إِذا أُنْشِدَتْ، قِيْلَ: مَن قالَها؟

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 279

1-

إن الشاعر الحقيقي لا يرضخ لهيمنة تسليعيَّة للثقافة، وللأدب بخاصَّة، بحيث تصبح التجارة غايةً والثقافة وسيلة، ويصبح الأدب في مهبِّ المتاجرة والاستهلاك التسويقيِّ الإعلاميِّ، وزوابع المباريات التصويتيَّة عبر الرسائل النَّصِّيَّة الجوَّاليَّة، كما نصبح أمام ظاهرةٍ مخجلةٍ للثقافة و«أكشاك» المثقَّفين في معارض الكتب.  وعندئذٍ يدخل الأدب طاحونة الثقافة الاستهلاكيَّة العامَّة، مع كلِّ ما دخل من حياتنا المعاصرة.  هذه الحياة التي يقف فيها العرب في صفَّين: صَفٍّ فقير، غارق في متطلَّبات الاستهلاك اليوميَّة التي لا قِبَل له بها، وهو غير قادرٍ على إنتاج البدائل، على فرض قيام الثقافة الإنتاجيَّة من حوله، وصَفٍّ فاحش الثراء، إلى درجة أنه لا يعرف أين يصرف أمواله؟  وهذه حالة بعض المجتمعات في الخليج العربي، بطبيعة الحال، التي تصل في بعض صورها درجة من السماجة، بحيث لو بُعِث (قارون)، الذي خسف الله به وبداره الأرض، لكان بالمقارنة من أزهد الزهَّاد وأشدِّهم تقشُّفًا!

  2-

 أيُّ عصرٍ من اللا معقول الجماعي والفساد الفاحش هذا الذي نعايش اليوم؟!  الجديد في تاريخ السَّفَه أن هذا السلوك الآن لم يعد سلوك أفراد، بل أصبح سلوك جماعات، وربما سلوك قبائل وربما دُول، لم يعد يثير الأمر في كثير منا إنكارًا، بل قد يدافع عنه بعضهم بصفاقة شيطان.  من المسؤول؟  إن الفساد منظومة من التداعيات، إذا سُكِت عن أصغرها تفشَّت في الناس كالسرطان، حتى يصبح السؤال عن المسؤوليَّة سؤالًا من خارج الحالة المرضيَّة الشاملة.

3-

 صحيح أن الأدب سلعة، لكنه قيمة، قبل كلِّ شيء، فإن صار تسوُّلًا وتكسُّبًا، أو أصبح بهرجةً وتفاخرًا، فَقَدَ طبيعته، ووظيفته في الحياة، بل بات وباءً، أو مادَّة تخدير شعبيَّة.  والشاعر يَجمُل به أن يظلَّ أسمق نخلةً من أن يكون رأس ماله أن يبدو على استعداد رخيص لأنْ يقول أيَّ شيءٍ كي يكسب هو والناشر، مالاً وصيتًا، وإنْ كان- في نهاية السوق- فارغ الذهن والروح والموهبة، إلَّا من نزقيَّات مراهقة، وأخلاقيَّات قابلة لمنطق البيع والشراء والعرض والطلب.

إن الشاعر- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- لا يقتات على استدرار عواطف الناس لتمجيد ذاته، بل يصنع تاريخه بشِعره، وشِعره وحده.  ذلك أن جزءًا من لعبة الشاعر العربي على مرِّ التاريخ تتمثَّل في أن يُسوِّق نفسه كنجمٍ يخطف الأبصار والألباب.  وستجد ذلك في الشعراء المحدثين أكثر وضوحًا من غيرهم؛ لأن بإمكانك أن ترى صدق ما يزعمون وتُعاين حقيقة ما يدَّعون.  فقد يكون أحدهم في بحرٍ لُجِّيٍّ من المخمل، بل قد يكون وزيرًا أو سفيرًا، ومع ذلك ما ينفكُّ يحيط نفسه بهالة من تصوير الأهوال التي يواجهها في حياته، وكأنه بطلٌ من أبطال الملاحم الإغريقيَّة، وأنه لولا بطولته الخارقة لفتكت به الأسود، ولمزَّقته الضواري.  فإذا رأيت ثمَّ رأيت فتى الأدغال هذا، رأيته في بلهنية العيش الرغيد والنعيم المقيم غالبًا، وإنما تلك حيلةٌ عتيقةٌ يستجدي بها عاطفة الجماهير العربيَّة، المتعطِّشة إلى هذا النمط من الخطاب العاطفي؛ الذي يثير التعاطف والإشفاق من جهة، ويغذِّي نزوع التصفيق لبطلٍ ما، وفي أي مجال.  ولَكَم أودت الجماهير بالنفوس وأغوت العقول!

4-

حينما يتجمهر المبدع، أي يصبح ذا جمهور يراعي أهواءه، فقل على الإبداع السلام.  يتحوَّل من مبدعٍ خلَّاق، إلى مجرَّد طبَّال!  والشاعر العربي وريث هذا التراث الممتدِّ من ذلك الخطاب المستمطر للعواطف العربيَّة، منذ (عمرو بن كلثوم)، (امرئ القيس)، (المتنبي).. إلخ.  ومن هنا فالشاعر العربي يسعى لتصنيم شخصه بطلًا قوميًّا، أو ديماغوجيًّا شعبويًّا، بلا بطولة، ولا راية، إلَّا راية الخيال والكذب، وتضخيم النفس.  وبسببٍ مِن هذا يُسقِط الشِّعرُ نفسه- بوصفه المفترض: الضمير الصادق للتعبير عن التجربة الإنسانيَّة- في أتون الذات وتلميعات النجوميَّة. 

في بيئة كهذه، يحظى الشاعر بجماهيريَّة عربيَّة لا لجودة شِعره، ولا لما أضافه إلى رصيد التجربة اللغويَّة والفنيَّة الشِّعريَّة، ولكن لمقدار مهارته في أن يَسْرَح بالجماهير في مروجه الخياليَّة، ودعوتهم لتمجيد شخصه، وليس مُهِمًّا بعدئذٍ أن يَعُوا مستوَى شِعره ومنجزه.  فإذا حظي الشاعرُ البطلُ بدعم الإعلام في هذا المضمار، أُحكِمت حلقات الزيف، فعَلا رصيدُ زيدٍ وخَبا رصيدُ عبيد، بحسب معايير لا علاقة لها بالضرورة بجوهر الشِّعر. 

5-

المؤسَّسات الثقافيَّة والإعلاميَّة هي ثكناتنا الوطنيَّة الحقيقيَّة، التي كان باستطاعتها أن تحمينا من أنفسنا ومن الآخَر، لا الجيوش ولا الدبَّابات، التي ظلَّت بامتداد التاريخ الحديث تُجيَّش غالبًا على رؤوسنا، وتدبُّ واقعًا على أجسادنا، لا على عدوِّنا الآمن المطمئن!

6-

وقافِيَةٍ غَيرِ إِنسِيَّةٍ      

قَرَضْتُ مِنَ الشِّعرِ أَمثالَها

شَرَوْدٍ تَلَمَّعُ بِالخافِقَينِ      

إِذا أُنْشِدَتْ، قِيْلَ: مَن قالَها؟

...

(قالها: الحصين بن حمام الفزاري).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «إِذا أُنْشِدَتْ، قِيْلَ: مَن قالَها؟»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية،  الأحد 15 أكتوبر 2017، ص20]. 

وسوم: العدد 743