﴿فويل للمصلِّين﴾
تعدُّ هذه الآية من الآيات المشكلة في «القرآن الكريم»؛ لعدم وضوح معناها من حيث اتصالُها بما قبلها، والمعنيُّون بها، حتَّى جعل بعضهم الوقوف عليها من دون ما بعدها خطأ كبيرًا، ويراه وقوفًا ممنوعًا؛ لأنَّه قطْعٌ للمعنى.
ولا شكَّ أنَّ هذا راجعٌ في أصله إلى تحميل الآية فهمًا واحدًا، ومعنىً محدَّدًا وهو «المصلين» الذي لا ينبغي أن يكون «الويل» لهم، فكان لا بدَّ من بيان الحال الدَّاعية إلى ذلك، وهو قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾.
وعند محاولة فهم معنى ﴿المصلين﴾ الواردة فيها اعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» نجدُ أنَّ ثمَّة معنى آخر مخالفًا للمعنى الذي درج عليه «المفسّرون» والذي بنى عليه «الفقهاء» أحكام «السَّهو» عن «الصَّلاة»، ويؤكِّد أنَّهم ابتعدوا كثيرًا عن المعنى الذي أراده الله جلَّ وعلا في الآية نفسها.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أمرين:
الأوَّل: أنَّ لفظ «صلَّى» قد ورد في القرآن الكريم بمعاني مختلفة، ولم يختصَّ بـ«الصَّلاة المفروضة» دون غيرها، من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، فالأمر هنا لا يعني «إقامة الصَّلاة» من ركوع وسجود، أي: يجوز أن يكون «الله» جلَّ وعلا و«ملائكتُه» مصلِّيَيْن بناء على هذه الآية؛ لكن لا يعني بحال أنَّهما يركعان أو يسجدان.
الثَّاني: أنَّ معنى «صلَّى» من حيث أصله اللُّغوي يدلُّ على معاني كثيرة؛ ومنها «الدُّعاء» كما مرَّ في الآية السَّالفة، والصَّلاة من الله الرَّحمة، والمصدر من «صلَّى»: «صلاة» وليس «تصلية» كما نصَّت قواعد «النَّحويِّين» على أنَّ مصدر «فعَّل»: «تفعيل»، وقد أورد «القرآن الكريم» أمثلة غيرها تشير إلى عدم صحَّة ما قعَّده «النَّحويُّون» في «قواعدهم»، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً﴾، ولم يقل بناء على «قواعدهم»: «كذَّب: تكذيبًا». و«المصلَّي» أيضًا: الفرس الذي يتلو السَّابق، وغير ذلك من المعاني التي لسنا معنيين بحصرها.
بل إنَّ «القرآن الكريم» أورد «صلَّى» نقيضًا لـ«ولَّى» حيث قابل بينهما فقال تعالى: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، فلمَّا كان «التّكذيب» مقابلًا للـ«تصديق» كانت «الصَّلاة» مقابلة للـ«تولِّي»، مع التَّنبيه على أنَّ «الصلاة» مصدرٌ لـ«صلَّى».
والمقابلة هي المعتمد في فهم معنى «المصلِّين» في آية «الماعون»، ومفتاحها معرفة الإجابة عن قوله تعالى: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾، فلمَاذا لا يسأل الله عزَّ وجلَّ يوم «القيامة» المجرمين عن «ذنوبهم»؟ ولمَ استثناهم من «الحساب»؟! ولم «يبلسون» عندما تقوم «السَّاعة» كما في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾؟ ولم ينكِّسون رؤوسهم عند ربهم في ذلك الوقت كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾؟!
واعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» نجدُ أنَّ «القرآن الكريم» نفسه قد أجاب عنها، فبيَّن أنَّ سبب ذلك كله أنَّهم لم يكونوا يؤمنون بـ«يوم الدِّين»، كما في قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾. وأكَّد ذلك في السُّورة نفسها بقوله: ﴿ كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾، وفي موضع آخر قال: ﴿ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾.
ولا يظنُّ عاقل أنَّ مَن يكذِّب بـ«يوم الدِّين» يتحسَّر على عدم «إقامة الصَّلاة» في الحياة الدُّنيا، ولا يظنُّ أنَّ المراد من قوله: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ أنَّهم لم يكونوا يُقيمون الصَّلاة بركوعها أو سجودها.
لذلك نرى أنَّ سورة «الماعون» قد بدأت بذكر مَن يكذب بـ«يوم الدِّين» فقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ ثم أوردتْ المعاني التي سبق ذكرها في الآيات السَّابقة من سورة «المدثِّر»، ومن بينها أنَّهم لم يكونوا من «المصلِّين»، ولو تنبَّه «المفسِّرون» على الآية الأولى من «الماعون» لعلموا أنَّ الله جلّ وعلا يتحدَّث عمَّن لا يؤمن بـ«يوم الدين»، ومن كانت هذه حاله أنَّى له أن «يقيم الصَّلاة»؟!
بل إنَّ «القرآن الكريم» بيَّن أنَّ هؤلاء لا يُؤذن لهم ليعتذروا يوم «القيامة» فقال تعالى: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾، ولو تتبَّعنا سورة «المرسلات» كاملة لرأيناها تتحدَّث عن ﴿المكذِّبين﴾ الذي كذَّبوا بـ«يوم الفصل» الذي هو ميقاتهم أجميعن فقال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
وبعد أن عرفنا أنَّ «المجرم» هو «المكذِّب» بـ«يوم الدِّين»، وأنَّ سورة «الماعون» تتحدَّث عنه من أوِّلها إلى أخرها، فلا بدَّ من معرفة معنى ﴿المصلّين﴾، والذي يظهر أنَّ المراد قطع العلاقة بينهم وبين الله جلَّ وعلا؛ لأنَّ الأًصل فيها «اللّزوم»، أو «الإقبال» على الله جلَّ وعلا كما بيَّنا من قبلُ، وأنَّها نقيض «التَّولِّي»، دلّ عليه أمور:
أوَّلها: أنَّ «القرآن الكريم» بيَّن أنَّهم لم يكونوا يقرُّون بوجود «الله» كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾.
ثانيها: أنَّ «القرآن الكريم» وصفهم بأنَّهم ﴿سَاهون﴾ والسَّهو يعني: الغفلة مع «السُّكون»، أي: سكنوا عن أيّ حركة تربطهم بالله عزَّ وجلَّ، وثمَّة فرق بين «غفل» وبين «سهو» وليس هذا مجال بيانه.
ثالثها: أنَّ «القرآن الكريم» بيَّن من خلال المقابلة بين «المجرمين» ومن سواهم أنَّ الآخرين «دائمون» على «صلاتهم»، وشرح صفاتهم وأحوالهم في سورة «المعارج» فقال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾.
فـ«المصلُّون» في هذه الآيات الذين لم يقطعوا صلتهم بـ«الله» جلّ وعلا؛ بل هم ﴿دائمون﴾ عليها، بخلاف «المجرم»، إضافة إلى أنَّ لفظ «المجرم» دلَّ في نفسه على «حالتهم»، وهو من «جَرَم»، والجيم والرَّاء والميم أصل يدلُّ على «القطْع»، ومنه قولهم: جرمتُ صوف الشَّاة إذا: قطعتُه.
فإن قال قائل: لمَ لا يكون المراد من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ الصَّلوات المفروضة؟ قلتُ: يردُّه «القرآن الكريم» نفسه، و«السُّورة» نفسها إذ تابع وصف حالهم فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، فلمَّا أراد جلّ وعلا «الصّلاة» بمعنى «الصِّلة» قال: ﴿دائمون﴾ وهو مقابل لقوله: ﴿ساهون﴾، ولما أراد «الصلاة المكتوبة» قال: ﴿يحافظون﴾.
بل إنَّ سورة «المعارج» أكَّدت إمهال الله لهم في أنَّهم يخوضون ويلعبون، وهو ما قالوه من قبل: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾، فقال تعالى: ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾.
رابعُها: أنَّ «الويل» جعله الله عذابًا لمَن يكذبُ بـ«يوم الدِّين» وكرَّر ذلك وأكَّده في سورة «المرسلات» كثيرًا؛ بل تكاد تكون السَّورة من أجل بيان «حالهم»، ولا يعقل أن يكون «الويل» في سورة «الماعون» لمن «سها» عن «صلاته المفروضة» كما ذهب إلى ذلك «المفسّرون» و«الفقهاء» في أحكامهم التي بنوها على فهم خاطئ لما نصَّ عليه «القرآن الكريم».
خامسُها: أنَّ «القرآن الكريم» قد نصَّ على أنَّ «المجرمين» بلفظ هم الذين سيصلون «النَّار» بسبب تكذيبهم بها، وبـ«يوم الدِّين»، واستعمل لفظ «صلى»، فقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾، وقال أيضًا: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
وسوم: العدد 733