مرحلة: الأدب الإسلامي الموجه
(من خلال الآيات والأحاديث)
أولاً: الآيات الكريمة التي فصلت قضية الشعر في المرحلة المدنية: -
قدمنا الآيات التي تخص المرحلة المكية، وما يمكن أَنْ يستخرج منها في قضية الفقه الأدبي في الفصل الثالث، وفي هذا الفصل نتناول الآيات التي فصلت قضية الشعر في المرحلة المدنية، وهي الآيات التي ختم بها الله سبحانه وتعالى سورة الشعراء، في قوله تعالى:
والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلموا. وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنْقلب ينقلبون (الآيات من 224 - 227 سورة الشّعراء).وهي الآيات الوحيدة التي تناولت قضية الشعر في القرآن المدني، وتفصلها ثروة طيبة من الأحاديث الشريفة.
وقد كان هدف آيات الشعر في القرآن المكي، هو التفريق بين القرآن الكريم والشعر في أذهان أهل الجاهلية المخاطبين من القرآن الكريم، حتى يتضح الأمر جلياً، وذلك لكشف اللعبة الدعائية التي كان يلعبها كبراء القوم ضد النبي عليه السلام والقرآن الكريم، للتضليل والتشويش على الدعوة الإسلامية وصرف الناس عنها، فاتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بأنه شاعر وقالوا بأن القرآن لا يختلف عن بقية شعر العرب وهكذا حسم القرآن الكريم القضية، حين بين لهم أَنَّ الشعر في أصله ينطق فيه الشاعر عن الهوى والرغائب والأشواق الإنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوره المحدود بحدود مداركه واستعداد ذاته والقرآن الكريم كلام الله وهدايته إلى البشر، وهو ليس تعبيراً عن مشاعر محمد -صلى الله عليه وسلم - وما ينطق عن الهوى وبذلك كشفت الآيات الكريمة الفارق بين الشعر والقرآن الكريم في المصدر والغاية لكل منهما، ولم يكن هدف القرآن الكريم هو توجيه الفن الشعري في المرحلة المكية.
وفي المرحلة المدنية، اختلف الأمر تماماً، لأمور كثيرة منها ميلاد الدولة والمجتمع الإسلامي، ففي غزوة بدر يوم انتصر المسلمون، وعادت قريش تجر أذيال الخيبة، وتتجرع مرارة الهزيمة، وتبكي قتلاها، أخذت تحرض الشعراء ضد الرسول عليه السلام والمسلمين، وبدأت تستخدم الفن الشعري كسلاح يخدم مصالحها في حرب إعلامية ضروس، لتنفر القبائل عن الإسلام وتهون من شأن المسلمين.
عندها بدأت عملية توجيه الشعر إسلامياً، وتصويب مسيرة هذا الفن، بما يتناسب والمقاييس الإسلامية ولتوظيفه في خدمة الدعوة، لأن حكمة الله سبحانه في تنزيل القرآن، مرتبطة بحاجة الواقع الحركي للمسلمين، ولأجل هذا جاء القرآن منجماً، ولأجل هذا تأخرت آيات الأحكام للمرحلة المدنية، لتقنن حياة المجتمع الإسلامي في المدينة.
وبهذا بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يشرف بنفسه على توجيه مسيرة هذا الفن، ويأخذ بيد الشعراء، أمثال حسان وغيره، ليضبط مسيرة التحول عندهم، من خلال التوجيه المستمر، حتى يولد الفن الإسلامي صافياً خالصاً من التلوث وأدران الجاهلية.
ثم تنزلت سورة الشعراء، لتضع الحكم النهائي في توجيه هذا الفن.
الفقه الأدبي المستخرج من آيات سورة الشعراء:
1- الحكم على جنس الشعراء على عمومه والشعراء......
عندما يكون هذا الجنس مجرداً من موازين العقيدة الصحيحة بأنهم دعاة للغواية والضلال، لأنهم يعيشون على السياحة الخيالية في عالم المعاني والفنيات، وينبثقون من أنفسهم ومشاعرهم الذاتية والمصلحية، ويتهربون من الخضوع للحق، ولا يخرجون من المعاناة والتجربة، ولهذا فهم لا يعبرون عما تم في عالم الحقائق، بل يزورون الحقائق حسب ما تمليه الأهواء، والسبب عائد لفقدان موازين الحق لديهم، ولو أن الأهواء تربت في ظل الموازين السليمة، لانضبطت الأهواء على الموازين واستقام الفن في التعبير والأداء، ويظهر ذلك من قوله سبحانه وتعالى في وصفهم ألم ترى أنهم في كل واد يهيمون وقوله أيضاً وأنهم يقولون ما لا يفعلون.
2- الغّاوون: هم الجمهور يتبعهم الغاوون...... الذي يتلقى من الشعراء، وعندما يكون الجمهور محروماً من موازين العقيدة الإسلامية، كحال الشعراء، يكون هذا الجمهور متخبطاً بلا هداية، لأنه يخضع لإيحاء الشعر، فيصبح لعبة بيد هؤلاء الشعراء، فالمفكر والعالم والفيلسوف يرمي بسهمه على قناعات الدماغ، فهيهات أن يُصيب إلا بحق، أو استعداد لدى المتلقي، أَما الشاعر فإنه يرمي بسهمه مباشرة إلى النفس فيصيبها بحق أو بغير حق، لأنه يستعمل الإيحاء والتزيين والسخرية، ويعرض قدراته في الإخراج فيوظف الرمز والصورة والأسلوب، ليوقظ استعدادات السامع النفسية، ثم ينميها في الاتجاه الذي تسير فيه القصيدة بمراميها الفنية والفكرية، لأنه لا يستعمل النقاش ولا الجدل، بل يبدأ من التأثير الإيحائي الخفي والمتدرج المحبب إلى النفس، وبعد ذلك تقف هذه الأمور التي تسربت إلى نفس السامع، مقام الضواغط التي تجبر النفس على الانجراف لها ولو دون وعي. وبذلك يلتقي الطرفان (الجمهور) و(الشعراء) على التبعية للأهواء، وأهواء الجمهور تتلاعب بها أهواء الشعراء، والكل هائم على وجهه، لأنه ضال عن موازيين الحقّ، والغاوون الذين لا يملكون ميزاناً للحق، هم المؤهلون للاستجابة والتبعية للشعراء يزيدونهم رهقاً، لأن فقدان المنهج عنصر مشترك يوحدهم في مسيرة الضلال، ومن هنا تأتي الضرورة المُلِحَة، لتصحيح مسيرة هذا الفن، حتى تستقيم مع مبادئ هذا الدين.
3- ونلاحظ أن الهجوم لم يكن على جنس الشعر، لأنه لو كان على جنس الشعر لأفاد معنى تحريم الشعر، ولكنه كان على جنس الشعراء، لأن الشعر في أصله فن كلامي محايد، لا يوصف بالخير ولا يوصف بالشر، ولكن الذي ينقله إلى فن يخدم الخير أو الشر، هو جنس الشعراء، وحيث يقوم الشعراء بإخراج الشعر عن مقاصده ويوظفونه في خدمة مقاصد الشر، أو يوجهونه إلى خدمة مقاصد الخير فالشعر كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، والدليل على ذلك أنه استثنى الشعراء المؤمنين من الحكم العام للآيات.
4- الشاعر المؤمن والجمهور المؤمن:
وقد تم استثناء الشعراء المؤمنين، الذين يملكون عقيدة الحق وموازينها، لأن الأهواء عندهم تربت على الخضوع لهذه العقيدة وأحكامها، ولذلك نراهم يُخضعون الأداء الشعري لحدودها، فيتخلصون من الخيال المفرط والكذب ويجعلون القول في حدود الفعل والحقيقة، لأنهم لا يسمحون للخيال أَنْ يشتط، أو يبالغ، أو يشوه الحقائق، فيصغر الكبير، ويكبر الصغير، ولا يزوِّرون الحياة بفنهم؛ لأنهم يتقربون به إلى الله، ويعلمون أن الكلمة أمانة وعبادة يحاسبون عليها، ولذلك نراهم يُروّضون خيالهم الفني على التزام الحقائق ويتحرّون الصدق في الأداء والأسلوب لحرصهم على طاعة الله سبحانه وتعالى.
والجمهور المؤمن يملك العقيدة السليمة الواضحة، ويعتبر الكلمة مسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، وذوقه الملتزم يحاسب الشاعر ويطالبه بالأداء الأفضل والأحسن في المرامي والأداء، وقد تكلمت الآيات الكريمة عن (الشاعر المؤمن والجمهور المؤمن) كفريق واحد؛ لاشتراكهم في العقيدة الواحدة إلا الذين آمنوا....... والعمل الصالح وعملوا الصالحات أهمية الفن فلهم أجر غير ممنون توظيف الفن في خدمة دين الله وانتصروا من بعد ما ظلموا ثم تهديد شعراء الكفر وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ثانياً: الأحاديث الشريفة التي وجهت (قضية الشعر في المرحلة المدنية)(1)
أما الأحاديث الشريفة، التي فصلت مقاصد سورة الشعراء وخصصتها فهي كثيرة، والنبي ليس شاعراً، ولا يشبه حال الشعراء، لأن النبوة تنافي الشعر، كما بينّا سابقاً، وأحاديثه عليه السلام هي تشريع لشعراء الأمة وتفصيل لمقاصد القرآن الكريم في هذا المضمار، ويمكن تصنيفها في هذا المجال إلى نوعين:
1- النوع الأول: وهي الأحاديث التي فصلت مقاصد آيات سورة الشعراء، ووجهت شعراء الدعوة للنهوض بالفن الشعري خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، كقوله عليه الصلاة والسلام:
1- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما قالت الشعراء بيتاً هو اصدق من قولهم إلا كل شيء ما خلا الله باطل)(2) حديث صحيح
2- عن أبي البراء قال: قال رسول الله عليه وسلم لحسان (اهج المشركين فإن جبريل عليه السلام معك)(3) حديث صحيح.
3- عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (جاهدوا المشركين بأنفسكم، وأموالكم، وألسنتكم) (4). حديث صحيح
4- عن البراء، قال: (رأيت سول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الأحزاب وقد وأرى التراب بياض إبطيه وهو يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا......)(5) حديث صحيح.
5- عن أُبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشعر حكمة)(6) حديث صحيح.
6- عن سماك قال: قلت لجابر بن سَمُرة أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فكان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان الصحابة يذكرون عنده الشعر، وأشياء من إليهم، فيضحكون، وربما تبسم صلى الله عليه وسلم)(7) حديث صحيح.
7- عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اهجوا قريشاً فإنه اشد عليهم من رشق النَّبل، فأرسل إلى ابن رواحة، فقال اهجهم، فهجاهم، فلم يُرضِ، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل حسان، قال: قد آن لكم ان ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم دلع لسانه، فجعل يحركه، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لأفرينهم به فَرْي الأديم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً، حتى يُخَلِّصَ لك نسبي، فأتاه حسان، ثم رجع، فقال: يا رسول الله، قد خَلِّصَ لي نسبك، والذي بعثك بالحق، لأسلنك منهم كما تُسل الشعرةُ من العَجين)(8) حديث صحيح.
8- عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام(9) حديث صحيح.
9- عن عائشة قالت: كان رسول الله يضع لحسان منبراً في المسجد، يقوم عليه قائماً، يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر أو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)(10) حديث صحيح.
10- عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال في الإسلام شعراً مقذعاً فلسانه هدر)(11) حديث صحيح.
11- عن أبي صالح قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن أبا هريرة يقول: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خيرٌ من أن يمتلئ شعراًَ) فقالت عائشة رضي الله عنها: يرحم الله أبا هريرة، حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره، إن المشركين كانوا يهاجمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خيرٌ من أن يمتلئ شعراً من مهاجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)(12). حديث صحيح
ونلاحظ أن هذه الأحاديث، التي اخترنا منها ما لم يتكرر، كلها تركز على اهتمام الرسول عليه السلام بالشعر وتوجيه الشعراء للأخذ بمعاني آيات سورة الشعراء، وحيث أخذ الرسول على عاتقه قضية الأشراف على تدريب الشعراء، وتوجيههم إلى معالم الطريق التي يريدها الله سبحانه من هذا الفن، إنها مرحلة توجيه الأدب للالتزام بمبادئ الدعوة، وأجرهم في ذلك على الله سبحانه وتعالى ونلاحظ أن التشريع للحياة وضبطها، هو من سمات المرحلة المدنية، لأنها مرحلة تقنين حياة المجتمع الإسلامي وضبطه على شريعة القرآن الكريم بعد أن استقامت عقيدته لله في المرحلة المكية.
أما الحديث الأخير وغيره من الأحاديث (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً....) فقد أوضحه علماء التفسير، وتبينت مقاصده في تربية الأمة، قال الإمام القرطبي (13/151) من تفسيره: وهذا الحديث، أحسن ما قيل في تأويله (أنه الذي غلب عليه الشعر وامتلأ صدره منه، دون علم سواه، ولا شيء من الذكر، ممن يخوض في الباطل، ويسلك مسالك لا تحمد له كالمكثر من اللفظ، والهذر والغيبة، وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر، لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية لحكم العادة الأدبية)(13).
وقال أبو عبيد في (غريب الحديث): (ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن، وعن ذكر الله، فيكون الغالب عليه من أي الشعر كان، فإذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه، فليس جوف هذا عندنا ممتلئاً شعراً)(14).
وقال الحافظ في الفتح (10/550):(مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر، أن الذين خوطبوا بذلك، كانوا في غاية الإقبال عليه والاشتغال به، فزجرهم عنه، ليقبلوا على القرآن الكريم، وعلى ذكر الله تعالى، وعبادته، فمن أخذ من ذلك ما أمر به، لم يضره ما بقي عنده مما سوى ذلك)(15).
ومما يؤكد هذه المعاني التي ذهب إليها العلماء هو أحاديث الرسول عليه السلام في النوع الثاني.
2- النوع الثاني: وهي الأحاديث التي تكلم فيها الرسول عليه السلام عن أَهمية الكلمة وخطرها، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:-
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، كالبيت الخرب)(16) حديث صحيح.
2- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)(17) حديث حسن صحيح.
3- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، ما لم تعمل به أو، تتكلم)(18) حديث صحيح.
4- وقوله عليه السلام في حديث طويل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه (وهل يكب الناس في النار على وجوههم.. أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم)(19) حديث صحيح.
5- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إن أخوف ما أخافه على أُمتي كل منافق عليم اللسان)(20) رواه احمد.
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من تعلم صرف الكلام ليَسْبِيَ قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)(21) أبو داوود.
وسوم: العدد 737