انثيالات الرُّؤى وتجلِّيات التَّنوُّع عبر محيطٍ نثريٍّ شعريٍّ فيّ ديِوان "عابر الى القٌدس" للشاعر الكبير محمد خالد النبالي
في ديوان "عابر الى القدس" بعيداً عن الجدل حول ماهيَّة النَّثر الشِّعري ومقارنته بالشِّعر المنثور، إنّنا هنا أمام جدليّة أخرى استطاعت أن تمزج حقولاً منوّعةً من موجبات التّأمل الأدبي، سواء من حيث الأداء اللّغوي أو خلق الصّور أو فتح الأبواب أمام الإيقاعات الدّاخلية الشّعرية وفتح الآفاق والحقول أمام الرُّؤى ضمن تشكيلات بلاغيّة اعتمدت القوّة البيانيّة أحياناً والسّرد المحقّق للغاية أحياناً أخرى والتّكرار كنهجٍ وآليةٍ توكيديّة في محطّات وتداخلاتٍ أُخرى،وهذا ما يحقّق للدّيوان هدفه المنشود باعتباره أنه استطاع أن يجعل النَّثر يقول ما يقوله الشِّعر الحقيقي، وحرَّر النَّثر من نثريَّته، ممّا أوحى بإيلاء أهميّة للّغة لفظاً وتركيباً، وهذا ما يفسّر سيادة الخبر أحيانًا في النّصوص، والإحالة على العالم الخارجي والتّغاضي عن جمالية اللّغة الى جمالية الفكر حيث يطغى المدلول على الدّال في أحيــان أخرى، فقد برزت في الديوان التدفّقات الوجدانية وهيمنة الصّوت الباطن والمناجاة الغنائيّة المسترسلة والصّور الكليّة وشاعريّة الرُّؤى والتّرميز والتّكرارات والتّوازيات والتّكثيف، ممّا جعلنا نعيش الرؤُّى وفق تداعياتها ومعطياتها ومنطقها المخصوص في أحيان كثيرة، فبدءًا من العنــــــوان
( عابر إلى القدس) الّذي وجدته يحمل سمة الوظيفة الأنطولوجية حيث يقول د. خالد حسين عن هكذا عناوين بأنّها تهب النّصوص هويتّها ومكانها في الوجود، وتخرجها من العماء الى التميُّز والاختلاف، وتمثل دور التّعيين للنّصوص في الكينونة، وقد استطاع الشاعر من خلال توظيفه الأنطولوجي للعنوان أن يفتح أمام المتلقِّي تلك الآفاق التي يريدها كي يبحث عن الموصوفات والتّحديدات والتّراكيب الّتي ترسم ملامح هذا العابر.
ارتكزت معالم الدّيوان على معايير تعلِّل السَّببيَّة الَّتي جعلت الشَّاعر ينقاد إلى مثل هذه التّجربة باعبتارها تجربة خضعت لتنوّعات تجنيسيّة أدبيّة مالت في أغلبها إلى النَّثر الشِّعري مع انفلاتات أعطت سمة التّنوّع للدّيوان، فالشّاعر خلال توظيفاته الدّلالية استطاع أن يؤثِّث عوالمه عبر جملة مكوِّنات منها اللّغة المكثّفة كما في نص ( عابر إلى القدس)..
مَـا ذَنـْبـُـهُ الـقُـدْسُ الـعَـتِـيـقْ
حِـينَمَـا أَضْحَـى غَـرِيـبَـاً
مِـثْـلَ طِـفْـلٍ فِـي ظَـلاَمِ اللَّـيْـلِ
يـَبْـكِـي يـُتْـمَـهُ فَـوْقَ الطَّـرِيـقْ
وفي نصوص اخرى كنص رأيت وما انتيهت..
رَاهَـنْـتُ أَنـِّي لَـسْـتُ أُهْـزَمُ
لَـسْـتُ أَخْـسَـرْ
أَنـَا مَـا خَـسِـرْتُ وَإِنـَّمَـا أَنـَا
لَـسْـتُ أُنـْصَـرْ
واللّغة السّردية الّتي حاول الشّاعر من خلالها توظيف رؤًى عبر سلسلة حكائيّة بلاغيّة متداخلة كي يستقطب من خلالها الزّمنية ليوظفها في الآنيّة الواقعيّة، كما في نص دنيا لاتعرف النّبلاء .." فِـي هَـذِهِ الـدُّنـْيَـا حِـكَـايـَاتٌ غَـرِيـبَـةْ .." ونص في ذات يوم " فِـي ذَاتِ يـَوْم حِـينَـمَـا سَـافَـرْتُ مِـنْ قَـوْمٍ لِـقَـوْم.. " فقد غاب هنا عنصر الانكسار البلاغي وبرز عنصر الرويّ الميم الّذي أغنى النّص بالإيقاع، وهذا ما لمسته في نصوص أخرى عديدة ، حيث السّرد البلاغي مهيمن ومثير في الوقت نفسه للصّور المتداخلة عبر الملامح الزّمنية. ومن ضمن ما اعتمده الشّاعر في مكوّنات ديوانه الإيقاع الّذي يدخل ضمن ما يميز النّثر الشّعري وهذا الإيقاع تفاوت في تشكيلاته وتناغمه بين ما يوحي بوزن وقافية وأخرى داخليّة متّقدة ..
وَأَنـَا بـِقَـلْـبِ اللَّـيْـلِ أَمْـشِـي
حَـائِـرَاً مَـا بـَينَ أَيـَّامِـي وَأَمْـسِـي
لاَ أَرْضَ لَـكْ ...؛لاَ أُمَّ لَـكْ
لاَ حَـقَّ لَـكْ
أَنـْتَ تـَارِيـخٌ هَـلَـكْ
إيقاع وزني متشكّل في نص عابر القدس وأطفال الملاجئ، وآخر داخلي متّقد كما في نص رأيت وما انتيهت ..
سَـكِـرْتُ وَقَــدْ أَفَـقْـتُ
رَأَيـْتُ وَمَـا انـْتَـهَـيْـتُ
وعلى هذه الشّاكلة تبرز في نصوص أُخرى الإيقاعات المنوّعة الّتي تتداخل في مضامينها معبّرة عن تلك التّدفُّقات الشُّعوريَّة المتَّقدة جوانيّا، داخليّا عند ذات الشّاعر وتتجسَّد إيقاعياً وتبرز كرؤًى مفجِّرة للكينونة البلاغية الدّلاليّة.. ويضاف إليها تلك الحقول الّتي تعبّر عن الملامح الفكريّة الّتي يتبّناها الشّاعر في نصوصه كي يضع المتلقّي في دائرة الحدث النّصي لا كشاهد وقارئ فقط، وهذه الحقول نجدها موزّعة بشكل تناسبيٍّ في نصوص الدّيوان ونختار ما رسمه الشّاعر في نص عرب في اتّجاه الرّيح ضمن ماهيّة هذه الحقول..
كُـلُّ الـعَـوَاصِـمِ فِـي بـِلاَدِي تـَجْـهَـلُالحُـرِيـَّةَ العَـصْمَـاءَ
تـُـتْـقِـنُ كَـيْـفَ (الصَّمْتُ يُباع)
هَـذِهِ الـبُـلْـدَانُ
تساوي مَـا بـُعَـيْـدَ صِـفْـرٍ فِـي حِـسَـابِ الـقَـوْم
يـَا بـِلاَدِي لَـيْـسَ يـَنْـفَـع أَيُّ لَـوْم
وفي نص ماضِ في طريق الخوف " فِـي طَـرِيـقِ الخَـوْفِ تـَجْـرِبـَةٌ مَـرِيـرَةْ .." وأيضا في نص دورة حياة " كُـلُّ شَـيْءٍ فِـي بـِلاَدِ الـنَّـاسِ يـَأْتـِي كَـالـبِضَـاعَـةْ .."، فهذه الحقول لاتفتح أمام المتلقّي المساحات التخيّليّة فحسب إنّما تستفزُّ ذهنيَّته كي يواكبها عبر التداخلات الزّمكانية الّتي بدورها تُؤثِّث عوالمه الذّاتية لتتشابك مع عوالم الشّاعر، وهي بالتالي تفتح آفاقاً أخرى أمام المتلقِّي، والشّاعر نفسه يستغلّ تلك الحقول كي يحقق بالتقاطاته الصُّوريّة والبلاغيّة آفاقاً أوسع وهذا ما يتجلّى في نصوص عديدة حيث الآفاق تتَّسع باتّساع رقعة وجغرافية الرؤيا لدى الشّاعر ..
لأَنـَّـنَـا بـِالشِّـعْـرِ نـَشْـعُـرُ أَنـَّـنَـا فُـرْسَـانُ حَـقْ
كُـلُّ ذَلِـكَ حِـيـلَـةٌ
وَالحَـقِـيـقَـةُ أَنـَّـنَـا مِـن دُونِ تـَفْـرِقَـةٍ
محضُ رِقْ
فهذا التَّجليّ الأُفقي يتّقد في نص عرب باتجاه الرّيح حيث يخرج الشّاعر من كينونة العنونة نفسها إلى آفاق تعدُّديّة الدّلالة لاسيما من حيث استغلال الرّقعة البلاغية فيما يتعلق بالشِّعر والانتمائيَّة الغريزيّة للماضي البياني البلاغي ومن ثمّ إلى الواقعية التي تبرز بانه لم يتبقى لهذه الانتمائية سوى التّفرقة.. والعبوديّة (الرّق)، ومثل هذه الرؤى المتنامية تكثر في نصوص الشّاعر لتفتح أمام المتلقِّي ممرَّات منها يَلِج إلى آفاق أبعد يتمخّض عنها ماهيّة وجوده وماهيّة ماحوله..وممّا ساعد الشّاعر على بلوغ مراده هو امتلاكه لتلك الرُّؤى الشِّعرية الَّتي تمنحه مع الانضباط الفكري الانتمائي الجرأة في الطَّرح وكسر القيود كما في نصوص وأطفال الملاجئ..
أَنـْتَ لُـعْـبَـةُ قَـادَةِ العُـرْبِ الأَشَـاوِسْ
مَـا عَـادَ فِـي أَرْضِ العَـرُوبـَةِ مِـنْ فَـوَارِسْ
فالخروج عن المألوف والسائد لايتمُّ إلا من خلال الطّرح الجريء المنفتح على الواقع بجدليّة القائم والممكن والمتضادّ معهما، وهذا ما حقَّقه الشَّاعر أيضا في ديوانه حيث استطاع من قيادة ثورته البلاغيّة على ذاته اولاً وعلى انتمائه..ومستغلاً في الوقت نفسه تلك المساحات الخبرية المتاحة والصُّور الرّامزة الّتي تحيل المتلقي إلى استنطاق ما في اللّاوعي ليكتسب الوعي صورته الثورويّة ففي نص عابر القدس يعطينا الشّاعر عبر المنتج الخبري البلاغي " صَـلَـبَ الـيَـهُـودُ مَـسِيـحَـنَـا .." وفي نص فلسفة المحارب " الحَـرْبُ خُـدْعَـةْ الحَـرْبُ بـِدْعَـةْ.." لمحة خبرية متاحة لكنّها تجسّد في مضمونها حقائق عالقة في اللّاوعي وتبرهنها الوقائع الحدثية الآنية ، بصور متعددة تتجسّد في خبريات مشابهة مضموناً وأسباباً وأهدافاً، وذلك ما يحفز المتلقّي على التّلاحم مع الحدثيّة ولربّما تتّقد في دواخله محفّزات على النّهوض والتحرُّك.. وبهذا الأسلوب المتنامي تتنوع المكوّنات النثريّة الشّعرية في الدِّيوان لتصل بنا الى دائرة التّكرار الّتي اعتمدها في نصوصه، سواء من حيث التّكرار التدويري للرّؤيا او اللّفظي، فمن خلال تدوير فكرة القدس والتّخاذل الحاصل تجاهها نجد ماهيّة التّكرار التّدويري، أما التّكرار اللّفظي فهذا ما يبرز في نصوص أخرى نلامس فيها غرضيّة توكيديّة للرّؤيا كما في نص دنيا لاتعرف النّبلاء..
فِـي هَـذِهِ الـدُّنـْيَـا حِـكَـايـَاتٌ غَـرِيـبَـةْ
فِـي هَـذِهِ الـدُّنـْيَـا نـَرَى الأَحْـلاَمَ
وَالآمَـالَ وَالـبَـسَمَـاتِ
وفي نص شهيد ساخن الدّم .. ونص رأيت ذات يوم و نص أنا ونص فارس على سرير الموت حيث نلاحظ فيها تجسدات تُنمِّي بتكرار اللّفظ الرّؤيا وتعمل على تأكيدها عبر تلازميات منوّعة لصوريّة مختلفة.
وسوم: العدد 734