شخصية الإمام أبي شعيب الدكالي في الشعر الإسلامي الحديث

clip_image001_108e6.png

مقدمة :

في هذه المرحلة التي تشهد تقدم العمل الإسلامي على الصعيد الدعوي والاجتماعي والسياسي نجد أنه من المفيد لتقويم وتسديد مسيرة العمل الإسلامي التعريف ببعض رواد الإصلاح ورموزه؛ لوصل الحاضر بالماضي والاستفادة من الدروس والتجارب السابقة والبناء عليها؛  حتى لا تضيع تلك الجهود المباركة ولكي نختصر كثيراً من الزمن والجهد .

على الرغم من مرور أكثر من خمسة عقود من الزمن على وفاة شيخ الحديث، وحافظ المغرب الكبير، العلامة أبي شعيب الدكالي، فإن ترجمته لا تزال موزعة بين عدة مصادر ومراجع، جزى الله أصحابها، عما بذلوه فيها من حفاظ على أخبار هذا الشيخ الجليل، وعلى نتف من آثاره.

لهذه الاعتبارات الآنفة الذكر، تأتي هذه المساهمة المتواضعة، لتبني ترجمة متكاملة، لأبي شعيب الدكالي، وفي تسلسل وانسجام بين مراحل حياته، مبرزة دوره الطلائعي في تنشيط الحركة العلمية بالمغرب، أوائل القرن الميلادي الجاري، وما كان لدعوة السلفية من آثار محمودة على الحركة الوطنية، التي كان جل روادها الأوائل من تلامذة أبي شعيب الدكالي .

الشيخ أبو شعيب بن عبد الرحمن الدكالي الصديقي، (1295 هـ - 1356 هـ / 1878م – 1937م)، يعدُّ آخر حُفاظ المغرب ومحدثيه، ورائد الدعوة السلفية في مطلع هذا القرن بالمغرب حتى لُقب بشيخ الإسلام، تولى الإمامة والخطابة والإفتاء على المذاهب الأربعة في الحرم المكي، وقدم بعض الدروس بالأزهر في مصر، وفي جامع الزيتونة بتونس. وبعد عودته للمغرب، وصلت له رئاسة الدروس السلطانية بالقصر الملكي على عهد السلطان مولاي عبد الحفيظ، والسلطان المولى يوسف، والعاهل محمد الخامس، وتولى وزارة العدل والمعارف لعدة سنوات، وكان يلقبه بعض طلابه بـ (محمد عبده المغرب) لدوره الإصلاحي العلمي والوطني والذي أنتج عدداً من قادة المغرب العلميين والسياسيين.

 مولده ونشأته:

ولد الشيخ أبو شعيب الدكالي بدار الفقيه بن الصديقي بدكالة في 25 ذي القعدة عام 1296هـ / الموافق 1878م ،  وهو من قبيلة أولاد عمرو، إحدى قبائل دكالة العربية، وهي قبيلة معروفة الأصل في المغرب منذ عهد المرابطين، وهم من رسخ الفكر السني في المغرب العربي منذ ذلك العهد، نشأ يتيماً تحت كفالة عمه العلامة سيدي محمد بن عبد العزيز الصديقي .

العوامل التي تأثر فيها :

تظافرت عدة عوامل من أجل تكوين شخصية هذا الرجل الظاهرة - في وقته- من خصائص ذاتية أصيلة فيه، إلى عوامل خارجية طرأت عليه بحكم الظروف المختلفة المحيطة به.

وبين هذه العوامل وتلك الخصائص عاش أبو شعيب الدكالي في وعي تام وانسجام ووئام بين الأنا والعالم.                             

فهو ابن طبقة كانت تشكل الغالبية العظمى من سكان المغرب، ينحدر من أصول استوطنت قرية أولاد عمرو، بدوار الصديقات قرب مدينة الغربية بدكالة.

بيتهم بيت علم وفضل وصلاح، ينتحلون الطريقة الدرقاوية، ويقومون بها؛ جل صغارهم، فضلاً عن كبارهم، يحفظون الحكم العطائية، لا يدعون نسباً، وربما ضربوا أطفالهم على ادعائه، وكان شعارهم في ذلك قول ابن عطاء الله الاسكندري:      « ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه » .

دراسته ومراحل تعليمه :

وما إن بلغ سن التعلم حتى استدعى له والده معلماً بخصوصه، وكان يوصيه، ويقول له: « إنه دعوة أبي ومصداق رؤياي » .

وهي كلمة تخفي وراءها تفاصيل، كان لها أكبر الأثر في نفس أبي شعيب، ومن ثم نجده يصدر بها ترجمته، التي نشرها العلامة الراحل عبد الله الجراري، ضمن كتابه عن أبي شعيب الدكالي. ولم يكد المترجم، يحفظ القرآن الكريم إلا خمسة أجزاء منه، حتى تجرع مرارة اليتم، وعانى من فداحته، لكنه سرعان ما مسح دمعته، وتجلد متفائلاً بأول آية من الحزب الذي وصل إليه، وهي قوله تعالى:

( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) .

وبعد أن حفظ القرآن بتمامه، شرع في حفظ القراءات السبع على أستاذه السيد محمد بن المعاشي، ويصادفه في هذه المرحلة من دراسته حادث فظيع، يعكس حقيقة ما كان يسود الكتاتيب القرآنية في ذلك العهد من قسوة وعنف، يتجاوب مع شعار آباء الأطفال وأوليائهم (اقتل، وأنا أدفن) أو ( اذبح، وأنا أسلخ)، وذلك أنه بينما كان أبو شعيب ذات يوم يقرأ سورة طه، ووصل إلى قوله تعالى: ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) قرأها وإنا اخترتك بالكسر، فما كان من أستاذه الذي كان يستمع إليه، إلا أن هوى عليه بلوحته، وشق جبهته عند حاجبه الأيمن، فانفجر الدم من الصبي بغزارة، مما كانت نتيجته أن أغمي عليه.

ولما عولج، وأفاق من غيبوبته، وجد عمه وكافله السيد محمد بن عبد العزيز الدكالي يقول لمن حوله : « إن مات في سبيل العلم فلا بأس أن يكون موته موتة شريفة »، ثم التفت إلى الصبي الجريح قائلاً : « لو قرأت العربية الفصحى: النحو وتوابعه، لما وقع لك هذا الخطأ الفاحش».

ويمر هذا الحادث على بشاعته، دون أن يثني أبا شعيب عن هدفه الذي رسمه لحياته، فأقبل على المتون العلمية المتعارفة في ذلك العهد، يلتهمها التهاماً، مسجلاً في قوة الحفظ وسرعته أرقاماً قياسية.

يحفظ الأجرومية في يوم واحد، وألفية ابن مالك في عشرة أيام، ومختصر خليل في أربعة أشهر، ثم يحفظ لكل بيت من الألفية عشرة شواهد عليه من شعر العرب المحتج به عند أربابه، يعرف قائله ومناسبته.

وهذه الحافظة الخارقة أهلته عام (1308ه / 1891م) للفوز في المباراة التي دعا إليها السلطان المولى الحسن الأول بمدينة مراكش، وكان عمره ثلاثة عشر عاماً ، في حفظ مختصر خليل، وزاده على ذلك حفظ القراءات السبع والتمكن من قواعد اللغة العربية وآدابها مع الذكاء الحاد والعارضة القوية في أدب وحسن أخلاق، حيث حضر أبو شعيب إلى مراكش مع من استقدم إليها من الحفاظ، وكان المشرف على الامتحان الفقيه علي بن حمو المسفيوي وزير العدل، فأعجب بأبي شعيب الدكالي لصغر سنه وتقدمه على من عداه حفظاً وفهماً، فسأله الوزير عن القرآن: عن حفظه، فأجاب على الفور أنه يحفظه وبالقراءات السبع، فأحضر من يعرفها ليمتحنه فيها، وشاع خبر هذا الطفل العجيب في القصر حتى بلغ إلى علم السلطان، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال له السلطان: أعرب "الرمان حلو حامض"، فأعرب المثل، وكان قصد السلطان أن يطرح معه قضية معروفة في النحو تتعلق بالخبر حين يتعدد بالنسبة لمبتدأ واحد، ثم إن السلطان الحسن الأول أراد أن يمازحه، ويثيره فقال له: "أنت فقيه، ولست بنحوي" فأجابه: "أنا أعلم بالنحو مني بالفقه، ولكني أنشــد لمولانا قول الشاعر:

يداك يد للورى خيرها                وأخرى لأعدائها غائرة

هنا تدخل بعض من كان حاضراً في المجلس، وقال له أفصح؟ ماذا تريد أن تقول لمولانا؟ فأجاب: "يكفني أن أتلو قول الله تعالى: "والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات"، فأعجب به السلطان أيما إعجاب، وضحك كثيراً، وأمر له بصلتين وكسوتين، ووقع على بطاقة التنفيذ بما نصه: "يضاعف لأبي شعيب لصغر سنه وكبر فنه".

وهي التفاتة ملكية كريمة رفعت من معنويات أبي شعيب، وأكدت له أنه لم يخطئ الاختيار حين اشتغل بالعلم، وأخلص له.

ثم بعد مدة من هذا التكريم رحل أبو شعيب الدكالي إلى مدينة فاس، بغية الاغتراف من حياض جامعة القرويين العتيدة، لكن ظروفه لم تساعده على المكوث بها طويلاً، فتوجه إلى الريف المغربي، وبقي  هناك مدة سنتين، يزاول دروس القراءات والحديث والفقه إلى أن عقد العزم على التوجه إلى المشرق عقب حادث يبدو بسيطاً في حجمه وقع له، فتشاءم منه، وهو أنه بينما كان يطالع دروسه في عصامية فريدة، إذا بالشمعة التي يستضيء بنورها تسقط على نسخته من صحيح الإمام البخاري، فتحرقها، فكانت بالنسبة له علامة أخرى، ومن نوع آخر، على أنه لا مناص من متابعة السير نحو الهدف المنشود، وبالتالي الخروج من عزلته هذه إلى آفاق أفضل وأرحب.

 شيوخه :

وتلقى تعليمه الأولي بمسقط رأسه قرية الصديقات بنواحي منطقة الغربية إحدى بوادي جهة دكالة، على يد شيوخ وعلماء القبيلة من أمثال العلامة ابن عزّوز، والعلامة محمد الصديقي، ومحمد الطاهر الصديقي ... وغيرهم، ثم انتقل إلى الريف حيث أتم حفظ القرآن بالقراءات والمتون الشائعة في زمنه.

 رحلته لمصر:

في سنة 1314 هـ، 1896م رحل إلى مصر، فمكث بها ست سنوات، وأخذ فيها العلم عن علماء الأزهر مثل: شيخ الإسلام سليم البشري، والعلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد محمود الشنقيطي اللغوي الشهير، والشيخ أحمد الرفاعي... وغيرهم كثير.

وقد كان الشيخ محمد عبده يرأس لجنة الامتحان التي تقدم إليها الشيخ شعيب لدخول الأزهر، وقد كان يرفض دخوله بسبب عجز اللجنة عن قراءة خطه المغربي، لولا تدخل الشيخ محمد عبده وطلب إجراء الاختبار له شفوياً.

وقد كان لإقامته في مصر المنفتحة على أوربا والحضارة الغربية، والتي تحمل مجلاتها وجرائدها وكتبها أبحاثاً ودراسات ومقالات تعبر عما تمر به مصر من نهضة فكرية وإصلاحية أثره الكبير في نفس الطالب الشاب أبي شعيب الدكالي وتكوينه العلمي وتوجيهه الفكري.

رحلته لمكة المكرمة:

وبينما كان أبو شعيب يواصل مقامه بأرض الكنانة، مستأنساً بما يلقى من دروس بالأزهر، متجاوباً مع الحركة الإصلاحية، التي كان يقودها الإمام محمد عبده، طلب والي مكة الشريف عون الرفيق من الأزهر إماماً ومفتياً وخطيباً للحرم المكي يكون عالماً مطلعاً على الكتاب والسنة وذلك بسبب قوة ظهور الدعوة السلفية في نجد مما أثر على وضع الحجاز، فرشح شيخُ الأزهر (الشيخ سليم البشري) أبا شعيب لهذه المهمة، فأصبح إماماً وخطيباً ومفتياً ومدرساً للمسلمين في أرض الحرمين الشريفين، وقد حظي أبو شعيب عند أمير مكة بالحظوة الحسنة، فأكرمه، وبالغ في احترامه وتعظيمه، وقدمه في مجالس العلماء، وخطب له ابنة أحد وزرائه لتكون زوجة له، فأكمل نصف دينه بالاقتران بالسيدة جميلة كريمة السيد محمد بدي وزير المالية في حكومة عون الرفيق، وهناك في مكة المكرمة أنجب عدداً من أولاده، وفي طليعتهم العلامة الراحل الشيخ عبد الرحمن الدكالي.

شيوخه في مكة :

وخلال هذه المجاورة للبيت العتيق أجازه عدد من علماء المسلمين الوافدين على بيت الله الحرام، من اليمن والشام والعراق والهند، فتم له بذلك ما لم يجتمع لغيره، وغدا بحق وجدارة أوحد عصره، وأعجوبة زمانه.

حيث انتهز الإمام أبو شعيب الفرصة بمجاورة وقدوم عدد كبير من علماء المسلمين لمكة، فأخذ العلم عنهم، وهم من بلاد شتى، منهم: شيخ الحنابلة بالحجاز والشام الشيخ عبدالله صوفان القدومي النابلسي، والشيخ العلامة عبدالرزاق البيطار، والشيخ محمد بدر الدين الحسني الدمشقي، والشيخ أحمد بن عيسى النجدي.

وأبرز تلامذته :

كانت له دروس متعددة بالحرمين الشريفين منها: التفسير وشرح الكتب الستة وشرح بعض كتب السيرة ككتاب الشفا للقاضي عياض، والشمائل للترمذي، ودرس اللغة والأدب، ودروس في الفقه وأصوله والقراءات والمصطلح.

كما أجاز أبو شعيب عدداً كبيراً من طلبة العلم من مختلف بلاد العالم مثل: الحاج مسعود الوفقاوي من علماء سوس والشيخ محمد العربي الناصري عالم المغرب والشيخ يوسف القناعي من الكويت والشيخ محمد الشنقيطي من علماء موريتانيا والذي بعثه أبو شعيب من منطقة الإحساء لمنطقة الزبير بالعراق للدعوة والتدريس، والشيخ عبدالله بن حميد مفتي الحنابلة بمكة المكرمة، والشيخ محمد سلطان المعصومي من علماء ما وراء النهر صاحب كتاب "هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين"، وغيرهم كثير.

وبسبب جهوده المباركة ودروسه العلمية وطلابه النجباء وتأثيره في الحجاج والمعتمرين ذاع ذكره في العالم، وفي ما يلي نموذج من خطبه في الحرم المكي: "اعملوا لدنياكم اعملوا لآخرتكم اعملوا لدنياكم ما يرقي بلدكم اعملوا لدنياكم ما يرقي أولادكم اعملوا لدنياكم ما يجعل يدكم عليا.

فقد قال عليه الصلاة والسلام: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، فالمحترف أمير والسائل ذليل.

اعملوا لدنياكم ما يقلل البطالة في البلد التي كان يتردد فيها جبريل بالوحي والتنزيل. اعملوا لدنياكم أحباب الديان، فأنتم تعلمون أن أسباب المعايشة أربعة: إمارة وتجارة وزراعة وصناعة.

فأما الإمارة فلا يتعيش بها إلا الأنفار المحدودون دون الغير الكثير.

وأما الزراعة فأنتم بِواد غير ذي زرع كما حكى الحكيم الخبير.

فما بقي إلا الصناعة والتجارة، وهذه البلاد الطاهرة خالية من الصناعة، وتجارتها ضعيفة مزجاة البضاعة، فهلمّوا إلى ما ينفعكم، وسلوا من واليكم الجديد المظفر المعان أن يساعدكم على إنشاء مكتب صناعي، فهذا الجلد المباع في بلدكم بالقرش والقرشين، ويصنع، ويرد إليكم فتشترونه بالمائة والمائتين، فكأنكم لم تقرؤوا قول الله جل جلاله وعلا: "ومِن جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم"..." ، ويتضح من هذه الخطبة طبيعة الخطاب الإصلاحي الذي كان يبثه أبو شعيب في المسلمين من ضرورة عمارة الدنيا والأخذ بأسباب القوة والتقدم والرقي على هدي الوحي المبارك في القرآن والسنة، وقد حمل طلابه هذه المفاهيم معهم إلى بلدانهم، فها هو تلميذه الشيخ الشنقيطي يفتح المدارس والمعاهد في العراق والإحساء؛ وينشر الدعوة السلفية هناك، وأما تلميذه الشيخ القناعي والذي يعد مصلح الكويت الكبير الذي أسس بعد عودته للكويت المدارس القرآنية والعلمية والمكتبات العامة وكان من المؤسسين لمجلس الشورى بالكويت سنة 1921م ومن مؤسسي المجلس البلدي فيها.

وبسبب هذا السمعة الحسنة للشيخ أبي شعيب والتي بلغت المغرب كله من خلال طلابه والحجاج طلب منه المولى عبد الحفيظ حين تولى ملك المغرب- وهو الملك العالم الفاضل - أن يعود للمغرب حتى يكون معيناً له في إصلاحها.

 عودته لوطنه:

وفي الوقت الذي بدأ فيه المشرق يستفيد من عالم سلفي شاب، كأبي شعيب الدكالي، كان بلده المغرب أحوج ما يكون إلى مثله، بل إن بعض وزراء السلطان المولى عبد العزيز بعثوا فعلاً إلى الأستاذ رشيد رضا يطلبون منه أن يختار لهم رجلاً مصلحاً جامعاً في العلوم الشرعية ومعرفة السياسة والإدارة للاستعانة به، على إقناع السلطان بإصلاح البلاد وفق ما يدعو إليه المنار المرة تلو الأخرى.

ولما أطلع رشيد رضا أستاذه الإمام محمد عبده على ذلك، تاقت نفسه للذهاب إلى المغرب شخصياً، لكنه أيقن أن الأوربيين عامة، والإنجليز خاصة يحسبون لذهابه وإقامته هناك كل حساب، ويحولون دونه بما استطاعوا من الأسباب.

ثم لم يلبث رشيد رضا أن اختار بعد ذلك لهذه المهمة من يقوم بها، لكن الظروف حالت دون إرساله.

وعلى غفلة من ذلك كله كانت أواصر المودة تتوثق بين الأمير العالم السلفي، المولى عبد الحفيظ خليفة أخيه بمراكش، وبين أبي شعيب الدكالي، الذي كان لا يزال مقيماً بمكة المكرمة، لكن صلته ببلاده لم تنقطع، فهو يزورها من حين لآخر.

وعندما اعتلى المولى عبد الحفيظ عرش المغرب ألح على أبي شعيب الذي زاره مهنئاً ومبايعاً بفاس في العودة النهائية إلى بلاده قائلاً له: «لا بد أن يستفيد منك وطنك، والمغرب في حاجة إلى مثلك ) .

فلبى أبو شعيب نداء ملكه ووطنه، وعاد من المشرق بصفة نهائية، في سنة 1328 هـ / 1910 م ، واستقر في مدينة فاس، وقربه السلطان مولاي عبد الحفيظ، وتهافت عليه علماء فاس وطلبتها وأعيانها، وقد كان لأبي شعيب زيارات متعددة سابقة لبلده أبقته على صلة بالمغرب قيادةً وشعباً وإدراك لهموم المغرب وتحدياته تحت الحماية – الاستعمار - الفرنسي.

 نشاطه الرسمي في الدولة:

وفور عودته ولاه السلطان قضاء مراكش، فاشتهر بالنزاهة والعدل. في وقت كانت الاضطرابات على أشدها بالمغرب.

وقد شهد الدكالي دخول أحمد الهيبة ابن الشيخ ماء العينين إلى مراكش، بل وقعت بينه من جهة، وبين خليفة الهيبة أخيه مربيه ربه، وقاضيه ابن عبد العزيز من جهة ثانية، محاورة طويلة أفحمهما فيها، مما جعل الهيبة يخرج من مخبئه الذي كان يتابع منه المحاورة، وهو يقول عن أبي شعيب إنه فكراش، أي شجاع إلى قصة طويلة سجلها بحذافيرها مؤرخ مراكش الراحل القاضي العباس بن إبراهيم المراكشي في الإعلام.

(وفي سنة (1330 هـ / 1912م)، وبعد توقيع عقد الحماية الفرنسية وتنازل السلطان مولاي عبد الحفيظ عن العرش لصنوه مولاي يوسف، تم تعيين أبي شعيب الدكالي وزيراً للعدلية والمعارف، فعمل على إصلاح القضاء حين تولى وزارة العدل من خلال تجربته في القضاء، حيث راجع شروط تولية القضاء باشتراط الكفاءة الشرعية مع النزاهة في المرشحين للقضاء، واستحدث لجاناً للامتحان والترقي والتأديب للعاملين في القضاء، كما حصر الفتوى بالعلماء الثقات المشهورين.

كما وضع أسساً للتقاضي حِفظاً للحقوق وتعجيلاً بالإنجاز حتى لا تطول مدة المحاكمات بلا داعٍ.

وفي سنة 1332هـ  أصدر السلطان أمراً بتأسيس مجلس الاستئناف الأعلى الشرعي، وأسند رئاسته لأبي شعيب مع بقائه وزيراً للعدل، لمراجعة ما يصدر من القضاة من أحكام.  

وفي نفس السنة أضيف لمهامه الإشراف على إدارة المعارف والشؤون الدينية، فعمل على زيادة مكافآت العلماء والموظفين الدينيين، والبدء بإصلاح التعليم الديني والذي بدأ فيه في جامع القرويين والذي يعد أقدم جامعة في العالم، وقد استعان بعدد من طلابه في إدارة القضاء والمعارف منهم الشيخ محمد بن العربي العلوي، وكان يصطدم مع الفرنسيين كثيراً بسبب رفضه مسايرتهم في التحرر من الشريعة الإسلامية قضاءً وتعليماً.

وقد كان أبو شعيب ينوب أحياناً عن الصدر الأعظم – ما يعادل منصب رئيس الوزراء اليوم- فيوقع المراسيم نيابة عنه. 

وبقي يتولى وزارة العدل حتى سنة 1342 هـ / 1923 م حيث طلب إعفاءه لأسباب صحية، فمنح إذ ذاك اعترافاً له بالجهود التي بذلها في مهامه؛ لقب "وزير شرفي"، وقيل أن سبب طلبه الإعفاء رفضه التوقيع على قرار بإنشاء دار للبغاء بدعم من الفرنسيين ، وإن كان السبب الحقيقي هو ما كان يجده من عراقيل ومعارضة في ممارسة عمله من طرف بعض خصومه السياسيين بالإضافة إلى ما كان يقوم به المستعمر الغاشم من أدوار دنيئة لعزله من منصبه انتقاماً من حريته المطبوعة، وهو الذي كان يكره المستعمرين، ويلقنهم  الدرس تلو الآخر في مناسبات شتى، وبصرامة وحدة، مما لا يتسع المجال لإيراده.

 دوره العلمي والدعوي:

ورغم انخراط أبي شعيب في مناصب رسمية كثيرة إلا أنه لم ينقطع عن التدريس والخطابة والوعظ والدعوة ونشر العلم، سواء في الدروس الحسينية أو في زياراته لمدن المغرب أو خارجها.

فقد كان يدرس ثلاثة دروس في اليوم: بعد الفجر، وبين الظهرين، وبين العشاءين، هذا بالإضافة لعمله الرسمي.

ومن أهم جهوده في نشر العلم في المغرب إحياؤه تدريس تفسير القرآن الكريم الذي كان ممنوعاً بسبب خرافة سيطرت على بعض الجهلاء من العلماء والحكام بدعوى: أنه إذا فسر القرآن، مات السلطان، إذ حدث في عهد السلطان سليمان أن دخل إلى بعض المساجد في فاس الشيخ أحمد التيجاني - وكان السلطان يعظمه - فوجد الشيخ الطيب بن كيران يدرس التفسير فقال للسلطان مستغرباً ومستنكراً : "مثل هذا العالم يدرس التفسير؟ سيكون ذلك وَبالاً وخراباً على الأمة والسلطان"، فتوقفت دراسة التفسير في المغرب منذ ذلك الوقت، وأصبح يُقرأ تلاوة وسرداً، وليس دراسة علمية، حتى جاء أبو شعيب فأحيا دراسته، وقال: بسم الله نفسر القرآن، ولا يموت السلطان" ففسر القرآن، وعاش السلطان. وكان يدرسه بتفسير النسفي، واستطاع أن يبعث وعياً فكرياً جديداً في المغرب، باعتبار الوحي القرآني أول مصدر في مسيرة التصحيح والتقويم، للعودة بالأمة إلى الطريق السليم، بعيداً عن الخرافات ومظاهر الشعوذة التي كانت شائعة يومئذ.

ثم قام أبو شعيب بتدريس السنة النبوية وعلومها وشرح كتب الحديث، بعد أن كانت تقرأ متون الأحاديث فقط على سبيل التبرك دون التمعن في معانيها أو الاستفادة من مراميها، فحصلت نهضة علمية سلفية كبيرة في المغرب.

وفي الفقه درّس أبو شعيب الفقه بالدليل، فقد شرح مختصر خليل، وهو المعتمد عند المالكية في المغرب بإرجاع كل مسألة إلى دليلها، كما درّس أبو شعيب الدكالي علوماً كثيرة كالنحو والأدب، والقراءات. 

دوره الإصلاحي:

 قام أبو شعيب بالإصلاح من خلال مؤسسات الدولة ومن خلال نشاطه العلمي العام، فقد كان سبباً في إصلاح كثير من الأنظمة والمؤسسات في قطاعي القضاء والتعليم.

كما أن جهوده في نشر العلم والتعليم كان لها أكبر الأثر في ظهور القيادات الوطنية المخلصة والتي كافحت الاستعمار لتحررها من ربقة الطرقية التي تحالفت مع الاستعمار من خلال طلبته الذين درسوا عليه مختلف العلوم سواء في مكة المكرمة أو في المغرب بعد عودته.

وبسبب تقلده منصب وزير العدل، والمغرب تحت الاستعمار الفرنسي، رماه بعض المتسرعين بالعمالة للفرنسيين، وهو حكم عجول وله مخرج شرعي وعقلي؛ فإنه ليس من الحكمة أن يترك هذا المنصب للفرنسيين أو أتباعهم لأنه كان يحكم بين المسلمين المغاربة، ومن خلال شغله لهذا المنصب حمى كثيراً من المصالح الشرعية والوطنية للمغاربة، فقد كانت كثير من أقضيته هي السبب – بعد الله عز وجل – في تثبيت الكثير من الأراضي المغربية كي لا يستولي عليها الفرنسيون بحجج شتى.

ومن دوره الإصلاحي رفضه لبعض التصرفات التي يقوم بها بعض المتحمسين للجهاد ضد فرنسا، فتكون النتيجة الربح لفرنسا، وذلك في قصته المشهورة مع الشيخ أحمد الهيبة حين قال له: "إن قوماً يزعمون أنني أحارب المجاهدين، وهذا كذب لأنني أحارب بعض الثوار الذين يكونون سبباً في تسليم البلد والتعاون مع العدو كبوحمارة ، وبوعمامة". ومصدر هذه الطعونات هو بعض المتصوفة الذين كانوا يعادونه بسبب منهجه السلفي.

كما كان مدافعاً عن وحدة الدولة أمام الاستعمار الفرنسي ولذلك كان أول من عارض الظهير البربري – الظهير هو المرسوم – والذي هدف لتقسيم المغرب على أساس عرقي بجعل إدارة مناطق البربر للاستعمار الفرنسي والذي سيعمل على إلغاء اللغة العربية والمحاكم الشرعية وتبديلها بمحاكم ترجع للعادات البربرية حتى لو تصادمت مع الإسلام، والاحتكام لقانون العقوبات الفرنسية!!

كما كان عضواً في جمعية "أحباس الحرمين الشريفين" والتي كانت جمعية تونسية مغربية جزائرية، كما أنه كان متصدياً لمحاولات المستشرقين لضرب اللغة العربية حيث جعل هذا موضوع كلمته بمؤتمر اللغة والآداب بتونس سنة 1931م.

منهجه:

* قام منهج أبي شعيب على محاربة الشرك والخرافة والبدعة، قال علال الفاسي في رثاء شيخه أبي شعيب:" كان الفقيد في الرعيل الأول من أشياخنا الذين نعوا على التقليد، وحاربوا الجمود، ودعوا إلى التحرر من قيود العصور الأخيرة المنحطة والسمو بالفكر إلى مستوى السلفية الأولى التي تعبد الله خالصاً له الدين توحى بالعقل في الفهم والتفهيم، وترجع إلى القرآن والسنة في البرهنة والتدليل".

* كان يؤثر اللين والتلطف في عرض منهجه ومناقشة خصومه، يقول الأستاذ أبو بكر القادري: "الشيخ شعيب الدكالي كان يلمح، ويعرض دون أن يصرح والفقيه ابن العربي كان يهاجم، ويخاصم، ويشتد دون تحفظ. وهذا ما جعل الكثيرين من الفقهاء المتزمتين يناصبون ابن العربي العداء، ولا يتعرضون للشيخ شعيب الدكالي بمقالة سوء".

* التركيز على التعليم المباشر وعدم الانشغال بتأليف الكتب، ويقول في هذا الصدد تلميذه الكبير الشيخ عبدالله كنون: "نحن – يقصد طلاب أبي شعيب- ألسنا كلنا كتبا ًوآثاراً لفقيدنا العظيم".                                                                                                * الوضوح والتبسيط منهج أبي شعيب في التدريس، إذ قد عاهد أمام الملتزم بالحرم المكي شيخه الشيخ محمد بدر الدين الدمشقي أن يُفهم الناس الدين "وألا تعمّي في ألفاظك حتى يفهم عنك الخاص والعام" بناءً على طلب الشيخ.

* ضرورة الانشغال بواجب الوقت خاصة من العلماء والدعاة، فحين انشغل بعض العلماء الكبار بالبحث عن النملة التي كلمت سليمان عليه السلام هل التاء فيها للوحدة أو التأنيث؟ قال لهم أبو شعيب: "لقد فرغ العلماء من البحث في هذا الموضوع منذ قرون عديدة، وكان ينبغي لنا نحن أن نبحث عن الطرق التي تمكننا من طرد الجيش الفرنسي الذي بدأ يحتل بلادنا منذ سنوات..".

* التواصل مع علماء عصره للعمل على نهضتها، فقد كانت له صلات بالشيخ عبدالحميد بن باديس رئيس جمعية علماء المسلمين بالجزائر، وعلماء تونس.

* لقد كان من منهج أبي شعيب التصدي للولاية العامة ولو تحت حكم الاستعمار الفرنسي للقيام بمصالح الإسلام والمسلمين، لأنه إن لم يقم بها اختار الفرنسيون من يكون لعبة بأيديهم في ذلك بما يلحق الضرر بالإسلام والمسلمين، وهي رؤية مبكرة ومتقدمة على كثير من مفكري الحركات الإسلامية التي توصلوا لها مؤخراً!!

وفاته :

ثم تفرغ للتدريس والدعوة إلى الإصلاح، إلى أن لقي ربه العالي عام (1360ه/ 1937م)، ودفن بضريح الولي الصالح مولاي المكي بحي الجزاء بالرباط.

 قالوا في أبي شعيب:

 المؤرخ عبد السلام بن سوده:

كل ما وُصف به فالرجل فوق ذلك.

وقال أيضاً: الشيخ الإمام علم الأعلام، المحدّث المفسّر الرّاوية على طريق أيمة الاجتهاد، آخر الحفاظ بالديار المغربية ومحدثها ومفسرها من غير منازع ولا معارض.

عبدالحفيظ الفاسي:

 إمام في علوم الحديث والسنة… متظاهر بالعمل بالحديث والتمذهب به قولاً وعملاً داعية إليه ناصر له.

عبدالله الجراري:

كان ينادي بردّ الناس إلى الكتاب والسنة، ويحضّهم على اتباع مذهب السلف الصالح ونبذ ما يؤدّي إلى الخلاف وما ينشأ عنه من الحيرة والدوران في منعرجات الطرق؛ لأن الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتاً؛ هو طريق السنة والكتاب.

عبدالله كنون:

قام الشيخ أبو شعيب الدكالي بدعوته التي كان لها غايتان شريفتان: الأولى: إحياء علم الحديث ونشره على نطاق واسع.. والثانية: - وهي بيت القصيد- الأخذ بالسنة والعلم بها في العقائد والعبادات؛ فقد جهر في ذلك بدعوة الحق، ودل على النهج القويم، والصراط المستقيم.

محمد السائح:

وقد اتصل صدى حركة الإصلاح التي كان يقوم بها الشيخ بالقصر؛ فصدرت بها ظهائر شريفة تؤيد تلك الحركة، منها ظهير في منع ما يقوم به بعض أرباب الزوايا مما يعد قذى في عين الدين وبهقا في غرة محاسنه.

الرحالي الفاروقي:

 فقد كان هذا الشيخ رحمه الله علماً من أعلام المغرب الشاهقة، وفذاً من الأفذاذ الذين يفتخر بهم في ميادين المعرفة والإصلاح، وفي خدمة الكتاب والسنة ورفع رايتهما ونشر معانيهما وإقامة أحكامهما؛ بل كان يعتبر من الرعيل الأول في المغرب الذين أخذوا على أنفسهم إحياء العقيدة السلفية وبعث الروح الإسلامية الصحيحة في النفوس باعتماد وحي الكتاب العزيز ووحي السنة الذي لا ينطق عن الهوى، ونبذ ما سوى ذلك من الأقوال الموهومة والعقائد المشبوهة والخرافات المدسوسة التي أخرت سير المسلمين وشوهت سمعة الإسلام.

عبدالكبير الزمراني:

 ولن ننسى قضية (لاَلَّة خضراء) وهي صخرة ذات شكل هندسيّ افتَتـن به النساء بمراكش، وكنّ يقربن لها القرابين، ويقدمن لها النذور ويقمن لها موسماً سنوياً إلى أن سمع بخبرها الشيخ رحمه الله فلم يتردد في تغيير هذه البدعة، والقيام بنفسه على إزالتها، ومن الغريب أنه كلما دعا عاملاً لكسرها امتنع من ذلك لِما علق بذهنه من الأوهام حولها؛ إذ ذاك رأى نفسه مضطرا لكسرها بيده، وفعلاً أخذ الفأس وكسرها، ثم وزّع أشلاءها خارج البلد.

د.محمد رياض:

 إن بعض الناس حين يذكرون السلفية والإصلاح يقدمون وينوهون بالدرجة الأولى بالشيخ سيدي محمد بن العربي العلوي بدل ذكر شيخه وأستاذه شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي في المقام الأول وهو في المقام الثاني. ذلك أن الشيخ سيدي محمد بن العربي العلوي تلميذ أبي شعيب الدكالي.

شخصية الإمام أبي شعيب الدكالي في الشعر الإسلامي الحديث

مات شيخ العلماء :

كتب الشاعر الإسلامي محمد بن محمد البلغيثي الفاسي المراكشي (1383 هـ- 1963 م).الذي ولد في مدينة فاس - وتوفي في مراكش.

وتلقى علومه في مدينة فاس، فأخذ العلوم الفقهية، واللغوية والأدبية عن عدد من شيوخ جامع القرويين في زمانه. ثم رحل إلى مراكش (العاصمة)، فاتصل بعلمائها وأدبائها، وكان ممن تلقى على أيديهم هناك محمد المختار السوسي الذي أخذ عنه في مدرسة الرميلة.

عمل موظفًا في القصر الملكي بمراكش. وكان له صلات وطيدة بشاعر مراكش محمد بن إبراهيم، وله معه مطارحات ومساجلات شعرية وله شعر في الرثاء يتسم بالتكلف ويخلو من دفء العاطفة، إلى جانب شعر له يرد فيه على المدعين من المتنطعين في الدين، يكشف به زيف ادعاءاتهم، ويرد به الناس إلى جادة الصواب. ولا تخلو قصيدته من روح التهكم وربما الهجاء. تتجه لغته إلى اليسر مع ميلها إلى المباشرة، وخياله قريب. التزم النهج القديم في بناء ما أتيح له من شعر ، يقول في قصيدة رثاء الإمام الدكالي :

مُتَّ والأرضُ لـم تَمـلَّ ثَواكـــــــــــــــا               ليتني كـنـتُ يـا شُعـيبُ فِداكــــــــا   

مت يـا حـافـظَ الشـريعةِ فـالـدِّيـــــــــ              ن سـيبكـي ويَندبَنَّ حِجـاكـــــــــــــــا

مُتَّ حـاشـاكَ مـا قضَيْتَ ولكـــــــــــــــن        مـات مَنْ لـم يجِدْ لـديـه عَزاكـــــــــــا

لقد صور الشاعر فجيعة الموت وتمنى لو أنه مات فداء للإمام، فهو حافظ الشريعة والدين، وزعيم الإصلاح بلا منازع، ويتابع الشاعر وصفه، فيقول:

يـا زعـيـمَ الإصلاحِ فـي الـديـنِ والأخْـــ     ـلاقِ قـد حـبَّذَ الـورَى مَسْعـاكـــــــــــا

عـشْتَ فـي مـصرَ طـالـبًا للـمعـالــــــــي        ثـم لـمـا بـلغْتَ أقصى مُنـاكــــــــــــا

جئْتَنـا حـامـلاً مـن العـلـم بحــــــــرًا            فسبحنا وقـد نهجْنـا خُطـاكـــــــــــــا

جئتَ والـبعضُ مُعـرِضـــــــــــــــــــــــــــــــون عـن اللـــــــــــ ـهِ، فـنـاديْتَهـم فخـافـوا نِداكـــــــــا

كـنـت شـيـخَ الـحديثِ بـالصــــــــــــدقِ والـتَّفْـــــ سـيرِ فـيـنـا والفقهِ حـلَّ مُنـاكــــــــا

كـنـتَ فـي كلّ مـا يُقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــال له العـلــــــــ ـمُ إمـامًا قــــــــــــــــرَّتْ بذاك عِداك

مَنْ نُبـاهـي بـه إذا ذُكرَ الـحِفْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـظُ ، وهل يـا تُرى لـديـنـا سـواكــــــــا

مـن يُضـاهـي إمـامَنـا إن عـلا الـمـنْــــ ـبرَ يـومًا وصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار يُمـلـي دَراكـــــــــــا

الوفاء لعهد الإمام :

ويعاهد الشاعر الإمام الدكالي بأنه سيبقى وفيّاً لعهد، ولن ينساه طيلة حياته، ويسأل الله له الجزاء الأوفى :

طِبْتَ حـيّاً ومـيّتًا لـم يـزل فــــــــــــي         مسْمعـي حـافزًا رنـيـنُ صَداكـــــــــــــا

لستُ أنسـاك مـا حـيـيـتُ ولا زِلْــــــــــ ـــــــــــتُ مدى العـمـر تحت ظِلِّ لِواكــــــــــــا

لا يردُّ الـبكـا عـن الـمـيْتِ شــــــــيئًا         فـالْبسِ الصـبرَ واتْركَنَّ فَكـاكــــــــــــا

واسألِ اللهَ للفقـيـد ثــــــــــــــــــــــــوابًا          عَلَّ ربـي أن يستجـيبَ دُعـاكــــــــــــــا

ويعزي السلطان بموته ،كما يعزي أولاده وذويه وطلابه :

نجلَ طه سلطــــــــــــــــــــــــــانَ مغرِبِنـا الـمحــــــــــــ ـبـوبَ صـبرًا فأنـت أولى بذاكـــــــــــا

مـوتُه ثُلـمةٌ ولكـن قَضـــــــــــــــــاهُ                مَن دوامًا بحفـظِه يرعـاكــــــــــــــــا

ولـمـوسـى أزفُّ دمعةَ قـلـبــــــــــــــي             ولإخـوانِه جـمـيعًا كذاكــــــــــــــــا

وذوو العـــــــــــــــــــــــــــــــــــلـمِ أيـن حـلَّوا أُعَزِّيـــــــــــ ـهـم وخـيرُ الأحـبـابِ مَنْ عَزّاكــــــــــا

الإمام المصلح :

يقول الشاعر المبدع مولاي أحمد النور في قصيدة حَيا بها الشيخ أبا شعيب في الحفل الذي أقامه له طلبة ابن يوسف بمراكش يوم 26 ذي الحجة الموافق لعام 1934م.

أخضعت طوع جهودك الأياما        وبرزت تحمي العلم والإسلاما

تنحي على جيش الأضاليل التي      كادت يلازم شـــــــــــــــــرها الأقـواما

وتكر في الشبهات كـرة باسل         فتـبدد الشبـــــــــــــــــهات والأوهـاما

استحوذت حينا على أجيالـنا     واستحكمت في قطرنا استحكاما

أكد الشاعر في هذه الأبيات جهود الدكالي في حماية العلم والإسلام ، ورده على الخرافات والضلالات الفكرية والعقائدية التي انتشرت في أبناء جيله ، وكيف بدد الشبهات والأوهام التي عشعشت في العقول ، ..إلى أن يقول:

تدري صنيعتك المنابر مصلحاً           ومفسـراً ومحـدثاً وهمـاما

كم نرتجي هذي الزيارة لو تطو    ل ولا تحاكي الطيف زار لماما

تصبـو له الأرواح إلا أنـها            مثل الربيع تجيء عاماً عاما

بلاغته الساحرة :

ثم يقول الشاعر عبد القادر حسن العاصمي في قصيدة حيَّا بها هو الآخر الشيخ أبا شعيب الدكالي، في الاحتفال الذي أقيم له، لما زار مراكش في عيد الفطر سنة 1354ه. 

سدت يا علم في جميع البلاد * في أوربا وفي شعوب الضاد

ثم يقول مشيداً بسحر بيانه وفصاحة لسانه:

ما أقمنا احتفالـنا هـذا إلا *  لمثال من مظهر منك بادي

يسحر الناس بالفصاحة والفط * نة والمجد والعلا والسداد

ويرى العالمون فيه مثـالاً   *   صادقاً من مفاخر الأجداد

لقد كان الإمام الدكالي مفخرة العصر ، أعاد للدنيا سيرة الأجداد العطرة ، في العلم والمعرفة ، ...ويمضي الشاعر في مديحه إلى أن يقول:

فتراهم قد أحدقوا به طراً  *    كاجتماع الأنام يوم المعاد

كلهم محدق ومصغ لما يلـ *    قيه من حكمة ومن إرشاد

حسبهم ذاك شاغلا وإذا ما * خرجوا فالجلال ملء الفؤاد

دوره في الإصلاح :

ويبدو أن شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم، الذي كان أجازه الشيخ أبو شعيب، قد بلور كثيرا من الأفكار السلفية في شعره.

ففي قصيدته: « الله في البؤساء» يكاد يستوحي معانيه، بل وألفاظه، من المعين الذي اغترف منه أبو شعيب خطبته التي ألقاها بالرباط عام 1913م، في الحث على مساعدة الفقراء والمساكين، ومنها قوله:

«فهل من مفضال واسع النوال، يصدق منه المقال الفعال، يجود بما سمحت به همته، فيزيل عن الفقراء الضراء...»

ويقول شاعر الحمراء بعد ذلك بسنوات (عام 1934م).

كيف المآل إذ تكـون الحال     * بالجوع تقضي نسوة ورجال

هذا الضعيف أمامكم مسترحما * يرجو النوال فهل لديك نوال

أما قصيدته: « إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» التي قالها سنة 1932م، فمن صميم الدعوة الإصلاحية، التي نادى بها أبو شعيب الدكالي، وهذه أمثلة منها.

ومالي هذي العوائد أصبحت *    وأضرارها فينا تزيد وتعظـم

فهل من دواء للعـوائد إنـها * إذا تركت في الجسم لا شك تعدم

أشدخ رؤوس كلما حان موسم *   ونهـش أفاع نهشـهن محـرم

من شرف الإنسان يدخل بيته  *    عواهر في تنهاقها تتنغم

الزعيم الإصلاحي :

ويقول الأستاذ العلامة الشيخ محمد المكي الناصري، الذي قال مخاطبا الشيخ أبا شعيب الدكالي ليلة ختمه لسنن ابن ماجه بالزاوية الناصرية:

أسست للإصلاح أساً ثابـتا * وفتحت منه كل باب موصد

أظهرت للناس الحقيقة جهرة * لم تخش في دعواك قول مفند

 مشيراً إلى كتابه الذي أسماه «إظهار الحقيقة وعلاج الخليفة»، دافع فيه عن السنة بقوة، وهاجم دون هوادة ما كان شائعا وقتئذ من بدع وخرافات، مما أثار ضجة هائلة في ذلك العهد، مما لا نريد الخوض فيه، لأن الحملة ضد الزوايا والطرقيين سرعان ما توقفت، استجابة لنصيحة الأمير شكيب أرسلان، الذي كان من زعماء الحركة الوطنية إذ ذاك، بإيقاف هذه الحملات، والاهتمام بمقاومة العدو الحقيقي(الاستعمار).

مراجع البحث :

1-            أعلام المغرب العربي، عبدالوهاب بن منصور، ج2 ص 198 المطبعة الملكية بالرباط.

2-            المحدث أبو شعيب الدكالي- تأليف عبد الله الجراري (مطبعة النجاح الجديدة) - الدار البيضاء 1396ه /1976م .

3-            معجم الشيوخ المسمى: «رياض الجنة» أو «المدهش المطرب» : تأليف عبد الحفيظ الفاسي، 2/ 142

4-            الأعلام لخير الدين الزركلي: 3/167، وانظر (أعلام المغرب العربي) لعبد الوهاب بن منصور 19 .

5-            مجلة الأزهر (المصرية) ج10/ السنة51، ص: 2286

6-              تاريخ الإسناد: الإمام محمد عبده ، تأليف رشيد رضا 1/870.

7-            الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، تأليف : القاضي العباسي بن إبراهيم المراكشي 2/479. (المطبعة الملكية الرباط 1974).

8-            شاعر الحمراء في الغربال، تأليف: أحمد الشرقاوي إقبال/ 196 مطبعة الجامعة الدار البيضاء

9-            الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، تأليف د. محمد البهي  / 174.( دار الفكر بيروت/ ط6، 1973.

10-      دعوة الحق، ع4/ س:14 ، ص: 33.

11-        دعوة الحق، ع2، س 12/ ص: 39 .

12-      من شعر أحمد النور المراكشي: جمع وتعليق أحمد متفكر 64( المطبعة الوطنية) مراكش 1990م .

13-      أحلام الفجر ، تأليف: عبد القادر حسن( الطبعة الأولى)، مطبعة التقدم الإسلامية بالحمراء مراكش 1355ه/1934م .

14-      من أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين الرباط وسلا، تأليف عبد الله الجراري: 2/202.

15-      أنظر الأدب العربي في المغرب الأقصى لمحمد بن العباس القباج: 2/77.

16-      المناهل، ع34، ص: 325

17-      مجلة(الكرمل)، ع:11/ ص144

18-      شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي الصديقي، د. محمد رياض، ط2، 2009.

19-       الحركة السلفية في المغرب العربي، مجموعة مؤلفين، دار الأمان بالرباط، ط2، 2010.

20-       من أعلام المغرب العربي في القرن الرابع عشر، عبدالرحمن بن محمد الباقر الكتاني، دار البيارق، ط1، 2001.

21-      نظم الدرر واللآلي في ترجمة أبي شعيب الدكالي - محمد عز الدين المعيار الإدريسي .