قارب الموت والظمأ العظيم 6

تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (6)

 (6)

"حشرجات روح"

تحليل قصّة "الكلب ليبر يموت"

---------------------------------

 

(عندما يكون الرجل وحيدا ، حتى المصباح يكون صديقا جيدا)

                                       (فيلم lost city the)

قبل أن أتناول بالتحليل – طبعاً جماعة البنيويين يسمّونها "مقاربة" وليس تحليلاً - قصّة "الكلب ليبر يموت" ، يهمني القول إنّ القاص علي القاسمي لم يضع نصوصه القصصية في هذه المجموعة الواحد بعد الأخر بصورة عشوائية أو عفوية غير مقصودة ، فحين أعيد النظر في مضامين هذه النصوص أجد كأن مضمون الواحد منها يعزّز النصّ الذي يليه والذي يسبقه ، بل يضيىء الكثير من مكامنه ، ويرسّخ تأثيراته في نفس المتلقي وعقله . فقصّة "البحث عن قبر البياتي" تتضمّن بحث مواطن عربي – وإن كان نابغة – عن قبر صديقه النابغة الُمضيّع ، يقابل ذلك ويرسّخه بالتناقض بحث السيّاح الآتين من جزيرة الرشاقة عن آثار الحضارة البائدة في قصّة "جزيرة الرشاقة" ، لتتفق القصّتان أيضاً ، في الخراب الحضاري النهائي الذي تنطوي عليه الحكايتان بسبب عدم تصدّي الإنسان لمسؤوليته ؛ الأمانة التي تحمّلها في حين اشفقت منها الجبال والسماوات ، تلك المسؤولية التي كان تناسي الرجل الركّاض في قصّة "الكومة" لها واستخفافه بها سبباً في موت العجوز المسكينة من البرد في العراء ، ونفس مشاعر الانخذال والعجز أمام وحش المُثكل الذي يجتث الإنسان والتي جلّلت الرجل وهو يأوي إلى سريره في قصّة "الحمامة" ، نجد جذورها كامنة في تربة التفرّج والتنصل من المسؤولية . ومن إحدى الثيمات المركزيّة في هذه القصّة المتمثلة في عجائب هذا العالم الجائر المُشينة في قتله الأطفال ، والحطّ من كرامة الإنسان وقدره ومسخ وجوده ، ننتقل إلى قصّة "الكلب ليبر يموت" التي يستهلها القاص بأربعة اسطر تكشف – بالإضافة إلى دلالات العنوان المباشرة - الموضوعة المركزية للقصّة بخلاف عادات القاسمي في قصصه الأخرى حيث يكون الإستهلال خطوة تمهيدية عند العتبة ؛ عتبة النص . فمن هذه الأسطر نفهم مباشرة أنّ هناك كلباً اسمه "ليبر" يُحتضر في بيت صاحبته الفرنسية ، وأنّ حشرجات احتضاره تصل مسامع "سمير" الشاب العربي الذي استأجر غرفة في البيت ، والذي يبدو غير متعاطف مع هذه الحادثة ؛ حيث تؤرّقه أصوات توجّع الكلب منذ سبعة ايّام :

(أنفاس الكلب المريض تتردّد ، تتصاعد ، تتلاحق ، وتمتزج بحشرجة ، فتطرد النوم الوجِل المتعثّر على أهداب عينيّ سمير . منذ سبع ليالٍ متواصلة ، والكلب ليبر يحتضر في الغرفة المجاورة حيث تنام صاحبة المنزل ؛ والجدران المصنوعة من ورق مقوّى لا يقوى على منع توجّع الكلب أو صدّ عبارات المواساة التي تردّدها صاحبته الفرنسية ، من اختراق أُذُني سمير ، وحرمانه من النوم) (ص 257) . 

بعد ذلك لا يبدو سمير غير متعاطف مع حشرجات احتضار الكلب ليبر وعبارات المواساة التي تُطلقها صاحبته مدام "ديبون" ، بل هو ناقم وحانق ، تغزوه بين وقت وآخر فكرة التخلّص من الكلب ، فقد جاء من ثقافة ترى أنّ الكلب كلب والإنسان إنسان ، إلى مجتمع – وهذه بالنسبة لي من علامات الانحطاط الحضاري مهما كانت الذرائع – أصبح للكلب فيه كل حقوق الإنسان عدا حقّ الانتخاب والترشيح ! كان أهالي قريته الصغيرة يتخلّصون من الكلب المُحتضر (فيريحون الكلب المسعور أو المسلول ويستريحون) . إنّه يفكر في هذه الطريقة منذ أيّام ، لكنه لا يعرف السبيل إلى تنفيذها ! :

(فالوصول إلى القمر أيسر من الانفراد بالكلب ليبر هذه الأيام ؛ إذ إن المدام ديبون لا تفارقه البتّة ، فهي تمرّضه ، وتواسيه بلمساتها ، وهمساتها ، ونظراتها الحزينة ، طوال النهار . إذن متى يموت الكلب ليبر فيستريح ويّريح ؟ ) .

كان سمير قد بدأ بتحمّل عبء إضافي في مساعدة صاحبة الكلب في محنتها المتمثّلة بالعناية بكلبها الموشك على الموت ، فقد كان عليه أن يساعدها على حمل هذا الكلب في بساط ، والنزول به إلى الطابق الأرضي ، لكي يقضي حاجته في الشارع المجاور كما تعوّد ، ثمّ عليه أن يحمله معها ، ويرتقي السلالم الطويلة ، ليصل إلى الطابق الرابع ، وهو يحاول أن يُخفي لهاثه ، ويضبط أنفاسه . كان الكلب كبير الحجم وثقيل الوزن من نوع الراعي الألماني المعروف. (ص 257) .

والمشكلة أن المدام لم توافق على رأي الطبيب البيطري الذي عرَضتْ عليه ليبر لعلاجه واقترح عليها إعطاءه الحقنة (القاتلة) ، واعتبرته سلوكا وحشياً بحق كلبها من جانب ، وتعبيراً عن أن الفرنسيين قد فقدوا الذوق واللطف الرفيعين اللذين كانوا يتحلّون بهما . لاحظ أنّ الفرنسيين كانوا يحرقون الجزائريين وهم  أحياء وبالمئات .. هل يتذكّر سمير ذلك ؟ إن لم يتذكّر فقد تكون هذه إيحاءات من القاص . وإن لم يكن القاص يقصد هذه الإيحاءات فعلى الناقد (القديم) أن لا يتردّد أبداً في كشف هذا التناقض المُريع في سلوك هؤلاء البشر ، فالفرنسيون يخصّون الكلب بكل الحقوق في باريس ، ويحرقون البشر أحياء خارج بلادهم . بل هم يقتلون العرب – قوم سمير - حتى داخل بلادهم الفرنسية نفسها ، حيث يجد الناقد لزاماً عليه أن يُذكّر بمجزرة نهر السين التي كان رجال الشرطة الفرنسيون (في عهد ديغول مشعل الحريّة الذي نطبّل له !) يوثقون أيدي الجزائريين إلى الخلف ويرمونهم أحياء في نهر السين (هذا ضمن مجزرة 17 تشرين الأول / أكتوبر عام 1961 أي أنها في ذروة الحرّية والتطوّر الفرنسيين وليست في القرن التاسع عشر .. ولا يقل لي أحد هذا ذنب رجال الشرطة فما هو ذنب المدنيين الفرنسيين من سكنة باريس ، فقد (شارك في المجزرة قسم كبير من سكان باريس عبر تستّرهم على اصطياد الناس في الشوارع او ارشاد الشرطة الى أماكن تواجدهم أو حتى الاشتراك المباشر في القبض عليهم واهانتهم ، وتواطأت خلالها وسائل الاعلام مع الجلادين) (15) . (الغرقى في نهر السين عُثر على بعضهم في مصب النهر البحري وبعضهم الآخر في مدن على مجرى النهر بعيدا جدا عن العاصمة . ولم يتم التمييز بين أعمار الغرقى وجنسهم ، ومن بينهم فتاة جزائرية في الخامسة عشر من عمرها وجدت غارقة في النهر مع محفظتها المدرسية) (16) .

والمدام تحاول إقناع سمير ، الناقم بصمت ، بأنّه – أي سمير – لا يوافق على موقف الطبيب لأّنه من من ورثة الحضارة العربيّة (التي تعرف عنها الشيء الكثير ، فهي حضارة تعتبر الكلب كائناً حيّاً كالإنسان ، له مشاعره وأحاسيسه التي ينبغي مراعاتها) (ص 258) .

لكن الراوي (والقصّة تُحكى بضمير الغائب ولا أعرف كيف هو ضمير غائب وسمير يتحرّك أمام أعيننا ؟!) ، يتدخّل ليصحح ما تقوله المدام فـ (هذه العجوز تهرف بما لا تعرف) . إنّها لا تعلم أنّ الكلب مع الخنزير هما الحيوانان اللذان – حسب بعض الموروث الإسلامي التراثي – لا يدخلان الجنّة لأنّهما يمارسان اللواط .. والكلب لدى قوم سمير نجس . وفي قريته ، حيث تُستخدم الكلاب للحراسة ، ليس هنالك من فلّاح يسمح لكلبه بولوج الكوخ أو الاقتراب من مجلس الجماعة . (الكلاب جميعها نجسة) . أمّا هنا ، في فرنسا ، فهم يطعمون الكلاب بأيديهم ، ويغسلونها في حمّاماتهم ، ويفعلون كلّ شيء من أجلها ، وحتى البقالات الكبيرة تمتلىء بالأطعمة الشهيّة الخاصّة بالكلاب (ص 258) .. وإلى الآن يتذكّر سمير موقفاً محرجاً وقع فيه في أوّل أيّام إقامته في باريس ، عندما اشترى بعض المعلبات ليأكلها ، وعاد بها إلى الدار ، فتهلّل وجه المدام وشكرته فقد كانت مُخصّصة للكلاب ، واعتقدت أنّه جاء بها هديّة لكلبها الحبيب ، وذكّرته بالمثل الإنكليزي : "من يحبّني يحبّ كلبي" .

والقاص ، وهذه ميّزة مهمة لديه في هذه القصّة ، "محايدٌ" حتى وهو يقدّم تفصيلات ومعلومات على لسان الراوي ، إنّه متوازن في نقله لأفكار وسلوكيّات شخصيتي الحكاية الرئيسيتين : سمير ومدام ديبون . إنّه يترك للقارىء حرّية توجيه مسارات انفعالاته ، فمن حقّ المتلقي أن ينفعل – إذا أراد – بمأساة الكلب . لكن على الناقد أن لا يكون "محايداً" لأنّه سوف يساهم في خديعة القارىء . وإذا كان الكاتب محايداً .. والناقد محايداً .. فمن يكشف دلالات النصّ وإيحاءاته ؟ . قد يقول ناقد حداثوي إنّ كشف الحقيقة من مسؤولية السياسيين والمؤرّخين . لكن هؤلاء لا يقرؤون الأدب بـ "روح" تنتصر للإنسان المسحوق ، بل بعقول مُحايدة أيضاً تصب في النهاية في مصب "مصلحة" معيّنة . كما أن الكثير منهم لا يقرؤون القصص ، فقراءة القصص تحتاج وقتاً ، وهم – كما هو معروف - يسخّرون أوقاتهم لخدمة الجماهير !!

وقفة :

ذكرت الروائية التشيلية "إيزابيل أللندي" في روايتها الجميلة "أنيس حبيبة روحي" :

(إن الإسبان إذا أرادوا تحريك مفرزة من فرسانهم في براري أمريكا الجنوبية ، يقوم كل فارس باختيار فتاة مُرضعة أو أكثر من الهنديات بعد أن يجبروهن على ترك أطفالهن لمصيرهم ، وقد يقذف الفارس بالرضيع جانبا فيتهشم أمام أمّه ... تُربط المُرضع الهندية بحبل ويجرها الفارس خلف جواده ماشية ، يفعلون كل هذه البشاعة والوحشية والقسوة ، فقط للاحتياط ، لكي يرضعوا أثداءهن إذا تعرّضوا للجوع أو العطش في وسط الصحراء ) (17)

كما ذكرت أيضاً :

(إنّ الجنود الإسبان كانوا يجرّون خلفهم الهندي بحبل مربوط حول رقبته في الصحارى ولمسافات بعيدة ، وعندما يموت هذا المسكين ، ولأن الجندي الإسباني يحتاج الحبل أكثر من الهندي ، فإنه لم يكن يكلّف نفسه بفكّ عقدة الحبل ، ولكن يقطع رقبة الهندي !!) (18) .

وإيزابيل أللندي من روائيي الحداثة .. أليس كذلك ؟ فما الذي يقوم به الناقد من موقف محايد تجاه هذا النص الروائي ؟

عودة :

إنّ الموقف السردي المحايد الذي اتخذه القاص جعله ينحرف بمسار الحكاية نحو الأرملة المدام ديبون صاحبة الكلب بصورة كلّية . لقد اختفى سمير من ساحة القصّة نهائياً قبيل نهايتها . لم يبق على مسرح الحكاية أمامنا غير المدام وكلبها . تركز السرد على محنتهما : المدام في وحدتها كأرملة معزولة في مجتمع تحطّمت فيه الأواصر الاسرية والإجتماعية ، والكلب في احتضاره الذي لا يتألّم له أحد غيرها ، فهي – وهذا ما ينقله الراوي – تصلّي من أجل ليبر الكلب ، وتستعيد في مخيّلتها صوراً من رفقتها الطويلة السعيدة معه ، رفقة بدأت منذ خمسة عشر عاماً . منذ خمسة عشر عاماً وهذا الكلب رفيق وحدتها ، وأنيسها في عزلتها . ثمّ يعرض علينا القاص الكيفية التي يملأ بها الكلب حياتها اليومية عبر ثلاث حركات زمنيّة :

# الليل و (الظلام يدثّر المدينة النائمة ، والمطر يغسل نوافذها برفق ، والريح تداعب أغصان أشجار حدائقها المستسلمة ، وليبر يضع رأسه الدافىء على فخذها ، فتستسلم للنوم ) (ص 259) .

# الصباح حيث يساعدها في إيجاد مفاتيحها وجلب حقيبتها البيضاء قبل خروجها ، ليبقى عاقلاً كما توصيه ريثما تعود .

# وفي العصر يخرج معها إلى الحديقة القريبة ، يقفز هنا وهناك .. وتتعرّف في الطريق على سيّدة أخرى تبادلَ ليبر التحيّة مع كلبها .

وحدة .. وعزلة .. وقلق .. وعندما يكون الإنسان وحيدا ، حتى المصباح يكون صديقا جيدا (19) .

اختفت الآن محاولة المقارنة الحضارية بين ثقافتين في موقفهما من الكلب ممثلتين بسمير العربي الساخط ، ومدام ديبون الحانية ، وبقيت ارتجافات روح إنسان وحيد متألّم مهما كان جنسه وعرقه وموطنه . لقد أزاح علي القاسمي "سمير" بروح إنسانية كبيرة – ولا أدري هل هذه الروح العظيمة هي التي تجلب علينا مصائب "الآخر" ، أم أنها روح المبدع صاحب الرؤية التاريخية  العالية الذي يريد لأدبه أن يكون منفذَ خلاصٍ للإنسان ، ولنصّه أن يعبر حدود الزمان والمكان ، أم هما الروحين معاً ؟ - .. نعم أزاحه ، ليس من أجل آلام كلب ، بل من أجل إنسان مستوحد لائب يبحث عن العون في وحدة خانقة ، وختم قصّته بنداء يوجّهه إلى أرواحنا المحزونة المختنقة بآلامها ، وذاكراتنا الجريحة التي لا تستطيع النسيان في درس إنساني عظيم سيهتز له وجدان سمير الذي أتخيّله الآن مازال أرقاً لليوم الثامن لكنه هذه المرّة يستمع لنحيب جديد :

(أنفاس الكلب ليبر تتلاحق صاعدة هابطة ، وتمتزج بحشرجة حزينة ، وتختلط مع نحيبٍ خافت ، ثم تتلاشى رويداً رويداً ، ولا يبقى سوى نحيب الأرملة المتوجّع المتقطّع) (ص 259) . 

ذيل قد يُفسد الخاتمة :

هذه بعض أقوال موثّقة لضبّاط فرنسيين عملوا في الجيش الفرنسي خلال احتلاله للجزائر :

يروي العقيد مونتانياك (Montagnac):

«أخبرني بعض الجنود أن ضباطهم يلحون عليهم ألا يتركوا أحدا حيا بين العرب.. كل العسكرين الذين تشرفت بقيادتهم يخافون إذا أحضروا عربيا حيا أن يجلدوا»

. يقول مونتانياك أيضاً :

«إن الجنرال لاموريسيير يهاجم العرب ويأخذ منهم كل شيء : نساء وأطفالا ومواشٍ . يخطف النساء، يحتفظ ببعضهن رهائن والبعض الآخر يستبدلهن بالخيول، والباقي تباع في المزاد كالحيوانات، أما الجميلات منهن فنصيب للضباط.(معسكر 31 مارس 1843)»

ويروي الضابط المراسل تارنو :

«إن بلاد بني مناصر رائعة، لقد أحرقنا كلّ شيء، ودمرنا كلّ شيء.. آهِ من الحرب ! ! ! كم من نساء وأطفال هربوا منا إلى ثلوج الأطلس ماتوا بالبرد والجوع (17 أفريل 1842)... إننا ندمر، نحرق، ننهب، نخربّ البيوت، ونحرق الشجر المثمر 5 يونيو 1841...أنا على رأس جيشي أحرق الدواوير والأكواخ ونفرغ المطامير من الحبوب، ونرسل لمراكزنا في مليانة القمح والشعير 5 أكتوبر 1842»

. ويروي الجنرال لاموريسيير :

«...في الغد انحدرت إلى حميدة، كنت أحرق كل شيء في طريقي. لقد دمرت هذه القرية الجميلة.. أكداس من الجثث لاصقة الجثة مع الأخرى مات أصحابها مجمدين بالليل.. إنه شعب بني مناصر، إنهم هم الذين أحرقتُ قراهم وسقتهم أمامي 28 فبراير 1843»

و يقول مونتانياك :

«النساء والأطفال اللاجئون إلى أعشاب كثيفة يسلمون أنفسهم لنا، نقتل، نذبح، صراخ الضحايا واللاقطين لأنفاسهم الأخيرة يختلط بأصوات الحيوانات التي ترغي وتخور . كلّ هذا آت من سائر الاتجاهات، إنه الجحيم بعينه وسط أكداس من الثلج (31 مارس 1842).. إن كل ذلك في هذه العمليات التي قمنا بها خلال أربعة أشهر تثير الشفقة حتى في الصخور إذا كان عندنا وقت للشفقة، وكنا نتعامل معها بلا مبالاة جافة تثير الرجفة في الأبدان (معسكر 31 مارس 1842).»

ويقول الجنرال شانغارنييه (Changarnier):

«إن هذا يتم تحت القيادة المباشرة لبوجو الذي راح جنوده يذبحون اثنتي عشرة امرأة عجوزا بلا دفاع في مدينة الجزائر (18 أكتوبر 1841)» (20) .

والأمر الذي لا يصدّقه عقل أي إنسان هو أن تقرّ الجمعية الوطنية الفرنسية في يوم 23 فبراير/شباط / 2005 ، قانوناً يبارك بشاعات ودناءات هذه المرحلة الكولونيالية الفرنسية ، ويعتبر الاستعمار الفرنسي (خصوصاً في الجزائر التي قتل منها الفرنسيون مليون ونصف شهيد) هديّة ووسيلة لإدخال الحضارة والتطوّر للبلدان المستعمرة ، وتنص المادة الرابعة من هذا القانون على أن على "برامج البحث الجامعي أن تمنح تاريخ الوجود الفرنسي فيما وراء البحار خاصة شمال أفريقيا المكانة التي يستحقها".

القصّة التي تمّ تحليلها :

الكلب ليبر يموت

__________

د. علي القاسمي

        أنفاس الكلب المريض تتردَّد، تتصاعد، تتلاحق، وتمتزج بحشرجةٍ، فتطردالنوم الوجل المتعثِّر على أهداب عينَيْ سمير. منذ سبع ليالٍ متواصلة، والكلب ليبر يحتضر في الغرفة المجاورة حيث تنام صاحبة المنزل؛ والجدار المصنوعة من ورقٍ مقوّى لا يقوى على منع توجُّع الكلب أو صدِّ عبارات المواساة التي تردِّدها صاحبته الفرنسية، من اختراق أُذنَي سمير، وحرمانه من النوم.

        كم مرَّةً غازلتْه فكرة التخلُّص من الكلب، ألحَّت عليه، ذكَّرته بالماضي، كانوا يفعلون ذلك في قريته الصغيرة، فيريحون الكلب المسعور أو المسلول ويستريحون. ولكن، كيف السبيل إلى ذلك؟ فالوصولُ إلى القمر أيسر من الانفراد بالكلب ليبر هذه الأيام؛ إذ إِن مدام ديبون لا تفارقه البتة، فهي تمرِّضه، وتواسيه بلمساتها، وهمساتها، ونظراتها الحزينة، طوال النهار. إذن، متى يموت الكلب ليبر فيستريح ويُريح؟

        في الصباح ـ وقبل أن يذهب إلى جامعته ـ كان عليه أن يساعد مدام ديبون على حمل هذا الكلب في بساطٍ، والنزول به إلى الطابق الأرضيّ، لكي يقضي حاجته في الشارع المجاور كما تعوَّد؛ ثُمَّ عليه أن يحمله معها، ويرتقي السلالم الطويلة، ليصل إلى الطابق الرابع، وهو يحاول أن يُخفي لهاثه، ويضبط أنفاسه. كم تمنّى لو أنَّ هذه السيدة اختارت كلباً أصغر حجمًا، وأقلَّ وزنًا من هذا الكلب الألمانيِّ الضخم من نوع الراعي، أو أَن هذه البناية القديمة لحقتها التكنولوجية الفرنسية على صورة مصعدٍ كهربائيٍّ.

        ـ لنسترِح قليلاً هنا، ياعزيزي !

        ـ كما تُحبِّين، يا سيدتي !

        ـ تصوّر، يا عزيزي سميغ، أنَّ الطبيب البيطري الثاني الذي عرضتُ عليه ليبر لعلاجه هو الآخر، وبكلِّ وقاحة، اقترح إعطاءه الحُقنة (القاتلة). ما أَبشَع هذه الوحشية !

        ـ لعلَّ الطبيب أرادَ أن يضع حدًّا لآلام ليبر ومعاناته، يا سيدتي !

        ـ لقد فقدنا، نحن الفرنسيين، اليوم، الذوق واللطف الرفيعيْن اللذيْن كنّا نتحلّى بهما. أنا متأكدة، ياعزيزي سميغ، أنَّك لا ترضى بذلك؛ فأنتم العرب أربابُ مدنيةٍ عريقة. لقد كان جدّي الأكبر أحد علماء الآثار الذين رافقوا نابليون إلى مصر، وأُمي كانت تجيد قراءة اللغة العربية، وأنا أعرف الشيء الكثير عن حضارتكم. فأنتم تعتبرون الكلبَ كائنًا حيًّا كالإنسان، له مشاعره وأحاسيسه التي ينبغي مراعاتها.

        لا شكَّ أنَّ هذه العجوز تهرف بما لا تعرف. آه لو رأتِ الكلاب السائبة في البلدة المجاورة لقريته، حينما كانت الشرطة تطاردها من آونةٍ لأُخرى، وتقتلها رميًا بالرصاص. هو يذكر ذلك جيدًا، ورآه بعينيْه عندما كان صغيرًا. وكان أخوه الكبير يداعبه أحيانًا بقوله:

        ـ لا تخرج، يا سمير، من الدار هذا الصباح، فالشرطة تتصيّد الكلاب اليوم، وأخشى أنْ يتوهَّموا بكَ.

        وحتّى في قريته، حيث تُستخدَم الكلاب للحراسة، ليس هنالك من فلاحٍ يسمح لكلبه بولوجِ الكوخ أو الاقتراب من مجلسِ الجماعة. الكلابُ جميعها نجسة. أمّا هنا، في فرنسا، فهم يطعمون الكلاب بأيديهم، ويغسلونها في حماماتهم، ويفعلون كلَّ شيء من أجلها، وحتى البقالات الكبيرة تمتلأ بالأطعمة الشهية الخاصَّة بالكلاب.

        لا ينسى حينما اشترى ذات مرَّةٍ، في أول أيام إقامته في باريس، بعضَ المعلبات لنفسه منالبقالة الكبيرة لرخص ثمنها، وعاد بها إلى الدار، وعندما رأتها مدام ديبون تهلَّلَ وجهها وهي تقول:

        ـ شكرا لك، يا عزيزي سميغ، على هديّتك الكريمة. لا بُدَّ أنَّ ليبر سيقدِّر لك صنيعك بعد تناول هذه الأطعمة اللذيذة. الآن أعرف أنَّكَ تودّني حقًّا، فالمثل الإنكليزي يقول: "مَن يحبُّني يحبُّ كلبي". ربما لا تدري أنَّني درست اللغة الإنجليزية وسافرت إلى ..."

        أمّا اليوم فليبر لا يقوى على الأكل منذ سبعة أيام، ومدام ديبون تجلب إليه طعامه في ميعاده، وتضعه أمامه، تقربه إليه، تدعوه متودِّدةً، فيلتفتُ بتودةٍ إليها، وينظر بعينيْن ذابلتيْن أسًى، كأنَّه يعتذر عمّا يسبِّبه لها من نصبٍ وحزن.

        ـ أرأيت، يا عزيزي سميغ؟ لم يعُد ليبر قادرا على تناول طعامه، وأنا خائفةٌ، خائفةٌ حقًّا هذه المرَّة. يا إلهي، ماذا سأفعل إذا فقدتُه؟

        وتغمض عينيْها المرهقتيْن، كأنَّها تصلّي من أجل ليبر. وتطولإغماضة عينيْها، وتمرُّ في مخيَّلتها صورٌ من رفقتها الطويلة السعيدة مع ليبر. منذ خمسة عشر عامًا وليبر رفيقها في وحدتها، أَنيسها في عزلتها، يجلس معها في المساء والظلام يدثِّر المدينة النائمة، والمطر يغسل نوافذها برفق، والريح تداعب أغصان أشجار حدائقها المستسلمة، وليبر يضعُ رأسه الدافئ على فخذِها، فتستسلم للنَّوم. وفي الصباح، حينما تستعد للخروج تخاطبه:

        ـ ليبر، أينَ وضعتُ المفاتيح؟ ليبر، ألَمْ ترَ حقيبتي البيضاء؟ ابقَ هنا حتى أعود. كُنْ عاقلًا.

        وفي العصر، يخرج معها إلى الحديقة القريبة، وهو يقفز هنا وهناك. وترمي له الكُرة، فيلتقطها، ويعود إليها مسرعًا. وفي الطريق إلى البيت، يلتقي ليبر بكلبٍ آخر، فيقف كأنه يتبادل التحية معه، فتتبادل هي الأخرى كلماتِ المجاملة مع السيدة صاحبة الكلب الآخر، إنْ لم تكُن التقتها سابقًا. وإذا كانت من معارفها، تشعَّب الحديث.

        ـ آه يا إلهي، ماذا سأفعل إذا فارقني ليبر؟

        أنفاس الكلب ليبر تتلاحق صاعدة هابطة، وتمتزج بحشرجة حزينة، وتختلط مع نحيبٍ خافت، ثُمَّ تتلاشى رويدًا رويدًا، ولا يبقى سوى نحيب الأرملة المتوجِّع المتقطِّع.

وسوم: العدد 718