادت أن تخرج العرب من التاريخ، إن لم يكن من طبيعتهم الإنسانية، إلاّ أنّ حجم العداء الخارجي لهذه الأمّة بتواطؤ دوائر الفساد الإقليمي والعالمي مع ممثلي تيارات الفكر السياسي القديم في السلطة السياسية وخارجها، وبتمكين الأقليات الطائفية والإثنية من التحكّم بالبلاد والعباد، وبالسماح للحركات الظلامية التكفيريّة بالانتشار، حال دون استكمال انتصار هذه الثورات التي لا تزال شعلتها تتأجّج كرمز لاستشراف مستقبل يضع الأمة على دروب التقدّم الحضاري؛ وليستحيل عندئذٍ الواقع نصًّا إبداعيًّا حاملًا لمعانٍ، نصٌّ يتحوّل فيه الواقع من أحوال ركام العدميّة التي تتلاشى اليوم، ليحلّ مكانها أبنية التجديد بعد انبعاث طاقات الذات الخيّرة، وهذا لن يحصل إلاّ بترقّب ارتدادات هذه الثورات التي لن تُدرَك إلاّ من خلال: "الوعي التاريخي الذي لا يحصل إلّا في عهود التقدم والازدهار"[4] الذي يعقب أحداث التاريخ الكبرى.
من الممكن القول إنّ البلدان العربيّة تعيش مرحلة مفصليّة من تاريخها الذي أتخم بالأحداث منذ عهد النبوّة الأول المحرِّر لهذه الشعوب وإلى الآن، تلك الأحداث التي ورّثت أنماطًا مجتمعيّة لا تزال فاعلة حتى الوقت الراهن، وفيها الكثير من العيوب النسقيّة التي تلغي السمات الفردانية لمصلحة الدين أو الطائفة أو القبيلة أو الحزب، والمتعارضة مع مقتضيات الحضارة المعاصرة التي تُعلي من شأن الذات الفاعلة، وتعتبر الفرد حجر الزاوية في بناء الأوطان، فحريّ بالقراءات النقديّة الثقافيّة الراهنة أن تعيد الحيويّة للذات الفاعلة على حساب الولاءات الأولية للأقليات المنجمعيّة، الدينيّة والطائفية والقبلية والإثنيّة، وحريّ بنقادها الثقافيين أن يسهموا بخلق الفرد الفاعل، ليتيحوا له فرص توجيه حياة الجماعات، وتسليط الأضواء على مضار طغيان الثقافات الجمعيّة على إنسانية الإنسان وفردانيته، إلى أن تعمّ وتنتشر ثقافة الاختلاف وسط الائتلاف على حساب الانصهار والتماثل، وتشجيع التواصل الثقافي بمواجهة الصراعات الثقافية، مما يسمح بخلق المثقف العضوي[5] Organic intellectualعلى حساب المثقف الأداتي، وتستبدل المقولات الثقافيّة بدلًا عن السياسية والاجتماعية والاقتصادية، للإسهام بوضع تصوراتٍ قادرة على فهم وتفسير وتأويل ما يحدث اليوم من أحداث خطيرة أساسها المغالاة بالنحننية والانتماءات الثقافيّة.
منذ أكثر من نصف قرن طالب عبد الله النجار المفكرين ألاّ يتهيبوا من القلة المتنفذة بالأديان والطوائف، ولا يخشوا إزعاجها، ولا يتحاموا على نقمتها، ولا يتحاشوا غضبها موضّحًا: "لم تقحم النخبة المفكّرة نفسها في ما هو من شأن سدنة الإيمان، وإنْ فرطوا في الدين، ولم ينبروا للدفاع عنه، حتّى قرع العلم باب الإيمان لإنصافه بالنظرة الموضوعيّة، ونفْض ما تكاثف عليه من غبار، وفحص ما تضاربت حوله الآراء والأفكار، فلم يبق ما يبرّر سَتْره في زمن تنصرف فيه العقول إلى ما هو أجدى من غيبيات لا طائل تحتها بعد عصور من الاختلاف على المجهول"[6] وما قاله النجار هو ما يتوجب الطموح إليه، وبأن: "ينفتح باب العلم على مصراعيه، ولو كره المطمئنون خلف جدرانه"[7] لتندرج في عداد الدراسات الثقافيّة التي تعتبر البشرَ كائناتٍ ثقافيّةً، وتولي صراعاتهم اهتمامًا بمنحها أبعادٌ ثقافيّة أكثر منها اقتصادية أو اجتماعيّة أو سياسية، ولذلك فتحليل جلّ الكتب والفتاوى والمخطوطات الدينيّة المتغلغلة على شكل عيوب نسقيّة حاكمة لوعيّ وسلوك الناس في مجتمعنا ومحاكمتها، بما فيهم نصوص أهل السنّة الذين طبعوا تاريخ البلدان العربيّة بطابعهم، هو من ضرورات الحياة المعيشة، كما أنّ التحليل الثقافي لمخطوطات عتيقة لا تزال تنسخ بالأيدي وتُنشر بين طوائف الشيعة مسهمة بصياغة علاقات طائفيّة مجتمعيّة، وبصهر أفراد تلك الطوائف، التي تسير على دربها أيضًا جماعات التكفير الداعشية، في بوتقة ثقافتها اللاغية للذات الفاعلة الطامحة باتجاه التحضر الإنسانيّ والمعطّلة لمقومات وجود الأفراد الأحرار والمستقلّين عن الثقافة النحننية والولاءات الأولية[8]، إن التحليل والتقويم ومجادلة، بل محاكمة تلك النصوص القديمة إنتاجًا والفاعلة حاضرًا ضرورة من الضرورات كخطوة على درب الخروج من هذا النفق المظلم الذي تعيشه بلادنا، ومن الضرورات أيضًا إخضاع مكوناته للنقد الثقافي الكاشف للأنماط والعيوب النسقيّة الثقافية الفاعلة في العلاقات المجتمعيّة لحظة تلقياته.
[1] - حقّي بك العظم، نشأة الدروز ومذهبهم (دار فتى النيل: القاهرة، مندون تاريخ)، ص9
[2] - علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك (المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت، ط1، 2005) ص235
[3]- جاك دريدا، أطياف ماركس، ترجمة، منذر عيّاشي (مركز الإنماء الحضاري: حلب، ط2، 2006م) ص18
[4]- عبد الله عروي، مفهوم التاريخ، ج1 مرجع سابق، ص29
[5] -المثقف العضوي: ويطلق عليه أيضًا المثقف الفاعل أو المشارك أو المتفاعل، وهو الذي يهتمّ بالقضايا المجتمعيّة وأوضاع الإنسان المعاصر، ويركّز في نقده على كل ما يؤدي إلى القهر والفساد والظلم، إضافة إلى نقد الهيمنة على الناس سواء كان الفاعل مؤسسات اقتصاديّة أو قوى سياسية أو إيديولوجيات دينية أو كيانات مجتمعية تقليدية. والمثقف الفاعل عكس المثقف الأداتي المغترب عن مجتمعه، ولا يهتمُ بقضايا الحريات وحقوق الشعوب ونقد قوى الهيمنة والفساد في المجتمعات، كما أن فعله لا يتعدى حدود مكتبه الذي يعمل به، إنّه شبيه بالأداة أو الآلة التي تعمل من دون عواطف وبلا أفق إنساني وسياسي. وقد ذكر عن أهمية فعالية المثقف العضوي بالأحداث: "إذا لم يكن المثقف مناضلاً وملتزمًا فإنّ مشكلات كبرى تنتظر مستقبل البشريّة"
رشيد الحاج صالح، العودة من المجتمع إلى الفرد، (عالم الفكر: الكويت، العدد 4، المجلد 43، 2015) ص54
[6] - عبد الله النجار، مرجع سابق، ص10
[7] - المرجع نفسه، ص9
[8] - تشترك كل الأديان والطوائف بالعيوب النسقيّة المذكورة في شرح ميثاق ولي الزمان، وهناك مئات، بل آلاف المخطوطات والفتاوى والنصوص العتيقة والجديدة التي لا تزال مسيّرة لطوائف وأديان وأحزاب...
وسوم: العدد 716