في الشِّعر والحضارة!
رُؤى ثقافيّة 275
-1-
الشِّعر أقرب الفنون إلى نفس الإنسان؛ لأن اللغة أنفاس الإنسان، والصوت آلته الفنيَّة الأُولى، كطائرٍ بَشَريٍّ مُغرِّد. ولذلك فإن الأصل في الشِّعر أنه فنٌّ فِطريٌّ، لا يتطلَّب عِلْمًا، ولا فلسفة، ولا صناعة مكتسبة- بما تعنيه هذه العبارة من معنى- ولا أكثر من الاستعداد اللغوي الفِطري والموهبة. بخلاف الفنون الأخرى التي لا بُدَّ لها من ثقافةٍ خاصَّة، ودُربةٍ شاقَّة، وتفاعلٍ اجتماعيٍّ، بقدرٍ أو بآخر. فهي صناعاتٌ فنِّـيَّة متقدِّمة، ظهرت بتطوُّر الإنسان وحضور الآلة ونشوء المجتمعات، بخلاف الكلمة الشِّعريَّة. وبرزت تلك الفنون في بعض المجتمعات دون بعض، وفي حقبٍ دون أخرى، ولكن ليس هناك مجتمعٌ بشريٌّ في أيّ زمانٍ ومكانٍ لم يكن له شِعر أو غناء. ربما كان فنّ الرسم قد بدأ في مرحلة لاحقةٍ كثيرًا بعد الشِّعر، فبدأ بدائيًّا جدًّا مع سُكنى الإنسان الكهوف، والرسم على الجدران، ثمَّ منه انبثقت فنون الكتابة، من مقطعيَّةٍ إلى تصويريَّةٍ إلى أبجديَّة، في الألف الثاني قبل الميلاد.
من هذه المنطلقات يبدو التعبير الصوتي أقدم، بطبيعة الحال، والتعبير الصوتي ملازم للكائنات الحيَّة كافَّة. بحيث لا يُتَصَوَّر أن الإنسان الأوَّل، في أوَّل وجوده على هذا الكوكب، كان يرسم، مثلًا، أو يخطب، أو يَقُصُّ قِصَّة، أو يُزاول فنًّا آخَر كهذه الفنون، لكنه قطعًا كان يعبِّر بالغناء، فرحًا أو ترحًا، ويُفضي عمَّا في نفسه بلُغة. وقد كانت لغة الإنسان تؤهِّله لذلك، كما أهَّلته للحوار الكوني، في قضايا الوجود والمصير، والحقِّ والباطل. وهذا ما ميَّزه عن سائر المخلوقات.
ومن هنا فلا خلاف في أن اللغة هي أوَّل مكتسبٍ معرفيٍّ للإنسان. وبما أنها كذلك، فإنها أداة العقل والتخيُّل والفنّ، وكلُّ اللغات الفنيَّة الأخرى ثانويَّة ولاحقة ورامزة، وإنما وقع الجدل منذ القِدَم في أيِّهما أسبق: الشِّعر أم النثر؟ النثر: بمعنى التعبير الفنِّي نثرًا، غير المنظوم في قوالب موسيقيَّة. بَيْدَ أن الفِطرة الطبيعيَّة، وسُنن الله في خلقه، تدلَّاننا على أن الشِّعر، بأُفهومه العامّ، أسبق من النثر الأدبي؛ من حيث حاجة الإنسان للإرواء الصوتي، والموسيقي، وللبثِّ الروحي، لا الفكري، وللتأثير الإيحائي، لا العِلْمي. بل إن اللغة لتبدو في ذاتها أقرب إلى الموسيقى، حتى في نثرها، بحيث أستطيع القول: إن اللغة هي أول كرَّاسة موسيقيَّة، أو «نوتة»، عزفها الإنسان. وشواهد ذلك ما تزال قائمة لدَى علماء اللغة، في ما يسمونه محاكاة(1) أصوات الطبيعة Onomatopoeia، والعربيَّة حافلة بهذا النوع جِدًّا. وقد عالجتُ بعض هذه القضيَّة من خلال كتابي «الصورة البَصَريَّة في شِعر العميان: دراسة نقديَّة في نظريَّة الخيال والإبداع»، (وهو رسالتي للدكتوراه 1993، ونُشِر في نادي الرياض الأدبي، 1996). ولذلك كان الشِّعر فنَّ المجتمعات الرعويَّة والشفاهيَّة الأوَّل في مختلف الأمم.
-2-
قد يقول قائل: «إنه من الصعوبة الحصول على دراسة أنثروبولوجية تربط بين الشِّعر والحضارة، وأثر خفوت الأوَّل على مآل الأخرى». لكن ما كلُّ أمرٍ يتطلَّب دراسات أنثروبولوجية لاستنتاجه بالضرورة؛ إذ إن طغيان الماديَّات- ولا أقول «الحضارة» بمعناها الشمولي المتوازن- يُبعد الإنسان عادةً عن روحانيَّاته، الدِّينيَّة والفنِّيَّة، ويتحوَّل بالإنسان إلى ما يشبه تبلُّد الآلة. وهذا ملموس على مستوى المجتمعات والحضارات، فلن تجد رجلَ مالٍ واقتصاد، مثلًا، يحفل كثيرًا بالشِّعر، إلَّا ما ندر، والنادر لا حكم له؛ فالعقل الصرف سيشغل لديه هذا الحيِّز. وبمقدار غرق المجتمع في متطلَّبات الحياة اليوميَّة، وضغوط الماديَّات، يبتعد عن الكلمة والفنون والآداب، ولاسيما الشِّعر؛ لأن خصوصيَّة الشِّعر، وصفاءه من الأغراض- حتى الأغراض الدلاليَّة المباشرة- تحتِّم شفافيَّةً على متلقِّيه، ومَلَكَة متخيِّلة تسمو على القراءة الحرفيَّة والمباشرة للنصّ، وأنْ تكون لديه قدرةٌ ذاتيَّةٌ لإعادة إنتاج النصّ، إلى ما لا نهاية. فأنَّى سيكون هذا في مجتمع يلهث وراء حاجاته البسيطة، والمُلِحَّة، والبهيميَّة أحيانًا. ولذا فإن الشاعر نفسه في مثل هذه المجتمعات يغدو منبوذًا. وقد قالها (أفلاطون) قديمًا، حين طردَ الشعراء من مدينته الفاضلة؛ لأنه رآهم فارغين، لا يفيدون المجتمع بشيء، بحسب فهمه للإفادة. وهذا ما خالفه الرأيَ فيه (أرسطو) في محاورته معه حول هذه المسألة، أو «الثيمة» كما يحلو اللفظ في بعض الأفواه العربيَّة المعاصرة.(2)
بناءً على ما سبق- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- فإن الفنون اللغويَّة، وبخاصة الشِّعر، بوسعها أن تكون معاول بناءٍ أو هدمٍ للإنسان ومجتمعه، أكثر من غيرها من الفنون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصطلح المحاكاة: هو المقابل للمصطلح الإنجليزي Imitation، من الأصل اللاتيني Mimesis. مع أن التَّيَمُّم، في العربيَّة: القصد، والتوخِّي، والاتِّباع. واليَمامة: القصد. والمُئمُّ: الدليل الهادي. والأُمَّة والأِمَّة: الشِّرعة والدِّين والسُّنَّة. والإمام: المثال. وكلُّ ذلك من: أُمِّ الشيء، وهو أصله. ومنه سُمِّيت الأُمُّ بهذا الاسم. قال (الجوهري): أَصل الأُمِّ أُمَّهةٌ، ولذلك تُجْمَع على أُمَّهات. ويقال: يا أُمَّةُ لا تَفْعَلي، ويا أَبَةُ افْعَلْ. (انظر: الجوهري، الصحاح؛ ابن منظور، اللسان، (أمم)). وما زال هذا هو المسموع في لهجات (نَجْد): «يُمَّة/ يا أُمَّة، يُبَة/ يا أَبَة». ومن هذا يتَّضح أن الأصل اللاتيني للمصطلح الذي قابلناه حديثًا بـ(محاكاة)، والكلمة الإنجليزيَّة لهذا المصطلح، شبيهان بالجذر العربي، الذي يشير إلى الاتِّباعيَّة والاستنان والتقليد، وكأن الأصل في العربيَّة واللاتينيَّة واحد، وهو الذي كان يحسُن أن يكون منه اشتقاق المصطلح في العربيَّة، لما ينطوي عليه من دلالة أعمق من محض التقليد الظاهري الذي تعبِّر عنه كلمة «محاكاة». فلو قلنا «الائتمام»، مثلًا، في مقابل Imitation، لكان مصطلحنا عربيًّا صميمًا، ومجانسًا للمصطلح الأجنبي، وأدلَّ على معنى الاتِّباعيَّة المُؤْتَمَّة المتمذهبة. غير أنه قد سبق السيفُ العَذَل، فاستقرار مصطلحٍ يجعل تغييره غير ميسور ولا مستساغ.
(2) كثيرًا ما نقرأ لدى بعض نقادنا المغرمين بطرائف الألفاظ كلمة «تِيْمَة»، كقولهم: «هذه تِيْمَة أساسيَّة في النصّ!» على الرغم من أن التِّيْمة في العربيَّة هي: الشاة تُذْبَح في المَجاعة، وقيل: الشاة في المنزل، وليست بسائمةٍ، فإذا ذُبِجَت، قيل: قد أَتامَ فلان. وفي الحديث: التِّيمةُ لأَهْلها. (انظر: ابن منظور، اللسان، (تيم)). فهل يصح قول الناقد: «هذه (شاة) أساسيَّة في النصّ»؟! على أن الكلمة بالإنجليزية: theme، وتعني: مسألة أو قضيَّة أو موضوعة ما. غير أن اللهجة العربيَّة تتدخَّل أيضًا هاهنا، حتى في الإنجليزيَّة، فمَن ينطِق الثاء ثاء في لهجته، فالمصطلح: «ثيمـ[ـة]»، وقد أُنِّـثَ، ومَن ينطِق الثاء تاءً، فهو: «تيمة»، وربما صار «سيمة»، حسب لهجة ثالثة/ أعني: تالتة/ أو سالسة! ولِمَ لا تتدخَّل اللهجات في الإنجليزيَّة، مادامت تتدخَّل في الفُصحى، حتى لدَى عِلْيَة القوم من الأدباء واللغويِّين، وربما قارئي «القرآن المجيد»! وذلك مثل كتابة الروائي (الطيب صالح): «أزرعات»، بالزاي، على الطريقة السودانيَّة، وهي «أذرعات»، بالذال، في إشارته إلى قول (امرئ القيس):
تَنَوَّرتُها مِن أَذرِعاتٍ وأَهلُها * * بِيَثرِبَ أَدنَى دارِها نَظَرٌ عالِ
في روايته (منسي: إنسان نادر على طريقته، ص146، (رياض الريس، 2004)). هذا، ولعلَّ (أذرعات) اسمٌ معروفٌ إلى الآن باسم (أذيرعات)، من روافد جبل طُوَيق، على يمين الطريق إلى الحجاز. (وانظر: ابن خميس، عبدالله، (1970)، المجاز بين اليمامة والحجاز، (الرياض: دار اليمامة)، 39، 115). على حين يفعل روائيٌّ آخر، هو (يوسف زيدان، عزازيل، الرَّقّ الثالث عشر)، عكس ذلك، فيقلب الزاي ذالًا، في كتابته كلمة: «الوخَّاذ»، بالذال، وهو يعني «الوخَّاز»، بالزاي، وذلك في حديثه عن نبات العوسج ذي الشوك الوخَّاز. والسبب أنه ظن الزاي لهجةً والأصل بالذال؛ فوقع في ما فرَّ منه! وما ضربتُ المثل بهذين الكاتبين إلَّا مثلًا طريفًا ودالًّا على التأثير اللهجي الطاغي، وجَلَّ من لا يخطئ ولا يلتبس. وعودةٌ إلى مصطلح «تيمة»، لماذا لا نستعمل: مسألة أو قضيَّة أو موضوعة، ونفتكّ من البلبلة اللغويَّة اللهجيَّة؟ يبدو سؤالًا بريئًا؛ لأنه: من سيضمن الصورة الحداثيَّة الطليعيَّة الكاذبة لناقدنا (التِّيمة) لو عرَّب مصطلحاته، لا قدَّر الله؟! وإلَّا فالأمر هنا يختلف عن مصطلح (محاكاة) المذكور في الحاشية السابقة؛ من حيث هو هنا مأخوذ، بعد تشويهه، من لغةٍ أخرى، وتعريبه سائغ سائر في كثير من الكتابات، سِوَى تلك التي تُصِرُّ على أن تلبس قُبَّعة السيِّد الأبيض، ولو بالمقلوب!
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في الشِّعر والحضارة!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الجمعة 22 سبتمبر 2017، ص13].
وسوم: العدد 739