الشعر والرغبة، نشأة وإقامة إلى الأبد ؟
حتى يتجنّبَ الحديثَ عن نفسه في غموضٍ وفلسفة تجترّ وتوَلّد الغموض والبعد إلى ما لا نهاية، وحتى يثبتَ في دفعه الحيوي ماهيةَ حضوره في العالم نفسياً ووجدانياً، يقبل الشعرُ قيودَ الأشكال والحدود والتعريفات، لكن وفق رؤيته الفنية والجمالية للأشياء. وتُعتبَر القصيدةُ حيلةَ الشاعر في تقدّمه نحو فتوحات الكون والروح الخفية التي تجعل من الشعر حدثاً مفاجئاً منتفضاً يتطور بين حاضرٍ ومستقبلٍ، يقتلع نفسَه من فضاء بدائي قديم، ويتجه نحو أفق بعيد عميق مرشّح لأن يكون ويظلّ شعوريا.
لنقف هنا مع أحد عمالقة الشعر في العالم،René Char روني شار الفرنسي، مستمعين لِكلام له بصدد القصيدة يقول فيه أنها " الحبُّ المحقِّقُ لرغباتٍ تبقى دائما رغبات". لا يستعمل روني شار كلمة ' رغبة ' في شكلها المعرَّف ولا في صيغة الجمع كما تفعل ترجمتُنا التي نحسبُها في عداد ما كان يُسمّيه Georges Mounin جورج مونان ' حسناء غير مخلصة '.
القصيدة والرغبة. ما الرابط بينهما ؟ تحقيقُ شكلٍ من أشكال الحبّ المحدَّدِ والمحدود زمنياً باللحظة التي تسيطر عليها الرغبة ؟ أتكون القصيدة، فيما يبدو، ذاك الجسد اللغوي المنفعل أي الذي يتكلم في عاطفة عن مشاعر الرغبة التي تسكن الشاعرَ في وقت معيّن وظرف بذاته ؟ أتكون إذن متعة من نوع جمالي أي استجابة فنية وآنية لرغبةٍ دائمة ؟
هناك القصيدة. وهناك حبّ. وهناك رغبة. وهناك منطق خاص لمجموع العلاقة، يوجد في تجسيد حبِّ رغبةٍ في القصيدة. بيد أنّ هذا المنطق نفسه يقول بأنّ الرغبة النكرة ' رغبة ' هي رغبة مطلقة يستحيل على القصيدة أن تكون حضناً لها في كلّيّتها، تقطن فيه إلى الأبد.
القصيدة شكل وجسد. القصيدة صيغة وإطار، بنية ونظام. القصيدة بهذا المعنى كيان ثابت. أمّا الرغبة فهي كيان متحوّل. هي جمعٌ متعدّد ومطلق في صيغة المفرد النكرة 'رغبة". هي رغبة الرغبات. وهي عابرة للزمن، في كلّ الأوقات واللحظات. وأيضا متنقلة في الأمكنة والأجسام، وفاعلة متحرّكة في الكائنات والأرواح والنفوس، وماضية عنها. إنها لا تنزل في فضاء أو تحلّ بجسد، لا تدخل في علاقة تغذية وتكاثر، تمدّد أو توسّع أو تعمّق أو تقويّة إلا لكي تغادر – كما الطيور المهاجرة – كل شيء من أجل وجهة أخرى تلبيةً لنداء رغبة جديدة.
بمعنى آخر، لا تبقى الرغبة على حالها أبدا. إنها كائن في تحوّل مستمر، ولها قدرة طبيعية عجيبة على النفور من الأشكال والهروب من القوالب. هي – في مرورها على الأشياء والكائنات، وعبورها أنهار النفس، وانجرافها مع مياه الروح – نوع من ' النفَس المبتور'.
وإذن أين هو الشعر في كلّ هذا ؟ للجواب عن ' أين ' تعوّدنا التفكير في فضاء له نقطة بداية ونشأة، ونقطة وصول أو غاية. لكن، هل يليق هذا التفكير المنطقي والخطي بالشعر ؟ الشعر فضاء، لكنه فضاء بلا حدود، تسكنه طاقة حيّوية، متغيّرة باستمرار، وتطبعها المفارقات الخفية. كيف ذلك ؟
تبدأ أجنّةُ الشعر في الإطلالة على الوجود انطلاقا من الرغبة. أي يستمدّ الشعر إرادته في الظهور وتحقيقَ ذاته من رغبة التعبير عن رغبة ما. وفي خِضمّ مُدّته النفَسية المقطوعة، يسعى الشعر دائما – من أجل الوصول لذاته – إلى إطالة الإقامة في الرغبة التي منها ينشأ. لكن الرغبة عابرة وماضية ومتنقلة، وعناصر معناها مرتبطة بعدم الاستقرار وعدم الإقامة، بل بالتحوّل والعبور، بل أكثر من ذلك بالاضمحلال والزوال. هنا تكمن المفارقة السحرية التي تغوي النفوس وتُسعّر الرغبات : ألا يفعل الشعر- من أجل تحقيق ذاته والوصول إليها وإطالة الإقامة في الرغبة التي منها ينشأ - شيئا آخر غير التخلص من نفسه باعتباره لغة خلال لغة أي فنّا؟ وحتى عندما يطالب الشعرُ بالقيود الشكلية من خلال مستلزمات القصيدة ومقتضياتها، أليس من أجل إضعاف هذه القيود وإثارة تراجعها عن طريق تحريكها وتشغيلها؟
السؤال حول نشأة الشعر وأهدافه، من خلال القصيدة: من أين تولد القصيدة ؟ وإلى أي أفق تتجه ؟ يقود، حسب Jean Starobinskiجون سطاروبنسكي، إلى توتّراتها الداخلية وادعاءاتها الأكثر حيوية. هنا، يتخذ الشعر باعتباره حدثاً العديدَ من صور الظهور الفجائي الخاصة به. إلا أنّ هذا الظهور عند روني شار يتخذ شكل " اللحظة التي تبرق في كثافة وحِدّة "، فتمزّق الصمت وليلَ الانتظار. والشاعر هو سيّد هذه اللحظة، وله السيادة في وصفها كما يحلو له، عِلْماً أنّ ما يحدّ هذه اللحظة – على ضفتيْ الماضي والمستقبل – شيء يصعبُ الإمساك به. لماذا ؟
لأنّ الليل يعيد نفسَه، فيخيّمُ الصمتُ من جديد. ويعمّ الظلامُ. ويحلّ الانتظارُ.
لكنّ هذا الليل المصحوب بالصمت والظلام والانتظار يمكن مقارنته بالمياه النائمة السوداء حيث تختمر الحياة الناشئة. ومن قعر شدقه الرهيب، ينبثق شعاعٌ وتشرئبّ إليه رغبات. من هنا نشأةُ الشعر كلحظة بارقة كثيفة وحادّة، غير أنه يبقى- باعتباره فنّاً أي قصيدة تدّعي وفقاً لتوتراتها الداخلية تحقيقَ حُبِّ رغبةٍ- نفَساً قصيراً مبتوراً، لا يمكن له أن يطول أو يدوم. لأنه كما يعيد الشعرُ نفسَه على فترات، يعيد الليل نفسه في تكرارية أبدية رتيبة، ضاغطة وموهِنة ومُفنية. ولا يمكن للحظة الشعر البارقة في كثافة وشدة أن ترسّخَ ظهورَها في الوجود بشكلٍ ثابتٍ لأنّ لحظة وجودها هي لحظة بريقها، كما أنّها تتحقق على خلفية ليل الصمت والانتظار الطويل المتواصل.
بيد أن هذه اللحظة، رغم نفَسها القصير المبتور، ورغم إرادة الليل في السيطرة على الكون ومنع الكائنات والحياة من الأحلام والكلام والظهور، تبقى رغبةً في تحقيق انتفاضةٍ ضد الظلام والصمت والانتظار. اِنتفاضة تبقى هي الأخرى – وهذا هو الأهم – انتفاضة إلى الأبد.
وسوم: العدد 724