ظواهر سلبيّة في مسيرة الشّعراء (6)
الشّعراءُ المُدَجّنون
يصعب بل يندر أن تجد شاعراً غير مدجّن، مع أنً التّدجين آفًة أصابت أغلب المثقّفين سواء أكانوا شعراء أم غير شعراء، فإن نجحت السّلطة المسيطرة، أيّ سلطة، بتدجين المثقّف عموماً، فكيف لها أن تنجح في تدجين الشّاعر، وهو ذاك الكائن الّذي يفرّ من ذاته إلى الآفاق الرّحبة؟ وكيف لشاعر محلّق أن يرضى أن يسجن أو يدجّن، ليصير أسير قناعات مرفوضة؟ إنّ أكثر ما يخيّب الظّنّ شعراء خانوا قداسة الشِّعر، فكانوا إمّا مراهقين أو جبناء، أو مراهقين وجبناء معاً. فأين ذلك الشّاعر الّذي يرى الشِّعر قضيته الأولى والأخيرة بعيدا عن أن يكون تابعا وخاضعا؟ بل إنّ الشّاعر الحقيقيّ هو من يوجّه أصغريه، قلبه ولسانه كيفما أراد له الوحي، ليكون هو هو، ولا شيء غير ذلك.
يحفل تاريخ الشّعر العربيّ بأسماء شعريّة كبيرة وكثيرة أصابها التّدجين القاتل من المتنبّي أعظم شاعر عرفته العربيّة، وحتّى محمود درويش وما بعد محمود درويش من كتبة الشّعر وهواته. نعم إنّ هناك شعراء كباراً قد تمّ تدجينهم، وإخضاعهم بصورة أو بأخرى للسّلطة الثّقافيّة أو السّياسيّة أو الاقتصاديّة أو الدّينيّة أو الأيديولوجيّة، فالشّاعر الجاهليّ، في الأعمّ الأغلب كان أسير أعراف القبيلة، وشذّ عن هذا الأسر الشّعراء الصّعاليك الّذين تمرّدوا على تلك السّلطة، فكانوا أحراراً، يمارسون قناعات خاصّة، فكانوا مغرّدين خارج السّرب، وهذا الشّاعر الحطيئة المعروف بتمرّده حتّى شكّل ظاهرة متفرّدة في شعر التّمرد على الأعراف الثّقافيّة، فهجا نفسه وأمّه وأباه، وكان سليط اللّسان، يخشى لسانه كما تخشى سيوف الفرسان، لكنّه خضع للسّلطة في زمانه، وقصّته مشهورة في ذلك؛ فعقب حادثة هجائه للزّبرقان بن بدر ووصفه له بأنّه "الطّاعم الكاسي"، جرت محاكمته، وزجّ به إلى السّجن، فاستعطف الخليفة عمر بن الخطاب، بأبيات يعلن فيها انكساره وخضوعه للسّلطة السّياسيّة والأعراف الاجتماعيّة، فأنشأ يقول:
ماذا تقول لأِفْراخٍ بذي مَرَخٍ
حمرِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
غَيَّبْتَ كاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَة ٍ
فاغْفِرْ عَلَيْكَ سلامُ اللّه ياعُمَرُ
فعفا عنه الخليفة عمر، واشترى منه أعراض المسلمين، وهكذا تمّ تدجينه ترهيباً وترغيباً، ولكنّه ما لبث أن عاد إلى سيرته في الهجاء بعد موت الخليفة عمر بن الخطاب كما تذكر بعض الرّوايات.
ثمّة ظاهرة أخرى في الشّعر العربيّ القديم، حيث برز شعراء البيت الأمويّ، فكانوا "شعراء بلاط"، مدحوا الخلفاء وأفاضوا في المدح، فكانوا تجلّياً آخر لظاهرة الشّعراء المدجّنين، وعلى العموم، فإنّ كلّ شاعر يسعى إلى الخلفاء والأمراء والولاة والقادة والرّؤساء ليمدحهم، ويطلب منهم نوالاً على الشّعر، هو شاعر مدجّن، أعترف بذلك أم لم يعترف، فهو قادم والرّغبة تحدوه إلى مقاصل التّدجين، هكذا كان جرير والفرزدق والأخطل، ومعهم كلّ شعراء البيت الأمويّ الأقلّ شأناً وخطراً.
وقد تنبّه النّقد القديم إلى هذه المسألة، فقد وُصِف على سبيل المثال زهير بن أبي سلمى أنّه لم يمدح لرغبة أو لرهبة، وهذا يدلّ دلالة أكيدة على أنّ المدح بحدّ ذاته ليس جريمة شعريّة أو أخلاقيّة، ولكنّه يصبح كذلك إن كان نظما من أجل استدرار أثداء خزائن الدّول والملوك.
وأمّا المتنبّي، هذا الشّاعر الأكبر والأفخم، ذو الذّات النّرجسيّة الطّامحة والطّامعة في السّلطة وجاهها، كما يشاع في أغلب الدّراسات الأدبيّة الّتي تناولت شعره وحياته، فقد كان مدجّنا هو الآخر، ألم يستسلم لرغبته وطموحه فاستعبدته هذه الرّغبة، وطوّح به ذلك الطّموح حتّى الرّمق الأخير من حياته الشّعريّة؟ ألم يدفعه ذلك إلى مدح من لا يستحقّ المدح من وجهة نظره؟ ألم يمدح كافوراً الإخشيديّ، وبعد فشل مساعيه وتحقيق أمانيه يهجوه؟ فكيف لشاعر كالمتنبّي أن يقع فريسة شهوته، وهو غير مقتنع بما يفعل؟
لم يكن المتنبّي وحده هو الشّاعر المدجّن في العصر العباسيّ، فثمّة شعراء حاسدون آخرون يتمنّون أن يتدجّنوا فيحوزوا ما حاز المتنبّي من مكانة عند هذا الوالي أو ذاك الأمير، لقد كانوا يرون أنّهم أحقّ منه بهذا التّدجين، فحاكوا له المؤامرات وأشعلوا حوله الفتن، عساهم يتربّعون بدلا منه على عرش التّدجين الوثير.
لقد تعزّز تدجين الشّاعر بعد ذلك، ولاسيما عندما رأى الشّعراء التّالون للمتنبّي فيه النّموذج في الشّاعريّة والسّلوك والمدح، فأكثر الشّعراء من مدح الحكّام والولاة والقادة، فقد دفعت سيرته المتخمة بعناصر التّدجين طائفة من شعراء العصر المملوكيّ مثلا ليكونوا "شعراء بلاط"، وكذلك الشّعراء في العصر الحديث، ألم يكن أحمد شوقي أمير الشّعراء "شاعر بلاط" وشاعر مدح من الطّراز الأوّل في التّدجين؟ ومن يعود إلى الشّوقيّات في جزأيها الأوّل والثّاني والشّوقيّات المجهولة يرى حجم تلك القصائد المنظومة مدحا للباشوات والباكاوات، عدا مدحه للأسرة الخديويّة، وإلباس الممدوحين صفات فضفاضة، يرفلون بها أكبر من حجمهم، صيغت بأيدي نسّاج بارع متقن السّير على المنوال الّذي ارتضاه له المدجّنون من الحكّام، ومن لفّ لفّهم. ولم يتخلّص شوقي من تلك المحنة إلّا عندما نُفي خارج مصر، فتعود إليه روح الشّاعر المحلّقة الّتي تخلّصت ممّا ينغّص عليها بريق الشّاعريّة.
هذا النّفَس من التّدجين ظلّ يرزح تحت نيره الشّعراء بعد شوقي، وقد زادت وتنوّعت أساليب تدجينهم، وتمّ إغراقهم في المناصب والمال وتقليد الوزارات، وما على المرء إلا أن يلاحظ مثلا كم من شاعر أصبح وزيرا في ظلّ الأنظمة العربيّة المتجبّرة، وكم من شاعر غدا سفيرا لتلك الأنظمة، إنّ من يدفع أجر العازف سيختار اللّحن بكلّ تأكيد، كما يقول المثل الإنجليزيّ، إنّها طريقة مثلى للتّدجين، لقد قطعوا لسان هؤلاء الشّعراء بالامتيازات، فما الّذي يبقى من الشّاعر بعدها؟
ومن وسائل التّدجين الحديثة أيضا، وقوع الشّاعر تحت شهوة نفسيّة غائرة في الذّات، وخاصّة عندما يصبح الشّاعر متمنّيا، وطامحا للحصول على الجوائز الّتي تُسيل اللّعاب، فها هو أدونيس الشّاعر السّوريّ أصبح عبدا لنيل جائزة نوبل، وإن نفى عن نفسه ذلك، فتمّ تدجينه بشكل غير مباشر، ليكتب ما يراد له أن يكتب، وما يظنّ أنّه قد يقرّبه إلى تلك الجائزة الحلم، فذمّ العرب وتاريخهم وحضارتهم، ونمط عيشهم وثقافتهم ومصادرها، واتّجه صوب التّغريب السّاذج المضحك، فلم ير في هذه الحضارة العريقة شيئا يستحقّ التّقديس أو التّبجيل.
وغير أدونيس كثيرون ممن وقع تحت تأثير هذه الغواية، فهذا محمود درويش أيضا شاعر مدجّن فقد غدا مسجونا في مهمة تسويق التّطبيع مع الآخر ليس المختلف عنه لغة وحضارة، بل إنّه المعروف "عدوّاً" بالمفهوم الإنسانيّ والبشريّ لمعنى العدوّ، وما أنسنة درويش لهذا "العدوّ" إلّا ضرب من الإصرار على التّدجين الّذي يفقد الشّعر أهميته، مهما امتدحه النّقّاد و"الإنسانيّون" الغارقون في الوهم، وما على القارئ سوى العودة إلى قصائد الشّاعر الأخيرة، ومن بينها على سبيل المثال قصيدة "سيناريو جاهز"، حيث يرى في التّعايش السّلميّ بين الجلّاد والضّحيّة ضرورة حتميّة، لا مفرّ منها، بل أبعد من ذلك فقد ألغى الفوارق التّاريخيّة بين الطّرفين، ليرى في المسألة صراعا عاديّا يحدث بين أخوين، تنازعا على حيّز في مكان مشترك!
وليس هذا وحسب، المظهر الوحيد للتّدجين في مسيرة درويش الشّعريّة، فقد أشار النّاقد الدّكتور عادل الأسطة إلى شيء من ذلك عندما عرض في كتابه "ظواهر سلبيّة في مسيرة محمود درويش الشّعريّة وأبحاث أخرى" إلى تعديلات درويش على بعض قصائده تجنّبا للاصطدام مع السّلطة السّياسيّة سواء أكانت منظمة التّحرير الفلسطينيّة أم النّظام العربيّ، كما في قصائد "بطاقة هُويّة" وقصيدة "للحقيقة وجهان والثّلج أسود"، تلك القصيدة الّتي أثارت غضب القيادة الفلسطينيّة في حينه، مبديا احتجاجه على عمليّة السّلام؛ ممّا اضطرّه إلى تعديل بعض المفردات، وهناك الكثير من مظاهر تدجين درويش أشار إليها الأسطة، فليعد إلى الكتاب من شاء أن يستزيد.
يبدو الشّعراء فيما سلف من نماذج مراوغين أبعد ممّا يحتمل، ومع ذلك لم يبقوا صامتين، ولعلّ أكثر الشّعراء تدجينا أولئك النّفر الّذين اختاروا الصّمت والسّكتة الشّعريّة، أو امتنعوا عن النّشر وإبداء الرأي في القضايا السّياسيّة المعاصرة والحسّاسة خوفا من النّفي والتّشريد وقطع اللّسان والعنق، وألّا يكونوا كأمثال الشّاعر اليمنيّ وليد الرّميشي؛ حيث قُطع لسانه، بسبب قصائده، أو سلفه الشّاعر الأندلسيّ أبي المخشي، إذ قَطع هشام بن عبد الرّحمن الدّاخل لسانه، وفي قطع اللّسان رمزيّة ذات دلالّتين على أقلّ تقدير، الأولى أنّ من يقطع اللّسان قادر على قطع الأعناق والأرزاق وفي هذا رسالة بليغة في التّهديد، والأخرى أنّ هذا اللّسان هو أداة الشّعر ومحرك الجماهير، فيجب أن يقطع. وتلتقي هذه الدّلالة مع ما حدث لرسّام الكاريكاتير السّوريّ علي فرزات الّذي تمّ تكسير أصابعه بعد جملة من رسوماته الّتي أزعجت النّظام. وأمثال هؤلاء الشّعراء الّذين اختاروا الصّمت كثيرون، فقد هربوا إلى التّهويمات والمعميّات والألغاز والإيهام، فوقعوا في شرك الغربة والاغتراب.
وأمّا الشّعراء الأشدّ خطرا على الحياة الثّقافيّة أولئك الشّعراء الّذين ارتضوا التّدجين في معامل المخابرات الأجنبيّة للدول (الصّديقة)، كالمخابرات الأمريكيّة على سبيل المثال، ومن يقرأ كتاب "من الّذي دفع للزّمار؟ الحرب الباردة الثّقافيّة" للكاتبة الإنجليزيّة فرانسيس ستونز وترجمه الكاتب المصريّ طلعت الشّايب، لن يفاجأ بذلك الكمّ الكبير للمثقّفين الكبار ومنهم شعراء عالميون ارتضوا الخدمة كضباط تافهين أو عملاء مدجّنين تحقيقا لمصالح غير أدبيّة، وفي هذا السّياق أذكّر القارئ بفضيحة مجلتي شعر وحوار العربيّتين، وعلاقتهما بالمخابرات الأمريكيّة، عدا ما ارتبط به الشّعراء الماركسيّون المدجّنون هم الآخرون في مصانع الدّولة الحمراء الشّيوعيّة أيّام المدّ الإشتراكيّ المرحوم! وربّما على المنوال نفسه من كتاب "الحرب الباردة الثّقافيّة"، يكشف الكاتب المصريّ غالي شكري كثيرا من المعلومات حول تدجين المثقّفين عموما ومنهم شعراء بالتّأكيد في كتابه "من الأرشيف السّرّيّ للثّقافة المصريّة".
شكّل هؤلاء الشّعراء، وقد أصبح كثير منهم أيقونات شعريّة وثقافيّة عدوى لكلّ شاعر جديد يرى فيهم أمثلة يجب أن تقلّد ويحتذى بها، فلا يجد حساسية في التّدجين والاحتواء والضّمّ، وربّما لذلك ستصبح المهمّة صعبة، والمشكلة معضلة حقيقيّة، تستعصي على الحلّ، فإذا كان هذا هو حال الشّعراء الكبار فكيف سيكون حال الشّعراء الآخرين؟ إنّهم بلا شكّ سيغدون مكرهة شعريّة تزكم الأنوف والعقول برائحة التّدجين العفنة.
وفي مقالة طريفة في موضوعها بعنوان "الجواهريّ ودرويش واسترداد القصائد"، نُشرت في مجلّة العربيّ الكويتيّة عدد (701) أبريل/ 2017 ختم النّاقد اللّبنانيّ جهاد فاضل مقالته تلك بقوله: "إنّ الانتصار على الضّعف الفنّيّ قابل للتّحقيق، ولكنّ المشكلة تكمن في الشّعر السّياسيّ على الأرجح، فهذا هو الّذي يورث النّدم ويدفع إلى التّفكير بالاسترداد"، فهل سينجح الشّعراء في الاعتذار عن تلك القصائد الّتي بدوا فيها مدجّنين سياسيّا ليمدحوا حاكما ما ويهجوه بعد ذلك، لاسيّما وأنّ العلاقة بين الشّاعر والحاكم لم تكن يوما سويّة، وإن جمعتهما علاقة ودّ إلّا أنّها لن تدوم طويلا؟ فكم شاعرا سينجو من هذا الفخّ الّذي يقتل الشّعر والشّاعر؟ وهل مقدّر على الشّعراء أن يعيشوا خارج أوطانهم ليظلّوا أحرارا، كالشّاعر أحمد مطر الّذي طُرد منذ عقود من الكويت بسبب أشعاره السّاخرة؟ وهل مقدّر على الشّاعر أن يموت في غربته وهو متشبّث بحرّيّته، ليظلّ محلّقا يستعلي على كلّ سلطة رافضا التّدجين، حتّى لا يقدّم دمه على مذبح الحرّيّة المسنون؟ وهل مقدّر على الشّعراء أن يتعرّضوا للمحاكمات الجائرة، فيسجنون ويطردون من وظائفهم، ويحاصرون ماديّا ومعنويّا، وتسحب دواوينهم من الأسواق وتمنع من دخول بعض الدّول والمشاركة في المعارض الدّوليّة للكتب؟ علينا إذن، والحالة كما نرى، أن نستذكر الشّعراء الشّهداء، شهداء المواقف النّضاليّة الشّعريّة الكبرى، هؤلاء هم الشّعراء الحقيقيّون، وليس المدجّنين الخانعين الّذين صاحبتهم هذه الصّفة، وإن اعتذروا عن قصائد ارتكبوها في لحظة ضعف.
وسوم: العدد 732