عوامل نشأة الثقافة العربية
1 - المقدمة:
امتد وطن القبائل العربية - المترامي الأطراف - ما بين اليمن جنوبا والشام والعراق شمالاً، حيث الصحراء الممتدة، والحياة الصعبة الخشنة، وقلة الموارد الزراعية، مما ازهد فيها الغزاة والطامعين وأوجد فيها مناخاً خاصاً، يساعد القبائل العربية على الاستقلال، والعيش الحر في أفق جغرافي مفتوح، يعطي صاحبه الحرية في التكوين الذاتي بعيدا عن تأثير وضغوطات الحضارات المجاورة وثقافاتهم ومذاقاتها.
وبهذا نمت الشخصية العربية نمواً قائماً على الاختيار، الذي تدعمه الخبرة وتصوغه التجارب، المعتمدة على توظيف الذكاء بين التأمل والفعل والممارسة والصبر، وكان من ثمار ذلك الاختيار، أَنْ وصل العربي إلى اختيار ألفاظ لغته ووسائل تعبيره وتكوين ذوقه، وانتقاء قيمه وعاداته وأعرافه كما ينتقي الغواص الماهر حبات اللؤلؤ من الصدفات عن خبرة وعناية ومعاناة. وهذا المسار هو قمة الصمود والثبات للأمم الأصيلة، الذي يحفظ عليها ذاتها في لحظات ضعفها المادي، أمام الأمم المتقدمة عليها مادياً وحضارياً، ويجعلها تتنظر فرصة ظهورها على مسرح التاريخ الإنساني، ولو بعد حين، وفعلاً كان العربي يملك من الخصائص، ما يجعله الوارث الحقيقي لتلك الحضارات المجاورة، التي كانت تملك الهياكل المادية، المسكونة بالخواء المعنوي، ومن أمثلة تلك الخصوصية، أَنَّ العربي لا يشعر بالدونية وهو البدوي البسيط، بل يشعر بالأنفة والاستعلاء على الرومي والفارسي، فهو يأنف من تزويج بناته من الأعاجم ويرى أنه أكرم منهم عرقاً ونسباً وفصاحة.
2- العرب والاختيار الثقافي:
هذا الشعور بالاستقلال الذاتي والنفسي لدى العربي، جعله يختار الفن الذي يتناسب مع طبعه وذوقه وإدراكه للحياة، دون أي ضاغط خارجي يدفعه إلى لعبة تقليد الفنون عند غيره، أو الأخذ عنهم على طريقة الأمم الممسوخة، التي لا تصدر عن ذاتها، وتعيش عالة على ذوق غيرها.
ولهذا يعتبر الشعر فناً عربياً خالصاً في الاختيار، رأى فيه العربي مرآة نفسه، يعوضه عن جميع الفنون، ولا تعوضه جميع الفنون عنه، وفعلاً كان الذوق العربي موفقاً في اختياره الفنون الأدبية وبخاصة فن الشعر، لأن هذا الفن مميز عن كل الفنون التي عرفتها الإنسانية: 1- بيسر الأداة وسهولتها (اللغة) لكل الظروف والبيئات، 2- وإشباع الذوق الفني فيه لجميع الطبقات فهو فن ميسر للأغنياء والفقراء والمتحضر والمتخلف، يناسب البدوي المتنقل والحضري المقيم، 3- يملك من سمات الخلود والبقاء ما يجعله مستمراً أمام عوادي البيئة والزمان والحروب، يحفظه الإنسان في ذاكرته كما يحفظ اسمه 4- يجمع جميع مذاقات الفنون الأخرى داخل نسيجه، 5- وهو اقرب الفنون إلى الوعي، والفكر والحكمة، وهو الفن الوحيد الذي يعتبر بحق ضرورة من ضرورات التعبير عن النفس البشرية وسط خضم الحياة.
3- قيمة الشعر عند العرب:
وهكذا تمكن العرب عبر خبرتهم الطويلة وفي عدة قرون قبل الإسلام من إنضاج هذا الفن، حتى أصبح فنا مرموقاً له صدارة جميع الفنون عندهم، فيه تركزت العبقرية العربية التي صقلتها حياة الصحراء، فلم تجد فناً يفي بالتعبير عن غرض الحياة العربية كفن الشعر، فعوضت به نفسها عن جميع الفنون، وملكت فيه من عبقرية البيان ودقة الوصف، ما يغني عن الفنون الأخرى التي ابتدعتها الأمم لنفسها، وجعلت من الشعر ديوان العرب، فكان الشعر تاريخاً لمشاعرها وذوقها وإحساسها بالحياة، وكان الشعر الأداة التي حفظت على العرب لغتهم وعلمهم وثقافتهم ووحدتهم، اكتشفوا فيه ذواتهم وعبروا به عن مواقفهم وقيمهم وكان كما يقول عمر رضي الله عنه " كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم اصح منه ".
وأما عن احتفاء القوم وتقديرهم لفن الشعر، فحدث عن ذلك ولا حرج، فقد وصل بهم الأمر إلى كتابة المعلقات وتعليقها على جدران الكعبة، بعد أن علقت بقلوبهم وحفظها رواتهم. ولا عجب في ذلك فقد استقر هذا الفن في البيئة العربية واصبح الموجه الأساسي للذوق العام، بعد أن استقرت قواعده وأوزانه وقوافيه، وأصبحت له مقاييسه الثابتة وأعرافه الفنية السائدة. يتحاكمون إليها في أسواقهم الموسمية: عكاظ، ذي المجنة، ذي المجاز، حيث يتبارى الشعراء بعرض إنتاجهم وتتلاقح أفكارهم وتصقل مواهبهم، وتنشر بين القبائل أشعارهم، وبهذا تجذرت قيمة هذا الفن وارتفع مقامه في الذوق العربي، حتى حارت العقول والأفهام في تفسير مصادر موهبته وإلهامه فنسبوه إلى العبقرية وإلى الأشياء الخارقة.
4 -القرآن الكريم (المفاجأة الكبرى)
كانت الوثنية - عند الأمم الأخرى - انحرافاً متأصلاً وعميقاً عن منهج عقيدة التوحيد،، ولذلك أقامت المعابد، ونمت بينها صناعة التماثيل والأوثان، وحاكت الأساطير حول آلهتها المزعومة، أما وثنية العرب فهي وثنية سطحية تقوم على معرفة الله سبحانه وتعالى، ولكنها تتخذ من الأصنام زلفى تتقرب بها إلى الله، والمراجع للثقافة الجاهلية، يجد أن العربي كان في الأصل موحداً لله، ويرى عقيدة التوحيد، تطل من وسط ركام الثقافة الجاهلية، ولا أدل على ذلك من اعتزاز العربي بنسبه لإسماعيل عليه السلام وتمجيده للبيت العتيق، كما أن الفلتات الكثيرة التي كانت تظهر في الشعر الجاهلي، تدل على بقايا تلك العقيدة وتشير إليها، رغم التشوه الذي لحق بها.
لقد كان لله حكمة بالغة في اختيار العرب لحمل رسالة الإسلام، حيث اختار الرسول عليه السلام منهم، واختار اللغة العربية لتكون لغة القرآن الكريم، واختارهم ليكونوا جنود الرسالة ومبلغيها، ولما من الله سبحانه وتعالى عليهم ببعثه النبي صلى الله عليه وسلم، كان القرآن الكريم هو المعجزة المذهلة التي خاطب الله بها العرب ليكون التحدي لهم من جنس عبقريتهم، وهم أهل الفصاحة والشعر وفرسان الكلمة، وأقرب الشعوب إلى الفطرة في ذلك الحين، ولقد كان القرآن الكريم مفاجأة هزت قلب العربي وأثارت فيه الدهشة والذهول، يوم ظهرت تلك المعجزة في نبرة التحدي السافر الواضح، أن يأتوا بسورة من مثله أو بضع آيات. يومها كان العربي يعرف مدلول لغته ويتذوق بيانها بوتيرة عالية، وعندها سلم بعجزه وهو الفصيح أمام فصاحة القران، وعرف أن هذا النسق اللغوي الجديد في الخطاب، ليس من لغة البشر، ويومها بدأت ثلة من المسلمين في دار الأرقم تنظيف نفسها من أدران الجاهلية وعقائدها.
وعندها بدأت قريش تشعر بالخطر على نفسها وأخذت تمكر مكرها في محاولة يائسة لِتحمي جاهليتها وتمنع حصونها من خطر الدعوة الجديدة، فجربت جميع الأساليب من ملاحقة واضطهاد ومفاوضة، وحـصار وتجويع، ولم تــوفر شيئاً من أساليب الترغيب والترهيب، لعلها توقف دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم - في منتصف الطريق، ولكنها لم تحقق شيئاً، فلما أحست بعجزها، بادرت إلى أسلوب التحريف والتشويه والاتهام، مرة بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاهن ومرة بأنه ساحر، ولما فشلت قالت بأنَّ محمدا شاعر نتربص به ريب المنون، ووقعت في شبهة المقارنة بين القرآن والشعر والنبي والشاعر؛ ليتخذوا من ذلك حجة في حربهم الإعلامية ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضد القرآن الكريم، هذه أم جميل زوجة أبي لهب تعقد مقارنة بين فن الهجاء وسورة المسد، وهذا الوليد بن المغيرة يعترف بعجزه أمام القرآن ويعترف أَنَّه ليس من قول البشر، وهكذا قررت حكمة الله أن تفتح ملف هذه التهمة، ولتردَ عليهم، وتصحح المفاهيم الخاطئة، وتضع الأمور في نصابها.
وسوم: العدد 738