المفارقة والسخرية في قصص الطيب الوزاني القصيرة جدا
السخرية، المفارقة، التفنيد، مفاهيم تتقاطع فيما بينها على عدة مستويات، ولكنها بالتأكيد تختلف في دلالاتها وامتداداتها، حضور هذه المفاهيم في الإبداع الأدبي وخصوصا السردي يتيح لنا الحديث عن السخرية باعتبارها سلاحا بلاغيا، والمفارقة باعتبارها واجهة بنائية وتوجيهية، والتفنيد باعتباره معطى انتقائيا، الثابت في هذه المفاهيم أنها وهي في عمق الاشتغال على جمالية النص أو النصوص تجعلنا لا ننسى بأن لها علاقات متينة مع العقل، حيث كل موقف إبداعي نصي يستحضر السخرية أو المفارقة أو التفنيد من الضروري أن يكون منطلقا من وعي تام بجميع الشروط والتبعات المحيطة بلحظة الكتابة والإبداع.
المبدع الطيب الوزاني استهوته القصة القصيرة جدا فأنتج فيها لحد الآن أربع مجموعات تتضمن نصوصا جميلة ترتبط جميعها بالمحكي الموغل في عمق الحياة الإنسانية بكل حركاتها وسكناتها، بكل زواياها وحدودها، واللافت لدى المبدع هو تركيزه كثيرا في نصوصه الإبداعية على مواضيع ذات صلة بالمفاهيم التي صدرنا بها الموضوع أعلاه، وهي مفاهيم تشكل أساسا للأدب الذي يكتبه الطيب الوزاني، إنه طريق اختاره لنفسه لتمرير تصوره، فكان قناة مناسبة ومنسجمة مع كتابة نصوص القصة القصيرة جدا.
1- السخرية Se moquer: تتضمن أفعالا مثل: يهزأ، يسخر، وهي تشير إلى تحويل شخص أو شيئ إلى مادة مثيرة للسخرية، وإلى موضوع للعب، إنها عبارة عن خداع أو محاولة خداع أي شخص بطريقة عرضية. ثم هي وسيلة من وسائل التعبير تعني الاستهانة والتحقير، واستحضار العيوب والمثالب بطرق عدة، منها الكتابة والإبداع، قد تكون السخرية مضللة، كما قد تكون غير مسؤولة. يقول الطيب الوزاني في مجموعته " أوراق قزحية " في نص " انكسار مرآة " ص.20: " تخرج.. حصل على وظيفة.. بدأ يواجه صعوبات البداية في حياته العملية.. تقاسم مع أبيه هواجسه.. حاول الوالد التخفيف عنه قائلا: ألا ترى أنك تمر من نفس التجارب التي حدثتك عنها مرارا؟؟ ابتسم الولد وهو يتمنى في أعماقه لو أن أباه بشره يوما بأنه كان لامعا.. وأنه صار ذا نفوذ وأنه أصبح ثريا..".
عند التأمل في النص نقف على طبيعة الموضوع التي تدل على اشتراك الكثيرين في التموقع ضمن الوضعية التي وجد فيها الولد نفسه، السخرية في النص ليست فجة بل هي حية، وعادية، وذات سياق يحيل على تاريخ متوفر على منطقه الخاص، حيث يبدو من قبيل الملاءمة أن يكون الولد مثل أبيه في خوض إكراهات وصعوبات الحياة المستندة إلى سياقات العمل في سلك الوظيفة، الإمساك بتلابيب السخرية يكمن في عمق وغور المعنى المحايث لحلم الفتى، الذي من فرط اقتناعه بالقدرية الصارمة لحياة والده وتأثيرها الآلي في مصيره كان يود لو أنها تنحرف قليلا عن مجراها البائس إلى مجرى آخر أكثر خصوبة وانفتاحا وتألقا، والأمر يكاد يكون نوعا من التناظر بين بنية النص القصصي وبين بنية الوضع الاجتماعي الثاوي وراء القناعات الثقافية الراسخة والمبنية على موضوعة الإرث وتسلسل الأجيال، وعلينا أن نضع أصابعنا هنا بالضبط على البعد الميتافيزيقي الذي يثيره النص بتركيزه على العلاقات بين شخصيتي القصة القصيرة جدا من خلال تذويبهما ضمن سيرورة قدرية واضحة، ثم بتركيزه كذلك على الأبعاد والمصائر والتنميط، إن النص القصصي في هذا السياق يعكس بوضوح دال نمو الوعي وتطلعه بكل جدية نحو الاختلاف وإحداث التغيير، إن عجزه عن تغيير الأدوار هو بالضبط الذي ينتج السخرية. والسخرية عند المبدع الطيب الوزاني ليست تصورا ذاتيا يوجه به العالم بل يبدو أنها قناة يستند إلى رحابها لإدانة موقع ما مع وصفه والتأريخ له، وغالبا ما تصنع السخرية النصوص الجميلة، فهي بقدر ما تلازم النصوص الجدية بقدر ما تعري الواقع في جنوحه، وتنتقص من قيمة المحاولات اليائسة المضحكة التي تحاول رد الأمور إلى نصابها، تحصل السخرية بالضبط عندما تكون الشخصية القصصية عاجزة تماما عن التكيف والانسجام.
2- المفارقة L’ironie : عبارة عن نظام أسلوبي ينبني على تأكيد عكس ما نريد فهمه، لذلك فإنه ضمن النص موضوع المفارقة توجد هوة واضحة بين ما يقال وبين ما ينبغي أن يفهم. وفي هذا المجال يكون وعي الكاتب أو المبدع موجها بكل عزم وتصميم نحو إنتاج نصوص ذات حمولة من المفارقة قصد تمرير تصوره بطريقة فيها إغواء للقارئ، واختبار لقدرته على نزع التشفير عن الخطاب الكامن وراء النص المستهدف. ولا يجب أن نخلط بين السخرية والمفارقة، وهي عملية كثيرا ما وقع فيها التجاوز، لأن لكل من المفهومين حقل اشتغاله ومجال امتداده وتمظهره، تبقى السخرية غالبا مباشرة وموجهة خطابها للمعني بدون مواربة أو تخف. بينما تظل المفارقة متعالية بأسلوبها الراقي ومعانيها المضمرة، فإذا كانت السخرية كثيرا ما توصف بأنها مضللة وغير مسؤولة، فإن المفارقة تظل هاربة ومنفلتة، ويجب دائما بذل الجهد لجعلها تبرز وتتجلى، وأحيانا أخرى قد تكون مخيبة للآمال عندما يحس القارئ بأنه كان ضحية مكر وصنعة المبدع.
يقول المبدع الطيب الوزاني في مجموعته " تفاحة الغواية " في نص " خناقة " ص.51: " هدوء غير طبيعي بالبيت، وصمت ثقيل يخيم بينهما.. فوران بركان الأمس خمد.. لكنه ما زال يتنفس... أغنية نجاة الصغيرة تأتي على غير انتظار: ما أحلى الرجوع إليه.. تتقدم نحو المذياع، تخنق صوته... ".
يمكن أن نصف هذا النص بأنه متموج، وذو طبقات، فيه الضمني وفيه المصرح به، فيه هدوء نشاز غير مستساغ، وصمت هادر يشكل حاجزا بين الذوات والموضوعات، كل شيء يعلن حالة من عدم التطبيع التي تدل على الحضور والغياب في نفس الآن، شدو للفنانة " نجاة الصغيرة " يعلن صحوا ورغبة وتطلعا، ثم موقف فيه عنف وتسلط وإجهاز على الأمل وفسحة حياة منتظرة، ما قيل في النص هو إمكانية الوصول إلى خط جديد، وهامش منعش، وتطلع إلى حياة جديدة وتفاهم مضيء، ولكن الذي ينبغي أن يفهم هو أن ما تم قطعه يصعب رتقه، والمفارقة هي أن علاقة الصراع لا توجد فيها مصلحة لأي طرف، ولذلك فإن سلوك الشخصية النمطية في النص لا يمكن تفسيره إلا باستحضار البعد النفسي أو الاجتماعي، هناك حدود تقوم بحصر النص وتمنعه من تجاوزها، وتتجسد هذه الحدود بالضبط في المعنى الذي يقوله النص في مقابل المعنى الذي يستشفه المتلقي، إن المفارقة ضمن هذه الحدود هي التي تضيق المجال وترسم آفاق القراءة والفهم للنص المتحفز المتميز بحركة كامنة في صمته الناطق.
3- التفنيدLa réfutation: عملية منطقية تهدف إلى برهنة كذب وخطأ وقصور اقتراح ما أو حجة أو برهان. إن مجال التفنيد أكثر صرامة ودقة باعتباره يمتح من البناء المنطقي، ولذلك فهو محصن أمام الأهواء والبرهنة بالرغبة وغلو الذات، إن الأمر هنا بعيد عن الإحساس والشعور، وقريب من الإدراك والفكر التصوري، إن التفنيد بهذا المعنى ليس فرضية ولكنه موقف، إنه ليس تفسيرا بل هو تمييز، إنه انحياز مستند إلى أدوات قطعية. يقول المبدع الطيب الوزاني في مجموعته " تفاحة الغواية " في نص " قلم مشاغب " ص.77: " كلما استعصت عليه الكتابة، يقطع الورقة التي خط عليها مسودة لم تكتمل ويلقي بها في سلة المهملات، إلى أن امتلأت عن الآخر. لم تكن السلة وحدها التي امتلأت بل ضاق صدره أيضا بتراكم الخيبات، وبالشعور بالعجز عن الإتيان بنص لائق. نفث أنفاسه بحرقة.. تململ في جلسته.. حرك رجله في عصبية بالغة.. واصل النقر بأصابعه على مكتبه الشخصي.. هو يشعر بثقل كبير جاثم على رأسه وكل جسمه.. لم يعد يحتمل.. انتفض بقوة.. وقف وألقى بقلمه الحبري غاضبا على ورقة بيضاء كانت أمامه مصادفة.. نزف القلم كلمات منمقة متراصة.. جاء النص اعترافا بعبقريته الأدبية الفذة... شده الكاتب.. وقهقه القلم.. كما في الأفلام الكرتونية.. ".
يمكن أن نقرأ النص بالمفارقة، كما يمكن أن نقرأه بالتفنيد، بالمفارقة نستحضر المخاض المرتبط بالكتابة كما بالخلق، ثم هذه العجائبية المبهرة التي تنفث الحيوية في القلم حتى يتحول إلى جسم أضحوي ينتج سحرا، كأن القلم جسم بديل، كما لو أن وجوده كان أقل قيمة وحيوية، ثم أصبح تمثيلا لوجوده عندما شغل الحيز المتاح له، وهو الأسلوب الذي يدل على تعبيره المباشر، لقد أصبح منتجا، وبذلك صنع تاريخه. التفنيد في هذا الإطار لا يخرج عن مجال البناء المنطقي المضبوط، حيث الوعي والإدراك التامين بوجود صعوبة في الإتيان بالمطلوب والمقصود، الموضوع يدعو الكاتب إلى اتخاذ موقف واضح لا لبس فيه يدل على عدم اقتناعه وإيمانه بما خط وكتب، لم تعمد الشخصية إلى تفسير الوضع وبيان خلفياته بل عملت على تمييز الغث من السمين عبر موقف حاسم تجلى في عدم الرضى عن الموقف الإبداعي برمته، وفي ذروة الصراع تم الحسم بقوة عبر إلقاء القلم ونثر رذاذه، لقد كان النص المأمول ثمرة جهد وعمل دؤوب مر عبر قناة قيم الصبر والمثابرة والوصول إلى الحلم الجميل،إنه قلم الطيب الوزاني الذي استفرغ طاقته واستجمعها في وقت قياسي قصير لينتج مجموعات قصصية قصيرة جدا تحفل بالحياة وانكساراتها وأوجاعها، وأفراحها وأضوائها.
وسوم: العدد 722