دراسة فى ديوان (إلى خمرية اللون) للشاعر وحيد الدهشان

د. مصطفى محمد أبو طاحون

الغَزْلُ البديع فى الغَزَلِ الرَّفِيع

   للإنسان أيِّ إنسان حاجاتُه الضرورية التي يسعى إلى إشباعها ليشعر بالحياة، وأهم هذه الحاجات، الحبُّ والنجاح والتقدير والانتماء،  والمؤمن وحده هو من يشبعها مُتَّبِعًا تعاليم السماء.. وعلى تعدد صور الحب لتعدد أطرافه وربما أهدافه، فإنه يجمعها كلَّها ارتباطُها الواضح ببقية الحاجات، فالمحب دومًا يرغب فى التقدير ويعمل على نجاح علاقته بحبيبه.. حتى ينتميان، كلٌّ للآخر، هيامًا ووفاء.. وتماهيًا.. ولِقَدْرِ الحب، كان من الإيمان؛ فليس الإيمان سوى الحب والبغض..

  أما الحب للشعراء فمثيرُ إبداعٍ، ونبعُ عاطفة.. يلتقي مع موهبة الشاعر، في رغبته الجامحة نحو التقدير، وإحساسه بالتميز، وما يرتبط به من استحقاق حب الآخرين له .. ولعله لذلك كان أبرعُ الشعراء مُحِبِّين ، وكان أخلدُ شعر شعرَ الحب الصادق. يرى المستشرق الألماني "ولهلم آلورت" (أنه لولا المرأة والحب لما كان ثَمَّةَ شعر)(1).

   وشعر الحب الصادق لابد متأسِّسٌ على تجربة حبٍّ صادقة.. يشعر بصدقها ويتلمسه كلُّ سويٍّ؛ إذ هذه التجربة هي تجربة كل إنسان أحبَّ، أو تمنَّى أن يحب على هذا النحو من الصدق.. والحب العذري وجهٌ نبيل من أوْجُهِ الحب التى عرفها الأدب العربي قديمًا، وحديثًا، وهو – وشعره ظلٌّ له، بحيث تتلبس كل خصائص الحب العذري الموضوعية ، بشعره المعبِّرِ عنه – لا يحفل كثيرًا بجمال المحبوبة الحسيِّ أو المادي، بقدر ما يشدَهُهُ ويُدهشه سحرُ جاذبيتها، وجمال روحها، وذكاء نفسها.. وعقلها، إنه (حبٌّ تتضاءل لدى صاحبه النظرة إلى المتع الحسية؛ إذ يطغى عليها حرص المحب على استدامة عاطفته في ذاتها)(2).

ومن المتأدِّبين المحدَثين من جعل للشهوة حظًّا بالحب.. العذري! يقول عن الحب العذري (هو الشهوة والحاجة والنزوع والميل إلى امتلاك المحبوب، بصورة من الصُوَرِ، والاتحاد به بغية إشباع هذا النَّهَم، وتحقيق الشعور بالاكتفاء والرضا)(3).

وربما كان التأسيس لحالات النفس على المنجز الغربي واحدًا من تجليات التبعية المُفْضِيةِ إلى الانسلاخ من هُوُيَّةٍ مؤمنة، عاشها آباءٌ كرام مَضَوْا.. وأبناء بررة على آثارهم مُقْتدُون، فالحب عند (سوفوكليس) المسرحيِّ اليوناني القديم (ليس وحده الحب، ولكن اسمه يخفي في ثناياه أسماء أخرى متعددة.. إنه الموت والقوة التى لا تحول ولا تزول.. إنه الشهوة المحض، الجنون العاطف والنواح) (4).

  ومن الحق أن شهوة ما تتلبَّسُ بالمحب.. وحين يكون مؤمنًا، فإنها تنضبط بالحِلِّ والحُرْمَةِ، وبما يليق ولا يليق ، ساعتها تتهذَّب الأرواح، وتصفو النفوس ، وتُصَانُ الحُرُمات.. وتكون نبالةُ الإنسان وإنسانيةُ النبيل، استهداء بروح السماء، لا استجابة لأوهاق  الأرض.

   وقد حار الأدباء والفلاسفة فى تعريف الحب، ربما لطبيعته المركَّبة .. الخفية ولأنه مما يتصل بأخفى مناطق الوجدان الإنساني، وتبدو أماراته في فلتات اللسان، وتعابير الوجه، وربما عِظَام البدن، وقديمًا قال عمر بن أبي ربيعة عن غيرة الحبيب وأثرها على قلبه وفي عظامه:

خبَّرُوها بأنَّنِي تزوَّجْـ ثم قالت لأختها ولأخرى وأشارت إلى نساءٍ لديها ما لقلبي كأنه ليس مِنِّي من حديثٍ نما إليَّ فظيعٍ   ـتُ، فظلَّت تُكَاتِمُ الغيظَ سِرَّا جزعًا، لَيْتَهُ تزَوَّجَ عشْرَا لا ترى دونهم للسرِّ ستْرَا وعظامي إخَالُ فيهنَّ فتْرَا خِلْتُ فى القلب من تلظِّيه جمرا

  ومن الحق، فإن الحب حالة عاطفية مركبة، على سهولة الإحساس به، وتلمسه، فإنه تصعب الإحاطة بكُنْهِهِ؛ إذ تتلبس عاطفة الحب (كيان الإنسان بكامله جسدًا وعقلاً وروحًا، وتمتزج فيه عوامل عديدة مثل اندفاع الشهوة، والانفعال العاطفي والهوى والعطف والتجاوب والتعاطف والمودة والنزوع نحو التضحية في سبيل مصلحة المحبوب وهنائه وسعادته) (5)، وليس حبٌّ لا يدعو إلى الإيجابية والعطاء والنبل والفضيلة.. والإبداع.

وإذا كان الغزل في مجمله هو (التحدث إلى النساء، والتودُّدُ إليهنَّ) ، فإن شعر الغزل العذري هو: البناء (الإطار) الفني مُنبَنِيًا على عواطف طاهرة متعفِّفَة .. ترى في إبداعها إشباعًا لحاجتها إلى الحب ، وتساميًا كذلك بعواطفها بعيدًا عن مطالب الجسد، والشعراء العشاق (العذريون هم هؤلاء الذين دعاهم الجمالُ، وأغرتهم اللذائذُ، وثارت فى نفوسهم الشهوات، ولكنهم انعتقوا من هذه الشهوات، وانصرفوا عن اللذائذ ، وتحصَّنُوا بالعِفَّة ، ولذلك لم يخشوا أن يعبروا عن عواطفهم هذه ما دامت البراءةُ تكسوها، والعفةُ تملؤها، فانطلقوا يغنون عواطفهم، وينشدون آلامَهم وآمالَهم) (6).

    .. وحيد الدهشان، الشاعر المصريُّ الرسالي.. واحدٌ من هؤلاء العُذْرِيِّين .. وإبداعه في ديوان (إلى خمرية اللون) راقٍ وظاهرٌ ونبيلٌ، يقرر ابتداءً عظمةَ الإسلام، ونبل الإنسان، وجمال الشعر، وحرقة المعاناة، وسلامة القصد، ودرامية الأحداث، بحيث بدا الديوان رواية حبٍّ رومانسيٍّ شعريةً حديثةً، تتَّسق وقِيَمُ الأدب الإسلامي، الذي يتَّسع مفهومه؛ إذ يتوافق دومًا مع الفطرة الإنسانية؛ فيتسع للتعبير عن العواطف الإنسانية،  بما هي من أمارات الفطرة، ومتطلَّباتها، فمشاعر الحب والإيثار والتقدير واللهفة، والتغاضي والألم.. والأمل.. والضيق والصبر، وغيرها هي مما يتسع له مفهوم الأدب الإسلامي، شريطة أن تعالج هذه الأحوال -وجيمعها يتصل بالحب، خاصة مع تجربة الدهشان، في أحلى دواوينه(7)- وفق التصور الإيماني الإسلامي الشامل.. وكما يرى عمر بهاء الدين الأميري، فـ ( إن كل تعبير مُنْقَدِحٍ من أعماق ذات الشاعر، مُرهَف مُفْعَمٍ متسقٍ مع قيم الإسلام لا يخرج منها، ولا يخرج عن سمو الإنسان، وأخلاقه الإنسانية هو شعر إسلامي، وقد يكون في الغزل، وقد يكون في وصف الجمال والطبعة والألم والأمل أو الأحداث، وهو من صميم هذا الشعر الإسلامي)(8).

    (إلى خمرية اللون) إذن ديوانُ شعر غزلي... رسالي.. جماليّ، يقف شاهدًا أمينًا على سعة الإسلام ابتداءً، وإنسانية تعاليمه وضوابطه، كما يقف شاهدًا له قدرُهُ السامي فى دنيا الإبداع على مهارة المبدع المسلم، وقدرته المتفَرِّدَةِ على النجاة... والنجاح المقدَّر فى تحقيق المعادلة الضرورية، الراغبة في التوافق بين سمو الفكرة وتسامي الإطار.

لقد تهيَّأتْ مؤخَّرًا ! للدهشان فيما نلمس من صدق تعابيره - تجربةُ حبٍّ صادقة، عاشها بلحْمِهِ وعَصَبِهِ وعَظْمِهِ.. وتماهى معها بكِيَانه كلِّه؛ بعقله وقلبه.. وأسعفته موهبته الشعرية، بما هو واحد من أشهر فرسان الشعر الإسلامي بمصر في ربع القرن الفائت - أطال الله عمرَه ، ودام إبداعه- كان من ثمار هذه التجربة ديوانُه (إلى خمرية اللون) ومن عتبته الرئيسة، يبدو انشغال المبدع بالحبيبة أكثر  من ذاته .. وإبداعه ! إذ يختزلهما الجار (إلى) ومع استدعاء الجار الافتتاحي بالعتبة للجار(من) بالتداعي؛ استنادًا لكون الرسالة وإن إبداعية، لها طرفان، خاصة مع تجربة الحب.. مع هذا الاستدعاء، ومع ما يبدو أيضًا فى نصوص الديوان من حضور المبدع مُعْتَدًّا بذاته، شامخًا، مترفِّعًا متعاليًا بنبله وصدقه في الحب، مع هذين، فإن حضور (خمرية اللون) هو الأبرز بعتبة العنوان.. وهو الأطغى حضورًا بالفعل في سائر جنبات الديوان من مطلعه، وحتى مَقْطَعِهِ.

إن عتبة العنوان هنا، كأنها الإهداء، قد تقدَّم لأقصى ما يمكنه التقدم .. فإليها.. وحدها، كان الديوان، تتعزز هذه الحفاوة بالحبيبة مجدَّدًا مرتين، تردفان العتبةَ، أولاهما بالتقديم والإهداء النثري، حين يقول:

   (لقد قلت عن هذه التجلِّيات فيما قلت: إنها كلماتٌ كتبتني ولم أكتُبْهَا) وقالت عنها فيما قالت: "إنها كلمات ليست كالكلمات" ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أهديها لها) (9).

  ويقول ثانيتهما، فى مفتتح نصوص الشعر، كاشفًا فحسب، عن موطن التلاقي الأول، عن بلد منشإِ بداية الحب الشعرية الدهشانية، وربما عن محلِّ إقامة الحبيبة ، فيقول فى "باقة شعر": (الديوان5)

لكلِّ ذِي رِقَّةٍ أعطِي مَوَاثِيقي والروح تهدي دعاءَ الخير أجملها ما زال في العين ومضٌ من طَلَاوَتِهِ   وأسكبُ الشعرَ شهدًا من أباريقي مَنْ أهدتِ القلبَ زهرًا في الزقازيق وكيف لا لستُ أدري – قد حَلَا رِيقِي

  وبالنُّتْفَةِ(10) ما يكشف أولاً عن تلازم إبداع الشعر، والإحساس بالجمال "ذي رقَّةٍ"، وما يكشف ثانيًا عن عذرية التجربة ونبلها وطهارتها، أما طربه للتجربة وسعادته بها، والتذاذه لها فبارز بالبيت الثالث.

   وفي (خمرية اللون) ما يقرر ابتداءً نسبية الجمال، وأن معاييره مختلفة باختلاف المشارب والأذواق، ومع يقيني بأن المبدع رأى "الخمرية" .. جميلةً، بل رآها لا يعدل جمالَها جمالٌ .. حتى استفزَّ بهاؤها قريحتَه الإبداعية، فإنها تربي على جمال البيضاوات، على أية حال، وحين يتلبس اللون الخمريُّ بالجمال والإبداع، فإن له وفيه من سكر الخمر..! ما أذهل الرجل.

    إن ديوان (إلى خمرية اللون) فريدٌ فى بابَتِهِ؛ إذ يكاد يكون بصدقه وطول نفسه وواقعيته الديوانَ الغزلي الخالص الوحيد، فى العصر الحديث بمصر لشاعر رسالي، إسلاميٍّ. وربما احتفظ الديوان بهذه الفرادة لزمان قادم .. تتحقق فيه للأمة  أماراتُ الرخاء والهناءة ، بحيث ينصرف المبدعون إلى الجمال والحب والالتذاذ بالحياة.. بعد معاناة طويلة وآلام مريرة عاشها أسلافهم الأبرار(11).

على أن شعر "الدهشان" الغزلي بالديوان ليس أولَ شعره، فَلَهُ قبله ديوانٌ صغير، وبعض أشعار، يجمعُ الجميعَ صدقُ التعبير وعذريَّتُه.. أما الديوان.. فـ ( أصداء الشوق والرجاء)(12)، وبه عشرة نصوص شعرية ، بعضها عاميٌّ، كما في (بيجيني صوتك، وفي غيابك ، وفاضل يا حبيبتي يومين، 4/11/1999) أثبت الدهشان بالإهداء قوله: إلى حبيبتيَّ .. زوجتي وابنتي ولاء، قطرات من مشاعر المحنة والغربة .. والديوان يُشَعْرِنُ تجربةً صادقة عاناها الدهشان، حين سافرت زوجُهُ إلى باريس، استشفاء لولاء الابنة، وذلك فى نوفمبر 1999.

وفيه يصفي زوجَه الحبَّ.. على البعد، فيقول (أصداء الشوق والرجاء 7):

يا أنسَ روحي وفي الفؤاد عهودُكم يا بعض روحي لا نُطِيقُ فراقَكم   ولكم لديه كما لكم ميثاق فلدى الأحبة لا يُطَاقُ فراق

وعلى قصر نَفَسِ الديوان الشعري، فإنه كذلك ليس خالصًا لزوجه، بل يشاركها الابنةُ، التي يخاطبها الوالدُ الشاعر، فيقول (أصداء الشوق ولارجاء 18):

حبيبتي .. صغيرتي .. حبيبتي ولاء يا طلعة الصبح يا نضارة الضياء يا نسمة الهجير يا تبَسُّمَ الصفاء قلبي يراك منبعًا للطيب والسناء كالياسمين نفحة، كالبدر في السماء

   والديوان يقف شاهدًا على تمرُّس الدهشان مبكرًا بشعر الغزل الصادق.. والحب الطاهر.. وهو خطوة، على مسار إنضاج الإبداع، ومسار الاستمتاع بالحياة.

   أما أشعار الحب السابقة على الديوان الخمري، فثلاثةٌ، أولها "قالوا عرفتَ الحب" بديوان (نحن الشهادةُ عِشْقُنا) "ص37" وقد أرَّخ النصَّ بديسمبر 1997(12)، والمفارقة بين العتبتين بارزة ، فعشق المبدع ليس بالمقام الأول إلا للشهادة ، والحب ليس هو المقدَّم – ساعتها على الأقل – ويوضح الدهشان بهذا النص موقفه من الحب، محبوبًا ومحِبًّا .. وأنه غمر به من أسرَتَيْهِ ، بالدم (الوالدان والأخوات) وفى المجتمع والوطن (الرفاق والأصدقاء الأحبَّة).. يقول:

قالوا عرفتَ الحب؟ طُفْتُ بخاطري في وجه مَنْ حولي رأيتُ بريقه كانت صدورهُمُ لمثليَ واحة أيام هدهدني الحنانُ وضمَّني   وهمستُ منذ نعومة الأظفار قطراتِ نور من ضِيَا الأقمار مزدانة بالعشب والأزهار رفقٌ أضاء القلب بالأنوار

  وبالنص ما يشير إلى هناءة حبه مع زوجه، وأنه سيظل وفيًّا لهذا الحب حتى الممات، فيقول:

قالوا عرفت الحب؟ قلت عرفته سطَّرتُ فى حِضْنِ السعادة وقتها ونقشت في سِفْرِ الزمان مقولتي ومحا عذاباتِ السنين ببسمة وغدوتُ أحيا في ربوع حبيبةٍ فيها جمالٌ تحتويه براءةٌ سأظلَّ أحمل في الحنايا حبَّها   وحُبِيتُ فيه بأعذب اللحظات ما كان في الأعماق من خفقات لي من هواها ما أضاء حياتي وأنار دربي فاهتدت خطواتي فيها هناءُ الروح والنظرات في رقة ذابت لها خلجاتي حتى يسير الناس خلف رُفَاتِي

وبالمقطع روح رومانسية عذرية .. إسلامية خالصة، فمجال الإحساس بالجمال والحب هو الروح والوجدان لا الأبدان، وتبدو هذه العذرية من آثار الحب على المبدع متمثلة في (3، 4، 5، 6) والعذرية إذن هي طابع شعر الدهشان الغزلي بالأساس من قديم. لكنه يختم نصه أنه، وهو القادر على إبداع شعر غزلي عذري راقٍ، تتوفر له التجربة الصادقة والأداة المواتية، فإنه آثر أن ينصرف عن هذا الشعر إلى أُمَّتِهِ، استجابةً لواقعٍ يتطَلَّبُ إيثار المجموع على الذات ، وتقديمَ حاجاتِ الأمة على متطلبات الفرد، والدهشان صادق فى هذا التوجه ، ليس مدَّعِيًا، بل يوافق فعلُه قولَه، ويصحُّ معه أن يُتَّخَذَ إبداعُه سبيلاً إلى معرفة ذاته، يقول:

قالوا عرفت الحب؟ قلتُ ولم أزل أرواحهم تهفو إليه سجية .. لكنني والهمُّ حاصر أمَّتي أوقفتُ شعري كي أنَبِّهَ غافلاً وجعلته سوطًا على ظهر الخنا فإذا استفاقت أمَّتي من نومها واسترجعت تاجَ الكرامة وارتقت سأكون بين شُدَاتِها مُتَرَنِّمًا   عشقُ الجمال رجالُهُ الشعراءُ وهمو بساحات الهوى الزعماء والريح حول ربوعها هوجاء ومن النفوس يزول الاستخذاء أو جمرةً يُكْوَى بها العملاء وانجاب عن أرجائها الدُّخَلَاء وتطايرت عن مجدها الأنباء فالحسن يأمر في الورى ويشاء

    ولله دَرُّ الدهشان وفيًّا ، إنسانًا ومبدعًا، فقد كان ما وعد به؛ إذ لم ينشغل بالحب والجمال إلا حين استفاقت – إفاقةً لم تتريَّثْ ! أمَّتُهُ من غيبوبة سرعان ما تلبَّستها من جديد!

  على أن الحب ظل – ما بين هذا الوعد وتحققه – مثيرًا إبداعيًا دهشانيًّا معتَبَرًا ، وفي ديوانه ( في انتظار الفجر)(14)،والعتبة دالة.. على تمسكه بترتيب أولويات إبداعه، وأنه للأمة قبل الذات، حتى تتعافى الأمة، فتخلو الذات إلى الاستجمام حينًا.. نصان بالديوان هما:"شاطئ السحر، من مقام العشق" وكلاهما يعنى بالحب، ومفهوم الدهشان له، أما الأول، فيكشف عن مفهوم الشعر لدى الدهشان، وأن روافد الشعر لديه، تنحصر في العناية بالحب والجمال والرجال الأفذاذ والحكمة.. والمعاناة من واقع ذاتي جمعي بائس .. يقول (ص8):

لو دلَّنِي الحسنُ فيه أين مرقاه وُلِعْتُ بالشعر لمَّا ذقتُ لذَّتَهُ وهزني الصدق فى ألحان محترق وشفني الوجد في أنفاس من عشقوا تَخِذْتُهُ صاحبًا والقلب جاوبه ومن تجلَّت لعقلي شمسُ حكمته   لسرت أنقش فوق الدرب أهواه واستعذب القلب أشجاه وأحلاه نار الطواغيب شبت فى حناياه من قال أوَّاه حين الحب أضناه أوَّاه يا توأمًا للروح أواه نهلت مِنْ شهده ما قدَّر الله

وبالنص ما يكشف عن استقرار التصور الإبداعي والنظرية الشعرية، فيما يتصل ببواعث التجربة عند الدهشان، فما زال وعده يصحبه ويلازمه .. لا يحيد عنه، ولا ينصرف إلى غيره مخدوعًا به.

بالنص الثاني ("من مقام العشق" ص 11) ما يقرر، وقد أرَّخها في 22/8/2007 أي بعد عشر سنوات.. من وعده، أنه لمع بارق الحب فى أفق إبداعه لمعانًا سرعان ما تلاشى.. إذ لم يتبع حديثه حديث آخر، يقول:

من بعد عشقك ما استطعتُ فكاكًا ولطالما ساءلتُ نبضَ مشاعري أَتَهِيمُ بي صُبحًا وترقبُ طلعتي .. يا من على عرس الفؤاد متوَّجٌ   وغدوتُ حرًّا فى قيود هواكا هل أنت تهواني كما أهواكا في الليل حتى تستضيء سماكا قل لي بربك كيف نَيْلُ رِضَاكا

   وفي ديوانه (أنوار وأكدار)(15) وهو ومضات شعرية؛ إذ تغلب عليه المقطَّعات والنُّتَفُ الرائقة .. الرائعة، يقرر عذرية شعره الغزلي، وأن النفس ترقى بالحب، الذي هو أعجوبة من أعاجيب حالات النفس، يقول في ومضته (رقي ورقة) وقد أرخها فى 16/5/2008:

قطرات الحبِّ المسكوبة والنفسُ بحبٍّ كم ترقى وقلوبٌ لم تعرف حبًّا   فى نفس الكائن أعجوبة وترقُّ النفس المحبوبة بالقطع مناطقُ منكوبة

     عذرية غزل الدهشان إذن ثابتة ومقرَّرَةٌ وأصيلة في إبداعه ، من يوم كان له إبداع، ومحاولة اختبار هذه العذرية بإبداعه الشعري على ضرورتها العلمية، لها شواهد كثيرة لا تخطئها العين للوهلة الأولى. إن الغزل العذري ينطبع عند الجميع نقدًا وإبداعًا بالحرارة والديمومة والعِفَّةِ المحضة، وقد حدد الدكتور "شكري فيصل" خصائص الغزل العذري، وهي عنده:

بساطة معاني الحب.الصدق النفسي، حيث يصدر الحب عن صاحبه كتدفق الماء من الينبوع.وحدة الغرض والاتجاه، بحيث ينشغل المحبُّ بمحبوبته.الأسلوب المباشر، حيث يتجه الشاعر إلى الحب وحده دون التواء.العفة في الأسلوب وطهر القول، وعدم التطرق إلى المُغْريات الجنسية.تصوير حالة اليأس التي يعيشها الشاعر بسبب أسر المحبوبة له.الصفاء والإشراق، حيث يتطابق عمق الحب مع قدرة اللغة الشعرية وجزالتها(16).

    إن الغزل العذري.. الدهشاني .. تبدو فيه جدًّا حرارةُ العواطف الطاهرة النقية التقية التي تنتابه من حبِّه وأخلاقه ، كالرافعي تمامًا حين يقول(17):

قلبي يحبُّ وإنما        أخلاقُهُ فيه ودِينُهْ

   يقول الدهشان منتهجًا سبيل العفاف، متأسِّسًا على دين وإيمان، فيقول (الديوان 22):

والله لولا الدينُ يحفظني ولَقِيلَ هذا الصبُّ نحسبه ولربما الأقدار تُسعدني أو قد تثور الريح في صلف   لَغَدَوْتُ كالمجنون في الدرب ولقيل ما المجنونُ بالصبِّ وأنالُ ذاك الفضل من ربي وتعود بالمتعوس للحب

(1)

    (إلى خمرية اللون) ديوانُ شعر غزليّ، للدهشان، به 160 نصًّا، يغلب عليها أن تكون مقطَّعة أو نُتْفَةً، وتقلُّ فيه القصائد، ما يعني أنه دفقاتُ روحٍ صادقة، كتبت ذاتَ المبدع، قبل أن يكتُبَها، وحينما نعلم أن الديوان أُبْدِعَ بأكلمه في خمسة عشر شهرًا، لا تزيد .. (مارس 2012 وحتى يونيو 2013) وربما أشار الدهشان إلى حولية زمان ديوانه، حين قال، كاشفًا عن تماهيه مع تجربة الحب العنيفة.. الصادقة طوال هذه المدة (الديوان 164):

وأنا قضيتُ العام في كَنَفِ الهَوَى لو نارُهُ مَسَّتْ شِغَافَ قلوبهم   والحبُّ زادُ قرائح الشعراء عاشوا له أسرى صباحَ مساء

   ندرك أن الدهشان أبدع في كل شهر ما متوسِّطُهُ عشرةُ نصوص، وهو نَفَسٌ شعريٌّ كثيفٌ.

والديوان كما قلت أشبه برواية حبٍّ شعرية، تحكي عن نبيلين من أبناء النيل تربَّوا على الفضيلة والطهر – كما يبدو من الديوان – تجاذبهما الحبُّ أيامًا .. فكان الديوان، ويكشف الديوان عن تجربة حبٍّ لم تسر قصتها على وتيرة هناء، إذ خالطها آلامٌ ومعاناة .. من بدايتها وحتى منتهاها .. ومن الحق أن معاناة الشاعر كانت من قبل أن تكون التجربة، وحينما لاحت له خمرية الكون تبددت آلامُهُ .. وحالما صدَّت عنه عاودته آلامه مجدَّدًا .. يقول في (يا أخت شمس الضحى، المؤرخة في الثاني من إبريل 2012) وهي أولى مخاطباته لها بالديوان (ص16):

يا أنت يا نبْضَ قِيثَارِي وملهمتي أسكنتكِ القلبَ يا مَنْ لحتِ لي أملاً وكنتُ أسعى إلى المجهول مرتجلاً حتى التقينا بدوامات عالَمنا تمكَّنَ الحبُّ من قلبي وأرشدني   يا لحن حبٍّ جرى من فيض أشجاني من بعد أن أنكرتني كلُّ شُطْآني لا الريح واتت ولا المِجْدَافُ أجداني ولم يَدُرْ ما جرى يومًا بحسباني فصار قلبُكِ بعد التِّيهِ عنواني

   وجد المبدع نفسه إذن .. وبشَّتْ له الأيام بعد جهامة، فهل يطيب له الزمان وتحلو الأيام طويلاً .. بالنص التالي مباشرة (عسى أن تسعد الذكرى والمؤرخ في السابع من إبريل 2012) ما يشير إلى تعثُّر اللُّقيا بين المبدع وباعثة إلهامه الشعري ...

  ومع إيماني بحساسية الدهشان ورِقَّةِ نفسه، التى يُؤْلِمُها القليلُ من التجهُّمِ واليسير من القول.. فتثأر لكرامتها وتحمل على المتجهم .. الغافل، فبالنص ما يقرر من البداية عثارًا بالتجربة الغزلية، حين يقول (ص18):

ظننتُ وكم يخيب الظنُّ وأنيَ لم أَعُدْ غرضًا وما قدَّرت أن الوا سيأبى حَدُّ قَسْوَتِهِ .. أَيَا مَنْ أحْيَتِ الإحسا يظل هواك في قلبي عسى أن تُسْعِدَ الذكرى   أنَّ الدهر صالحني بقبضته وسامحني قِعَ المستلَّ كالسيف وصولَ الروح للطيف سَ حين شدا لها فَنِّي وحتى آخر الدرب فذكرى الحبِّ كالحب

يعلن صراحة عن معاناته في تجربته باكرًا، ما يكشف عن سوء تفاهمٍ ما، أو بُعْدِ لقاء أو وشاية أو شيءٍ ما حال دون تلاقٍ وبثِّ أشواق، فيقول في (يا للحياة، ص 7):

أبعد ما جبتُ فى الدنيا منافِيها حتى التي اختارها قلبي لتسعدَهُ   وأتعبتني الأماني في تأبِّيها صالت جحودًا على عمري سوافيها

   يأتيه الهمُّ من حيث راح يطلب سعادته، وتخاصمه الأحداثُ فتعانده، ضانة عليه بما يليق به، إنها البلية ، لا تتحوَّل .. يقول في (ابتلاء ، ص 217):

القلب في هذي الدُّنَا يتعذَّب نار الأحبة والرفاق شُوَاظُها .. أنا شاعرُ البسطاء في أحلامهم بالظالمين حُجِبْتُ لم أَأْبَهْ لهم   والجمر بين جوانحي يتلهَّبُ تفري فؤادي حيثما أتقلَّب بقصائدي لله كَمْ أتقرب وعجبت أني بالأحبة أُحْجَب

  والمعاناة هنا مطبِقَةٌ شاملة، ليست خاصة بحبه، بل بواقعه، وحياته، فالمتنكِّرون له من حوله كُثْر، حسبما يحكي إبداعه(19).

  ومن المعاناة ما يبعث الإبداعَ، ومن الحرمان تكون بعضُ العبقريات، لم تجر أمور الحب دومًا رُخَاءً، على نحو ما يتمنى المحب.. والرابح هو الإبداع، ففي حالات الرضا والغضب يكون شعر، وفي الهجر والوصال يكون شعر، وفي المجافاة والتواصل يكون شعر، بل ربما كان شعر الغضب والهجر والمجافاة  أجملَ وأبقى .. ولا تكون كل أحوال المحبين نافعة إلا للشعراء العُشَّاق؛ إذ تواتيهم مواهبهم الشعر على كل حال، وربما اكتفى الشاعر من حبه بالشعر، وربما اكتفينا – نحن المتلقين والنقاد – بما كان عن الحب من شعر، لا بما كان من الحب بين حبيبين  ، ومع رغبة المبدع المحب الصادقة في تحقق أحلامه – بل أحلام كل المحبين – بالحب ، بحيث لا يرغب إلا في الغفران، وأن يهنأ المحبون ، كما بقوله (دعاء وحيد ، ص 13):

لوْ لي دعاءٌ وحيد يُسْتَجَابُ له في بيت شعرٍ بدمع العين مؤتلِق أن يغفر الذنبَ لي فضلاً بآخرتي   لَصُغْتُ أحرفَه فُلًّا ونِسْرينَا ورحتُ أضرع للرحمن بَارِينا وأن يحقِّقَ أحلامَ المحبِّينا

  والحب عند الدهشان أنفس ما يملكه إنسان، يقول في (فَقْدٌ وفقد، ص 41):

لا تحسبوا الألماس عزًّا رائعًا فَقْدُ الذي ينفي الحياةَ بأسرها   روحٌ تحِبُّكُمُو أعزُّ وأروعُ لا لا يُقَاسُ بفقد ما قد يرجع

   وفقدان الحب هكذا عند الدهشان ينفي الحياة جميعَها.

   مع إيماني بهذا وذلك، فإن كثيراً من المواضع بالديوان تقف شاهدة على تماهي الحب والشعر عند الدهشان، وربما كفاه من الحبِّ الشعرُ، يعبر عن تماهي الحب والشعر، في قوله (وأهفو إليك 27):

وما الشعر إلاكِ يا نبضَ حرفي      ويا قِبْلَةَ الروح والقــافيةْ

   إن الحبيبة عند الدهشان تجبر كسير شعره، فَمَعَها بيوتُ قصيدِهِ قصورٌ، فالحب مثير شعره ومقوِّمُهُ، يقول في (شعري 87):

.. ففي الناس من لا يحس جمالاً كهذي التي قد سباني هواها يروح لها الشعر يسعى كسيرًا ويلقاه قلبٌ محبٌّ فتغدو فيا فرحة الشعر حين يلاقي ويا ضيعة الشعر إن زار يومًا   ومنهم رقيق رهيف الشعورْ بعقل ذكي وقلب طهور فتجبر إن هدهدته الكسور بيوت القصيدة مثل القصور أناسًا يذوقون طعم العبير قلوبًا تعيش كموتى القبور

   ومن البيِّنِ، فإن الحب عند الدهشان قد  أهدانا شعرًا يروق مسمعُه، ويجمل بالنفس موقعه لتعبيره عن نفس نقية، لا تعرف للعدوان أو الفحش سبيلاً، وكثيرًا ما تحامت شُبُهاتٍ ، حياطةً لدينها وإعمالاً لخُلُقِها.. بالديوان ما يقرر أن الحب ألهب قريحة الدهشان، ولئن لم تُكْتَبْ للحب نهايةٌ سعيدة، فسيخلد الديوان، ويخلد صاحبه في ركاب شعراء بني عُذرة المُحدَثِين..!  في يوم واحد (3/5/2012) يؤرِّخُ لخمسة نصوص، مقطَّعتين (تلطف، تواضع 51) وثلاث نتف (محاولة 50، بلا يأس، وجع المشاعر53) أبياتها جميعًا 17 بيتًا، والمزية ليست في مدى الأبيات هنا، بل في تنوع موضوعاتها، ففي الأول منها (محاولة) تبدو حيرته، وحرمانه، ومعاندة الأيام له.. يقول:

حاولتُ إداركَ المحال فلم أجِدْ أسرعتُ أسعى للجنون لعلَّني فإذا به هِبَةُّ تُسَاقُ لمجتبى   إلا الجنونَ مطيَّةً لِمُرادي أخطو لما أهوى بلا أصفاد ليست تُنالُ بحيلة وجهاد

   وفي الأخير يبدو شيء يتصل بما عكَّر صفوَ الحب، وأنه يلقي باللائمة على نفسه، .. بل يدعو على روحه وإبداعه، وجوارح موهبته، فيقول (وجع المشاعر 53):

وجعُ المشاعر أصعبُ الأوجاع وأقول إن ساءته بعضُ مشاعري يا ليت قد شُلَّ اللسانُ فلم يقل   ويهون في حفظ الحبيب ضياعي يا ليتني أخفى هواه يَرَاعِي حرفًا وشُلَّتْ قبل ذاك ذراعي

    وإلى ذلك وفي مقابل جريانها جميعًا على بحر الكامل، والروى بين الدال المطلق المردَف بالألف (نصان) والحاء المطلق المردف بالألف، والعين المطلق المردف بالألف، والراء المقيد. واتفاق الخمسة النصوص واختلافها، يقرر أولاً: تلبُّس البحر العروضي بمعاناة المبدع، وتلبسه هو الآخر به بحيث، نظم على الكامل وحده بنصوصه كلها، وفي ضوء اختلاف الروي، فإنه يتقرر.

 ثانيًا: أن الدهشان كان في أغلب أزمان تجربته يحيا بنفس قلقةٍ، ومشاعر متوتِّرة، بحيث انتهى إبداعه في أكثر الأحيان إلى نتف ومقطعات ، ربما ألمحت إلى أنه كان يحيا صامتًا ساهمًا ذاهلاً، لا يعنيه من الدنيا سوى حبه، وإبداعِهِ عنه – الذي جاء أشبه بدفقات روح، ونفثات وجدان ملتهب.

والنتف مع المقطعات تدل على صدق الشاعر في نقل تجربته، بتوتراتها، وأحداثها، ومن جديد تبدو التجربة هي من تكتب الشاعرَ، لا مَنْ يكتبها هو.

ثالثاً: اختلاف الرويِّ كاشفًا عن نفسٍ محبة ترغب في التنفيس عن مشاعرها الملتاعة حينًا، والمعتزَّة بذاتها حينًا آخر، فكان الرويُّ المطلق بالخفض المردف بالألف في ثلاثة نصوص، بما عمل على التنفيس، وبدت معادلاً صوتيًّا لتطهير الذات أو تقديرها! أما المقيد فبدا – في رأيي - معادلاً للضيق والضجر، وفي تكريرته صوت الرويِّ الرائي ما يدعم تأفُّفَهُ وغضبَه!

                                        

 

(2)

    هذا شيء من المحب المبدع، أما الحبيبة شريك الإبداع.. فلا نعلم إلا أنها خمرية اللون، التقيا لأول مرة بالزقازيق، ونص (طلب صداقة 88) ينبغي أن يُضافَ إلى جملة نصوص لا تتصل بالتجربة، يقول بالنص:

طلبُ الصداقة من حبيبِ حبيبي ويزيدُ مَنْ قد أرسلته كرامة (....) حروف كم أهيم لذكرِها أما (....) فهْو نجم أحبتي فَلَكِ ابنتي كلُّ التحايا والمُنَى   يحظَى بكلِّ حفاوةِ الترحيبِ اسمٌ له في القلب نَفْحُ الطيب في ذكرياتٍ كالشذا المسكوب ولمن تنسَّبَ (للصفاء) حبيبي ولكم دعائي يا أعزَّ قلوب

   وفي مقابل غيبة اسم الحبيبة عن الديوان، ووضوح سماتها، تبدو تجربة الدهشان أقرب إلى المثال، لا يرتبط بزمان أو مكانٍ، وإنما يرتبط بالإنسان المحب على هدى الإيمان، ومن ثم يمكن أن يتَّخذَ الديوانُ نموذجًا لشعر الحب العفيف، يحذو حذوَه، ويطور من تقاناتِه وفكره، كلُّ من أراد صلاحًا وإصلاحًا ومن قبلُ إبداعًا وجمالاً. وإخفاء الاسم واحدٌ من تقاناتِ عذريةِ الدهشان وخلقِهِ ، وفي مقابل كتمان الاسم، فإن الدهشان – ولأنه لم يأت ما يخدش المروءةَ – يتمنى لو ذاع حبُّه ، لا على نحو ما قال جميل عن حبه بثينة:

ألا لا أبوحُ بحبِّ بَثْنَةَ إنها      أخذت عليَّ مواثقًا وعهودَا

بل يقول الدهشان قاصدًا إلى الحب المثال، معنيًّا بالرسم لا بالاسم: (الديوان 96)

لقاؤكِ أطربَ الرُّوحا ووجهُكِ لا يفارقني فليت يصير ما قلـ ليُعْرَفَ ما الهوى الراقي أيا نجمًا بحسباني ودونكِ بوح أقلامي   وبات القلب مشروحا يفوق الحسْنَ ممدوحا ـناه للعشَّاق مطروحا أيَا سعدي وإشراقي ويا شمسًا بأحداقي تلألأ فوق أوراقي

   وتحولات الحب من صَفْوٍ لهجران(20)، وقعها بالنفس وخْزِيُّ الأثر، غُصِّيُّ المذاق، يدمي القلب ويحير العقل.. وربما وصل بالحبيب إلى الجنون، ما لم يكن له من إيمانٍ عاصمٌ ووازعٌ .. عن هذه التحولات يقول في (بكاء وبكاء بالديوان 92) ومؤرخًا في 14/6/2012

كم ذا لأجلك قد بكيــــــــــــــــت لرقة الحسِّ

والآن في تيه المنى أبكي على نفسي

     ويبدو أن المحنة طالت.. فتواترت أسئلته الحائرة، وتساؤلاته الحزينة مجدَّدًا في (أسئلة حزينة بالديوان 153) حين يقول مؤرخة في 8/12/2012:

كانت حروفكِ في السماء بُدُورَا ثم استحالت دون ذنبٍ غُصَّةً فصرختُ من ألم الجفا متأوِّها أيكون طعمُ الشهد بعد حلاوةٍ هل للجداول أن تسيل عذوبة   وتشع من ألق البهاء النورا والحرف يؤلِمُ إذ يصير عَقُورا ونَزَفْتُ شعرًا محنتي مقهورا في حلْقِ ذائقة الجمال مريرا للروض ثم تصير بعدُ سعيرا

   بعَجُزِ الوسط من المقطع، بدت المحنة، وأثرها النفسي والإبداعي ماثلاً في جلاء ، يقرر أن أزمةً طالت نبلَ العاطفة ، فشابها شيءٌ من تمنُّعٍ.. وربما سوءِ ظنٍّ، والمحنة كما يقول الديوان هي هجر بلا ذنب منها، يقابله منه اعتزاز بالنفس وإباء، يقول في (محنة بالديوان 140) يرد على عطية الوِيشي: (21)

لا الرفق أجدى يا حبيبُ وليتني لكنها الأقدارُ أغرت مهجتي فمضيتُ عذريَّ البراءة لم يَطُفْ والآن يأنف كبرياءُ العقل من ويرى جفاء الحب منزل عِزَّةٍ وإلامَ لا أدري ستبلغ محنتي فاذكرْ أخاك بدعوةٍ فعسى التي   ما كنتُ قد أحببت ذاتَ تَدَلُّلِ بالحب خايلني وقد كنت الخَلِي هجرٌ بلا ذنب بأفْقِ تخيُّلِي خفض الجناح لحائرٍ متبدِّل والقلب يدعوني لذلِّ المنزل ومتى عذابي في الحياة سينجلي لم ترحم القلبَ الشجي تَرِقُّ لِي

ويبدو أن فجوة منكرة تتصل بالمال، ووشاية ما، وسوء ظن ربما من الحبيب .. لموقف غير مقصود أو قول مدسوس .. ربما .. هي المسئولات عن المحنة التى اختطَّتْ – فيما يبدو – من سطور الرواية أكثر مما اختطته سطورُ الرضا والوصال، يكشف عن تعدد أطراف المحنة، وتأبِّيه عن البوح، وتمنيه البراء، ورضا الحبيب فيقول في (مراعاة بالديوان 54):

شكرًا لمن ظنوا بيَ الخيرا ما كل ما أدرى سأذكره فلعل من أرعاه أن يرضى   وقدِ التمستُ لغيرهم عذرَا مهما توقَّدَ في الحَشَا جمرا ولعلني من محنتي أبْرَا(22)

   هي على الراجح محور المحنة، ساء ظنُّها به، ثم لم تسمع له.. فيما يبدو. فصار متَّهمًا بلا ذنب جنته يدان، أو اقترفه لسان.. يقول في (اتهام بالديوان120):

أجللتكم ثم ألصقتم بيَ التُّهَمَا فليتني قبل أن أمسي بأعينكم   وصِرْتُمُو في الخلاف الخَصم والحَكَمَا كما ترون استحالت سيرتي عَدَمَا

   على أنه وهو العزيز. حاول استعادة الوصال وتبرأة الذات، وإن بالاعتذار، يقول فيما يقرر عزة نفسه وإباءها مُضِيئًا لنصه الشعري (تساؤل بالديوان 129) بمقدمة نثرية منها:

  (قلت.. عندما تعتذر لأحد عن شِبْهَ جُنْحَةٍ اعتذارًا يعفيك من جناية وتظل الأمور كما هي، فتأكَّدْ أنَّ له حساباتٍ أخرى، وأن في الأمر سرًّا لا تعلمه، وعلى إثر هذه الكلمات جادت القريحة بهذين البيتين:

هبيني دون قصد طاش خطوي وهل كان التربُّص في انتظاري   أما يكفي عن الخطأ اعتذاري فَفَهْمُ الأمر جلَّ عن اقتداري

    ويبدو أن اعتذاراتٍ عدةً جرت بين الحبيبين ، منه لها مرة ، ومنها له أخرى .. ما يشير إلى حساسيتهما وانصافهما .. وربما تقديرهما كلٌّ للآخر، أما الحساسية، فلتعدُّدِ مرات سوء الفهم .. والخصام .. وربما المعاتبة، وأما الإنصاف فلتبادلهما الاعتذار؛ فجلَّ من لا يخطئ، والتغافر من سِيما المحبِّين.. يقول عن اعتذارهما في (لمسة حب بالديوان 69): "وهو زماناً قبل اعتذاره السالف":

حروفُ اعتذاركِ جاءت إليَّ وأحسست كفًّا حنونًا تدانت هناك تمنى احتضانَكِ قلبي وأيقنتُ أنكِ رفقٌ ولين حروف اعتذارك جاءت تداوي   فسال لها الدمع من مُقْلَتَيَّا بلمسة حب على كتفيا وأن أحتويك بكلتا يديَّا(23) وودٌّ وشوق تسامى جليا جروحًا لها الروح تبكي مليَّا

    وبالديوان ما يشير إلى أن تباينًا ماليًّا بين الحبيبين لم يكن لصالح المبدع، يُسْأَلُ عن الجفوة ربَّما، وعن إحساسٍ يتردد بالديوان مفادُهُ أن المال عصب الحياة، وأن الفقر عدوُّ الحب .. على نحو هادئ يقول دون أن يقصد إلى ذاته وحدها، فالعبارة عامَّةٌ بالأبيات في قوله (ماذا لديك بالديوان 121) والمؤرخة في 22/8/2012:

ماذا لديك لكي تحَبَّ وتجتَبَى عصبُ الحياة المالُ لو، ما حُزْتَهُ   سيف التكسُّبِ في يمينك قد نَبَا ومضى الهوى إيَّاك أن تتعجبا

    وللتاريخ أشهد لو أراد الدهشان مالًا لحصل منه ما جعله وفيرَ المال .. لكنه يأبى لأدبه إلا أن يكون رساليًّا حرًّا ، لا يمسك بقلمه صاحبُ فضل، فلله دَرُّهُ، ثم هو يعلنها صريحة ذاتية مؤرخًا في 20/10/2012 في نهاية (ربما بالديوان 143) فيقول محسناً إليها، وملقيًّا  باللائمة على خفة حظِّه من ثراء المال، وهو الفغني بإبداعه وخلُقِهِ:

هي حاولت أن تستحثَّكَ للذُّرَى والفقر في هذا الزمان نقيصةٌ فاسْمَعْ نصيحةَ مخلص وَدَعِ الهوى لا لا تَلُمْ إلا غباءك وانْكَشِحْ   لكن أبيتَ ولم تَجِدَّ مشمِّرَّا والشعر دون وجاهة قد يُزْدَرَى إن لم تنل في المال حظًّا أوفرا أين الثريَّا يا سفيه من الثرى؟

(3)

   شعر الدهشان في "خمرية اللون" عذريُّ الصَّبْغَةِ والطابَعِ ، فيه كل أمارات العذرية.. الإسلامية .. العربية، لا تفارقه من المطلع إلى المقطع، ومع أن دال (العذرية) ذاته لم يرد بالديوان إلا مرة يتمية في قوله  (الديوان 140):

.. فمضيتُ عذريَّ البراءة لم يطف              هجر بلا ذنب بأفق تخيُّلي

فالحق أن تجربة الحب لم يَشُبْهَا شيءٌ يخدش من عذريةٍ في قليل أو يسير.. ومن البين أن (الخمرية) ساعدت هي الأخرى على اصطباغ الحب بالعذرية، حين اتَّسَمَتْ بالوقار والحكمة والوعي، وإن لم يمنع ذلك كله من كرم وجداناتها ، وفيض أحاسيسها المبرَّأة..

   إنها لم تُسْمِعِ المبدعَ من كلمات الحب أيًّا مما يُتْبَذَلُ على ألسنة ممثِّلي العِشق، ومُدَّعِي الحب.. هىي أحاسيسُ ومشاعر، تُحَسُّ ولا تجس، يقول الدهشان عنها (الديوان 44):

لا لم تَقُلْهَا مرةً أهواكا وأنا اكتفيتُ بما أحسُّ من الذي وتجشَّمَتْ نفسي الصعابَ لعلني ورجعت من بعد الوقار إلى الصِّبَا   يا أيها القلب الضنين بذاكا تُبْدِيهِ حتى دون أن ألقاكا فيمن أراهم في الحياة أراكا ونظرتُ من سفح الدُّنَا لذُرَاكَا

   إن نبل المقاصد وطهر المقصد ، واستصحاب المراقبة ذاتيًّا وإيمانيًّا صبغت التجربة واقعًا وإبداعًا بالنبل والطهارة، وهو ما بدا واضحًا في (عود حميد بالديوان 173) حين يقول الدهشان :       عود حميد ووصل في مدى العمر         ما دام فى الكون نجم ساطع يسري

ما دامت الشمس تعطينا أشعتها ودام ما بيننا صفوًا يعطره ودام قلبك في هذي الدنا وطني أما دعائي فما أنْفَكُّ أرفعه وفي منامي طيوف الحلم تعرفه فإن أراد الذي يدري بعاطفتي   والنيل بالخير في أرجائنا يجري نبلُ المقاصد لم تعرف سوى الطُّهْر ودام وجهك في ليل الدجى بدري من مطلع الفجر حتى ركعة الوتْر يجتاح أنفاسها بوحٌ من العطر غير المراد فحسبي أنه يدري

   إن عين المحب العذري لا تعبأ بقسمات الوجه، أو ملامح القوام، أو لون العيون .. بل يَعنيها ويُعنِّيها .. يسعدها ويشقيها ، يملؤها حبًّا وهيامًا جمال الروح ونبل النفس، ورقة الطباع، ودماثة المسلك.. أما المظهر، فنقرؤه بعين المحب، يلتذ بتسامي الأرواح، ولذا فأبسط ما يلقاه المحب من حبيبه يكفيه ويشفيه، ويملأ كيانه إشراقًا وأملاً وحياة، يقول الدهشان في (يا للحياة، بالديوان 8):

قرأتُ في وجهها والعين لم تَرَهُ فصرت أهفو لما خطَّتْ أناملُها وصرتُ آمُلُ أن ترقى لها لُغَتي   ما راق للروح تمثيلاً وتشبيها وأنتشي من حروف الصدق مِن فِيها لكي تضيئ بومضٍ مِن مآقيها

والأمر لا يعني بحال أن العذري، لا يرعى للبدن والجوارح اهتمامًا .. إنما الأمر عند العذري، طالما أنه يرى الحبيبة روحًا نبيلة لا جسدًا جميلاً، الأمر أن يرى كل جوارح الحبيبة جمالاً طاهرًا مطهرًا، وفي حديثه عن هذه تكثر الدوال العذرية بسياق عذري كامل: (المعالي، الأماني، الندى، العذوبة ، السَّماحة، السنا، بلسم، حسن، رفق، لين) على نحو ما نجد في قوله كاشفًا عن حبٍّ لا كحب أكثر المعاصرين ، بل حبّ كأعظم المتحابين الشرفاء (هكذا أراك، بالديوان 89، 90):

أيا عينين عانَقَتَا المعالي ويا ثغرًا يجيئ الحرفُ منه ويا لغة ترفرف في فضاء وتستطع في سماء الحب شمسًا ويا سمعًا يتوق لكل حسنٍ ويا عقلاً إذا التبست أمورٌ ويا فكرًا عميقًا في رؤاه ويا قلبًا سليمًا فيه رفقٌ ووجهته إلى جنات عدن   فأتعبت الأمانيَ والطموحا نديًّا في عذوبته سَمُوحا وفي أفق الهوى تبني صروحا سناها بلسمٌ يأسو الجُرُوحا ويحترم الصراحة والوضوحا تبيَّن ما حقيقتها رجوحا يجوب تأملاً كونًا فسيحا ولين يطلب البيع الربيحا إلى كنف الرضا يهوى الجنوحا

    ليس الحبيب هنا شحم ولحم، بل قيم وممارسة ، خلق ودين، نبل وطهر، وفيما يبدو فإن انجذاب الحبيبين تأسَّس على مشترك خلقيٍّ فكري كبير، وكأنهما تربَّيا على مائدة واحدة وشيخ هو هو، وبيت يرعى الفضيلة ويقصد إلى مرضاة الله .. ومع أن النص يعرض في ثنايا انبهار الحبيب بجمال الحبيبة (العيون والثغور والحديث) فإنه يعرض كذلك( للعقل والفكر والقلب).

    ويبدو أن الرجل الناضج، بعد أن تعركه خطوبُ الحياة، لا يحب إلا بعقله ، بعد أن أرداه قلبُه بالشباب، فأورده المهالك، ولذا يتوافق الناضجان في دنيا الحياة عقليًّا وفكريًّا. وربما تخالفا في غير ذلك. وبالنص العذري .. كثير من أمارات الإيمان.. وذكرها بهذه السياقات الوجدانية من أول دلائل العذرية، وعدم الانسلاخ عن رسالية الإبداع المقررة.. من ذلك (القلب السليم، البيع الربيح، جنات عدن، كنف الرضا) فضلاً عن "يجوب تأملاً كونًا فسيحًا" الأمر الذى يعصم من زلل أو تجرُّؤٍ.. لكنه الأمر الذي يفلت دوعًا بسببه الحبيب من حبيبه، صدق الرافعي حين قال في "رسائل الأحزان"(24):

     (الرجولة والضمير والدم الكريم : ثلاثةٌ إذا اجتمعن في عاشقٍ هلكَ بإحدى ثلاث ؛ بتسليط الحبيبة عليه وهو الهلاك الأصغر، ثم فتنته بها فتنة لا تهدأ وهو الهلاك الأوسط، ثم إنقاذها منه وهو الهلاك الأكبر، ألا إن شرف الهلاك خيرٌ من نذالة الحياة).

   ومن الحق أن تعدد شواهد كل ملمح من ملامح عذرية الدهشان يقف شاهدًا على ثبات التصور، والصدق، وعلى رسالية الإبداع، ولقد بدا واحدٌ من أجلى مظاهر العذرية فى الديوان متمثلاً فى إخفاء اسم الحبيبة، وإن لم يخْفَ رسمُها أو وَسْمُها، بحيث وإن فهم في بعض الإبداع عنها أنها نموذج أو مثال، فإنها على الحقيقة امرأةٌ .. حديثة .. جميلة رآها .. وتحادثا، وانتابت صلتَهما هناءةٌ  وجفوة .. وصلٌ وهجران، هو يورِّي عن اسمها بوسمها، حين يكشف عن حفظ وتعهُّدٍ لعذرية غزله  (الديوان 131) فيقول:

ولفرط إعزازي لها ســــــــــــــمَّيْتُها مولاتي

والعهد أني ما حَيِيتُ تصونها أبياتى

     ثم يشير إلى أنها امتلكت عليه نفسه ، يسمها ولايسمِّيها ، فيعدد أوصافها ولا يلمِّحُ إلى اسمها.. يقول (الديوان 15):

أنت الحبيبة حتى دون إعلان يا شهدَ ذائقة الإحساس سكَّرُه يا أخت شمس الضحى للدفء باعثةً يا نسمةً في هجير العمر باسقة يا بسمة كلما انسابت إلى رئتي يا أنت يا نبض قيثاري وملهمتي   يا روحَ روحي ويا أعماق وجداني جناه نحلُ الهوى من كل بستان إذا الصقيع سرى يغتال تَحْنَانِي ترطب الكبد المقروح والعاني ترقرقت في دموع الفرح عينان يا لحن حبٍّ جرى من فيض أشجاني

   والعبرة إذن لدى العذري بالسمات لا الأسماء.

3/1 والعفة هى أبرز طوابع الشعر العذري، هى الطابع المهيمن إبداعًا .. وعلى الراجح واقعًا، وهما يقينان عند الدهشان لمن يعرفه، إن الحب على نحو ما ورد بالديوان هو حب التسامي والتطهر، حب التفاني والتعقُّل، إنه حب المعاناة والإبداع، كما أنه حب المناجاة والاتباع .. يقول الدهشان في (أهفو إليك بالديوان 26):

لكِ الحب أيتها الغالية لك الحب من عمق قلب طهور يراك بعين الفؤاد جمالاً لك الحب يا من أتاني هواها   عفيفًا وآماله ساميةْ تراءت له روحُكِ الصافية يعود به للمنى الغالية لجرحي المعنَّى يدًا حانية

إنه حب العطاء الروحي المتبادَل.

3/2 والجمال عند العذريين هو جمال الروح والنفس قبل أن يكون جمال العود والأنف، أو العين والوجه، أو الشعر والقَدِّ.. يقول الدهشان (الديوان11):

ولروحها سحر ترتِّلُ آيُه        لغةً بها الإيحاء خمرٌ يُسْكِرُ

   والشعر عند الدهشان لا يكون حتى يمتع بجمال النفس، وإلا يشقى ويشقى به صاحبه، إن الشعر الدهشاني يكتبه الوجدان وتمليه الأحاسيس.. لا يكتبه سعارُ الجوع ولا صراخُ الشهوة .. يقول في (لا تسأليني، بالديوان 106):

أنا أصوغ أحاسيسي كما هتفت لا يسعد الشعر مَنْ تسعى مسالكُه فمن أراد من الأشعار مكرمة     بها الجوانحُ للأقلام تُمْلِيها لنفس مبدعِهِ بالقبح تشقيها فإنه بجمال النفس يَجنِيها

   يجذب العُذريَّ إلى حبيبه حديثُه العذب ووجهُه البرئ، وسلامة الطوية، وطيب الأخلاق، وصدق الحنان ، وظرفُه الوقور ، ولين جانبه.. وتلقائيته وبساطته .. ووضوحه، وإيمانه، يقول الدهشان في (من أصداء اللقاء، الديوان 98): وأنها باختصار مثل ما قال الكتاب:

حديثك دونه الشهدُ المذَابُ وأقسمُ أنني حين التقينا جمال طوية في حسن سَمْتٍ حنانٌ كالنسيم إذا تهاوى ورفق كانسياب النيل يجري وتلقائية لا لَفَّ فيها بساطة واثق دون ابتذال سموٌّ في شموخ العز يأبى   ووجهك في براءته يُهَابُ وجدتك مثلَ ما قال الكتاب وأخلاق تجلُّ وتستطاب وظرف لا يُمَلُّ ولا يعاب وينهل من عذوبته الرحاب ولا الدوران يعرفه الخطاب توكُّل ذات صدق واحتساب لغير الله أن تحنى الرقاب

   إن اليسير جدًا من الحبيب حين يبذله صادقًا لحبيبه، يسعده .. ويبدِّل حاله، ولعله حلَّق باليسير إلى آفاق لا يرقى إليها مجرد البذل، بل ما يعينه هذا البذل عند الطرف الحبيب.. وعنده، فأن يحادث الحبيبُ حبيبه أو يطوف به في منامه، فيصبح يخبره.. فتلك حيازة الدنيا عنده، يقول الدهشان في (حلم بالديوان 83):

وقالت لي رأيتكَ في منامي وصرت كأنني طفلٌ صغير   فأسكرتِ الفؤادَ بلا مدام يحلِّقُ فوق أجنحة الغمام

ومهاتفة الحبيب عزفٌ بأذن حبيبه، ربما سال لها دمعُه، يقول في (صدى صوتها بالديوان64)(25):

ما زال صوتك مثل النايِ في سمعي بين السماء هنا والأرضِ أذكركم   ومن سعادة قلبي قد جرى دمعي أقول يا ربَّنَا يسِّرْ بها جَمْعِي

   هذه المهاتفة التليفونية تفعل بالمحب الأعاجيب، وربما أبدع المحب الشاعر إثرها، ما يشبه القصة الشعرية، تحكي فعل المكالمة ووقعها بنفسه، وكيف احتال ليخفي سرَّه عمن حوله، يقول في (مهاتفة بالديوان 57):

من بين جدب الصمت تخرج أحرفٌ فإذا بوجهي يكتسي بسعادة أمضي بعيدًا لست أعبأُ بالألى وبعذب صوتك أنتشي وأودُّ لو من ذا المحدِّثُ؟ ربَّ ينطقها فَمٌ وأودُّ لو أني أقول لسائلي   ورنين نقَّالي برمْزِكِ يهتفُ وإذا فؤادي في الحشا متلهف حولي ويهرف كلُّ من لا يعرف أنَّا يطول بنا الحديث ونسرف فأرد لكن في الجواب أسوِّف لو قد سمعت لقلت لي مَنْ يعزف؟

    وبمثل ما يعجب العذري ويأسره زكاء الروح، فإنه يجذبه ويثيره ذكاء العقل.. فهو جماله لديه .. إن الشاعر في وجه من وجوه إبداعه مفكِّرٌ، بل لقد رآه بعض النقاد قديمًا كالنبيِّ، ولذا فهو ينجذب أبدًا إلى سمو الفكر، والعقل الذكي، وكأنه يحب بعقله.. يقول الدهشان عن (خمرية اللون) ص8:

علوية الفهم والتفكير تحسنه لا تقطف الفكر إلا حين تُنْضِجُهُ وفي التلقي ترى ما ليس تبصره   والنصح من فطنة للبرِّ يهديها قريحة تمنح الدنيا غواليها إلا قلوبٌ كأنَّ الوحي يأتيها

   وحديث الحبيبة مِسْكٌ، ولرسائلها عطر محبَّبٌ يهدهد الأشواق كلما اشتعلت يقول في (تشوق، ص 23):

نفسي التي من سحاب الحب أرويها وكلما زادت الأشواقُ هدهدني   شوقي للقياك من أغلى أمانيها عطرُ الرسائل كالأزهار يزجيها

ويقول في (مثال رفيع، ص 109):

لها الحديث كأن المسك أحرفه ومن دلائل هذا أنها عشقت له مع الفقر تاريخٌ يَتِيهُ به له   وتزدهي في الثنايا حكمة الحقب مَنْ لا يجيد سوى الأشعار والخطب ولم ينل بين أهل المال من رتب(*)

3/3 من ملامح عذرية شعر الدهشان الغزلي، سمو الحبيبة عند الحبيب ، فلا يراها إلا سامية بريئة عن كل ما يشين، وإن قلل هو من شأنه العالي! من بواكير قصائد الديوان يراها كذلك: إذ يقول في (ياللحياة ، ص 7):

صادفتها رقة فوق الندى ألقًا           وفوق فوق الثريا في تساميها

هو يراها عنه بعيدة، غير أنه لا يترك فرصة الإمساك بسعادة تهيَّأت له، نعم هو يدرك ما بينهما من فجوة يقدرها العرف فحسب، إذ ليس لها في ميزان المحبين شأن، هو إلى ذلك يرى الحبيبة في الجوزاء ويرى نفسه.. بين الأحجار والحُفَرِ .. لكنه لن يفرط في الارتواء من نهر الحب طالما تهيَّأ له، كما أنه لا يطلب الشكل أو الإطار بل يطلب المضمون، أن يعيش حبًّا يثير إبداعَه ويهذب روحَه، ويسعد أيامه، يقول في (حيرة 38):

أرى الحبيبة في الجوزاء مسكنُها لا وثبتي في الفضا يومًا ستبلغها وليس في طاقتي إذ لاح لي قمر وليس في طاقة الظمآن صادَفَهُ والكوب في لؤلؤ لا لست أطلبه   وأرض خطوي هنا الأحجار والحفر(*) جهد الجناح عن الآمال ينحسر أن أترك الحلم في الظلماء يندثر نهرٌ بأن يرتجي في صف من صبروا إني على الماء ما أملت يقتصر

    إنها مليكة عنده.. يبذل أقصى ما يملك ليبلغ ما يليق بها، ومع إيمانه بالعجز عن بلوغ ذلك، فما عليه سوى بذل الجهد، ولا يعيبه هذا، فلربما كان القصور من غير علة .. يقول في (قصور 65) كاشفًا عن تسامي قدر الحبيبة وسعيه لبلوغ ما يليق بمليكته:

أجد الحبيبة قد تسامى قدرُها أسعى لأبلغَ ما يليق مليكتي وبرغم أنك فوق ما آتى به بعض القصور يكون لا من علَّةٍ إن الجمال بلا قناع كفؤهُ   عن جهد فكري أو مدى إبداعي بالحسن فطريًا بغير خداع يكفيه أنْ بذل الجهود الساعي والعين تغشِيها قوى الإشعاع قلبٌ قريحته بغير قناع

     هي كذلك بريئة عن التسبب في أي ألم يناله من حبه، تجل عن اللوم وتسمو على العتاب، وإنما الذنب ذنبه، حين عانده الحظ، وغبنَهُ واقعُهُ.. يقول في (وما في الأفق إلَّاك 59):

ولا ألومك فيما كان من ألم فليس ذنبُكِ أن الحظَّ عاندني   فما أجلَّكِ عن هذا وأسماكِ وعن مدى واقعي المغبون أقصاك

    3/4 وقد بدا في شعر الدهشان الغزلي العذري، أن إيمانه حاضر لم يغب، وأن أخلاقه راقية لم تسقط ، لقد تلبَّس الوازع الإيماني بكل تفاصيل تجربة الحب لديه، فهو دائم المراقبة، يرعى دومًا ما يليق، فضلاً عما يجب، وحينما تصطبغ تجربة الوجدان بالإيمان يكون الإبداع اللائق بمبدع رسالي كالدهشان، يبدو الإيمان بهذا الشعر العذري صابغًا وطابعًا وضابطًا لإيقاع الوجدان وخطرات النفس، في مخالفة رئيسة لنهج العشاق الشهوانيين في اهتبال كل ما يتاح ولا يباح! .

     هو يدعو الله أن يديم ودادهما، ولا يدعَى إلا بمباح .. يقول في ختام (صحوي كحلم12):

سطرتها في خافقي أسطورة ودعوتُ ربي أن يديمَ ودادَها   من مستحيل الغيب جاءت تخطر فهو الذي إن شاء أمرًا يقدر

    ومن قديمٍ فإن استعانة العذريُّ بالله أن يخفِّفَ عنه ما يلقاه من تباريح الصبابة  وآلام الحب قائمةٌ، يقول عروة بن حزام وقد لاقى من عفراء ما يلقاه كل عذري صادق:

تحمَّلْتُ من عفراءَ ما ليس لي به فيارب أنت المستعان على الذي كأن قطاة علّقت بجناحها   ولا للجبال الراسيات يدان تحملت من عفراء منذ زمان على كبدي من شدة الخفقان

    لا يشكو الدهشان إلا من لواعج الهوى، مستعينًا بالله أن يرحمه، يقول (ص36):

رباه جمر الهوى يجري بأوردتي                فارحمْ بلطفٍ فؤادًا كاد يحترق

    إن الحبيبين العذريين يلجئان ضارعين إلى الله وحده أن يحقق آمالهما دون تصريح المتجرئين، بل بتلميح العذارى من ذوي الخَفَرِ والحياء، كلا الحبيبين يضرع، وربما ألمحت هي وصرَّح هو .. لكن الأماني واحدة ..  يقول الدهشان في (تناغم 25):

أشارت وصرحت والشوق نبعٌ وصرنا ببحر الهيام حيارى وتدعو إلهي أنلنا الأماني   سقانا جنى الحب حتى ثملنا نود لو انَّا لشطٍّ حُمِلْنَا فأدعو أَنِلْنَا أنلنا أنلنا

     والمحبون العذريون .. لا يجزعون، فإن فاتهم! اجتماعٌ ولُقْيَا بالدنيا، أو اعتراهم هجرٌ بعد صفاء، أو تقطَّعت بهم الأسباب، وعز اللقاء؛ إذ يطمعون في الآخرة بلَمِّ الشتيتين بعد ما ظُنَّ أنْ لا تلاقيا، يقول الدهشان(9):

لسان حالي إذا ما الحظ عاندني لو لم تنل في الدنا نفسي بها أملا   وديمة الشوق لم تهطل لظاميها فعند ربي غدًا تلقى أمانيها

ومن قديم قال جميل بن معمر، وقد تيمته بثينةُ، كاشفًا عن أبدية وديمومة حبِّه إياها حتى بعد الممات ، لأنه ! كان من قبل الخلق!؟

تعلَّقَ روحي روحَها قبل خلقِنَا فزاد كما زدنا فأصبح ناميًا ولكنه باق على كل حادث   ومن بعد ما كنا نطافًا وفي المهد وليس إذا متنا بمتنقص العهد وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

    والدهشان لا يبالغ هذه المبالغة، إذ يكفيه شعر إحساسه وذكر ما يؤمن به، يؤكد وفاؤه لحبه ولحبيبته، وتأمله في أن يلتقيا بالآخرة، فيقول (118):

أنا أحبك حتى حين تهجرني وإن تغيرت حتى دونما سبب فسوق أبقى على عهدٍ تملكني   ولا أراك سوى تاج المحبينا (وناب عن طيب لُقْيَانَا تَجَافِينا) لعلني ألتقيكم عند بارينا

   بل ما بعد الموت من نار أو جنة، لا يتحول معه الدهشان عن حبه، إنه يتجاوز القبر واللحد .. إلى تأمله أن يصحب حبيبه إلى الجنة، يقول (45):

..لا تجزعَنَّ فسوف أحمل في الحشا حتى تغادر في الحياة وبعدها إن صرت من أهل النعيم برحمة   لك ما تحب على مدى مرآكا في قبضة الأقدار لن أنساكا فسَأَسْأَلُ الرحمنَ عنك هناكا

3/5 ومن جمال الحب العذري وشعره أنه يعمل برفق.. ودقة، وربما بقوة في تهذيب النفس والعمل على شفافيتها وتعديل السلوك، والتناغم مع الكون؛ إذ يراه المحب العذريُّ كلَّه جميلاً، حتى في حالات  بخله أو ضعفه أو في بعض مظاهر قبحه. هذه التحولات والآثار تطال الحبيبين، يحصل منها كلاهما حسب مدى عفافه وعذريته. ويرى الدهشان لذلك أن المحب هو أسعد من في الأرض وإن لاقى من الحب المرَّ ، يقول معارضًا لنتفة الشاعر الدكتور طلعت المغربي (الديوان 102) (26):

وما في الأرض أسعد من محبٍّ تراه محلِّقًا في كل حينٍ وحتى إن بكى من نأي حب فهذا الدمع يجعله شفيفًا   وإن وجد الهوى مُرَّ المذاق بآمال وأحلام اشتياق وحتى إن بكى خوف الفراق تَحِنُّ مناه يومًا للتلاقي

   وتعتري العذرى بعد أن يتلبسه الحب الطاهر تحولاتٌ تجعله في حينٍ ذاهلاً عن الناس من حوله، وتتغير عاداته. وربما بدا التحول في تغايرٍ ينال من ولاءاته وقناعاته التي ظلت ثابتة قبل الحب، فيقبل ما كان يرفضه ، ويحب ما كان يبغضه .. يكشف الدهشان عن هذه التحولات في (وما في الأفق إلاك 58) فيقول:

..وأنني هائم في إثر أمنية وأنني بين مَنْ عاشرتهم زمنًا ويشرد الذهن عنهم لا أرى أحدًا ويبرد الشايُ في كُوبي وما عهدوا   أهفو ليوم به أحظى بمرآكِ أبدو غريبًا وما في الأفق إلاك إن راح يسعى لساح البوح إدراكي هذا عليَّ بعمري قبل لقياك

   يؤكد بجلاء هذا التغير في السلوك والقناعات بحبها ولأجلها هي، فيقول في (لأجلك 50):

لأجلكِ غيَّرتُ بعضَ المسالك وأحببتها شهر زاد الخليج   وأمَّلتُ أن تستريحي لذلك وأصبحت حتى أحبُّ الزمالك

   ومن غير شك فإن العذري وهذا حاله يحرص على إسعاد حبيبه بكامل رغبته وطاقته، مستعينًا  في ذلك بالدعاء أن يحق الله أملها، وإن يسعدها وإنْ مع غيره، وأن يقسم لها الخير حيث كان، معه أو مع غيره، يقول (صباح العيد، بالديوان  116):

إلهي فاقسِمِ الخيرَ المرجَّى              لمولاتي الحبيبة حيث كانا

   يدعو تعالى أن يرزقها شهمًا يليق بها، فيقول (محاولة للوداع، بالديوان 119):

يا ربّ قيِّضْ لها شهمًا يليق بها                في كل شيء ومن أهل المروءات

   بل إنه يرى نفسه مسئولاً عن تطبيب جراحها وتذويب آلامها، ويكلف نفسه عبء الاعتذار نيابة عن كل نصلٍ غادرٍ طالها ونال منها ..! لقد صار الحبيبان واحدًا فتكافَلا وتكاملا حتى قبلَ أن يلتقيا.. ومن بعد أن يتقاطعا..! يقول في (حيرة بالديوان 39):

أود أني بكف الحب حانية إلى ابتسام وبشر في تألقه أود أني برفق القلب رائعتي   أحيل دمعًا على خديك ينحدر ينبوع نور من العينين ينفجر عن كل جرح لنصل الغدر أعتذر

   لقد ملكت الحبيبة على حبيبها حياتَهُ، ونفسه ، بل صار يراها في كل شيء جميل حوله، لقد تحولت حياته بها إلى جنة، وهي التي كانت عامرة بالحزن والبلاء.. يقول (ص11):

ولَّى أنين الحزن من تلقائه وكأنما كوني استحال لِجَنَّةٍ وأنا الذي ما خلت أنَّ بلِيَّتِي حتى تراءت للفؤاد مليكةٌ   وبراعم الأمل الوليدة تزهر أشجارها في كل حينٍ تثمر تطوَى وأسباب السعادة تنشر من ثغرها شَهْدُ المعاني يقطر

    إن الحبيب العذري يرى حبيبه في كل عناصر الكون والطبيعة .. ليس هروبًا من الحبيبة إلى الطبيعة .. ربما استدعاء لها عبر الشمس والقمر والزهر والنجوم .. بل إنه ليذكرها مع العبادة والدعاء في ملمح عذري إسلامي عجيب .. يقول "وحيد الدهشان" في نصه "وأهفو إليك" بديوانه (إلى خمرية اللون 27):

وأهفو إليك إذا زُرْتُ روضًا وأهفو إليك وحولي النخيل وحين أناجي النجوم بليلي وفي الفجر عند انسياب الدعاء   وحين أمرُّ على ساقيةْ وحولي زهور الرُّبا زاهية وتسري إلى البدر ألحانيه لتسجد لله أوصاليه

    .. والدنيا ربيع دومًا عند العذري.. وصباحه بلون أزهار الربيع والأيام مخضوضرة.. والليالي معطَّرة .. لقد ملأ الجمال روح العذري من حبه.. فبدا صحوُه لجمال ما يعايش كأنه حلم، وبلغ تلذذه بالرؤى مبلغ التمتع بها حقيقة ! وأعجب من هذا كله، أنه يرى الطبيعة الناعسة جميلة حتى حال انحسار بريقها وخفوت جمالها!

   لقد كبر طفل التفاؤل في عينيه، هكذا يُقْبلُ العذري على الحياة محبًّا لكل ما فيها .. ومَن فيها.. يرى كل شيء فيها جميلاً .. يقول الدهشان (ص10):

الأفق في عيني ربيع مبهر والشمس حتى في الغياب مضيئةٌ ونجوم ليلى همسها أنشودة صبحي بلون الزهر في آذاره صحوي كحلمٍ والرؤَى كحقيقة   ومدارج الأيام روضٌ أخضرُ والبدر من خلف السحابة نيِّرُ طفل التفاؤل في عيوني يكبُرُ أما المساء فبالطيوب معطر ما ثَمَّ فرقٌ في الجوانح يُذْكَرُ

(4)

بدت عذرية شعر الدهشان الغزلي واضحة جدًّا من الوجهة المضمونية ، فما خصائص هذا الشعر الفنية، وما أبرز ملامح الأسلوبية؟ .. ومن حقٍّ فإن النقد التطبيقي لدى الأدباء الإسلاميين يميل إلى المضمونية لا الفنية، فلا يعطي اهتمامًا كافيًا للقيم الفنية .. ربما لرغبتهم في تجلية المفاهيم الإنسانية المحمولة بالإبداع، وهي المفاهيم التي يهملها عمدًا التغربيون ومتلقفو مناهج الغرب وأبواقه .. والجميل أن يكون توازنٌ بيِّن في معالجة الإبداع يتوجَّهُ صَوْبَ الرؤية والأداة، فيضيف المبدع .. ولا يتحول إلى ثناء فارغ أو هجوم متحامل، والمسألة ضرورية؛ إذ (إن التوازن في الجهد النقدي وتوزيعه العادل على جانبي المعطى الإبداعي ضروريٌّ، ليس فقط للتحقق بالمطالب المنهجية، ولكن على مستوى الموضوع حيث يتعلق المبنى بالمعنى، ويصير الحديث عن أحدهما دون الآخر مسألة مستحيلة ، أو عملاً فجًّا قد لا يعطي سوى جانب محدود من الصورة)(27).

    وقد تمثلت أبرز خصائص الأسلوب في (إلى خمرية اللون) في:

1- التناص.

2- التكرار.

3- الموسيق والإيقاع .

4- الصورة .

4/0  غلبت النُّتَف والمقطوعات على (خمرية اللون) فاتسمت نصوصه بالوحدة الموضوعة، ووحدة الموضوع بالديوان بذاتها تسهم في هذه الوحدة جدًّا.

وقد نتج عن هذه الظاهرة الغالبة سهولة اللغة وبساطة العبارة ووضوحها شأن كل شعر عذري .. ولعل سماحة نفوس العذريين مع صدقهم هي قبل غيرها المسئولة عن هذه السلاسة والبساطة، والعمق أيضًا! يرى صلاح عيد (أن وحدة الموضوع هي الدلالة الهامة على الصدق، و.. القصيدة العربية لم تُصَبْ بالتفكك والانفصال بين أغراضها إلا حين غاب الصدق عنها، وحلَّ محله الزيف والافتعال)(28).

تبدو خفة الدم المصري ولطافة أسلوبه بارزة بديوان الدهشان الغزلي (إلى خمرية اللون) ففيه كثير من لغة الجماهير وعادات الشعب، ومداعبات الظرفاء، لا المتماجنين، يداعبها وينصص من بين حديثه الحلو عن الحلوى لنوعٍ من أشهرها بمصر، إذ كان يذاع في شبيبة الدهشان إعلان عن (سِيمَا) بطله الفنان "مصطفى الكواوي" فيما أذكر .. فيقول (177):

حلاوة المولد الأحبابُ تُهديها لا تحسبي طعمَها من عذب سكَّرِها وقطرة منه لو (سِيمَا) بها ظفرتْ   لا تسألي ما التي تحلو بما فيها فَرِيقُكِ الشهد قطعًا ما يُحَلِّيها عن كلِّ حلو ستكفيها وتُغنيها

   يستثمر الدهشان من اللغة اليومية.. ربما الأقرب إلى المهنية بعض ألفاظ لها رصيد ثقافي عام يتفق بشأنه الجميع، ويسهم اللفظ اعتمادًا على هذا الرصيد المشترك بين طرفي الرسالة الابداعية في تشكيل صورة تامة الوضوح.. والطرافة.. من ذلك توظيفه لدال (الأرشيف) ف قوله (72) يخاطبها:

أنت التي في خاطري الملهوف         والآخرون هناك في الأرشيف

ولأن تواصلهما كان في أكثر الأحيان – فيما يبدو – عبر الفيس بوك، فقد كثر استخدام مصطلحات العالم الافتراضي الأزرق .. وتعابيره هنا طريفة ظريفة، تنم عن نفس شفيفة، متسامحة، قديرة إبداعيًا، تنفتح ولا تنغلق يقول في (آخر قصائد امرئ القيس 210):

قفا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل .. وأوعدني أن لن أراه بصفحة   على الفيس لا بين الدَّخُول فَحَوْمَلِ ولن يمنح الأنبوكس حرفًا بأنمل

وكما استخدم مصلحي "الفيس، الإنبوكس" استخدم كذلك من مجال الفيس مصطلحات الإعجاب (Like) والبوست (Post) والكومنت (Comment ) على نحو ما يقول في (ترحاب بالديوان 141):

إعجابك أجمل إعجاب و"ولكومنتاتك" رونقُها   و"البوست" سخيفٌ إن غاب ولها من قلبي التِّرْحَاب

والبراعة في نحت (ولكومنتاتك) بادية حين سبقه الجار (اللام) ولحقه الضمير، فضار كأنه اللفظ العربي .. كاشفًا عن خصوصية تعليقها وأثرها الوجداني به.

أما قصيدته (ربما، ص 142) فتتكاثر فيها تلك الألفاظ العصرية .. الحضارية الكاشفة عن انفتاح الذات المبدعة وثقافتها وقدرتها الإبداعية، وأنها من طراز فريد.. وحيد .. يقول عنها وعن نفسه:

هى ربَّما كانت تظنُّكَ مُوسِرًا أو ربما حسبتك صاحبَ عزبة ولديك دخلٌ بالتَّلافِ تعدُّه ولديك (فِيلَّا) مثل والدها الذي فإذاكَ تحيا البؤسَ دون غضاضة   وتقود مازْدَا أو تُقِلُّكَ فِيكْتِرَا ولديك جَالاكْسِي وتملك لانْسَرَا وتعيش في حلل الهنا متبخترا القفر في يده يُرَى مخضوضرا ولمثل قلبك أن يرى مُتَحَسِّرا

     4/1 لغة الدهشان بالديوان سلسلة وتتسم ببساطة التعبير ودقته، وهي قرآنية في كثير من مواضعها، يتكئ على اللفظ القرآني والتعبير القرآني، وهو من قبل ينهج في حبه نهج المؤمنين بجلال أسلوب القرآن ورؤاه.. يقول الدهشان في (منافي العمر 214) منصصًا لكثير من دوال سورتي (البلد، الشمس) المتتابعتين بالمصحف وكأن التنصيص جاء أثرًا لتلاوة ورد يومي!:

مولاة قلبي هنا الإنسان في كبد أليست الأرض فيقانا وأنفسنا لكي تعود إلى الجنات هانئة   هنا البلاءات يحظى من تخطاها قد أفلح اليوم من بالطهر زكَّاها وخاب من في مدى دنياه دسَّاها

  والاقتباس بذاته وبمصدره دالٌّ على عذرية .. إسلامية .. تقررت فيما سبق!

   أما المصدر الآخر من مصادر تنصيص الدهشان بالديوان، فيكمن في الشعر العربي القديم، ويدل على أصالته وهويته العربية المتمركزة بذاتها، واعتماده على هذا الشعر نادراً ما جاء مستلهمًا ومستخلصًا رحيق شعر القدامى على نحو قوله: (ص 209):

هذا صباحي قد غدا كمسائي           داء تمكَّن كان بعض دوائي

   إذ يشتم فيه، ومنه قوله النواسي:

وَدَاوِنِي بالتى كانت هيَ الداء

   وكثيرًا جدًا ما كان تنصيص الدهشان للشعر القديم بلفظه كاملاً، بيتًا أو شطرًا، ودائمًا ما كان ذلك بطرفي النص، مطلعِه أو مقطعِه، وربما جاء سابقًا على المطلع مباشرة.. وقد يردد البيت الواحد للشاعر القديم مرتين، واحدة بمطلعٍ والأخرى بمقطعٍ، على نحو ترديد قول الشاعر:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده         ولا الصبابة إلا من يقاسيها

إذ كرره بمطلع (يا ليته أو ليتها 188) وبمقطع (تشوق 23) من ديوانه.

ومن اتكائه على شعر القدامى بالمقطع (29) قوله بنهاية (ماذا جنيت 76):

ومُكْلِفُ الأيام ضدَّ طِبَاعها   متطَلِّبٌ في الماء جذوة نار

إذ ينصص قول "أبي الحسن التهامي" بكامله دون تغيير .

ومنه قبل المقطع مباشرة قوله في (صدى 136) ينصص كامل قول "يزيد بن معاوية"

فأمطرت لؤلؤًا من نرجس فَسَقَتْ        ورداً وعضَّتْ على العنَّابِ بالبَرَدِ

والظاهرة جلية عند الدهشان، وله تجربة إبداعية متفردة، يقيم فيها على بيت قديم مفرد نصًّا شعريًّا كاملاً، كان قد أهدانيه مخطوطًا، وتاه لظروف حلَّتْ بي، تكشف الظاهرة من ناحية عن تقدير المبدع لأسلافه، وحسن تذوُّقه وبراعة اختياره – له مع الحبيب المبدع ناصر صلاح مختارات شعرية عنوناها بـ (أجمل مائة قصيدة فى الشعر الحديث والمعاصر) – من ناحية أخرى فإن الحس المتمثل (التنصيص) عند الدهشان يريح؛ إذ يجعل للمهموم شريكًا ، وللمعاني أنيسًا، يقول الدهشان (211):

..ورددت ما قالت قريحة مخلص (غزلت لهم غزلاً رفيعًا فلم أجد   وكم متعب يرتاح عند التمثُّلِ لغزلي نسَّاجًا فكسَّرت مغزلي)(30)

      4/2 دعمت تقانة التكرار، غايات الغزل العذري للدهشان بديوانه (إلى خمرية اللون) وعلى تعدد أنماطه ، فغايته الدلالية الإيقاعية واحدة في كلِّ ، أما الدلالة فتقرير الهيام بالحبيبة، وأما الإيقاعية فإظهار الطرب بها وسعادة النفس يحبها إضافة إلى غايات فرعية أخرى.

    من أنماط التكرار ما يسميه البلاغيون (الترديد) حين يتكرر اللفظ الواحد بذاته أكثر من مرة بالبيت الواحد كما يقول الدهشان (25) كاشفًا عن رغبته الجامحة في تحقيق أمانيه من حبه:

وتدعو إلهي أنلنا الأماني      فأدعو أنلنا أنلنا أنلنا

إن رغبته أقوى بثلاث مرات من رغبتها .. هكذا يقرر التكرار الترديدي بالعجز. وبدا من أنماط التكرار الأخرى بالديوان بخلاف الترديد:

-       التكرار الرأسي.

-       تكرار التركيب.

-       تكرار المطلع بالمطلع

-       تكرار الفكرة بذاتها.

-       تكرار الفكرة دون اللفظ.

     4/2/1 يثبت الدهشان نفسه المحبة، عبر لغة شعره، ولعذريته فهو يرى كل شيء من الحبيبة جميل. فوق ما يأتيه البشر، ويستند في ذلك على التكرار الرأسي، حين تلحُّ عليه فكرة كلية، تتصل بدال مفردة؛ يكرره وغالبًا ما يتمركز بفاتح الأبيات، لينطلق منه في كل مرة إلى جديد  مؤكدًا ما سبق، ومؤسسًا لجديد تالٍ.. فينتقل بالتكرار إلحاح الفكرة من المبدع إلى المتلقي .. الذي هو بالمقام الأول الحبيبة.. يناجيها في (كلماتك عطر وضياء، 32) مكررًا الدال كلماتك ومعتمدًا على تقانة الصورة في قالبيها الأشهرين ؛ التشبيه والاستعارة، فيقول:

كلماتك أحلى الكلمات لحظات القرب على بعد كلماتك شهد أو سكر كلماتك إذ فاح شذاها كلماتك عطر وضياء   هي فوق جمال النغمات هي عندي أحلى اللحظات وأمام الشعر هي الأشعر كانت كالمسك  وكالعنبر وحديقة بوح فيحاء

  ويلخص المسألة الكلامية للحبيبة، ولا يعرف مذاق كلام الحبيب للحبيب بمثل ما يعرفه  الصادقون العذريون، لقد صارت كلماتها نغماته المفضلة ، وما شعره إلا صدى هذه الكلمات الباعثة على البوح والإبداع بمثل ما كانت مهذِّبة للروح ومسعدة للأيام.. يقول بنهاية تكريره الرأسي بالنص:

كلماتك صارت قيثاري          وصداها يمنح أوتاري

   أما حين يكرر الدهشان دالاً رأسياً.. يتصل بذاته، فللبوح بالمقام الأول،  قد يكشف عن حيرته وربما يأسه وبأسه كما في (ماذا جنيت 45) إذ يقول:

أنا ربما أملت ما لا يُرْتَجَى أنا ربما للمستحيل تقدمت أنا ربما عشت الخيال حقيقة   وسبحت ضد إرادة التيار روحي وقربت المنى أشعاري متجاهلاً كل الذي بمسارى

يجمع نص (وهم المنى بالديوان 223) بين تكريرين، يتصل أولهما بها.. وثانيهما به، أما أولهما فينحو إلى بثِّ الأمل في عودة الوصال ، في مقابل تكريس التكرير الثاني لليأس من هذا الوصال، لذا فمطلع النص يكشف عن هذه الحيرة بين الأمل والألم، بين رجاء الود، ويأس الوصال، هكذا:

ما باله القلب المحبُّ يعود      وكأنها بالوصل سوف تجود

ثم يشرع في تكرير الدال المتسق مع عدم التيقن من وصالها (وكأنها) في مفاتح أبيات أربع متتالية ، هكذا:

وكأنها سترق إنْ أمر الهوى وكأنها ستطيع نبضَ مشاعر وكأنها عند الكلام ستنتقي وكأنها وكأنني وكأننا   وتريد إن مال الفؤاد يريد ويلين بين ضلوعها الجلمود من مفرداتٍ ما بهن صدود قد جددت أمل القلوب عهودُ

     4/2/2 ومن أنماط التكرار الرأسي بالديوان، يتردد نمط يعتمد فيه الدهشان على دال بعينه، يفتتح به تركيبًا يتكر لا بلفظه بل ببنيته اللغوية النحوية ، فيجمع إلى غاية التسامي بصاحب الدال (الحبيبة، دمعًا) والتماهي معها والتحامي بها، يجمع إلى ذلك الطرب وغنائية الموضوع ، ولا يتردد هذا النمط إلا مع نصوصٍ تتعدد فيها القافية، ويتنوع الروي، فيسهم التكرير حينذاك في تماسك النص ووحدته: يقول عن لقاء الحبيب في (بعيد اللقاء، 95):

لقاؤك أثلج الصدرا .. لقاؤك أسعد القلبا .. لقاؤك حبَّبَ النيلا .. لقاؤك أطرب الروحا   وزدتِ بأعيني قدرا وزدت حبيبتي حبا وزاد النهرَ تبجيلا وبات القلب مشروحا

    يكرر الدهشان كامل الصدر فى كل مرة معتمدًا على التركيب:

(لقاؤك + فعل ماض" يرتبط ضميره بالحبيبة ولقائها" + مفعول به معرَّف " يخص الحبيب غالبًا") والتكرار ببنيته يعظم شأن اللقاء .. ويشي بطرب المبدع له، وربما امتد تكرار التركيب إلى العجز بترديد الـ (وزدت) كما في (1 ، 2) ويتردد جذر التعبير كذلك في (3) ، وقيمة هذا الامتداد في تماسك البيت أفقيًّا لا تخفى، فأضاف الامتداد أفقيًّا ما أضافه التركيب رأسيًّا للنص.

وفي تكرر المنصوب بالضرب "نهاية العجز" مع إطلاق الروي بالألف، تكرير صوتي إيقاعي.. دلالي دال على التنفيس والبوح.. والطرب.

   وربما كرر الدهشان تركيبًا تتوزع أطرافه لا على شطري بيت، بل على بيتين ، متخذًا في كل مرة مفاتيح البيت ، يكرر التركيب : (لجأت إلأيك .. فخذني) في (لجوء بالديوان 122) فيقول:

لجأت إليك من ظلمي لنفسي فخذني من جهالاتي وكن لي   وغيِّ جوارحي وضلال حسِّي إذا استوحشت في الملكوت أنسي *** لجأت إليك إذ طاش اجتهادي فخذني من ضلالي في هواهم   وأتعبني الركون إلى العباد إليك لكي أعود إلى رشادي

ويلاحظ تلبس التركيب المكرر في عنصريه بضميري الحبيبين، المتكلم (المبدع) والمخاطبة (الحبيبة)

لجأت إليك خذنــى   التاء، الكاف "أنت" (المضمر)، الياء

في تبادل لموقع الفاعلية ، منه (لجأت) إليها (خذني: خذيني دلاليًّا) وربما صار هذا التكرار إلى امتداد آخر، يتجاوز تكرير هذه الدول بذواتها إلى استصحاب تكرير للتركيب إضافي، يعزز الدلالة والإيقاع ، تقريرًا للهيام المبدع وطرب روحه أو ببوحِه بمعاناته، كما في قوله  بالنص ذاته:

لجأتُ إليكَ تثقلني ذنوبي فخذني للذي ترضى فكم ذا   ويضنيني التخبطُ في دروبي سعيت من الخطوب إلى الخطوب *** لجأت إليك يشقيني هواني ويقذف بي إلى سفح حبيبٌ   بلا ذنب على أهل الزمان وقد اسكنته أسمى مكان

فهو هنا يكرر بين (لجأت إليك، فخذني) التركيب الفعلي (فعل مضارع" متصل بياء المتكلم + فاعل متأخر" متصل بالضمير ذاته) وهو الأمر الذي أضاف إلى الإيقاع بالصدور خاصة، مزيد تناغم وطرب .

لجأت إليك / تثقلني / ذنوبي .. فخذني/

لجأت إليك / يشقيني / هواني .. فخذني/

4/2/3: وقد يكرر الدهشان بالديوان مطلع النص بمقطعه فيظل النص مفتوحًا على ذاته، كلما تقدم نحو النهاية عاد مجددًا إلى البداية، وليس هذا إلا لطرب المبدع لا ببيته، بل بدلالة البيت، وجميع نماذج هذا النمط، يحمل المكرَّر بذاته دلالة الطرب والهيام بالحب العفيف العذري. ومن نماذج ذلك ما جاء بمطلع (حلم، 83) ومقطعه في قوله:

وقالت لي رأيتكَ في منامي             فأسكرت الفؤاد بلا مدام

ومثله في مطلع (ألق وانطفاء، 145) ومقطعه ، إذ يقول كاشفًا عن تلبس حالة اليأس من حاله:

وكان لابد أن تسعى بنا الطرق        لنقطة عندها حتمًا سنفترق

    وربما بلغت به الحيرة مداها، وساعتها يبلغ البوح هو الآخر مداه، فيطول المطلع المتكرر بالمقطع إلى بيتين لا واحد، كما بالنص (تعلق 47، 49) إذ يكرر ببيتيه:

إني بأهداب المنى متعلق لا تحسبي أني استرحتُ فخافقي   يا ليت مَنْ أحببته بي يرفق يغلي وهذي مهجتي تتمزق

4/2/3: وقد يكرر الدهشان الفكرة بذاتها، بنصين متباعدين، فى إشارة إلى إلحاح الفكرة على نفس المبدع، والفكرة في كل الأحوال مما يعزز عذرية شعر الدهشان الغزلي.. وتسامي عاطفته نحو الآخر، واتسامه بالوفاء خلقًا، والنبل طبعًا والفضل سمةً، يقول في (عهد 131):

ولفرط إعزازي لها سميتها مــــــــــــــــــولاتي

والعهد أنني ما حييت تصونها أبياتي

ويقول مكررًا لفكرة الوفاء ذاتها في (من مقام الأخوة 138):

من غير ما نسب أرعى مودتهم والعهد أني بلا مَنٍّ أصونهمو   فليس فوق التآخي من مقامات وما حييت تصون العهد أبياتي

4/2/4: نمط أخير متفرد من التكرار يتردد بالديوان في أكثر من موضع، يتمثل في تكرار الفكرة ذاتها، على وزن شعري بعينه يلتزمه في النصين وربما التزم معه الروي، والأكثر أن يغيره ، تتلبس فكرة بعينها وجدان المبدع، فينفسها شعرًا ثم تتهيأ له مجددًا فينظم شعرًا جيدًا قوامه الدلالي الرئيس هو هو .. والقالب الإبداعي مختلف، يتكرر هذا مع النتف، وكأن المبدع أراد أن يعزز فكرته ويثبت قدرته الإبداعية، ويجمع نصوص هذا النمط أن:

تكون على المسار الزمني متتابعة، بلا فاصل إبداعي في أكثر المرات، قد تكون في اليوم ذاته ، أو في غده.يرد النص الثاني بعدد أبيات الأول أو أكثر، مما يعني سعي المبدع لإنضاج فكرته واستكمال رؤيته.يتفق عنوان النتفتين في أكثر الأحيان؛ إذ يكون واحدًا، وربما، ترادف العنوانان من ذلك النمط قوله على المتقارب في النتفتين (فوارق، ليسوا سواء 61) بالديوان، وقد اتَّحد رويُّهما كذلك، حين جاء لاميًّا مقيّدًا مردَفًا بالألف في كلٍّ، يقول فيهما على الترتيب ، وقد نظمهما في 9/ 10/5/2012 وقالوا لكل مقامٍ مقالٌ ويا رُبَّ قول مليح لِقِرْدٍ   فحسن المها غير حسن البغال يكون قبيحًا بسمع الغزال ليسوا سواء وينصحني من يحب القرود ولم يدر أني شغوف بِرِيمٍ أخي إن ما قد يُقَالُ لقردٍ   بما يستبي قلبها من مقال شديد الحياء بهيِّ الجمال قبيح إذا قلته للغزال(31)

الشاعر إذن يحيا حبَّه، ويتنفسه إبداعًا رقيقًا دقيقًا، ويحرص على البوح وتدقيق الفكرة.

ومنه نتفته ومقطوعته : (تجني 125) بالعنوان ذاته واستخدام الترقيم لبيان اختلافهما ، وهما يجريان على البسيط ، باختلاف الروي، ما بين السين والباء، وإطلاقهما بالألف ، إرادف الثاني بالألف والأول بالياء يلتزمها، وصدر المطلع يتكرر فيهما : يقول الدهشان: تجنى: وقلت ذات شعور بالمرارة والغبن.

(1)

طُرِدْتُ من جنةٍ كمْ كنت أعشقها وألصقت بي صفاتٌ لا يقرُّ بها وما عصيت ولم أعمد إلى خطأ   وصرت في عين من أحببت إبليسا حتى عدوي إذا ما رام تجريسا رباه كيف رأت في الصدق تدليسا

24/8/2012 

(2)

رحلت عن جنة كم كنت أعشقها فلستُ أهوى مكانًا قد صُدِدْتُ به استصعب السهل إن لم يلقني فرحًا والموت عندي وظن الحب بي حسن   إذ صرت في عين من أحببت نصَّابا ولا أنادي على من أغلق البابا والصعب سهل إذا استشعرت ترحابا خير من العيش إن حِبِّي بِيَ ارتابا

28/8/2012

 

 

 

(5)

  يغلب الكاملُ ومجزوؤه على ديوان (إلى خمرية اللون) وفيه كثير من مجزوء الوافر والمتدارك والبسيط .. وقد عني الدهشان بمطالع نصوصه، فصرَّعها إلا النادر(32) وفي حرص الشاعر على تصريع المطلع ما يؤكد أصالة إيقاعه وكلاسية موسيقاه .. وقد أسعفته قدرته على هذا التصريح في إبداع رباعياته (مربعاته) ومثلثاته على نحو ما سيلي.

   ومن جميل تصريعه للمطلع بيتاه في (تناغم 25، بكائية 30) على الترتيب؛ إذ يقول:

وقلنا فقالت وقالت فقلنا أبيت الليل دمع العين يجري   وفي ساحة البوح صُلْنَا وجُلْنَا وتقهر ضيعة الآمال صبري

    وقد نوع الدهشان من قوافيه، وفي حين يكاد يخلو الديوان من شعر التفعيلة إلا من نص يتيم هو (غموض مبجل 215) ، وفيه يقول على المتقارب.

تريَّثْ قليلاً ولا تتعجَّلْ

وحاذر كثيرًا

طقوس افتضاح الوضوح المؤجَّل

ولذ إن أتيك القصيدة يومًا

بكل الذي تستطيع القريحة

أن تجتلي من غموض مبجَّلْ

    وهو النص الذى ما غابت عنه القافية، فالمقطع لاميُّ الروى مقيَّد ، بل كأنه من لزوم ما لا يلزم، إذ يلتزم قبل اللام صوت الجيم المضعَّف. في هذا الحين، فإن الدهشان يمتلك بالفعل قدرة إيقاعية متفردة على تشكيل النهايات – كما البدايات مع تصريع المطالع – والمربَّع هو أبرز أنماط التقفية بالديوان ، يليه المثلَّث، وللمربع شكلان بالديوان؛ إذ ترد الأشطر الأربعة فى حين متحدة الروي، وفى حين آخر ترد ثلاثتها (1، 2، 4) متحدة الروي، بخلاف ثالثها فرويُّه مختلف، من الأول قوله في (عسى أن تسعد الذكرى ، 17) وكأنه من المثنوي؛ إذ تقفيته هكذا:

أ         أ

أ         أ     يقول الدهشان (م. الوافر):

أفيق الآن من وهمي أكفِّنُ حلم أيامي   ويخفق في الهوى سهمي وقلبي بالأسى يهمي *** سأدفنه بأضلاعي وفي وجه اشتياقاتي   وأصبر رغم أوجاعي سأغلق ألف مصراع

   ومن الثاني وتقفيته (أ أ ب أ ) قوله في (كلماتك عطر وضياء  33) من (المتدارك):

كلماتك عطر وضياء وحروفك مثل يواقيتٍ كلماتك صارت قيثاري فيضًا من حبٍّ فبحبٍّ   وحديقة بوح فيحاء حلاها سحرٌ ورواء وصداها يمنح أوتاري تنساب كما النهر الجاري

    ومن المثلث الذى يتغاير رويُّه بعد كل ثلاثة أبيات (بعيداللقاء 95) على (م. الوافر)، ويتحول رويُّه من الراء، إلى الياء إلى اللام إلى الحاء وأخيرًا إلى القاف، وجميعه مطلق بالفتح بالألف، إلا القاف فبالفخض بالباء .. يقول  فيه بالمفتتح:

لقاؤك أثلج الصدرا وليس سواه خالقنا فما قدرت في عمري لقاؤك أسعد القلبا وقاركِ كان سيِّدَتِي بنورك قلب من سمعت   وزدتِ بأعيني قدرا بما في خافقي أدرى أجالس ساعة بدرا وزدت حبيبتي حبا لآفات الهوى طبا وطوبى للذى ربَّى

  وقد يسهم التقسيم للبيت إلى ما يشبه وحدات دلالية منتظمة ، في إثراء الإيقاع ، ووضوح الدلالة؛ إذ يتيح للمتلقي الوقوف على مراد المبدع.. حسبما أراد هو أن يكون الوقوف، وأبرز صور التقسيم بالديوان الثنائي والرباعي، أما الثنائي فيقسم البيت إلى شطريه (صدر وعجز) ويستقل كلاهما بذاته دلالة وتركيبًا، ويلاحظ ندرة التدوير بالديان استنادًا إلى امتلاك الدهشان أداته الإيقاعية، وقدرته المائزة في بناء التركيب. ومن التقسيم الرباعي قوله في (هيا أضيعيني 221) من البسيط :

إذا ائتلفنا / فللأوقات رائحةٌ وفي الجفاء / يصير العمر مقبرة   والليل مِسْكٌ / وصبحي كالرياحين وليس غيري / بدمع العين يبكيني

   وقد تجتمع صورتا التقسيم ، الثنائي والرباعي بموضع واحد كما في قوله (م. الكامل) في (فرح حزين 181):

ومن البلية / أنني الحب أصبح واحتي أنفاسه مسكي النَّدِي   في محنتي / لا أنثني وفؤاد حبي مسكني أما العيون فسوسني

    ومن الحق فإن إيقاع الدهشان في (إلى خمرية اللون) إجمالاً سلس، حالم، يخلو من هنات شعراء العصر؛ إذ تطاوعه أداته، وربما هو يعمل على تطويرها وإنضاجها.. نلمس ذلك مثلاً في نصه آلام (إلى خمرية اللون 34) وفيه يقول:

لو أنني عنك انشغلت.. أقــــــول لو أني

ستكون نفسي يا أنا شغلت هنا عنــــــــــي

لا لا تظني ذاك بعض الإثم في الظن

أنا لا أراك الآن إلا قطـــــــــــــــــــــــــــــعة مني

وبلون وجهك دنيتي.. خمــــــــــــرية اللون

     ويمتلك الدهشان أخيرًا أداته الإيقاعية الماثلة في تطويع أصوات المد (اللين) واستثمار التضعيف في تجسيد حالته الوجدانية، ومن ذلك يجسد معاناته في (ماذا جنيت 74) على الكامل؛ إذ يقول:

الليل داهم في البكور نهاري وعدا على قلبي بغير ترفُّقٍ واجتاح آمالي بعنفٍ وانتشى ولمحت في عينيه فرحة شامتٍ   متأجِّجَ الأنياب والأظفار لما رأى حصني بلا أسوار ومضى ولم يعبأ بدمعي الجاري أني بلا سند ودون جوار

   تتكرر أصوات اللين بالمقطع في 27 مرة ، هي بالأبيات الأربع (6، 8، 8، 5)(33)، وهي في مد الصوت، والتنفيس عما بالنفس، وينظر قوله (واجتاح آمالي..) ففيه الآهات والعبرات!

أما التضعيف فيتردد بالأبيات دون الثالثة هكذا (2 ، 2 ، 1) ومواقعه دومًا  بمفاصل الأسطر ابتداء وانتهاء (الليل ، متأجج، ترفق، لما، أنى) ويسهم التضعيف في نبر كلماته وإبرازها دلاليًا وصوتيًّا.

   وبعد فإبداع الدهشان في شعر الغزلي العذري الرسالي يمثل نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه أدبُ الوجدان الطاهر العفيف، مما يفتح المجال أمام سائر المبدعين إلى شجاعة المحاولة وعدم التردد في خوض غمار تجارب إبداعية ظلت ردحًا من الزمان حكرًّا على المهوِّمين في فضاء العاطفة لا على ما ينبغي أن يكون.

شبين 31/9/2017 .. 10.15 مساءً

الهوامش

ولهلم آلورت "الشعر وصناعة الشعر عند العرب" نقلاً عن: عمر بن أبي ربيعة وفصل في تطور الغزل والنسيب فى الشعر العربي، عمر فرُّوخ، 17. الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية محمد غنيمي هلال، دار نهضة مصر بالقاهرة، د.ت، ص 17. في الحب والحب العذري، صادق جلال العظم، دار المدى للثقافة والنشر بسوريا، سلسلة الكتاب للجميع (19) الطبعة الخامسة، 2002، ص 11. نفسه. نفسه ، الصفحة ذاتها. تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام، شكري فيصل، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، د.ت، ص 288. (أحلى دواويني) هو وصف الدهشان ذاته لديوانه (إلى خمرية اللون) حسبما أثبت في العنوان الفرعي، بصفحة الغلاف، والحلاوة ليست للديوان ، بل لصاحبته وقصتها مع المحب، على نحو ما نفهم من قول الدهشان بالديوان (ص221) :

أفكني منك ؟؟ هيا منك فُكِّينِي         يا درةَ التاج يا أحلى دواويني

عمر بهاء الدين الأميري، ص 302. إلى خمرية اللون "أحلى دواويني"، وحيد الدهشان، د.ط، 2013، ص 3. وسيشار إليه فيما بعد بالديوان، بالمتن. البيت المفرد هو يتيم، وفي الشعر يسمى ما بين البيتين والثلاثة نتفة، ويسمى ما بين الأربعة وحتى الستة من الأبيات قطعة أو مقطَّعة "مقطوعة" وما فوق السبعة الأبيات "وقيل العشرة" قصيدة. أرَّخ الدهشان لتجربته زمنيًّا ، بين مارس 2012 وحتى يونيو 2013!. يراجع: أصداء الشوق والرجاء، وحيد الدهشان، سلسلة آفاق أدبية، العدد (12) مارس 2000. نحن الشهادة عشقنا، وحيد الدهشان، كتاب الوعد السنوي (الإصدار الثالث) تصدره اللجنة العربية لمساندة المقاومة الإسلامية في لبنان (مصر). الطبعة الأولى، سبتمبر 2003. في انتظار الفجر، وحيد الدهشان، سلسلة آفاق أدبية، العدد (23) ديسمبر 2007. أنوار وأكدار، وحيد الدهشان، الطبعة الأولى، يناير 2009. تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام، ص . ديوان الرافعي، مصطفى صادق الرافعي. أبادر هنا إلى إثبات ملخصين: الأول أن الدراسة ستعنى فقط بالشعر الفصيح دون العامي، والعامية بالديوان لا تتجاوز النصوص الستة، هي على الترتيب، (الحقيقة 127، جهل 132، تفاوت 134، عابر سبيل ، أمنية 149، كلمات قبل الفراق) والمعروف أن الدهشان يجيد إبداع العامية بمثل إجادته الشعر الفصيح، وتجربته في صورة وتعليق باهرة.. وتعد من الشعر الاجتماعي السياسي الإصلاحي النقدي الهادف. ومن جميل شعره العامي الغزلي بالديوان قوله (ص 144) يخاطبها:

والله نفسي أطلبك وعليكي أطَّمِّن

والأمر لو بالحيل أنا كنت أتفنن

لكني عابر سبيل صادف برنسيسه

سلم فقالت كده بزيادة ويحنِّنْ

يؤكد إحساسه بسمو الحبيبة (محقًا) وبتواضع حاله (مخطئًا) فيقول في (تفاوت، ص 134):

إيش جاب لجاب ف الهوى شرط الكفاءة أساس

عمر الغزالة ما تعشق يوم قفص نسناس

ولا ف القطيفة الحصى يتحط جنب الماس

ولا عندليبه تحب تعيش ف عش غراب

القصر له ناس ولبيوت الغلابة ناس

الملحظ الثاني : أن نصوصًا سبعة أخرى هي (تواضع، تلطف 51، لكم التهاني 107، مواكب الوداع 108، من مقام الحمد 120، أوقات صفو 167، ذكراك 184) تخرج في مجملها عن طبيعة الديوان، وكونه غزليًا ، وفي حين يمكن تلمس صلة ما بين الغزلية ونصيّه الأولين، اللذين يقرران اعتداد المبدع المحب.. بذاته وتقديره لرأيه، غير أنه يستشير ربما من كان لن يزيده مزيد نصح، فالحصافة والوعي وحسن تقدير الأمور والقدرة على النصح للآخر، هي من مقوِّمات المبدع .. لكنه يستشير يقول في ثانيهما:

كم ذا تجاهل ما رأى اللمَّاح والأنس بالآراء شيمة عاقل ولربما طلب المشورة عارفٌ كم من عظيم بالتواضع يرتقي   رفع الألى هم دونه فارتاحوا لو مستشار شموسه المصباح وعن السماحة ساءل المِسْمَاحُ عطر الزهور إذا اختفت فوَّاح

أما (أوقات صفو) فمن شعر الأطفال الممتاز، ذيل عتبته ، بقوله (من تجليات صحبة حفيدي كريم محمد شبل الدهشان) ، وفيها يقول:

(كريمٌ) حبيبي، لطيف ، ودود ونعطيه من حبِّنا في سخاء يشاركني جلستي حين أُمسي وأغدو بضحكته في انتشاء يردد بعض الحروف ورائي   بأوقات صفو لروحي يجودُ وفي كل يوم يزيد الرصيدُ ويخجل حين يغني القصيد وإني به إذ يناغي سعيد وأطرب إن قال (دِدُّو) و(دودو)

   والنص الأخير في معلم الدهشان والإيمان ، الراحل الشاعر "حسن عثمان" وهذه النصوص وإن قررت إنسانية الدهشان وخلقه الراقي، محبًّا للصغير وللكبير، ولكل جميل.. نبيل.. فليست من تجربة الغزل، وإن كانت من نصوص الحب، والأولى أن يخلو منها الديوان، تماهيًا مع عتبته الرئيسة ، وربما شفع للدهشان في إثباتها أنها قيلت بين نصوص الغزل زمانًا، فالديوان يضم فيما يبدو وإبداع الدهشان الكامل في فترته التي حددها بالتقديم.

في نصه (أنعى لكم روحي، ص 42) ما يقرر هو الآخر أن المسألة لم تكن معاناة حبيب، أو شاعر في تجربة غزل لم تسر جميعها رخاء حيث أراد، بل المحنة إنما الأمر محنة إنسان، غُبِنَ حقه، ولم يلق ما يستحق، إحساس مميت، يدمي القلب لكنه لا يهزم الروح، بل يؤجج نور الإبداع ! يقول الدهشان: أنعي لكم روحي برغم حياتي لا لا تلوموني فكم كنت الذي في العسر كم كانت تذود قصائدي في اليسر حددتم إقامة أحرفي والآن أعتزل الحياة بغيضة   وأعد نفسي الآن في الأموات غني لكم في التيه والفلوات عنكم وكم نَصَرَتْكُمُ أبياتي لما خذلتم ريشتي ودَوَاتِي تبغي سماتٍ لن تكون سماتي

إن المحنة هنا تتجاوز ذات المبدع المحبة، إلى ما يتصل بانتمائها وكيانها كله، ولذا فهو يختم نصه بائسًا، ينعي ذاته، متمنيًا الموت، فيقول:

ما عاد لي حلم أعيش لأجله فتقبلوا فيَّ العزاء ومنيتي   وأدت شموسَ الحلم كفُّ قُسَاة أني يعجِّلُ ربنا بوفاتي أما تحولاته من خلو قلب إلى مبادلة حب، فمذاقها حلو، ووقعها مما تبش له النفوس وتضاء الأرواح، ويسعى معه المحب أو الحبيب ولافتدائه بنفسه، وربما نزع المحب عن نفسه وقارها.. وعادت إلى أفاعيل الصبا، مهملاً للعقل مقودًا بالوجدان .. يقول الدهشان في (لك ما تحب، بالديوان 44): لا لم تقلها مرة أهواكا وأنا اكتفيت بما أحب من الذي وتجشمت نفسي الصعاب لعلني ورجعت من بعد الوقار إلى الصبا   يا أيها القلب الضنين بذاكا تبديه حتى دون أن ألقاكا فيمن أراهم في الحياة أراكا ونظرت من سفح الدنا لذراكا قدم الدهشان لنصه بالديوان 140 (على أحد منشوراتي في صفحتي على الفيس بوك علق أخي عطية الويشي بهذا البيت:

رفقاً بنفسك يا أخي وليت لي           مكر يُعيدك للحبيب الأوّلِ

والبيت كاشف عن مدى معاناة الدهشان من المحنة، بحيث تمنى الويشي وهو المحب للشاعر أن يكون له مكر ليعيده إلى حبيبه. هذا الإباء يتقرر من جديد في (وفاء وجفاء بالديوان 191) حين يقول الدهشان:

لكن إلى أني يحل الموت معضلتي ومن يرد على وردي وهدهدتي   فإن لي في علاقاتي قوانيني بالشوك والعصف فَلْيَنْسَوْا عناويني بدا من نص (لحظة شجن بالديوان 77) أن وقع القطيعة كان عليه شديدًا؛ إذ يقول: ولقد ذكرتكم فسألت أدمعي أحسست أن الحزن يعصر مهجتي فهتفت يا رباه خَفِّفْ محنتي   وشكا فؤادي للخليج توجُّعي ويكاد همي أن يمزِّقَ أضلعي وأقبل أيا ربَّ الوجود تضرعي لو أسقط الدهشان هذا البيت من الديوان، لخلا تمامًا عن أي شيء يطعن في عذرية شعره الغزلي . ولئن كان احتضان الصدر بالقلب.. فإن احتواء العجز ما كان تمنيه إلا باليد ، فهل أتمنى عليه هذا ، مكتفيًا بنقاط .. بديله عنه .. وليؤلها قرَّاؤه فيما بعد كلٌّ بما يريد. رسائل الأحزان ، مصطفى صادق الرافعي ، ص 87، دار المعارف بتونس، 1988. أردف عنوان النص بقوله: (وعلى متن الطائرة أيضًا كانت هذه الكلمات) فقد أبدع البتين بالجو، بما يفسر البيت الثاني.

(*) عن حلو كلام الحبيبة وقلته وعن حيائها وقصدها في الحديث، يقول قيس بن الملوح:

بيضاء خالصة البياض كأنها موسومة بالحسن ذات حواسد حورٌ إذا كثر الكلام تعوَّذت   قمر توسَّطَ جنح ليل أسود إن الجمال مظنة للحسَّدِ بحمى الحياء وإن تكلم تقصد

(*) قديمًا قال مجنون ليلى، في المعنى ذاته:

فقالوا أين مسكنها ومن هي؟           فقلت: الشمس مسكنها السماءُ

يقول الدكتور طلعت المغربي في نتفته (112): وما في الأرض أشقى من محبٍّ تراه باكيًا في كل حين فيبكي إن نأوا شوقًا إليهم   وإن وجد الهوى حلو المذاق مخافة فرقة أو لاشتياق ويبكي إن دنوا خوف الفراق حول إشكاليات النقد التطبيقي لدى الأدباء الإسلاميين، عماد الدين خليل، ص 13، ضمن بحوث ومقالات مجلة (الأدب الإسلامي) تصدرها رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض، العدد (95) سبتمبر 2017. الغزل العذري "حقيقة الظاهرة وخصائص الفن" صلاح عيد، ص 57، مكتبة الآداب بالقاهرة، الطبعة الأولى 1993. يراجع فث تنصيصه لشعر القدامى بالمطلع (آخر قصائد امرئ القيس، ص 210). يراجع  فث نقله عن (ابن زيدون) عجزه من قوله :

وناب عن طيب لقيانا تجافينا     (الديوان 118)

يراجع مثله بالديوان نتفتاه (لحن صباحي 14). يراجع فيما لم يصرَّع مطلعه مثلاً وهو نادر بالديوان نص (في انتظار البدر 31). اللين بحسبان الكتابة العروضية لا الوزن الصرفي.

وسوم: العدد 743