مقابلة نقدية مع الناقد عباس المناصرة
حين نحاور الناقد الإسلاميّ عبّاس المناصرة عن أدبنا الإسلامي، فلا بدّ أنْ نتهيأ لأسئلة تحمل عمقاً خاصّاً، وفضاءً يرنو إلى البعيد، وإيقاعاً يتّسع للحياة الإنسانيّة بكلّ آمالها ومواجعها. هكذا يأتي حوار (أدباء الشام ) مع ناقدنا المناصرة، وهو ما يزال يعيش مفارقات الأمّة ولواعجها في فكرها وأدبها وواقعها.
أدباء الشام : بداية ما مهمة الناقد الإسلامي في ظل فوضى الأدب التي يدعو لها جمهور من نقاد الحداثة؟!
عبّاس المناصرة: ينبغي أولاً أن نفهم الأدب ودوره، والسنن التي تتحكم في مساراته ووظيفته وطبيعته، والظروف التي تؤثر في تطوره وتقدمه وتخلفه، مع ثقافة واسعة عميقة تتسلح بالخبرة والحكمة والمرونة، ليكون الناقد مرشداً وناصحاً أميناً لأخيه المبدع، فهو أشبه بمهندس المرور الذي يهدي السائقين إلى طريق السلامة العامة، فيضع لهم إشارات التحذير من المزالق، وهو يمثل حلقة وصل بين الجمهور والأدباء، وهو حارس محترف لمستويات الجودة في المنجز الأدبي، يحذر الأمة ويحمي ذوقها من الانحراف أو الانحدار، وهو المسوق للجمال الأدبي بين المنتج والمتلقي. وعلى الناقد الإسلامي مهمة عظيمة في إيضاح معالم نظرية الإسلام في الأدب، ومقاييس الإبداع المنضبط بشريعة الإسلام. وهي مهمات عظيمة لا يقوم بها ناقد واحد مجتمعة، وللناقد أن يختار ما يناسب قدرته في الإنجاز.
أدباء الشام : لكن ما زال أمام دعاة الأدب الإسلامي عقبات كثيرة، فكيف ننهض بهذا الأدب في ظل تلك العقبات؟
عبّاس المناصرة: أظن -يا أخي- أن حصر وتحديد تلك العقبات هو الخطوة الأولى قبل البحث في تذليلها. ومِن هذه العقبات التي يمكن حصرها في خلاصة أولية ما يلي:
وجود ركام من المفاهيم الغربية النقدية، التي تسيطر على الساحة الأدبية العربية، تستنفر الذوق الأدبي ضد طرح قضية الأدب الإسلامي.
الخطاب النقدي الضعيف لدعاة الأدب الإسلامي يقلل من الاستقطاب لصالح هذا الأدب.
غياب الفقه الأدبي الذي يؤصل لهذا الأدب من مرجعيته (الشرعية والأدبية) لوجود تيار إسلامي مقموع الطموح، وخياله لا يمتد إلى فكرة الاستقلال بالتنظير النقدي الإسلامي عن النقد الغربي المسيطر؛ هذا التيار أخطر على الأدب الإسلامي من العلماني الذي يحاربه؛ لأنه أَلِفَ الخنوع لثقافة التبعية والتطفل عليها؛ ولذلك فهو يعتبر أن أي محاولة للانفصال عن السائد النقدي نوعاً من الخيال وعدم الواقعية.
لقد تأخر دعاة الأدب الإسلامي في إدراكهم لأهمية الأدب في الحياة، وهذا الأمر جعل أصحاب التيارات والأفكار الأخرى تتقدم في أطروحاتها النقدية والإبداعية؛ لأنها عرفت خطر الأدب في فترة مبكرة، فوصلت إلى عقول الناس، واستفادت من الفنون الأدبية وجمالها وتقنياتها في خدمة أفكارها.
هروب دعاة الأدب الإسلامي من محاكمة منجزهم النقدي، للتعرف على نقاط القوة والضعف فيه، والبحث عن العلاج الذي ينهض به.
أما عن تذليل هذه العقبات فهو أمر ممكن من خلال:
الصبر على مشاق الدعوة للأدب الإسلامي واستمرارها دون يأس أو توقف عن العمل.
التجديد الذي هو أحد المهمات المنوطة بأبناء هذه الأمة في كل قرن. ولهذا لا بد من إيجاد فقه أدبي مؤصل في القرآن الكريم والسنة الشريفة وأدب الصحابة والتابعين وأجيال الأمة في مختلف العصور، حتى نصل إلى خطاب نقدي مقنع يستقطب الناس لصالح الأدب الإسلامي.
ولا بد من محاكمة نقدية صريحة للنقد الأدبي الذي قدمه رواد الأدب الإسلامي؛ للتعرف على حالة الفوضى المنهجية، وضبط هذا التنظير بمنهجية علمية واضحة، تعرف بالريادة وفضلها وعذرها وضعفها، حتى نخرج من حالة تمجيد الريادة إلى حالة نقد الذات والبحث عن النهضة.
فما زال مفهوم الأدب الإسلامي غامضاً وبحاجة إلى آراء تكشف معنى الأدبية في الإسلام، وتكشف معنى الإسلامية في الأدب، أما طرح المضمون وحده كما هو الحال، فلم يعد مقنعاً لأحد.
أدباء الشام: ترى ألا يجب علينا أن نستفيد من الخطاب الأدبي في القرآن الكريم للرقي بأدبنا؟
عبّاس المناصرة: لا يمكن لأدبنا الذي ندعو إليه أن يصبح إسلاميّاً إلا إذا استقى تنظيره النقدي من مرجعيته الحقيقية، وهي مرجعية شرعية مستمدة من القرآن الكريم والسنة الشريفة لتفسيره الظاهرة الأدبية إسلاميّاً، ومرجعية (أدبية فنية) مستمدة من النصوص الأدبية التي أنتجها مبدعو الأمة، ودراسة تاريخ تطور هذا الإبداع للتعرف على جهود الأجيال في الإضافة أو التقليد وكشف الجمود، أما الاستفادة من الخطاب الأدبي في القرآن الكريم فله مدلول كبير، إذاً لا بد من معرفة عميقة للخطاب الأدبي وحكمة استخدامه وتأثيره، فما اختار الله سبحانه وتعالى أن ينزل كتابه الكريم بخطاب أدبي تحديداً إلا لحكمة عظيمة، لعلنا ندرك بعضاً من الحكمة الربانية في استعماله لخطاب البشر وخاصة في عصرنا، وبعد أن تقدمت البشرية في تحليل الخطاب الأدبي، وأدركت كثيراً من أهميته منها:
قدرة هذا الخطاب على التأثير في أذواق المخاطبين والرقي بها نحو الأهداف المطلوبة.
هو أقرب أنواع الخطاب للتربية وتعديل السلوك وتعليم الناس؛ لأنه يرقى بالتفكير والقلب والسلوك من خلال أساليبه الذكية الجميلة، التي تنبه الحس الجمالي والمتعة التي توصل التعلم بطريقة جميلة محببة للنفس.
الخطاب الأدبي لا يؤثر عليه تقلب الزمان ولا تغير المكان؛ ولذلك فهو أدوم وأكثر خلوداً من الأساليب الأخرى.
الخطاب الأدبي في القرآن الكريم وفي الأدب قادر على إيصال محتواه إلى طبقات المجتمع على اختلاف شرائحها؛ ليُسر أداته (اللغة) التي يملكها الغني والفقير، والمقيم والمرتحل، والبدوي والمتحضر؛ لأنه لا يعتمد أسلوب الجدل العلمي الجاف الممل، بل يعتمد أسلوب التقريب البلاغي المعجون بالجمال والمتعة.
إن اختيار الله سبحانه وتعالى للخطاب الأدبي في تنزيل كتابه فيه حكم بالغة كثيرة، لعل منها خلود هذا الأسلوب وفائدته لكل الأجيال والأمكنة، وهو حكم وتزكية من الله سبحانه لهذا الأسلوب الذي مَنَّ به علينا، في قوله سبحانه (علمه البيان) (الرحمن: 4)، وهي نعمة عامة في الجنس البشري بكامله.
أدباء الشام: يقولون: “إنّ الأدب الإسلامي لا يميل إلى الخيال المجنح”. ما رأيكم في هذه المقولة التي توحي بتهمة الضعف؟
عبّاس المناصرة: الخيال ملكة إنسانية قابلة للتدرب، وهذه القابلية ترتبط بالعقيدة التي يحملها صاحب تلك الملكة في تفسير الحياة. والخيال الإسلامي خيال توحيدي، وجد تفسير الوجود كاملاً في عقيدته؛ ولذلك لم يقع في الإسراف والتهويم، والذي وقع فيه الخيال الوثني (الصوفي والفلسفي والعلماني)، وانعكس ذلك في الصوفية الآسيوية (البوذية والطاوية والهندوسية)؛ حيث يميل المتصوف إلى الهروب من بحث حقائق الحياة، ويفسح المجال لخياله ليصنع عالماً خرافيّاً ممزوجاً بطموحات الذات. وظهر أيضاً في الآداب اليونانية والرومانية حيث الخيال المتخلف الذي يجعل لكل ظاهرة من ظواهر الكون آلهة تفسر وجودها. ثم جاء الخيال العلماني المعاصر ليعمل خيالاً ممزوجاً من تجربة الإنسان المعاصر وتقدمه العلمي وخلطه بالوثنيات السابقة، كبعد فني يرمز إلى الطموحات والأفكار، وهذا التحليق الذي استعمله الأدب الوثني في فنياته، يدل على الطفولة الحضارية للعقل المنفصل عن الوحي والإيمان بالله سبحانه وتعالى، ولا يدل على التفوق.
وأقول إن خيال الفنان المسلم هو خيال واقعي محبب، وهو أوسع وأرحب من الخيال الوثني المجنح الذي يقوم على تدريب الخيال وتوظيفه بناء على أوهام النفس، بينما الخيال المسلم خيال يقوم على الواقعية الإسلامية التي تجمع بين عالمي (الشهادة والغيب) في مركب واحد، يستمد خبرات عالم الشهادة من تجاربه ويستمد خبرات عالم الغيب من الوحي، فيمتد الخيال الإسلامي إلى تصور حقائق الأرض والحياة، ويحلق مع حقائق الوحي، ليصل الجنة، ويتخيل النار، ويتدرب خياله على تصور حقائق يوم القيامة القادمة وما يجري للدنيا في ماضيها وحالها ومستقبلها. لقد سمعت والداً مسلماً شابّاً يسأل طفله: كم تحبني يا ولدي؟ فقال الطفل لوالده: أحبك من هنا حتى جنة الرحمن. فمن هو صاحب الخيال الضيّق المحدود: الأديب المسلم أم الأديب الآخر؟!
أدباء الشام: أرجو أن تعطينا تعريفاً فيه شيء من التفصيل للأدب ليستفيد منه القراء بقدر الإمكان.
عبّاس المناصرة: الأدب صياغة فنية جمالية فكرية لقيمة حقائق الحياة ووقعها في نفوسنا، من خلال كشف المواقف الشعورية التي يعيشها الأديب، بصفته فرداً من أبناء الأمة، وهو تاريخ لمشاعر الأمم تجاه تجارب وجودها الحضاري، وله دور عظيم في تكوين الذوق العام للأمم وتكوين طباعها، بالإضافة إلى دوره التعبوي في حفز الهمم نحو الأهداف، فقد يُزيّن الخير ويحقر الشر والتخلف من خلال تقنياته الذكية المحببة للنفوس، وقد يحفز الهمم نحو الشر إذا كان أدباً منحرفاً.
أدباء الشام : كيف نميّز بين وظائف كلٍّ من العلم والدين والأدب في إنارة الحياة الحضارية للإنسان؟ وما رأيكم في هذه القضية؟
عبّاس المناصرة: إذا كانت وظيفة العلم أن يكتشف الحياة وظواهرها المادية ويتابع تفسيرها، ليتعرف على سننها وقوانينها، ليسخرها في خدمة الحياة البشرية، وإذا كانت وظيفة الدين في أن يفسر الحياة، وينظمها بشرائعه السماوية، ويكشف لنا عن مقصد وجودنا فيها، ويجيب على الأسئلة الكبرى التي تذهل عقولنا، فإن وظيفة الأدب في أنه يكشف لنا جدوى هذه الحياة وقيمة حقائقها لدى نفوسنا، ومدى إشباعها لمشاعرنا وفطرتنا وطموحنا فيها، من خلال وسائله الجمالية التي تنقل مواقفنا من داخل النفوس إلى داخل النصوص.
وسوم: العدد 744