الدّكتور محمد شحرور بين (بيضة الدِّيك) و (صوتُ الدَّجاج)
تابعتُ الحلقات الستَّة الأُوَل من برنامج «النَّبأ العظيم» الذي يقدِّمه الأخ د. يحيى الأمير، ويستضيف خلاله الأخ د. محمد شحرور، في حوار جريء حول «قراءة قرآنية معاصرة»، يبثُّ فيه الأخ د. محمد شحرور قراءته الجديدة لـ«لقرآن الكريم»، ويؤكِّد ما سطَّرتْه يداه في كتابه الذي ألَّفه للتَّعبير عن هذه القراءة وهو: «الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة».
ولا يخفى على المتابعين والمشاهدين «الدَّهشة» التي قد تبلغُ حدِّ المفاجأة عندَ الأخ المحاور «الأمير»، كردِّ فعْلٍ على ما يسمعه من المحاوِر «الشَّحرور»، مع حفظنا واحترامنا لـ«لقَبَيْهما». وقد تفشَّت ردَّة الفعل هذه في الأوساط العامَّة والخاصَّة بين «المفكِّرين» و«الكتَّاب»، حيث انقسم المتابعون قمسين:
الأوَّل: قسمٌ اتَّخذ من الإنكار منهجًا له، يرفضُ من خلاله كلَّ ما يذكره الأخ «الشَّحرور»، انطلاقًا من قاعدة ثقافية شعبيَّة مفادها: «كلُّ ما لا أعرفه ليس بصحيح»، وهي تطبيق عمليٌّ لقولهم: «الإنسان عدوُّ ما يجهل». وهي حال «العامَّة» من المتابعين؛ لكنَّ العجب يظفو ويظهر حينَ نراها متفشيَّة عند مَن يدَّعون أنَّهم من أهل العلم، والبحث، والدِّراسة، والدِّراية بـ«التَّفسير»، و«اللُّغة»، و«النَّحو» وغيرها.
إلا أنَّ العجب يزول عندما نعلمُ أنَّ بعض هؤلاء العلماء، علماءَ الشَّريعة، لم يتلقَّوا في مراحل تحصيلهم العلميّ ما يمكِّنُه من امتلاك أدوات اللُّغة العربيَّة الموصلة إلى فهم «القرآن الكريم»، فاقتصرت دراستُهم غالبًا على «ألفيَّة ابن مالك»، أو شرحها لابن هشام في «أوضح المسالك»، أو «مغني اللَّبيب»، أو «شرح ابن عقيل»، أو «شرح شذور الذّهب»، أو«قطر النَّدى وبلّ الصَّدى»، أو غيرها من كتب «النَّحو» و«القواعد»، حتَّى صار أحدُهم يجاوز «سيبويه» في علمِه وفهمِه.
وغاب عن هؤلاء أنَّ «القرآن الكريم» مفرداتٌ ومعانٍ، وليس قواعد فحسب، وأنَّ هذه المعاني هي «الحَكَم» في «استنباط» القاعدة، وليس العكس، وما لم يقرأ أحدُهم مصنّفًا في «اللُّغة» كـ«العين» للخليل بن أحمد، أو «جمهرة اللُّغة» لابن دُريد، أو «مقايس اللُّغة» لابن فارس، أو «تهذيب اللُّغة» للأزهريّ، أو «الأساس» للزمخشريّ، أو«المخصَّص» لابن سيده، أو «لسان العرب» لابن منظور، أو «تاج العروس» للزَّبيديّ، فإنَّ الأقفال بينه وبين إدراك جواره وسبر معاني القرآن الكريم تعدلُ مسيرة ما بينه وبين عصر أحد هؤلاء المصنِّفين. وسندلِّلُ على ذلك من خلال الأمثلة فيما سيأتي بيانه.
أضف إلى ذلك أنَّ «ابن مالك» رحمه قد وضع أكثر من خمس مئة بيت شعري من صنع نفسه على أنَّها «شواهد نحويَّة»؛ ليثبتَ من خلالها صحَّة القواعد التي يريدُها، وهو أمر خطير، وذو أبعاد متشعَّبة، إذا ما علمنا أنَّه أحدُ أعمدة المدرسة الأندلسيَّة في «النَّحو»، ومعظم جامعاتنا العربيَّة جعلتْهُ الأساس الذي تبني عليه الفكرَ اللُّغوي لطلابها في قسمي «اللُّغة العربيَّة» و«الشَّريعة».
الثَّاني: قسمٌ معجبٌ بكلِّ جديد يسمعه، فيأخذه على أنَّه الصَّواب المطلق، والحقيقة الكاملة، حتَّى ينزّلَ قائلها منزلة «المقدَّس»، دون دراية، أو بحث عن صحَّة هذا الجديد من عدمه، أو هل قائله مبتكرٌ أو ناقل أو مكرِّر؟ لكن قلَّة البحث والدِّراسة حالت دون معرفته، وإظهاره.
ولعلَّ الظُّروف التي يعيشها «العقل العربيّ» في عصرنا الحاليّ تدفع إلى قَبول كلّ ما فيه، وتعلَّقه الشَّديد بالبحث عن كلّ جديد.
وسأحاول في هذا «المقال» المختصر أنْ أنظرَ إلى ما يدعو إليه «الشَّحرور» نظرة موضوعيَّة متجرِّدة، لا تنتمي إلى أحد القسمين السَّالفَيْن، مع أمثلة تبرهنُ صحَّة ما أرمي إليه، مع التَّنبيه على أنّني سأقصره على الجانبِ «اللُّغويّ» فقط، دون البحث في صحَّة «إسقاطه» على «القرآن الكريم»، وهل أصاب «الشَّحرور» في زعمه، وفي «قراءته» للقرآن أم لا؛ لأنَّ البحث فيه يحتاج إلى «كتاب» لا إلى «مقال».
و لا بدَّ قبل عرض الأمثلة المرادة أن أنبِّه على أمرين:
الأوَّل: أنَّ «الشَّحرور» في اختياراته لمعاني مفردات «القرآن الكريم»، يعتمد منهجًا واضحًا، يظهر من جهتين:
الأُوْلى: القول بعدم وجود «ترادف» في القرآن الكريم، وهو مذهب ثعلب أحمد بن يحيى، وأبي عليّ الفارسيّ، وتلميذه ابن جنيِّ، وهو منهج يقرُّ بأنَّ كلَّ لفظة لها معناها الخاصّ الذي تدلُّ عليه، وتتميَّز من غيرها من الألفاظ، فثمَّة فرق بين «جعل» و«خلق»، وبين «نطق» و«قال»، و«نزل» و«أنزل»، وإن كانت مشتركةً معها في «الأصل» اللُّغويّ الذي «اشتُقَّت» منه.
الثَّانية: اعتماد منهج «التَّثليث» في «الاشتقاق»، وما يتَّصل به من نظام «التَّقاليب» السِّتّة التي أسَّسها وبناها الخليل بن أحمد الفراهيديّ في معجم «العين» فكان الرَّائد فيها، والرَّائد في جمع اللُّغة، بل إنَّه رتَّب «العين» على «مخارج الحروف»؛ لعلمه أنّ لكلّ حرفٍ «صوتًا» يختصُّ به، واجتماع «الأصوات» يؤدِّي إلى إقرار «المعنى» في اللَّفظة الواحدة.
الأمر الثَّاني: أجزمُ أنَّ كلَّ ما جاء به «الشَّحرور» في هذه «الحلقات» ليس من كيسِه، ولا ينبغي أن ننسبه إليه، وإن زعمَ هو نفسه ذلك، ومن الموضوعيَّة أن ننسبَ إلى أنفسنا الجهل بها؛ لأنَّ وصفها بـ«الجديدة» تجنٍّ واضحٌ على «اللُّغة العربيَّة»، واتِّهامٌ لها بما ليس فيها، مع ما نراه من عجزٍ لغويٍّ واضح عند «الشَّحرور» نفسه، تجلَّى ذلك واضحًا في جنوحه إلى «العامِّية» في حواره، وما كان ذلك ليحدث لو امتلك ذخيرة لغويّة جمَّة تسعفه عند الحاجة إليها، وما لجوؤه إلى «الأمثلة» ليشرح الفكرة التي يحاوِر فيها، إلا تغطية لذلك العجز، وتعمية عنه.
وسأذكر عشرة أمثلة فقط تؤيِّدُ ما ذكرتُه، وتدلُّ عليه، وتشير بوضوح إلى أنَّ بعض «أرباب اللُّغة» قد رغبوا عمّا ذكره «الشَّحرور»، وبرَّأوا «اللُّغة العربيَّة» عمَّا يوردُه من معاني لم تطرقْ أسماعهم، فإذا كانت هذه حالهم، فلا تثريب إذن على من هم ليسوا من «أهل اللُّغة»، وقد صنَّف فيما سبق الدَّكتور يوسف الصَّيدوايّ كتابًا للرَّد على «الشَّحرور»، وقد جانبه الصَّواب في معظم ما ذكره، لقلَّة اطِّلاعه، وتحامله على «المؤلِّف» دون النَّظر بموضوعيَّة إلى ما جاء به، ولو فعل لكان خيرًا له، وللُّغة العربيَّة التي ادَّعى أنَّه يدافع عنها، والأمثلة هي:
المثال الأوَّل: زعمَ «الشَّحرور» أنَّ «الكتاب» مثلاً قد يأتي بمعنى «الأحكام»، وذكر قوله تعالى: ﴿فيها كتبٌ قيَّمة﴾ شاهدًا عليها، وردَّ عليه «الصَّيداويّ» ذلك بقوله: «إنّ كلمة «قيَّمة» تمنع منعًا مطلقًا من تفسير «الكتب» بأنَّها مواضيع»([1])، و«الشَّحرور» يقصد بالمواضيع: الأحكام، ثم أسهب «الصَّيداويّ» بتعليل ذلك من خلال دراسة الفعل «وضع».
وفي حقيقة الأمر أنَّ «الشَّحرور» لم يأتِ بجديد، ولا أصاب «الصَّيداويّ» في ردِّه؛ لأنَّ هذا المعنى مذكور في كتب اللُّغة، وأوّل من قال به «ابن فارس» في معجمه «مقاييس اللُّغة» حيث جاء: «وقال تعالى: ﴿يتلو صحفًا مطَّهرة، فيها كتب قيَّمة﴾، أي: أحكام مستقيمة»([2]). بل إنّ «ابن فارس» يورد أصل معنى الفعل «كَتب»، وما حُمل عليه من المعاني التي ينسبها المنكرون والموافقون إلى «الشَّحرور» نفسه في معنى «الكتاب»، يقول «ابن فارس»: «كَتَب: الكاف والتَّاء والباء أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على جمع شيء إلى شيء. من ذلك: الكتاب والكتابة، يقال: كتبتُ الكتابَ أكتبُه كَتْبًا، ويقولون: كتبتُ البغلةَ: إذا جمعتُ شُفري رحمها بحَلْقة»([3])، ثمَّ يذكر ما يُحمل عليها من معاني فيقول: «ومن الباب الكتاب، وهو الفرض»([4])، ويقول: «ويقال للحُكم: الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما لأقضينَّ بينكما بكتاب الله تعالى، أراد: بحكمه»([5])، ويقول: «ويقال للقَدَر: الكتاب»([6])، و«من الباب: كتائب الخيل، يقال: تكتَّبوا»([7])، وهذه الأخيرة حمل عليها «الشَّحرور» قوله: «كتيبة الجنود»، التي ردَّها «الصَّيدوايّ» عليه، ولا مبرِّر لردِّه إلا التَّحامل، ولا شيء غيره؛ لأنَّ «الصَّيدوايّ» ردَّ ما يعنيه «الكتاب» من معنى «الجمع»، وهو كما رأيناه الأصل الوحيد الذي يحمله الجذر «كَتَب».
المثال الثَّاني: لفظ «المصحف» وهو ما يتَّصل بالأوَّل، حيث يرى «الشَّحرور» أنَّ «القرآن» لا يجوز أن نسمِّيه إلا «مصحفًا»، وقد ردَّ عليه «الصَّيدواي» ردًّا فيه تهكُّم لا يُقبل منه فقال: «وذلك أنَّ القرآن عنده شيء، والكتاب شيء آخر، وزعمه هذا يمنعه من أن يسميّ كلام الله قرآنا أو كتابًا، ولقد فُتح عليه بكلمة «مصحف» فسمَّاه بها»([8]). ثمَّ أكَّد تهكُّمَهُ حين قال: «وتسألني أين الطَّرافة: فأقول لك: إنَّ ما ادَّعاه المؤلِّف يعني أنَّ كلام الله ظلَّ نحوًا من ربع قرن بغير اسم، أي: منذ بدء نزول الوحي حتّى تولَّى الخلافة أبو بكر رضي الله عنه وجمع القرآن، ذاك أنَّ أبا بكر هو أوَّل من أطلق كلمة المصحف على القرآن كلِّه»([9]). ولا يخفى على الباحث ما في هذا الأسلوب من النَّيل من «الكاتب» لا «المكتوب»، ولا وزنَ له في البحث العلميّ الجادّ.
والصَّحيح أنَّ «الشَّحرور» لم يأتِ به من كيسه، وإنَّما هو مشهور معروف عند أهل اللُّغة، وقد أورده «الخليل بن أحمد» في معجمه «العين» فقال: «وسُمِّي المصحف مُصحفًا؛ لأنَّه أُصْحِف، أي: جُعلَ جامعًا للصُّحُف المكتوبة بين الدَّفتين»([10]). والصَّحُف عند «الخليل: «جمع صحيفة»([11]). وما بنى عليه من معاني أخرى وأسقطها على «القرآن الكريم» ليس هذا مقام الحديث عنه.
المثال الثَّالث: لفظ «الفرقان»، وهو يتّصل أيضًا بما قبله، وأكتفي بما ذكره «ابن دريد» في «الجمهرة» لنعلم أنَّ كلّ ما ذكره «الشَّحرور» وما رُدَّ عليه ليس بجديد؛ بل إنَّ «ابن دريد» صنَّف كتابًا سمَّاه «لغات القرآن» جميع فيه هذه «الفروق»، وأظنُّه من الكتب المفقودة، فلم يشأ الله تعالى أن نقف عليه لنستقصي لغات العرب في القرآن، فضاع الكتاب، وضاعت معه كنوز ثمينة.
قال في «الجمهرة»: «وللفُرقان في التَّنزيل مواضع، فمنه قوله جلّ وعزّ: ﴿نزَّل الفرقان﴾، أي: القرآن. والفرقان: النَّصر. ومنه قوله جلَّ ثناؤه: ﴿وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان﴾، أي: يوم النَّصر، يعني: يوم بدر. والفرقان: البرهان. وهذا مستقصى في كتاب لغات القرآن»([12]).
وفيما قاله «ابن دُريد» أمران:
الأوَّل: أنَّه سمَّى «القرآن الكريم» «تنزيلاً»، وهو ما يستخدمه «الشَّحرور» ويصرُّ عليه. بحيث جعله أصلا واسمًا لازمَّا له.
الثَّاني: أنَّه أورد معاني لـ«لفرقان» وهي: النَّصر، والبرهان، والتَّفريق، وغيرها، وهي ما يستخدمها الشَّحرور نفسه على حسب السِّياق القرآنيّ الذي تقع فيه.
المثال الرَّابع: ﴿أمُّ الكتاب﴾، وعنى به «الشَّحرور»: الآيات المحكمات التي هيّ الشّرائع، والأحكام، وقد شنَّع «الصَّيداويّ» في ردَّه عليه، وأطال، وقال في نهايته: «ولولا خشية الإملال لم أجتزئ من المحيط بقطرة»، وأسبغ على ردِّه شيئًا من «السُّخرية» التي لا تجوز في النَّقد والتَّفنيد، علمًا أنَّ ما جاء به الشَّحرور ذكره «الخليل بن أحمد» في «العين» حيث قال: «وأمُّ القرآن: كلُّ آية محكمة من آيات الشَّرائع، والفرائض، والأحكام، وفي الحديث: إنَّ أمَّ الكتاب هي فاتحة الكتاب؛ لأنَّها هي المتقدِّمة أمام كل سورة في جميع الصَّلوات، وقوله تعالى: ﴿وإنَّه في أمّ الكتاب لدينا﴾، أي: في اللوح المحفوظ»([13])، ولم يفعل «الشَّحرور» إلا أنَّه أبدل «القرآن» في «أم القرآن» بـ«الكتاب» ليوافق ما يذهب إليه.
المثال الخامس: ﴿هل ينظرون إلا تأويله﴾، وعنى «الشَّحرور» بالتَّأويل عاقبة ما يؤول إليه في الزَّمان متأخِّرًا، أي: يوم البعث والنُّشور، ونؤكِّد أيضًا أنَّه لم يأتِ به من كيسه، فقد نصَّ على هذا المعنى «ابن فارس» في «مقاييس اللُّغة» فقال: «ومن هذا الباب: تأويل الكلام، وهو عاقبتُه، وما يؤول إليه، وذلك قوله تعالى: ﴿هل ينظرون إلا تأويله﴾، يقول: ما يؤول إليه في وقت بعضهم ونشورهم»([14]). ومنه قول الأعشى:
عَلَى أَنَّها كانتْ تأوَّل حبّهَا تأوَّل رِبعيّ السِّقاب فأصبحَا
المثال السَّادس: ﴿مواقع النُّجوم﴾، حيث رأى «الشَّحرور» أنَّها «الفراغ» أو «الفواصل» بين الآيات، وقد ردَّها عليه «الصَّيدوايّ» في الصَّفحة الأخيرة من كتابه([15])، وأذكر «الدَّهشة» التي رُسمت على وجه «الأمير»، حتَّى إنَّه أصرّ على إعادة سؤاله، ليفهم المراد منها، فأكَّده «الشَّحرور» مرارًا، فظنَّ «المحاوِرُ» والمتابع والمشاهد أنَّها من «إبداع» «الشَّحرور»؛ لكنّ الباحث الممحِّص يعلم أنَّ مَن قاله قد سبق «الشَّحرور» بعصور، فقال «الخليل بن أحمد» في «العين»: «والنُّجوم وظائف الأشياء. وكلُّ وظيفة نجم. قال الله عزَّ وجلّ: ﴿فلا أقسم بمواقع النُّجوم﴾، يعني: نجوم القرآن. أنزل جملةً إلى السَّماء الدُّنيا. ثمّ أنزل إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نجومًا في عشرين سنة آيات متفرِّقة»([16]). وإذا ما أردنا أن نتعجَّب فإنَّنا نتعجَّب من جهلنا بلغتنا، وتركنا لها، حتّى أصبحت رهينة «المعاجم» و«المكتبات»!!
المثال السَّابع: ﴿السَّبع المثاني﴾، يرى «الشَّحرور» أنَّ المراد بـ«المثاني» ما يدلُّ على «اثنين»، أي: ضمّ واحد إلى واحد، بمعناها اللَّغويّ، لا بمعناها العدديّ، وإن دلَّت عليه، أو ما يشير إلى تكراره، ثم بيَّن أنَّها سبعة في «القرآن الكريم»، وينكرُ عليه طرفٌ لا علمَ له بلغة العرب هذا المعنى، وفي الوقت نفسه يصفه طرفٌ ثانٍ بأنَّه مجدِّدُ المعنى ومبتكره، و كلا الطَّرفين مجانب للصَّواب، فقد ذكر «ابن فارس» في «مقاييس اللُّغة» هذا المعنى إذ يقول: «والمثناة ما قُرئ من الكتاب وكرِّر. قال الله تعالى: ﴿ولقد آتيناك سبعًا من المثاني﴾، أراد أنَّ قراءتها تثنَّى وتُكرَّر»([17]).
المثال الثَّامن: «البلاغة»، حيث يحصرها «الشَّحرور» بالمعنى اللُّغوي الذي يدلُّ عليه أصلها، مستندًا إلى ما نصَّ عليه «ابن فارس» نفسه في «مقاييس اللُّغة» حيث يقول: «بَلَغَ: الباء واللام والغين أصل واحدٌ، وهو الوصول إلى الشَّيء، تقول: بلغت المكان، إذا وصلتَ إليه»([18])، وعندما يحصر «ابن فارس» ذلك بقوله: «أصل واحد» ممَّا يشير إلى أنَّه لا يخرج عن هذا الأصل، وما اشتقّ منه محمول عليه، ومرتبط به في أصل المعنى. وهو ما سار عليه «الشَّحرور» وبنى عليه ما أراده من معاني «البلاغة» و«البلاغ»؛ لكن من الإجحاف أن ننسبها إليه، فقد أوردها «الخليل بن أحمد» فقال: «رجلٌ بلْغ: بليغ. وقد بلُغ بلاغة. وبلغ الشَّيء يبلغه بُلوغًا، وأبلغته إبلاغًا. وبلَّغتَه تبليغًا في الرِّسالة ونحوها، وفي كذا بلاغٌ وتبليغ أي: كفاية»([19]). ونظيره ما قاله «ابن فارس»: «وكذلك البلاغة التي يُمدَح بها الفصيح اللِّسان؛ لأنَّه يبلغ بها ما يريده»([20]).
المثال التَّاسع: «البنان»، حيث ذكرَ «الشَّحرور» أنَّ «البنان» الواردة في قوله تعالى: ﴿واضربوا منهم كلَّ بنان﴾، تعني: الجسم كلَّه، وليس «الأصابع»، وهو مصيب في ذلك جريًا على ما نُسب إلى الزَّجاج من أنَّ المعنى «الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء»([21])، ونسبة هذا المعنى إلى «الشَّحرور» افتخارًا، أو ردِّه عليه إنكارًا ليس من «الإنصاف» بمكان.
وأنبِّه إلى أنَّ ما ادَّعاه «الشَّحرور» من دلالة «البنون» على «البناء» إنَّما قاده إليه ما ذكره «ابن فارس»، وهو يعتدَّ به، ويعتمد اعتمادًا كبيرًا في نقل أصوله اللُّغويَّة، فذكر «ابن فارس» «البنان» في مادَّة «بنّ» أصلا واحدًا له فقال: «بنَّ: الباء والنُّون في المضاعف أصل واحدٌ، هو اللُّزوم والإقامة»([22]). ولعلَّ «الشَّحرور» توهَّم في كلام «ابن فارس» ما يشير إليه، فقد قال في «المقاييس»: «وإنَّما اشتقاق البنان من قولهم: أبنَّ بالمكان، إذا قام. فالبنان به يُعتمَد كلُّ ما يكون للإقامة والحياة»([23]).
وأوضح من ذلك ما ذكره «الخليل بن أحمد» من معنى «الْمِبْناة» حيث قال: «والْمبِنْاة: كهيئة السِّتر غير أنَّه يُلقى على مقدَّم الطِّرف، وتكون المبناة كهيئة القبَّة، تجلِّل بيتًا عظيمًا، ويُسكن فيها من المطر، ويكنُّون رحالهم ومتاعهم، وهي مستديرة عظيمة واسعة، لو ألقيت على ظهرها الخُوصُ تساقط من حولها، ويزلّ المطر عنها زليلاً»([24]). ثمَّ إنَّ «ابن فارس» ذكر هذا المعنى في مادَّة «بنو» التي يشتق منها «الابن» فقال: «بنو: الباء والنُّون والواو كلمة واحدة، وهو الشَّيء يتولَّد عن الشَّيء، كابن الإنسان وغيره، وأصل بنائه بنو»([25])، ثم أوردَ ما نصَّ عليه «الخليل بن أحمد» من قبلُ فقال: «وممَّا شذَّ عن هذا الأصل المبناة»([26])، وقد وضَّحنا من قبل المراد من مصطلح «الشُّذوذ» عند «ابن فارس».
لذلك فإنَّ «الشّحرور» مصيب في ذهابه من حيث «الاشتقاق» بناءً على ما أورده «ابن فارس» نفسه، لكنَّنا نتوقَّف عن إسقاط ذلك على «النَّصّ القرآنيّ»، ولا نبحث فيه؛ لأنّنا أشرنا إلى المراد من هذا المقال.
المثال العاشر والأخير: «النِّساء» حيث يرى «الشَّحرور» أنَّه لفظٌ من حيث معناه مأخوذ من «النسء» الذي هو «التَّأخير»، ولا شكَّ أنَّ هذا المعنى وإن كان غريبًا علينا إلا أنَّه موجود في اللُّغة، وله شواهدُه وقائلوه، فقد أرودَ «ابن منظور» في «لسان العرب» ما يؤكِّد ذلك فقال: «نُسِئَتِ المرأَةُ تُنْسَأُ نَسْأً: تأَخَّر حَيْضُها عن وقتِه، وبَدَأَ حَمْلُها فهي: نَسْءٌ، ونَسِيءٌ، والجمع: أَنْسَاءٌ، ونُسُوءٌ، وقد يقال: نِساءٌ نَسْءٌ على الصِّفة بالمصدر»([27]).
فالمرأة الحائض تسمَّى «نَسيء» وتُجمع على «نَساء» بالفتح، وذكر ابن الأعرابيّ أنَّ «النَّسيء» بكسر النُّون([28])، وعليه فإنَّ جمعه يكون على «نِساء» بكسر النُّون أيضًا. وإن كان الفصيح الفتح كما قالوا. بل إنَّ الزَّبيدي في «تاج العروس» قد نصَّ على «نِساء» بكسر النَّون صفة للنَّسء عندهنَّ فقال: «يقال : امرأَةٌ نَسُوءٌ ونَسْءٌ، ونِسوةٌ نِسَاءٌ، أَي تأْخَّر حَيْضُها ورُجِيَ حَبَلُها»([29]).
لقد عرضتُ هذه الأمثلة لأدلِّلَ على ما بيَّنته في مقدّمة المقال، وأشيرُ إلى أنَّ العنوان يُلمح إلى «بيضة الدِّك»، وهو عنوان «الكتاب» الذي ألَّفه «الصَّيدوايّ» للرَّدّ على «الشَّحرور»، أمَّا «صوت الدَّجاج» فالمراد منه صوت «الدِّيكة» أيضًا، وقد أورده أبو عليّ الفارسيّ في «التّكملة» للدّلالة على أنَّ «الدجاج» قد يأتي بمعنى «الدِّيكة» مستدلاً بقول الشَّاعر([30]):
لَمَّا تَذَكَّرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أَرَّقَنِي صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ بِالنَّوَاقِيْسِ
([1]) بيضة الدِّيك: ص24.
([2]) مقاييس اللغة: 5/129.
([3]) مقاييس اللغة: 5/129.
([4]) مقاييس اللغة: 5/129.
([5]) مقاييس اللغة: 5/129.
([6]) مقاييس اللغة: 5/129.
([7]) مقاييس اللغة: 5/129.
([8]) بيضة الدِّيك: ص34.
([9]) بيضة الدِّيك: ص47.
([10]) العين: 1/193.
([11]) العين: 1/193.
([12]) جمهرة اللغة: 2/315.
([13]) العين: 2/211.
([14]) مقاييس اللغة: 1/163.
([15]) بيضة الدِّيك: ص237.
([16]) العين: 1/486.
([17]) مقاييس اللغة: 1/354.
([18]) مقاييس اللغة: 1/280.
([19]) العين: 1/357.
([20]) مقاييس اللغة: 1/281.
([21]) مقاييس اللغة: 1/188
([22]) مقاييس اللغة: 1/187.
([23]) مقاييس اللغة: 1/188.
([24]) العين: 2/201.
([25]) مقاييس اللغة: 1/288.
([26]) مقاييس اللغة: 1/284.
([27]) لسان العرب: 1/166.
([28]) لسان العرب: 1/166.
([29]) تاج العروس: 1/325.
([30]) التكملة: ص133.
وسوم: العدد 723