رواية "الحنين إلى المستقبل" في اليوم السابع
القدس: 18-5-2017 ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني رواية "الحنين إلى المستقبل"، للكاتب المقدسيّ عادل سالم، صدرت الرواية عام 2016 عن المؤسسة العربية للدراسات والنّشر في بيروت.
والرواية التي صمّمت غلافها رشا السرميطي تقع في 227 صفحة من الحجم المتوسّط.
بدأ النّقاش مهند الصباح فقال:
كاتب الرواية ولد وعاش شبابه في القدس وتحديدا في البلدة القديمة، ممّا أثرى عمله الأدبي في رواية " الحنين إلى المستقبل" حيث وظّف أسماء الأحياء بشكل يوحي للقارئ مدى درايته بجغرافيا المكان.
الحنين إلى مستقبل دافئ بين أحضان الوطن والأسرة وبهذه الجملة نلخص الرسالة الكامنة من وراء الرواية. في البداية غادر بطل الرواية نعيم إلى أمريكا طلبا للعلم وهناك تعرف على صديقه الصدوق حمدان، الذي كان بمثابة وطن لنعيم في غربتهما. ففي الغربة يرتبط الإنسان بكل شيء قد يذكّره بأصله، ويُخفف عنه وعثاء السفر وسوء المنقلب، وفقدان الأهل والأحباب. إلا أنّ الغربة إغتراب وعذاب واستنزاف للطاقة الكامنة بالنفس البشريّة الساعيّة نحو تحقيق ذاتها بعد فقدانها في بلد نشأتها الأول. فمنهم من ينجح مقابل التنازل عن بعض المسلمات الثقافيّة لديه ويفوز بعد التقليل من حجم الخسارة المتوقعة، فيما لو تشبث بكل شيء حمله معه إلى غربته، ومنهم من يخسر لأنه فشل في الاندماج والمواكبة ولم يستطع التأقلم مع المتغيرات الجديدة الدائمة.
"أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا" – محمود درويش-.
الجنّة التي حَلُمَ بها نعيم تحوّلت إلى جحيم بعد انتهاء شهر العسل. الحلم الأمريكي ابتلع نعيم، حاله حال الكثير من الشباب العربي الباحثين عن حياة كريمة في أرض الأحلام الأمريكية، والأفق فيها يختلف تماما عن الأفق المتوفّر في بلدانهم الأصليّة حيث البطالة وانحدار قيم الإنسانيّة فيها، وهنا في فلسطين لا يختلف الأمر كثيرا عن محيطه العربي، وربما يكون أصعب بوجود الاحتلال الذي يمنع انبعاث شعاع الأمل لدى شعبنا، وهو الذي يحاصره حتى في أحلامه!
تتعرض الرواية للطرق التي يسلكها الشباب المغترب في أمريكا؛ كي يثبتوا أقدامهم فيها؛ فيجدون أنفسهم مجبرين من الزواج بالفتيات الأمريكيات، كي يحصلوا على الجنسيّة الأمريكيّة؛ لكي يفتح لهم المستقبل أبوابه على مصراعيه، إلا أنّ طريق جهنّم معبد بالنوايا الحسنة. يقع المغترب في حيرة من أمره فيصبح في نزاع بين التأقلم وقبول قيم الحضارة الغربية، وبين التمسك بموروثه الحضاري القابع في اللا وعي عنده، يسترجعه كلما مرّ بحادثة مناقضة لمبادئ نشأ عليها، إن رفض خسر ماله وأطفاله، وإن قبل خسر نفسه وتقديره لها.
تعقد الرواية مقارنة بين حال أسرانا في سجون الاحتلال، وبين السجناء في الدول المتقدمة، من حيث توافر مستلزمات الكرامة الإنسانيّة لكل إنسان، بغض النظر عن مكان تواجده أو ظروف اقامته. بالرغم من إشارة الراوي إلى أنّ السجان هو السجان، وإن أختلف المكان في صفحة رقم 18 . خاصة في أيامنا هذه حيث يخوض الأسرى الفلسطينيون اضرابهم عن الطعام من أجل تحسين ظروف اعتقالهم التي هي مكفولة أصلا باتفاقية جنيف لعام 1949، وفي نص البروتوكول الاضافي الأول لعام 1977. وفي هذا السياق يقارن الراوي بين الحالة النفسيّة لأي شخص يُسجن دفاعا عن معتقده ووطنه، وبين من يُسجن جرّاء مخالفة قانونيّة. وإن كان السجن حسب الراوي هو " الانقطاع عن الأهل والأحباب، وليس البقاء محاطا داخل أسوار ". ممّا يدلل على أنّ جميع المغتربين البعيدين عن ذويهم وأحبتهم هم حقيقة موجودين في سجن، سجن اغترابي ثقافي قاس، الأمر الذي سينسحب حتما على حالتهم النفسيّة من احباط أو اكتئاب وندم حين لا ينفع الندم، وأحيانا النكران وعدم الاعتراف بزيف الحلم الأمريكي حين يكتشفون حقيقته المرعبة وكابوسيته، مما يدفعهم للمكابرة على الجرح وبالتالي المزيد من الخسارة!
حنين المستقبل هو حنين العودة إلى أرض الأحلام الحقيقية، وهي أرض آبائه وأجداده مهما كانت ظروفها، وهي لا يعرف خفاياها ولا تفاصيلها حين يعود إليها زائرا فلا يرى فيها إلا كل جميل. وبالمقابل توجّه الرواية دعوة لنا بعدم كره بعض الشعوب الغربيّة بسبب عدم إلمامها بالقضايا والجغرافيا العالميّة، وذلك في صفحة رقم (191.192) حين قيل للبطل " أنتم في باكستان تجيدون فن الترهبيب. أنا من فلسطين، لا يهم كلكم من نفس المنطقة" وهذه دعوة صادقة وبمكانها خاصة إذا علمنا أنّ 30 بالمائة فقط من الشعب الأمريكي البالغ أكثر من 320 مليون نسمة يملكون جواز سفر! وتلك مُهمة ملقاة على أبناء الجاليات الفلسطينية في كلّ العالم بالتعريف بقضية شعبهم الواقع تحت الاحتلال.
اعتمدت الرواية على الأسلوب السردي والقليل من الحوار بين الشخوص. رواية مهمّة وإن خلت في كثير من الأحيان من العنصر التشويقي الجاذب للقارئ.
تساؤل: كيف لسلطة المطار عدم السماح له بدخول البلاد إن كانت جميع أوراقه سليمة؟ عدم السماح لأي سائح بالدخول إلى البلاد فقط في حال كان تواجده فيها يهدد أمن الدولة.
وقال جميل السلحوت:
تتحدّث الرّواية عن مقدسيّ فلسطينيّ، عانى من مرارة الاعتقال والأسر في سجون الاحتلال الاسرائيلي، وهاجر بعدها إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة سعيا وراء حياة أفضل، لكنّه تعرّض هناك للسّجن أيضا بتهمة التّهرّب الضّريبي. ومع أنّ الرّواية تؤكّد على استحالة المقارنة بين السّجون الأمريكيّة ومثيلاتها في اسرائيل، إلا أنّ السّجن يبقى سجنا، يقيّد حرّيّة الانسان.
ويسهب الكاتب في وصف بعض السّجون الأمريكيّة من داخلها، ويركّز على العنصريّة التي يتمّ التّعامل بها مع السّجناء العرب والمسلمين، فحتّى السّجناء الجنائيّين في أمريكا تربّوا على كراهيّة العرب والمسلمين، الذين يجدون تعاطفا من السّجناء المسلمين السّود، الذين هم بدورهم يتعرّضون للاضطهاد أيضا.
وفي الرّواية يسرد السّجين المقدسيّ حكايته في السّجون الأمريكيّة بضمير المخاطب، وكأنّه شاهد على ما جرى له.
ولغة الرّواية انسيابيّة سهلة، ولا تخلو من الحكي وأسلوب الحكاية التي لا ينقصها عنصر التّشويق.
وكأنّي بالكاتب يريد من هذه الرّواية أن يؤكّد على أنّ الفلسطينيّ مطارد أينما حلّ وارتحل، وقد يتعرّض للاعتقال والسّجن لمجرّد الشّبهة، كما حصل مع بطل الرّواية، حيث عانى من سجون الاحتلال ومن سجون أمريكا أيضا، وتمّ تشتيت أسرته في هذين الدّولتين الحليفتين.
فهل جاءت الرّواية لتعكس أحداثا عاشها الكاتب نفسه، خصوصا وأنّه عاش تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال الاسرائيليّ، وفي السّجون الأمريكيّة أيضا؟ ربّما يكون ذلك صحيحا، وربّما هي تجربة شخص أو أشخاص آخرين، لكن في المحصّلة الرّواية واقعيّة.
وقال محمد عمر يوسف القراعين:
بعد نكبة فلسطين، انحلت الحكومة، ولم يعد موجودا مجلس التعليم العالي الفلسطيني، الذي يشرف على الطلاب الخريجين، ويرسل من يستحقون في بعثات للدراسة الجامعية، فتقطعت السبل بهم، وأصبح عليهم تدبير أمورهم بأنفسهم، منهم من صحب الجيش المصري الذي انسحب من بيت لحم والخليل وغزة عائدا إلى مصر بعد الهدنة، للالتحاق بالجامعة هناك، ومنهم من اتجه إلى مصر بعد ذلك، لأن الحكومة أعفت الفلسطينيين من الأقساط الجامعية. أما البعض الآخر وأنا منهم، فقد فكر بالدراسة في أمريكا بلد العلم والمال، وذلك بتوفير تكاليف الفصل الجامعي الأول، مع إمكانية العمل بعد ذلك ومتابعة الدراسة.
بدوري عملت أربع سنوات منها سنة ونصف في السعودية، وحصلت على الفيزا لأمريكا لدراسة الهندسة، ثم عدلت عن السفر ليس خوفا من الوقوع في المشاكل، التي أشارت إليها الرواية، من زواج أمريكيات كما فعل نعيم من القدس وشريف من مصر، وتبعات ذلك من الخسائر والقضايا في المحاكم، ولا من السجن بسبب التورط في المخدرات أو التهرب من دفع الضرائب أو شراك المافيا. عدلت عن السفر اعتقادا مني أن الذي يذهب إلى أمريكا في ذلك الوقت، لا يعود إلى الوطن، وهذا ما جرى مع نعيم، الذي عاد إلى القدس مفلسا بعد خروجه من السجن، إلا أنهم رحّلوه على نفس الطائرة بعد وصوله إلى مطار اللد، لظنهم أنه جاء للإقامة كما فعلت زوجته حنان، وليس زائرا.
أعجبني الثلث الأول من الرواية، لأن الكاتب يقوم بدور إعلامي، ولو بطريقة غير مباشرة، بسرد ما يحدث للقادمين لأمريكا من طلاب علم مثل نعيم، وطلاب عمل مثل شريف، وجوني اللبناني التي أصبحت ابنته المراهقة تعود للبيت بعد منتصف الليل، وتقول له إنها حرة. كلهم انتهى بهم المطاف إلى نزلاء سجون، اختلفت عن سجون بلادنا، حيث أفاض الكاتب بعد ذلك بالحديث بالتفصيل الممل عن السجون الأمريكية بأنواعها، من حيث الشدة في الزنازين المنفردة، والغرف المفتوحة كما في سجن ليفنوورث، والأكل والنوم والتهريب الذي يصير في دم المساجين، كأنه يكتب بحثا أو دراسة محَكمَةً، ليكون القارئ على بصيرة إذا وقع في مشكلة، وأتيحت له الخِيَرة بين هذه السجون.
نوّع الكاتب في طريقة السرد في الرواية. أحيانا يترك البطل يروي قصته كما في الفصل السابع: بدأت قصتي معها حين تعرفتُ عليها، وفي الفصل التاسع يخاطبه فيقول: انتقلتَ لتجلس على مقعد قريب من بناية الزيارة، وأحيانا يتحدث عنه كغائب كما في الفصل السادس عشر: أحس نعيم بالوحدة في هذا السجن.
يحدث هذا في الإنجليزية، في نفس الجملة، حيث تستعمل صيغة الفعل المضارع مع صيغة الفعل الماضي في قصة صياد في الغابة مثلا، كأن يقول: He sees a lion، he aims at it، he shoots and the lion fell down.
وكتب عبدالله دعيس:
إلى أيّ مستقبل يحنّ الكاتب عادل سالم؟ هل يتوق إلى الحريّة والعيش الرغيد في قادم الأيام؟ وهل يتفاءل بهذا المستقبل؟ تساؤل يبدأ به القارئ رحلته في هذه الرواية عند مطالعة عنوانها وتفحّص صورة الغلاف. فكلمة حنين تشي بكآبة وحسرة في الحاضر، وتطلّع وشوق إلى المستقبل، أو ربما هو حنين إلى الماضي؛ فالغائب يحنّ إلى وطنه، والسجين يحنّ لبيته وحريّته، وقد يحنّ الشيخ إلى أيام شبابه وصباه. أما صورة الغلاف بأزهارها المتفتّحة وشمسها التي بدأت تعلو الأفق وتضيء المكان، فتجعل القارئ يظنّ أن الكاتب سيصف مستقبلا زاهرا ينبجس من واقع أليم، كالصبح يخرج من رحم الظلام.
بلغة سردية عفويّة سلسة، وحوار بلغة محكيّة بسيطة، يصطحبنا الكاتب إلى الحياة في السجون الأمريكيّة، لسجين عربيّ يعيش غربتين معا: غربة عن الوطن، وغربة السجن وعزلته، ويتقاذفه حنينان: حنين إلى حياة الحريّة في أحضان عائلته خارج السجن، وحنين للوطن البعيد الذي يرزح تحت احتلال يجعله أبعد! ويحنّ إلى شهور قضاها في سجن النقب في شبابه، رغم قسوة السجّان هناك، إلا أنّه سجن داخل الوطن. ورغم ليونة العيش في سجون الغربة، إلا أنّ الابتعاد عن الوطن يجعلها أقسى من سطوة السجان الصهيونيّ في سجن النقب الصحراوي.
يصف الكاتب حياة بعض المهاجرين العرب في أمريكا عن طريق حكايات السجناء الذين يصادفهم بطل الرواية، نعيم قطّينة، في سجنه، ويعطي صورة عن أناس انسلخوا عن وطنهم لكنّهم لم يستطيعوا التأقلم مع الحياة في الغربة، وما زالوا يتشبّثون ببعض الخيوط التي تربطهم بوطنهم، ويتمسّكون بثقافة وعادات الشرق حتّى وهم يسبرون حياة الغرب ويجرفهم تيارها. يبحث كثير منهم عن الغنى السريع، فيقوم بأعمال غير مشروعة، تُستغل هذه الأعمال لوصم العربيّ بالإرهاب وتلفيق تهمة التآمر له، ليُلقى في السجن متألّما متحسرا عندما يجد نفسه رهين الأسر/ وهو الذي جاء إلى أمريكا باحثا عن الحريّة المفقودة في وطنه.
وتكشف حياة الأسر عن أطياف المجتمع الأمريكيّ وتنوعه: فهذا الأوروبي الأبيض ما زال يحتفظ بعنصريته حتّى وهو خلف القضبان، والأسود لم يتخلّ عن حقده الدفين إرثَ قرون من العبوديّة، وما زال يبحث عن أصوله والتي كثيرا ما يجدها في الإسلام.
يختار الكاتب في معظم فصول روايته الراوي الثاني، مخاطبا الشخصيّة الرئيسيّة بضمائر المخاطب، مبتعدا عن الرواي العليم والراوي الذاتيّ، وهذا أسلوب يستخدم في الشعر ويندر استخدامه في الرواية. ربما لجأ الكاتب إلى هذا الأسلوب ليدلّ على نفسه من ناحية، ويجعل هناك مسافة بين الشخصية الرئيسية وبين ذاته من ناحية أخرى. فلو استخدم الراوي العليم لكانت الرواية مجرد حكاية سردية بعيدة عن العواطف الشخصية، ولو استخدم الراوي الذاتيّ، لكانت أقرب إلى سيرة ذاتيّة للكاتب؛ حيث أنها في معظمها، سرد زمني لفترة من حياة شخص ما، ومجموعة ذكريات لأحداث بعيدة. أما الحكايات الأخرى التي بدأ السجناء بقصّها فلم تكن مكتملة، وبقي القارئ يجهل ماذا حدث بها، حتّى الشخصيات نفسها انتهى ذكرها بمجرد انتقال نعيم قطينة من سجن إلى آخر، ولم يعلم بمصيرها.
لكن هذا الأسلوب باستخدام ضمير المخاطب، جعل من الصعب التعمّق في نفسية الشخصيات ووصف مشاعرها وأحاسيسها في المواقف المختلفة بشكل عميق، فبقيت الرواية أشبه بالحكاية الشعبية التي تسرد الأحداث بشكل سريع متسلسل.
يستخدم الكاتب اللغة المحكيّة أحيانا لإدارة الحوار، وهذا يجعل الحوار أقرب إلى الحقيقة، وأقرب إلى نفس القارئ وفهمه، لكنه لا يجيد هذا الفنّ أحيانا؛ فنراه يمزج العامية بالفصحى فيجعل أشرف القادم من مصر يتحدث بلهجة شاميّة عندما يقول: تيّست وتزوجت. فكلمة (تيّست لا وجود لها في لهجة مصر، وتزوجت هي فصحى!) وبالمقابل نجده أحيانا يستعمل بعض الكلمات العاميّة في السرد أيضا، فيقول في صفحة 65 (فتحتَ له علبة سجاير وأخذت سيجارة وقدمت له واحدة، وبعد أن ولّعتها قلت له: ). ويستخدم أيضا الكثير من الكلمات الإنجليزية، في الحوار دون أن يكون هناك داع لذلك. ويَصم روايته بالكثير من الكلمات البذيئة التي يستخدمها العامّة في أمريكا، لا أرى أنّ هذا الإقحام خدم الرواية أو أضاف إليها شيئا.
تصف الرواية الحياة في السجن بشكل دقيق، لكنّ الكاتب ركّز على عمل نعيم قطّينة في المطبخ وتهريبه الخضروات والطعام إلى باقي السجناء، وأتساءل: ما الرسالة التي أراد الكاتب أن يوصلها من خلال هذه الأحداث، التي كرّرها مرّة بعد مرّة، ألم يكن يكفي أن يشير إليها بشكل عابر، وينشغل بحنين نعيم إلى الحريّة وإلى المستقبل. ويقول الكاتب أن نعيم قطينة محكوم بالسجن لمدة عامين في صفحة 19 ليعود ويقول أنّه سيقضي في السجن أربع سنوات في صفحة 144 في تناقض واضح.
وفي النهاية، تبقى الحكاية مفتوحة ولا يعود نعيم إلى وطنه، بعد أن يمنعه الاحتلال من مغادرة المطار، وهذه نهاية واقعيّة مُعاشة في ظل ما يقاسيه الفلسطينيّ من ألم الغربة وظلم العدوّ. ويبقى القارئ ينتظر (الحنين إلى المستقبل) الذي بشّره به الكاتب في عنوان الرواية وغلافها، ويتساءل إن كان الكاتب متفائلا بمستقبل أفضل يحنّ إليه، أم أنه يرى أن القادم لن يكون أفضل من الحاضر. فالمستقبل لم يكن واضحا في الرواية التي ركّزت على حاضر سجين ربما قاده جشعه واستخفافه بقوانين البلاد التي اختار أن يعيش فيها إلى مصير المظلم.
وقالت نزهة أبو غوش:
غمس الكاتب ريشته الأدبيّة في مداد الألم والقهر والمعاناة، ورسم لنا صورة فنيّة للإنسان الفلسطينيّ المغترب عن أرضه ووطنه. يفاجئنا الكاتب برواية جديدة من نوعها في الحقل الأدبي. هي رواية يمكن تصنيفها من أدب السّجون؛ لكنّها تختلف في محتواها عن أدب سجون المحتلّ ؛ حيث دخل بنا الكاتب مسارات ودهاليز جديدة في سجون أمريكيّة تختلف عن السّجون الّتي نعرفها – نسمع عنها- عندنا.
بطل الرّواية نعيم يعقد مقارنة بين سجنه الأمني في فلسطين، الّذي قبع فيه قبل سنوات وبين سجنه في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
هل اختلف معنى الانسانيّة في كلّا السجنين؟ هل اختفت العنصريّة؟ هل حضرت الأُلفة والمحبّة بين السّجناء؟ وهل أكل القويّ الضّعيف؟ وهل للمكان تأثير على معنوية السّجين؟ كلّ تلك الأسئلة أجاب عنها الرّوائي سالم على ألسنة شخصيّاته. نجد أنفسنا أمام رواية حقيقيّة مئة بالمئة، حيث لم يترك الكاتب فجوات يمكنها أن تشكّكنا بعدم صدقها، من خلال المكان والزّمان والانتقال من حدث إِلى حدث دون جهد، بل كان انتقاله سلسا وتلقائيّا يوحي بالصدق.
عندما تحدّث الكاتب عن سجنه الأمني في فلسطين على يد المحتلّ الاسرائيلي، لم يسهب في الشرح كثيرا؛ لأنّ هذا الحدث جاء من أجل أن يعزّز أحداث الرّواية، أي أنّه كان وسيلة لتوصيل الأحداث عن السجن الأمريكي، وأعتقد بأنّه لو أسهب في روايته عن السجن الأوّل لأفقد المعنى الّذي يصبو إليه.
إِنّ انحصار الكاتب، بمعنى تخصّصه بروي حدث معيّن في مكان معيّن أعطى – حسب رأيي- للرواية خاصيّة مميّزة.
هناك نقاط استطاع الرّاوي أن يوصلها لنا من خلال عقد مقارنات بين سجنه الأوّل وسجنه الثاني. بلغة سلسة بسيطة متدرّجة أدخل فيها إِلى عالمنا مصطلحات ومفاهيم جديدة وغريبة يستخدمها السّجناء بينهم.
كانت عاطفة الرّاوي مشوّشة ومتذبذبة لبعده عن أهله وأحبابه. شعر بالقهر والألم لمدى الظّلم الواقع عليه. في سجنه الأوّل حمل ظلم شعب فوق كاهله. شعب يعاني الاحتلال؛ بينما في سجنه الحاليّ يعاني ظلما فرديّا هدّه نفسيّا وماديّا.
المكان حيث سجنه الأوّل ضيّق ومظلم ومقرف، لكنّ إرادته ومعنويّته قويّة، يفتخر ويعتزّ بنفسه وبما يفعله؛ بينما في هذا السّجن فيختلف المكان، هو عبارة عن متنزّه حسب قول الرّاوي، لكن كلّ شيء يختلف، المشاعر هنا تختلف تماما،
لا إرادة ولا اعتزاز ولا معنويّة، بل خوف من أيّ طارئ من أيّ سجين. برزت العنصريّة بوضوح من السّجين الأبيض ضدّ العربيّ، وضدّ المسلم وضدّ الأسود. لم يستطع الانسان الأمريكي أن يخفي عنصريّته وخاصّة في مثل هذه المؤسّسة الّتي هي السّجن سواء كانت من خلال السّجين أو السّجّان أو المسؤول.
نقطة مهمّة في الرّواية جعلتني أقف عندها. ولّدت في داخلي كقارئة إحساسا بالقهر؛ تهمة الرّاوي نعيم تخلّفه عن دفع الضّريبة الحكوميّة، هذه التّهمة يمكن أن يكون حكمها أبسط بكثير لو وجّهت للرّجل الأمريكي، وربّما لم يحكم عليه بالسجن، بل بدفع بعض الغرامة؛ بينما هنا يلفّقون له تهمة التّآمر على الحكومة الأمريكيّة. لم أجد فرقًا بين تهمة نعيم هنا في فلسطين، حين سجن أمنيّا، وتهمته الآن. استطاع الكاتب عادل سالم أن يوصل لقارئه مدى الظّلم الواقع على الفلسطينيّ أينما وجد.
وقع بطل الرّواية في غربة داخل غربة داخل غربة: غربة المكان، وغربة الزّمان، وغربة المحتلّ وغربة المتسلّط. كلّها غربة أوقعته في شرذمة ليس لها نهاية. لقد تساءل الرّاوي: هل علينا أن ندفع ثمن غربتنا؟ هذا سؤال يجعلنا نقف أمام معضلة أساسيّة. الانسان الفلسطيني الّذي يغترب؛ من أجل أن يحسّن ويطوّر حياته، ويبتعد عن الظّلم المحيط به، تجده يواجه ظلما أكبر خارج بلده، فيظلّ السّؤال حائرا على الألسن.
أدرج لنا الكاتب عدّة روايات في روايته تظهر لنا مدى سخف الحياة الاجتماعيّة عند الأزواج، الّذين يتزوّجون من الأجنبيّات البعيدات عن الدّين والثّقافة العربيّة، وحالة الانحلال الّتي يعيشها الفرد هناك وتعاطيه وتجارته للمخدّرات، وشربه الخمر والنوادي الليليّة وغيرها.
أدخل الكاتب عادل سالم في روايته حيلا فنيّة أعادتنا إِلى الماضي وأرجعتنا إِلى الحاضر بأسلوب مشوّق سلس من خلال الذّاكرة والأحلام، والتّخيّل وأسلوب كتابة الرّسائل.
حضرت القدس بكلّ واقعها اليومي في الرّواية، حيث الحواجز والتّفتيش، والهويّة وخوف الأطفال ورعبهم من المحتلّ، وعدم الاستقرار، والحياة مجهولة المستقبل، وحضر الحبّ والشّوق، وحضر التآلف والتّآزر بين المظلومين حتّى داخل السّجن. إِنّ قصّة معاضدة الأسود للعربيّ نعيم على الأبيض العنصريّ، كانت مؤثّرة أشعرتني كقارئة بأنّ الكاتب قد فشّ غلّي، وإِذا لم تحضر تلك اللقطة لشعرت بأنّ شيئا نقص من الرّواية.
ماذا أراد الكاتب عادل أن يقول بعد تجربته الحياتيّة الصّعبة الّتي جعلته يتأرجح على خيط واه، في بلاد الغربة بعيدا عن أهله وأبنائه؟
قال إِنّ الماضي والحاضر لا لون له، فدعونا نلوّنه بأيدينا بألوان زاهيّة برّاقة تمنحنا الحبّ والدّفء والأمان؛ لذلك هو يحنّ إِلى هذا المستقبل " الحنين إِلى المستقبل" عنوان يليق برواية الأديب.
وكتبت نزهة الرملاوي:
الكاتب عادل سالم يتوق إلى الماضي ويحن إلى المستقبل
مستقبل يراه بعيني الأمل، ربما يحقق له أمنياته في الحرية والسعادة، فكيف يحن الإنسان إلى مستقبل لا يراه؟ ولا يعرف ما يخبئ له من أسرار؟ هل الحلم الورديحلم العودة الذي يعيش في داخل بطل القصة (نعيم) حلم أفضى به إلى تخيل مستقبل فرح يحسبه مبهج حياته؟ أم غربته عن وطنه ودخوله السجن هناك جعله يتمنى ذلك؟ الرواية تنقل لنا حال المغتربين العرب في الولايات المتحدة، وتسلط الضوء على تمسك بعض الرعايا العرب بقيمهم أو انفلاتهم منها، ونظرتهم إلى الآخرين كمتحضرين ومخلصين، ونظرة الآخرين إليهم كإرهابيين، وتذكرنا بأن من يريد العيش في أمريكا عليه أن بنخرط بالمجتمع الأمريكي ويتعرف على قوانينه، ولا يمكن للمهاجر البقاء إلا بحصوله على الجنسية، فيتزوج أمريكية ليتخلص من المحاسبة القانونية، وسلط الكاتب الضوء أيضا على المجتمع الأمريكي الذي يغوص بالعنصرية، فقد قام على أكتاف التفرقة والاستعباد، حيث قطع البيض العائلات السوداء، وباعوا كل فرد من السود لعائلة رجل أبيض منهم، حتى أنهم غيروا أسماءهم، سلبوا عروقهم وعملهم وثقافتهم (155) هذا ما قيل على لسان مسجون أسود ورث عن أجداده الذكريات الأليمة في الاستعباد والتهميش والتفرقة أثناء وجود نعيم في السجن.
نقل لنا الكاتب بعض الأحداث والمشاهدات في السجون الأمريكية، وبين أنها تختلف في المعاملات وتلبية احتياجات السجناء عن سجون الاحتلال، التي قضى بها أشهرا في سجن ( النقب)، وهنا نسأل ما الذي أجبر ( نعيم ) ان يعيش هناك في الولايات الأمريكية؟ وما الذي يحبب العرب بالسفر إلى أمريكا؟
أهو الحلم بحياة سعيدة فيها العمل والديمقراطية والحرية كما يتخيل لكل من يتوق للسفر إليها؟ أهو الهروب من الواقع المؤلم الذي يعانيه العربي في وطنه من قمع وجهل، والفلسطيني الذي يعيش تحت ظلم الاحتلال ؟
الكاتب في أسلوبه البسيط الواقعي لم يدع للقارئ منفذا لتصور الأحداث والتعمق في مكنوناتها، وكأنه كان يقدم لنا تقارير عن أحداث حصلت هنا وهناك، تطرق الكاتب إلى أحداث وقصص تروى كل يوم، نسمعها من أي شخص سافر إلى أمريكا للدراسة أو العمل، فسحرته أمريكا ومات وهو يفكر بالعودة، ويشعر بالحنين والاغتراب، وهناك من خالف القوانين وسجن، وهناك من تزوج أمريكية لكي يحصل على الجنسية، وأنجب أولادا لا يعرفوه، وهناك الكثير من القضايا المتعلقة بالمهاجرين العرب.
رغم قسوة السجن وما فيه من معاناة، لم ينقل لنا الكاتب المشاعر والعواطف التي ترافق السجين، وبعده عن وطنه وزوجته وأهله، بل كانت مشاعر باهته يرافقها نوع من التصنع، وربما أراد أن ينقل لنا صورا حقيقية لا مجال لدمجها بالخيال الأدبي المتوقع.
تعددت أحداث الرواية وأبرز حدث كان معاناة العرب في بلاد تتجلى فيها العنصرية بشكل لافت، وبالرغم من ذلك إمكانية تعايشه مع الأوضاع القائمة وإن كانت لا تستهويه.
أثرى الكاتب روايته بالكثير من الشخصيات الثانوية التي ذكرت دون أن يكون لها دور في الأحداث، أفادنا الكاتب بإشارته إلى أسماء الأماكن والشوارع والوزارات في أمريكا، والتعرف على بعض مهامها، وبعض الأعمال التي يقوم بها العرب هناك، وأطلعنا على بعض القوانين في السجون والوزارات
لم ترتبط الأحداث ببعضها في بعض الأحيان، إلا أن الكاتب وفق في جمع الأحداث نحو الشخصية الرئيسة ( نعيم) أضف إلى ذلك اسلوب عرض أحداث القصة، فقد استخدم الكاتب في قصته الأسلوب التقريري، ومحاورة شخصية المخاطب أثناء تدوير الأحداث، كذلك استخدم أسلوب استرجاع الأحداث (Flash Back) حينما وصف المكان (جبل الطور) الذي تصور فيه مع عروسه يوم زفافهما، لكن الكاتب لم يتعمق بوصفه الأشياء، بقدر اهتمامه بالحدث نفسه، كذلك محاولة الكاتب تغيير النظرة السيئة التي تسلط على العربي.
امتازت اللغة بالبساطة واستخدام المفردات العامية في بعض الأحيان.
وسوم: العدد 721